الفصل الثاني

التقليد والتجديد عند رفاعة الطهطاوي

ولد الطهطاوي عام ١٨٠١م بمدينة طهطا بصعيد مصر، لعائلة بارزة من علماء الأزهر تُنتسب إلى الدوحة النبوية الشريفة، أعدَّته للدراسة في الأزهر الذي التحق به عام ١٨١٧م؛ حيث تتلمذ على الشيخ حسن العطار (١٧٦٦–١٨٣٥م) أحد كبار علماء الأزهر، وشيخه في عهد محمد علي. وأتم دراسته في الأزهر عام ١٨٢٢م، وتولى التدريس به مدة عامَين، ثم ألحقه أستاذه بوظيفة إمام إحدى فرق الجيش المصري الحديث، وزكَّاه عند محمد علي عندما كان يبحث عن إمام يصحب البَعثة التعليمية الأولى الموفَدة إلى فرنسا، ويفتي لطلابها فيما يعنُّ لهم من أمور تتصل بالدين خلال حياتهم في مجتمع غريب عليهم.

وقد تركت هاتان التجربتان أثرهما على الشيخ رفاعة الطهطاوي؛ فقد كان الجيش الحديث محور بناء الدولة المصرية الحديثة، وظل الطهطاوي طوال حياته مقدِّرًا للجيش المصري ومنجزاته العسكرية، ولكن باريس كان لها الأثر الأكبر عنده؛ فقد ظل هناك خمس سنوات (١٨٢٦–١٨٣١م) كانت من أهم سنوات عمره. ورغم أنه كان إمامًا وليس طالبًا؛ فقد انغمس في دراسة الفرنسية بحماس ونجاح كبيرَين، وتقديرًا لكفاءته في هذا المجال، طلب العالم الفرنسي الذي تولى الإشراف على البَعثة المصرية في باريس من محمد علي الموافقة على أن يصبح الطهطاوي طالبًا إلى جانب عمله كإمام، مما أتاح للطهطاوي التعمق في دراسة الفرنسية ونحوها، وانكب على قراءة أمهات الكتب في التاريخ القديم والفلسفة اليونانية والأساطير والجغرافيا والرياضيات والمنطق، كما قرأ أعمال فولتير وكوندياك وروسو ومونتسكيو من مفكرِي القرن الثامن عشر، وقد ترك هذا الفكر أثرًا باقيًا على الطهطاوي، ومن خلاله على الفكر العربي عامة.

figure
رفاعة الطهطاوي.

وعندما عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، عُيِّن مترجمًا ومدرسًا للغة الفرنسية بمدرسة الطب، ثم نُقل بعد ذلك بعامين إلى نفس وظيفته بمدرسة المدفعية. وعلى مدى أربعة أعوام، ترجم بعض الكتب الفرنسية في الهندسة والجيولوجيا وعلم الفلزات والجغرافيا والطب، ونشر عام ١٨٣٤م كتابه الشهير «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، الذي قدَّم فيه وصفًا للمجتمع الفرنسي كما شاهده أثناء إقامته هناك، وقد قُرئ هذا الكتاب على نطاق واسع في البلاد العربية والإسلامية؛ فقد أُعيد نشره عام ١٨٤٨م، ١٩٠٥م، ١٩٥٨م، ١٩٧٤م، وطُبعت ترجمته التركية عام ١٨٣٩م تحت عنوان: «سفرنامه رفاعة بك».

ولما كان الطهطاوي من بين أوائل العرب الذين زاروا أوروبا في القرن التاسع عشر، وأول من نشر كتابًا عن تلك البلاد الغريبة؛ فقد وقع على عاتقه تقديم صورة المجتمع الأوروبي لقراء العربية، وقد نجح في تلك المَهمة، وقدَّم لقرائه — برشاقة وحرص — جوهر الحضارة الغربية. وعندما كان يعرض لمصطلحات أوروبية ليس لها نظير في العربية، قدَّم صياغة عربية للمصطلح، وفي بعض الحالات صاغ مصطلحات عربية — لأول مرة — كترجمة لأشياء أوروبية غير معروفة في الثقافة العربية. ويضم «تخليص الإبريز» وصفًا كاملًا للمؤسسات السياسية الرئيسية في فرنسا، والأحداث السياسية الكبرى التي شاهدها خلال إقامته، وألقى الضوء على طبيعة وأوضاع العلم في أوروبا، وقدَّم لقرائه أعمال كبار المؤلفين، وملامح الثقافة الفرنسية.

وفي «تخليص الإبريز» قدَّم الطهطاوي لقرائه العناصر الجديدة للمجتمع الأوروبي مثل: وضع النساء ودَورهن في المجتمع، والطبقات الاجتماعية المختلفة، والأحوال الدينية، والعادات والتقاليد السائدة في المجتمع الفرنسي الحديث، ولكن وصفه لتلك الظواهر الغريبة لم يخلُ من نظرات نقدية، واهتم بإبراز ما للتقدم العلمي من أثرٍ كبيرٍ في النهضة الحضارية الغربية، وعبَّر عن حاجة البلاد الإسلامية إلى التزوُّد بالعلم حتى ترقى مدارج التقدم الحضاري.

وفي عام ١٨٣٥م، أصبح رفاعة الطهطاوي ناظرًا لمدرسة الترجمة (مدرسة الألسن) التي أُنشئت حديثًا استجابة لاقتراحٍ تقدَّم به الطهطاوي نفسه إلى محمد علي باشا، وتطورت المدرسة على مدى ست سنوات، واتسع مجال الدراسة فيها ليشمل الأدب، والقانون الفرنسي، والشريعة الإسلامية، والفلسفة، واللغات الأوروبية مع اهتمام خاص باللغة الفرنسية، وفي عام ١٨٤١م حدث تطوران هامَّان؛ فقد تغير اسم المدرسة ليصبح «مدرسة الألسن والمحاسبة»، وأُنشئ «قلم الترجمة» مُلحقًا بها، واستمر رفاعة الطهطاوي مديرًا (ناظرًا) لها. ولعب رفاعة دورًا هامًّا في تنظيم مشروع الترجمة في الرياضيات والفيزياء، والطب، والآداب، والعلوم الإنسانية، كما نظَّم قسمًا للترجمة التركية، وكان دَوره رئيسيًّا في اختيار الكتب التي يتم ترجمتها، وإسناد مَهمة الترجمة إلى المترجمين الأكفاء، كما راجع بنفسه بعض تلك الأعمال المترجَمة.

وإلى جانب عمله بالمدرسة وقلم الترجمة، أُسندت إلى الطهطاوي مَهمة التفتيش على المدارس، وكان عضوًا فاعلًا في اللجان الخاصة بالتعليم والامتحانات، ومحررًا لجريدة «الوقائع المصرية» التي كانت تصدرها الحكومة باللغتَين العربية والتركية، وكانت أول صحيفة تصدر في مصر. وقد لعب الطهطاوي دورًا هامًّا في تحويلها من مجرد نشرة رسمية تنقل أوامر الحكومة إلى الناس، إلى صحيفة أسبوعية متعددة الاهتمامات تُحاكي الصحف الأوروبية؛ فأصبحت تتضمن ركنًا للأخبار الدولية، وآخر للشئون الاقتصادية، وثالثًا للعلوم والآداب، ورابعًا للتحليل والتعليقات … فكان للطهطاوي فضل ابتكار أدب المقالة العربية في تلك المجالات، والكتابة بأسلوب سهل يستطيع أن يفهمه كل من يعرف القراءة.

figure
المفكر الإنجليزي روسو.
figure
المفكر الفرنسي فولتير.

لقد كانت أعمال رفاعة الطهطاوي تُلبي رغبة الحاكم في النهوض بالبلاد عن طريق التزود بمعارف الغرب، وأسباب القوة والمنعة عنده، وتعتمد على الظروف السياسية التي تمرُّ بها الدولة، ومن ثَم كان تحجيم قدرات محمد علي العسكرية، وانحسار دولته داخل حدود مصر دافعًا لتحجيم التعليم لعدم حاجة الدولة إلى الكوادر اللازمة للخدمة العسكرية والمدنية. ولعل ذلك يفسر اتجاه خليفتَي محمد علي: عباس الأول (١٨٤٨–١٨٥٤م)، ومحمد سعيد (١٨٥٤–١٨٦٣م) إلى تصفية المدارس التي أقامها محمد علي باشا.

ففي العامَين الأولَين من حكم عباس الأول، تُركَت مدرسة الألسن لتمضي على طريق الاضمحلال بسبب نقص المخصصات المالية، حتى أُغلقَت رسميًّا عام ١٨٥١م، وأُلغي معها «قلم الترجمة»، وكان رفاعة الطهطاوي قد أُبعِد إلى الخرطوم عام ١٨٥٠م ناظرًا لمدرسة ابتدائية تَقرر إنشاؤها هناك. وكان النقل — في حقيقة الأمر — نفيًا وإبعادًا لرفاعة وغيره من الأساتذة الذين قامت على كواهلهم تجربة التعليم العالي في عهد محمد علي. فقد كره عباس الغرب، واعتبره مسئولًا عن انتكاس مشروع جده (محمد علي)، ومن ثم سخط على أقطاب التعليم الغربي، وعلوم الغرب، وعلى رأسهم رفاعة الطهطاوي.

وشغَل الطهطاوي نفسه خلال السنوات الأربع التي قضاها بالسودان بترجمة كتاب فينيلون «مغامرات تليماك»، فكانت بذلك أول رواية أوروبية تُنقل إلى العربية. وكانت الرواية قد صيغت في قالب نصائح أخلاقية كتبها صاحبها لتثقيف وتوجيه تلميذه الدوق بورجون، وتضمنت نقدًا ضمنيًّا لاستبداد لويس الرابع عشر، وبذلك جاءت ترجمتها تنفيسًا عمَّا في صدر الطهطاوي من ضيقٍ باستبداد عباس الأول.

وما لبث تغيُّر الحاكم أن غيَّر الأقدار بالنسبة لرفاعة الطهطاوي؛ فعندما تولى محمد سعيد باشا الحكم خلَفًا لعباس الأول (عام ١٨٥٤م) استدعى الطهطاوي إلى القاهرة ليُصبح وكيلًا للمدرسة الحربية، ثم ناظرًا لها، فأعاد إنشاء «قلم الترجمة» بتلك المدرسة، وأدخَل في برامج الدراسة بها الأدب، والرياضيات، واللغات الأجنبية. ولكن المدرسة أُغلِقت عام ١٨٦١م — نتيجة اضطراب سياسات سعيد — وتم الاستغناء عن جميع معلمِيها بما فيهم رفاعة الطهطاوي.

وحالف الحظ رفاعة الطهطاوي بعد عامين عندما مات سعيد وانتقل الحكم إلى إسماعيل باشا (١٨٦٣– ١٨٧٩م) الذي كان شديد الحماس للثقافة الفرنسية؛ فأعاد افتتاح مدرسة الألسن، وقلم الترجمة، وعُين رفاعة ناظرًا لهما، فجمع تلاميذه حوله، واستأنف معهم حركة ترجمة جديدة تواصلت مع تلك التي بدأها في عهد محمد علي باشا، وفي إطار هذا النشاط، تُرجمت تشريعات نابليون إلى العربية (١٨٦٦م)، كما تُرجم القانون التجاري الفرنسي (١٨٦٨م)، واستُخدِم في تلك الترجمة المصطلحات الفقهية المستمدة من الشريعة الإسلامية؛ فكان لتلك الترجمات القانونية أثرها على الفقه القانوني العربي الحديث الذي استوحَى صياغاته من تلك الترجمة الرائدة التي وضعها الطهطاوي وتلاميذه.

وإلى جانب إدارته لمدرسة الألسن وقلم الترجمة، استعاد رفاعة مكانه في اللجنة التي وضعت نظام التعليم، وفي غيرها من اللجان المتصلة بالنهضة العلمية والنشاط الثقافي في عصر إسماعيل. ورغم ذلك اتسع وقت رفاعة الطهطاوي ليقدِّم المزيد من الإنجازات الثقافية والعلمية؛ ففي عام ١٨٧٠م، أُسنِدت إليه مَهمة تحرير مجلة «روضة المدارس» التي أصدرها «ديوان المدارس»، وظل رئيسًا لتحريرها حتى وفاته عام ١٨٧٣م. وقد استخدم مقالاته الافتتاحية أداة لنشر أفكاره عن الحضارة، ونقده لبعض العادات والتقاليد السائدة، كما نشر على صفحاتها ثلاثة من كتبه منجمة؛ أولها، «القول السديد في الاجتهاد والتجديد»، وثانيها، «رسالة البدع المتقررة في الشيع المتبربرة» التي كانت دراسة في الحضارة الإنسانية، وأخيرًا، «نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز» التي كانت أول دراسة حديثة للسيرة النبوية وتاريخ صدر الإسلام.

وفي نفس السنة التي تولى فيها رفاعة الطهطاوي مهمة تحرير «روضة المدارس» صدر له عمل هام هو «مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية» الذي أعدَّه ليكون كتاب قراءة في المدارس، ولكنه كان فتحًا جديدًا في الفكر العربي الحديث، حدَّد معالم الطريق الذي يرشحه لمصر لتسلكه في نهضتها، وبيَّن كيفية الاستفادة بعلوم الغرب وثقافته مع الحفاظ على ما هو إيجابي من الموروث الثقافي العربي والإسلامي، وصاغ المفاهيم الأساسية للوطن والوطنية. وفي عام ١٨٧٢م نُشر كتابه الثاني الهام «المرشد الآمن للبنات والبنين» الذي أودعه خلاصة فكره الاجتماعي والثقافي، وكان — أيضًا — كتاب قراءة في المدارس. ومن ثم نستطيع أن ندرك مدى تأثير فكر رفاعة الطهطاوي في الجيل الذي تلقَّى تعليمه في عصر إسماعيل، وتفتَّح وعيه السياسي والثقافي في عهد الاحتلال البريطاني، ولعب دورًا هامًّا في صياغة المشروع الوطني السياسي - الثقافي في إطار التطورات التي شهدتها مصر والبلاد العربية بعد الحرب العالمية الأولى.

لقد كانت بعض الأفكار الأساسية في النظام السياسي الفرنسي لا تبدو غريبة على الطهطاوي الذي شبَّ على الفكر السياسي الإسلامي من حيث تحقيق الفرد لذاته في إطار الجماعة، واتخاذ مبدأ «العدل» أداة لتحقيق الصالح العام، والتزام الحاكم بتوفير أسباب الحياة للناس. ولكن كانت هناك أفكار جديدة نستطيع أن نلمس تأثيرها عند الطهطاوي، منها: أنه يجب على الناس أن يشاركوا مشاركة فعَّالة في الحكم، وأنه يجب أن يتم إعدادهم لذلك، وأن القوانين يجب أن تواكِب ظروف المجتمع؛ لأن ما يصلح في زمان ومكان معين قد لا يصلح في غيرهما. ونجده أيضًا يستمد فكرته عن «الأمة» من أفكار مونتسكيو، الذي أكد أهمية الأحوال الجغرافية (الطبيعية) في صياغة القوانين، وذلك يعني أن المجتمع يرتبط بموقع جغرافي معين، وأن تكوين المجتمع يأتي نِتاجًا للعيش في مكان واحد. وأن قيام الدول وسقوطها مرَدُّه إلى أسباب بعينها يمكن أن نجدها في روح الأمة، وأن حب الوطن يمثِّل ركيزة كل الفضائل السياسية، والعكس بالعكس.

ولم تكن أفكار الطهطاوي مجرد عرض جديد للنظرة التقليدية، ولا مجرد ترديد للأفكار التي تعرَّف عليها في باريس، بل كانت تتسم بالجِدة، والمزج بين الموروث التقليدي الإسلامي والفكر الغربي المكتسَب. ورغم اتباعه في طرح تلك الأفكار الطريقة التقليدية، مستشهدًا في إثبات كل مسألة بالمأثور عن النبي والصحابة، وينظر إلى السلطة السياسية من خلال المنظور الإسلامي التقليدي؛ نجده يتوسَّع في بعض النواحي توسُّعًا كبيرًا، ويطرح اجتهاده فيها، دون أن يقطع الصلة بين ما بدأ به وانتهى إليه.

figure
الخديوي إسماعيل.

فكانت فكرة الطهطاوي عن «الدولة» تُعبِّر عن الفكرة الإسلامية المأثورة، فهو يحاول النظر إلى الأسس النظرية للفكر السياسي الأوروبي في ضوء الإسلام؛ فيرى أن الحكومة ضرورية للمجتمع ولا حياة له بدونها، والنظام السياسي يقوم على «قوة حاكمة» ترعى مصالح الأمة وتدرأ عنها المفاسد، و«قوة محكومة» تتمتع بالحرية والمساواة ولها حق المشاركة في «المنافع العمومية» (الموارد الاقتصادية). فهو هنا يعتبر الحكومة والناس طرفين يقوم عليهما المجتمع، لكلٍّ وظائفه ومجاله، فالناس ليسوا مِلكًا للحكومة، ولكنهم أحرار لهم حق التمتع بخيرات بلادهم.

أما الفكرة القائلة بأن الحكم يجب أن يكون في يد «الشعب»، فهي لا تتلاءم — عنده — مع ظروف بلاده التي يحكمها حاكم فرد مستبد مسلم، والأمل في الإصلاح — في نظره — أن يقوم هذا الحاكم باستخدام سلطته استخدامًا رشيدًا. ولكن ذلك لا يعني أن الحاكم مُطلق اليد، فهناك حدود السلطة التي تفرضها الشريعة التي تعلو فوق الحاكم، كما تفرضها القواعد الخلقية السامية. وفي شرحه للفكرة الإسلامية التي تضع الشريعة فوق الحاكم، نجده يستعير فكرة الفصل بين السلطات التي قال بها مونتسكيو؛ فيرى أن أعباء الحكم لا يستطيع حملها فرد واحد؛ ولذلك وجب على الحاكم أن يفوِّض سلطته للمجالس التي تقام لهذا الغرض، وللحاكم، فرغم ما للحاكم من امتيازات؛ فإنه تقع على كاهله واجبات نحو رعاياه، غير أنه يتولى الحكم بإرادة الله، ويُعد مسئولًا أمامه — سبحانه وتعالى — عن أعماله، ولكنه يجب أن يستعين بالعلماء الذين يقدمون له المشورة، وهو هنا يوسع مفهوم «العلماء»؛ فلا يجعله مقتصرًا على علماء الدين، بل يشمل العلماء في مختلِف مجالات المعرفة.

ويذهب الطهطاوي إلى أن العلاقة بين الحاكم والرعية تقوم على الحقوق والواجبات. فللحاكم على الناس حق الطاعة، غير أنه يجب — في مقابل ذلك — أن يؤدي واجباته تجاههم، ومن ثم يجب على الرعية أن يعرفوا الشريعة حق المعرفة لحماية حقوقهم، كما عليهم أن يعرفوا القوانين المدنية والإجراءات الحكومية، أما واجب الحكومة، فيمثُل في إقامة العدل، وتحقيق المساواة والحرية، وحماية أرواح الناس وممتلكاتهم وفقًا للشريعة؛ فيجب على الحاكم التزام أحكام الشريعة في كل ما اتصل بشئون الناس.

وبالإضافة إلى ما للناس من حقوق تجاه الحكومة، ذكر الطهطاوي نوعًا آخر من الحقوق التي للشعب، سمَّاها «الحقوق المدنية» وتعبِّر عما للناس من حقوق تجاه بعضهم البعض التي تجعل كل فرد ملزَمًا بمساعدة غيره على فعل كل شيء لا يخالف الشرع، وحق الفرد في ممارسة حريته بشتى أنواعها دون المساس بحرية الآخرين؛ فالحقوق المدنية — عنده — نوع من التعاقد (غير المكتوب) بين المواطنين تقوم على أساسه الدولة.

ويذهب الطهطاوي إلى أن الناس جميعًا سواء بحكم الطبيعة، رغم اختلافهم في القوة البدنية والقدرات العقلية والثروة المادية. غير أنهم سواء أمام القانون بغض النظر عن تفاوت درجاتهم الاجتماعية، وهم شركاء على قدم المساواة في الواجبات التي عليهم القيام بها نحو وطنهم، ويعني ذلك أن الطهطاوي يُعلي من شأن المساواة القانونية، ويعتبرها حقًّا طبيعيًّا للناس، وليس منحة من الدولة.

وإذا كانت المساواة تمثِّل حجر الزاوية في الحقوق المدنية للأمم المتحضرة؛ فإن الحرية تُعد جوهر الحقوق المدنية في تلك الأمم، وتعبِّر عن بلوغها درجة الاستقلال، ويعني الطهطاوي بالحرية، حق الناس في التنقل، وفي العمل، طالما كان ذلك لا يتعارض مع حرية الآخرين، وأنه لا يجب وضع القوانين التي تحدُّ من حرية الناس وتقضي بتعرضهم للنفي أو غيره من العقوبات إلا في إطار القانون وبحكم القضاء، وتضمَّن مفهوم الحرية عنده — أيضًا — حق المواطن في التصرف في ثروته وفي التعبير عن آرائه ما دام ذلك في إطار القانون.

وحرص الطهطاوي على أن يجعل تلك الأفكار التي طرحها لأول مرة على القارئ العربي مستساغة عنده، فأكَّد أنه لا يوجد فرق كبير بين مبادئ «الشريعة الإسلامية» ومبادئ «القانون الطبيعي» الذي يرتكز إليه التشريع الأوروبي الحديث، مما يعني إمكانية تفسير الشريعة الإسلامية تفسيرًا يتفق مع حاجات العصر. وفي تبريره لذلك أبرز القاعدة الفقهية التي تجيز للمؤمن أن يقبل بتفسير لنص شرعي مستمد من مذهب آخر غير مذهبه اعتمادًا على مبدأ «المصلحة». ويستطرد الطهطاوي ليُقرر أن من واجب العلماء تفسير الشريعة على ضوء المصلحة التي تغيرت نتيجة الحاجات التي استُحدثت، وحتى يتم ذلك على أكمل وجه؛ فإن عليهم أن يتعرفوا على العالم الحديث، وأن يدرسوا العلوم العقلية التي كان لها شأن كبير في الحضارة الإسلامية من قبل.

وكان الطهطاوي أول مفكر عربي يصوغ مصطلح «الوطن» ويستخلصه من إطار الموروث التاريخي لمفهوم «الأمة» الإسلامية، ليضع بذلك بذرة الوعي القومي في الثقافة العربية لأول مرة. وكانت صياغة هذا المصطلح بمثابة علامة على تجاوز المفهوم الإسلامي التقليدي للأمة الذي ينحصر فيمن يدينون بالإسلام، ولا يرتبط بوطن محدد، وهو المفهوم الذي ظل شائعًا في البلاد الإسلامية حتى بدأ مفهوم «القومية» يفِد في الربع الأخير من القرن في إطار التأثر بالفكر الغربي.

وقدَّم الطهطاوي تعريفًا للأمة تجاوزَ به كثيرًا المفهوم الإسلامي التقليدي؛ فلم يجعل «الدين» من بين الأسس التي يجب أن تقوم عليها «الأمة». فالأمة — عنده — تناظُر «العِرق»؛ فهي جماعة من الناس يعيشون معًا في بلد واحد، ويتحدثون لغة واحدة، ويشتركون معًا في العادات والتقاليد والأخلاق (القيم الاجتماعية)، ويخضعون لحكومة واحدة وقانون واحد. وأن مثل هذه «الأمة» يجب أن تتحلى بالشجاعة والرزانة، وتتطلع إلى الرفعة والمجد، وتقدر قيمة الاستقلال، وتحترم الأكفَاء من حكامها، وتخضع للقانون، بينما يُعدُّ «الوطن» بيتًا لهم، ومن ثَم وجب عليهم التضامن لأن الفُرقة والبغضاء تؤديان إلى تعريض سلامة الوطن للخطر.

وحاول الطهطاوي أن يوفِّق بين «الوطن» (مصر) والانتماء إلى «الأمة» الإسلامية؛ فذكر أن مصر جزء من الأمة الإسلامية، ولكنه أضاف أنها كانت تمثل «أمة» قائمة بذاتها في الأزمنة القديمة والحديثة على السواء؛ ولذلك كانت لها مكانة فريدة في التاريخ. ورأى أن كل من يعيشون على أرض مصر يُكوِّنون «أمة» تشترك في نفس الحقوق والواجبات دون تمييز. ولمَّا كانوا سواءً أمام القانون، وجب عليهم أن يتَّحدوا معًا لمواجهة أعداء الوطن. وأضاف إلى ذلك القول بأن العلاقة بين الناس والوطن علاقة عضوية كالجسد الواحد. فالمواطن الذي يحب وطنه، يجب أن يضحي بكل شيء من أجله؛ ماله وحياته، وأن يعمل من أجل المصلحة العامة لبلاده مُتحليًا بالأمانة والحرص والتضامن مع إخوانه في الوطن.

كان الطهطاوي يدعو إلى بناء مجتمع جديد من خلال إعادة ترتيب العلاقات الأسرية. وقد قاده سعيه إلى تحقيق التوازن في العلاقة بين الزوجين، إلى أن يطرح — للمرة الأولى في العالم الإسلامي — الدعوة إلى حقوق المرأة؛ فأكد المساواة بين المرأة والرجل في الصفات الجسدية والقدرات العقلية، ووجه الاختلاف بينهما في النوع، وإذا كان الله قد خصَّ النساء برعاية الأسرة والأبناء وتخفيف آلام المرضى؛ فلا يعني ذلك أن دور المرأة يقتصر على ذلك، وخاصة أن التاريخ الإسلامي حافل بالنساء اللاتي كان لهن مساهمات بارزة في العلم والأدب والشريعة شأنهن في ذلك شأن الرجال. فالزوجان متساويان في الحقوق والواجبات، وعليهما أن يشتركا معًا في إدارة أمور الأسرة وتربية الصغار، وأن يكون الود والرحمة أساس التعامل بينهما، وليس علاقة السيد بالمسُود؛ ولذلك وجب تعليم البنات لتحقيق الزواج المتجانس، وتريبة الصغار تربية صالحة، وقيام النساء بالعمل في حدود قدراتهن لإنقاذهن من براثن النميمة في الحريم.

واقترح الطهطاوي نوعًا من تقسيم العمل بين الرجال والنساء؛ بحيث يختص النساء بالتمريض والتعليم، إلى جانب تربية الأطفال التي تُعدُّ من أجل الأعمال؛ فالعمل «يصون المرأة عما لا يليق ويقرِّبها من الفضيلة»، ولكن ذلك لا يعني اشتغال المرأة بالسياسة أو أن تتولى مناصب الحكم والقضاء، وأرجع الطهطاوي ذلك إلى موقف الشرع الذي يمنع الاختلاط.

ولمس الطهطاوي — برفق — مشكلة تعدد الزوجات؛ فركز على ما فرضته الشريعة من شروط للتعدد جاء في مقدمتها «العدل»، وانتهى إلى أن التعدد «غير مستحب»؛ لأن العدل ليس له مضمون مادي فحسب، بل يتضمن جانبًا عاطفيًّا، لذلك يصبح تحقيق العدل بين الزوجات مستحيلًا، وبذلك يفقد التعدد مبرره الشرعي، وقد طوَّر المفكرون اللاحقون هذه النقطة، ليصلوا إلى القول بأن القيود التي وُضِعت لتعدد الزوجات تجعل منه أمرًا مستحيلًا بل ومكروهًا.

وذهب الطهطاوي إلى أن التقدم الحضاري لا يتحقق إلا بتحقيق التقدُّم في العلوم والفنون التي يصيبها الانحطاط في الأمم الأقل حظًّا من الحضارة. ولمَّا كانت المعرفة هي السبيل للرقي الحضاري، وجب على الحكومة أن تتولى تشجيع التعليم ورعاية العلماء، وأن تضمن حرية تداول المطبوعات وتشجيع العلماء على تأليف الأعمال الهامة وإتاحتها للقراء، ورعاية العلماء ماديًّا.

figure
طلاب العلم في الأزهر الشريف.

ورأى أن التعليم ضروري للإنسان، ضرورة الخبز والماء، ولمَّا كان الإنسان يتمتع بميزة العقل التي جعلته يَفضُل جميع الحيوانات؛ فإن عليه أن يتعلم كيف يفكِّر، كما رأى أن هدف التعليم هو بناء الشخصية، وليس مجرد حشو الأذهان بالمعلومات؛ فيجب أن يتضمن المعرفة بالصحة البدنية، والعائلة وواجباتها، وقواعد وآداب السلوك، وفوق كل ذلك «الوطنية» التي تُحرِّك الإنسان لبناء مجتمع متحضر؛ فعلى الحكومة أن تتخذ من التعليم أداة لتكوين عقلية الشباب — ذكورًا وإناثًا — بما يتفق مع أحوال الأمة ونظامها الاجتماعي.

واعتبر الطهطاوي الدين من الأسس الروحية للحضارة التي يجب أن توضع في مناهج التعليم العام، فالتعليم الديني — عنده — يمثل حجر الزاوية في تكوين الأخلاق وسلامة السلوك، ويتضمن منهج الدين: القرآن، والسنة، والفقه. وأكَّد أن الأمور التي قررها الدين لا تخضع للتفكير العقلي؛ لأن الدين يتولى تحديد إطار السلوك الإنساني. ولذلك كان تدريس الدين ضروريًّا على طريق طلب الحضارة.

figure
النساء في مصر العثمانية - كتاب وصف مصر.

وذهب الطهطاوي إلى أن الوقت قد حان كي يتجه المسلمون إلى أوروبا طلبًا للعلم دون تردد؛ فالاتصال بأوروبا يحفِّز التقدم الحضاري طالما كان الدافع له طلب العلم والمعرفة لتزويد الوطن بأسباب التقدُّم. ودعا إلى استيعاب كل فروع المعرفة عند الغرب ما عدا ما اتصل بالدين المسيحي والفلسفة التي تتناول أشياء تتعارض مع ما جاء بالكتب المقدسة، ورأى الطهطاوي أن المسلمين يجب أن يقتبسوا بعض المظاهر النافعة من الحضارة الغربية، على ألا يتعارض ما يقتبسونه مع القيم الخُلقية والشريعة الإسلامية. فهو هنا لا يجد مناصًا من الاستفادة من الجانب المادي في الحضارة الغربية ولكن على أساس انتقائي.

وهكذا كان رفاعة الطهطاوي رائد التجديد في الفكر العربي في القرن التاسع عشر، بما قدَّمه من أفكار جديدة التمس لها أصولًا في الثقافة الإسلامية، متخذًا لها من الفكر الغربي فروعًا وأغصانًا. وكان له بادرة القول بتطوير المجتمع العربي الإسلامي على أسس تُحقق تقدُّمه على طريق الحضارة بأسلوب انتقائي يركز على الجوانب المادية وما ارتبط بها من مجالات معرفية، ويتعامل بحذر مع النظريات والأفكار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤