مقدمة

اختلف المؤرخون في تحديد التاريخ الذي يمكن اعتباره بداية للعصر الحديث في الوطن العربي، فهناك من يعتبرون مطلع القرن السادس عشر (تاريخ ضم العثمانيين لبلاد العرب إلى إمبراطوريتهم ١٥١٦- ١٥١٧م تحديدًا) بداية للعصر الحديث، باعتبار مواكبة هذا التاريخ لاكتمال العصر الحديث في أوروبا بقيام حركة الإصلاح الديني، وباعتبار التأثُّر بفكرة «المركزية» الأوروبية عند هذا الفريق من المؤرخين.

وهناك من يجدون شواهد على وجود إرهاصات للتحديث شهِدها المجتمع في القرنين السابع عشر والثامن عشر جاءت نتيجة التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي شهدتها بعض المراكز العربية في تلك الحقبة، وأن هيمنة المماليك على السلطة في مصر، والعصبيَّات في الشام أعاقت إمكانية حدوث تحوُّل سياسي حقيقي في ذلك الاتجاه، وجاءت الحملة الفرنسية على مصر ١٧٩٨–١٨٠١م لتُجهض وتبدد تلك الفرصة.

وهناك فريق ثالث يرى أن المنطقة عاشت في ظل التخلف والجمود والركود حتى جاءت الحملة الفرنسية فأشاعت الأنوار في أرجاء الإقليم، وجلبت معها تباشير «الحداثة». وأصحاب هذا الاتجاه أشدُّ إيمانًا «بالمركزية الأوروبية» من الفريق الأول الذي ربط التغير في أوروبا في مطلع القرن السادس عشر بشروق فجر العصر الحديث في الوطن العربي.

وقد أثبتت البحوث المستفيضة في تاريخ العصر العثماني صحة رؤية الفريق الثاني من حيث بدايات «التحديث» تأسيسًا على التغيرات التي شهدتها المنطقة في القرنين السابع عشر والثامن عشر؛ ولكن تلك البدايات التي تعثَّرت على يد العسكر وأُجهضت على يد العدوان الخارجي، ما لبثت أن شكَّلت حجر الزاوية في التحوُّلات التي شهدتها مصر والشام في عهد محمد علي من حيث إصلاح النظام الإداري وتبني مشروع للتنمية في بُعديه الاقتصادي والثقافي، وجاء التغير الاجتماعي نتاجًا له، ولم يكن مقصودًا لذاته؛ لذلك نرى في القرن التاسع عشر عصر بناء المجتمع الحديث، عصر البحث عن منحًى فكري جديد يواكب التحوُّلات الاقتصادية والثقافية والسياسية التي تحققت بالفعل، عصر الحَيرة بين الموروث والمكتسَب، بين التقليد والتجديد.

ويهدف هذا الكتاب إلى تقديم إطار عام لحركة التجديد في الفكر العربي في العصر الحديث، مُركِّزًا على الاتجاهات والتيارات الرئيسية التي وضعَت أصول التوجهات الفكرية الأساسية التي توجد اليوم على الساحة الثقافية والسياسية العربية. كما يهدف إلى توعية الشباب بأصول تلك التوجُّهات، ومدى تعبيرها عن المجتمع العربي في مرحلة التحول الحافلة على طريق التحديث.

ويتضمن الكتاب خمسة فصول تعالِج بواعث التحديد الفكري واتجاه المزج بين الموروث والمكتسب، وتيار الجامعة الإسلامية، والتيار العلماني، والفكرة القومية. قدمنا في كل منها الإطار العام للاتجاه أو التيار بالقدر الذي يفي لإدراك مراميه، دون الخوض في التفاصيل التي يجدها من أراد الاستزادة في قائمة المراجع الواردة في آخر الكتاب.

والله ولي التوفيق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤