الفصل الأول

بواعث التجديد الفكري

لعل من حسنات الحكم العثماني للبلاد العربية، عدم التدخل في أمور الناس بالتنظيم أو التعديل والتبديل، فقد ترك العثمانيون الناس يَحيَون حياتهم التي اعتادوها من قبل تحت جناح مجتمع القرية في الريف، ومجتمع القبيلة والعشيرة في البادية، ومجتمع الطوائف في المدن. وكلٌّ منها كان يعتمد في تنظيم علاقة الفرد بالجماعة بتقاليد راسخة، لم يُصبها من التعديل إلا القليل، بما يتفق مع درجة التطور وتغير الأحوال. كما كانت الخدمات الأساسية؛ كالعلاج والتعليم وأعمال البر والإحسان (أو ما يُسمى اليوم بالخدمات الاجتماعية) مسئولية الرعية وليست من مسئوليات الحاكم، تقوم بها الأوقاف التي رصدها أهل الخير على المساجد، والمدارس، والمشافي، والتكايا وغيرها من أوجه البر. وقد يساهم الحكام (كأفراد) في تلك الأعمال؛ فيقِيمون المساجد والمدارس وغيرها ويوقِفون عليها العقارات التي تجري بها أرزاقها لتغطي نفقة ما شيدوه من تلك المؤسسات، وقد لا يساهمون؛ فالأمر يتوقف على نوازع الخير عند الحاكم (كفرد)، ولم يكن ذلك من اختصاص الدولة، وجاء إبقاء العثمانيين على ذلك الوضع إيجابيًّا للحفاظ على هوية الإقليم وعادات أهله.

figure
الكُتَّاب أساس التعليم في مصر عبر القرون الماضية.

ولا يعني ذلك أن العثمانيين وعَوا ذلك، أو قصدوه، بل كان ما يهمهم هو بقاء الولايات العربية في حظيرة الدولة … فالسيادة للسلطان، وله شارات الاعتراف بها؛ سداد الخراج، وسك العملة باسمه، والدعاء له يوم الجمعة، وعدم الخروج على سلطته، وفي مقابل ذلك يقع على عاتقه واجب حماية البلاد والدفاع عنها ضد العدوان الخارجي، وحفظ الأمن في الولاية، وإقامة العدل بين الناس. وبعبارة أخرى كانت السلطة جهاز جباية للأموال، وجهاز أمن، وسلطة قضائية تتولى إقامة العدل بين الناس.

وإذا كان الحكم يرتكز على الأصول الفقهية لصلاحيات ولي الأمر وحقوقه؛ فقد اتَّسمت سلطة القضاء بالتعددية المذهبية وكان القاضي يملك حق الاجتهاد في حدود المدارس الفقهية الأربع، وإن كان المذهب الحنفي مُلزِمًا للقاضي الرئيس الذي يجلس في محكمة الباب العالي. كذلك كان من حق الطوائف الدينية غير الإسلامية أن تحتكم لرؤساء طوائفها فيما يتصل بالأحوال الشخصية والمواريث حسب شرائعهم الخاصة.

وانقسم المجتمع إلى نُخبة حاكمة يقال لها «الخاصة» وهم: الحكام ورؤساء العسكر وكبار رجال الهيئة الدينية ومن لاذ بالحكام من كبار العلماء. أما بقية المجتمع فهم «الرعية» أو «العامة» أي من ليس لهم دَور في السلطة، ولكن هؤلاء انقسموا بدورهم إلى ثلاث فئات اجتماعية حسب درجة الثراء … فهناك الأعيان، والفئة الوسطى، والفئة الدنيا من المعدَمين والفقراء، وتفاوتت بالطبع المكانة الاجتماعية لكل فئة من الفئات الثلاث، كما تفاوتت الحالة الثقافية عندهم. وقد برز دَور الفئة الوسطى من متوسطِي وصغار التجار والحرفيين في الحياة الاجتماعية والثقافية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وكان لهذا الدَّور أثره الفعَّال في الإصلاحات التي شهدها مطلع القرن التاسع عشر، واعتمدت — أساسًا — على تلك الفئة الاجتماعية.

وكان التعليم في ذلك العصر يقع على كاهل المدارس الدينية على اختلاف مستوياتها، ويركِّز على اللغة والنحو والعروض وعلوم القرآن والحديث والفقه وغيرها من العلوم الدينية؛ ولكن القرنين السابع عشر والثامن عشر شهِدا اهتمامًا بالعلوم العقلية كالفلك والرياضيات والطب وعلم الكلام، غير أن التأليف في تلك العلوم كان مقتصرًا على ما حققه علماء المسلمين فيها من تقدُّم في العصر العباسي الثاني، مع النزر اليسير من الإبداع والتجديد.

ومهما كانت دوافع محمد علي التي جعلته يُقدِم على ما أقدم عليه من إصلاحات في مصر، ثم في الشام عندما مدَّ حكمه إليه، فلا ريب أن تلك الإصلاحات قد خلقت واقعًا اجتماعيًّا-ثقافيًّا جديدًا، كان له الدور البارز في خلق الظروف الموضوعية الملائمة للتجديد الفكري. وجاءت التطورات التي شهدتها مصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر (وخاصة عصر إسماعيل)، وشهدتها الشام والعراق في نفس الفترة على عهد حركة الإصلاح العثماني (التي عرفت بالتنظيمات الخيرية) لتُكمل ما نقص من تلك الظروف الموضوعية، وتُهيئ المجال لانطلاق أفكار التجديد، على اختلاف توجهاتها ومذاهبها.

figure
الأزهر حمل شُعلة العلم الديني في مصر منذ الدولة الفاطمية، ويُعد أول جامعة إسلامية.

ويأتي إدخال التعليم الحديث في مقدمة تلك الظروف الموضوعية التي هيأت سبيل التجديد الفكري، وإذا كان بناء الجيش الحديث يمثل محور حركة الإصلاح الذي قام به محمد علي؛ فإن ذلك تطلَّب تنظيم الإدارة والاقتصاد مما تطلَّب وجود خبرات وكفاءات لا يستطيع أن يوفرها التعليم التقليدي. وهكذا نشأ التعليم الحديث في مصر أولًا، ثم في بلاد الشام والعراق. ولما كان محمد علي حريصًا على توفير الكوادر اللازمة للإدارة والإنتاج ولدور السلطة الجديد في مجال الخدمات وأن تكون تلك الكوادر من أبناء البلاد؛ فقد ارتبط التوسع في التعليم بحاجات الحكومة إلى الأفراد للخدمة في مصالحها، كما تم إيفاد البعثات إلى أوروبا (وخاصة فرنسا) لدراسة العلوم الحديثة؛ الطب والهندسة والإدارة والقانون، وحذَت الدولة العثمانية في هذا الجانب من الإصلاحات التي شهدها النصف الثاني من القرن التاسع عشر حذوَ محمد علي في تنظيم المدارس الحديثة وإيفاد البعثات إلى أوروبا.

ولكن أكبر إنجاز تحقَّق في عهد محمد علي فيما يتَّصل بالعلم والثقافة كان حركة الترجمة الكبيرة لكتبٍ في مختلِف فروع المعرفة إلى اللغة العربية، ويُقدَّر عدد الكتب المترجمة التي تم طبعها في المطبعة الأميرية ببولاق نحو ٢٥٠٠ كتاب.

figure
قاضي القضاة في الدولة العثمانية.

وكان لهذه الحركة أهميتها في إطلالة العالم الإسلامي على علوم الغرب وثقافته، فقد أُعيدت ترجمة ما نُقل إلى العربية من أمهات الكتب إلى اللغتَين الفارسية والتركية. ولا ريب أن تلك الترجمات فتحت الباب على مصراعيه أمام مَن أخرجتهم المدارس الحديثة، وغيرهم من القراء للوقوف على الثقافة الغربية. وإذا كان إيقاع الترجمة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر قد أبطأ؛ إلا أن الكثير من أمهات الكتب في الفكر الاجتماعي والسياسي تمت ترجمتها، ونُشر بعضها منجمًا على صفحات الجرائد؛ فأفاد منه قطاع عريض من القراء.

figure
محمد علي باشا في ديوانه.

وكانت الصحافة، التي بدأت في القرن التاسع عشر وكثر عددها في النصف الثاني منه، عاملًا هامًّا لنقل الأفكار الوافدة من الغرب، وتفتيح الأذهان على أشياء جديدة لم تكن مألوفة من قبل كالدستور، وحقوق المواطن تجاه الحكومة، والأوضاع الاجتماعية وغيرها من القضايا التي خلقت أرضية خصبة لتجديد الفكر، ونافذة أطلَّ منها جيل جديد من الكتَّاب تأثَّر بالثقافة الغربية بدرجة أو بأخرى، أو استفزته الثقافة الغربية فراح يَكيل النقد لها، ويطرح في المقابل أفكارًا (إصلاحية) مستمَدة من التراث الثقافي التقليدي.

فإذا أضفنا إلى ذلك كله نشاط الإرساليات التبشيرية في الشام ومصر، وما أقامته من مدارس تقدِّم ثقافة أوطانها، وتركز على تعليم اللغات الأجنبية، مع اهتمام خاص ببعث الأدب العربي القديم في الشام وحدها، إذا أضفنا هذا الدور الذي لعبته مدارس الإرساليات التبشيرية نجد مُناخًا عامًّا في الحياة الثقافية العربية في ذلك القرن، هيأ الفرصة لوفود الثقافة الغربية وفكرها إلى الوطن العربي مما كان يمثِّله من تحدٍّ للثقافة الإسلامية التقليدية، جاءت الاستجابة له في صورة أطروحات التجديد الفكري التي يعرض لها هذا الكتاب.

والعصر عندئذٍ مشحون بروح التحدي، فهو عصر التوسع الأوروبي فيما وراء البحار، بعدما حققت الرأسمالية درجة عالية من النمو بعد الثورة الصناعية، وأصبحت الحاجة ماسة للسيطرة على مصادر المواد الخام، وتأمين الأسواق لتصريف الإنتاج، وفتح مجالات جديدة لاستثمار فائض رءوس الأموال. ولعب الفكر دورًا هامًّا في تهيئة الأرض لحركة التوسع الاستعماري ابتداءً من الفكر العنصري الذي لا يرى الحضارة إلا في الغرب، ويرى في التوسع الاستعماري «رسالة» على الغرب القيام بها لنشر الحضارة بين الشعوب «المتبربرة». وفُسرت نظرية التطور عند دارون لتبرير الهيمنة الغربية على العالم.

فلا غرابة — إذَن — أن يهتم المثقفون العرب بهذا الفكر الوافد، ليتبينوا موضع الإفادة منه، ومَكمن الخطر فيه الذي يجب تجنبه، فهو — عندهم — هَمٌّ متصل بواقع بلادهم ومستقبلها، وخاصة أن بلادهم وقعت في شراك السيطرة الأجنبية بمختلِف صورها؛ فالاهتمام بالفكر الوافد يختلف باختلاف رؤية صاحب هذا الاهتمام له، وسواءٌ كان مبعثه تجنب ذلك الفكر، أو تبنِّي بعضه، أو البحث عن صيغة فكرية جديدة تجمع بين الموروث والمكتسب؛ فإن التعرف على تلك الأفكار يصبح ضروريًّا. وهكذا جاء طرح الفكر الوافد محفِّزًا على انبعاث أفكار التجديد الفكري التي عرَفها الوطن العربي في القرن التاسع عشر، الذي يروق لبعض الباحثين أن يصفه بعصر «النهضة» وهو ما سنراه في الفصول التالية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤