الفصل الثالث

تيار الجماعة الإسلامية

رأينا كيف كان الطهطاوي رائدًا لتجديد الفكر العربي، بما يكفل المواءمة بين الموروث الثقافي والمكتسَب من الغرب، أو — بعبارة أخرى — التمسك بما هو إيجابي في الثقافة الإسلامية واقتباس ما له نفع مادي من الثقافة الغربية في شكل «هجين» يُنتج نموذجًا ثالثًا «عصريًّا» يحمل قسَمات مشتركة، متوافقة، تشكِّل نسيجًا جديدًا.

هذا الاتجاه كان له انعكاسه عند دعاة تجديد الفكر الإسلامي، أو إصلاح المجتمع الإسلامي مع التركيز على احتفاظه بهويته الإسلامية، في إطار من «الترابط» في الطريق إلى «التوحُّد». وترجع أصول هذا الاتجاه إلى ما درج عليه المسلمون عند مواجهة التحديات الخارجية من الاعتقاد بأن المستهدف هو عقيدتهم؛ فإذا أصابتهم الهزيمة على يد مُعتدٍ أجنبي، راحوا يفتِّشون عن أسباب الهزيمة في أسلوب ممارستهم للعبادات، وفي مدى التزامهم بأوامر الدين ونواهيه، فيُرجعون ما أصابهم إلى وهن في الإيمان، وزيغ عن طريق الحق، وتفريط في العبادات وفي التمسك بالقيم الدينية. حدث هذا زمن «الحروب الصليبية»، وعند محنة الغزو المغولي، كما حدث عند قدوم الحملة الفرنسية على مصر، بل وعند وقوع هزيمة ١٩٦٧م.

هذا النوع من «مراجعة» النفس، قد يصل أحيانًا إلى درجة عالية من درجات «جَلد الذات»، وفي كل الأحوال يتم التعبير عنه بطرح أفكار شديدة الميل إلى التشدد، تضيق بالاجتهاد الذي كان — دائمًا — عاملًا لتنمية الفقه الإسلامي. ويرافق ذلك — عادة — نوع من الحنين إلى أيام الإسلام الأولى؛ زمن الرسول الكريم ، والخلافة الراشدة، وتأكيد أن «صلاح» الإسلام، إنما يكون بما صلح به أوله، أي التمسك بتراث «السلف»، والعودة إلى نموذجهم القيَمي دون تغيير أو تبديل؛ ولذلك يطلق على هذا الاتجاه مصطلح «السلَفية».

ويحظى الجانب الأخلاقي، والجانب العقَدي عند السلفيين بالقدر الأوفر من الاهتمام، فهم يحاربون البدع والضلالات وخاصة ما يقوم به المتصوِّفة من ممارسات في احتفالاتهم، والتوسل إلى الله بالأولياء، وما شاع بين الناس من ارتكاب «الخطايا». ويرون أن تلك الأمور التي تندرج تحت جَناح الجانب الأخلاقي تؤدي إلى ضعف العقيدة، والتورُّط في «الشرك»، والمُروق من الدين.

ويُعدُّ تقي الدين أحمد بن تيمية، فقيه القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي، رائد التأصيل للفكر السلفي، وإمام السلفيين، ويُعدُّ كتابه: «السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية» دليل العمل عندهم، بالإضافة إلى ما كتبه تلميذه شمس الدين محمد بن قيِّم الجوزية صاحب «الطرق الحكمية في السياسة الشرعية». واستندت إلى فكرهما دعوة محمد بن عبد الوهاب في النصف الأول من القرن الثامن عشر الميلادي، وفكر معاصره محمد بن علي الشوكاني، وكانت نجْد قاعدة ابن عبد الوهاب، واليمن قاعدة الشوكاني. وكذلك شهاب الدين بن محمود الألوسي في العراق في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ويتفق هؤلاء جميعًا في ضرورة العودة إلى ما بدأ به الإسلام، وتنقية العقيدة الإسلامية من البدَع والخرافات التي جاءت إلى الإسلام من ثقافات أخرى، والتمسك بعقيدة «التوحيد». ويختلفون بعضهم عن بعض في قضايا فرعية مثل: إباحة الاجتهاد أو تقييده، قبول التأويل أو تجنُّبه، وكذلك الموقف من الفقه، والموقف من التصوُّف.

figure
الملك عبد العزيز آل سعود مؤسس المملكة العربية السعودية.
figure
السنوسي.

ولكن التيار السلفي ظل تيارًا أصيلًا في الفكر الإسلامي طُرِح بإلحاح منذ القرن الثامن عشر الميلادي، كرد فعل لما تعرضت له البلاد الإسلامية من ضعف وتخلف، صاحبهما تصاعد التدخل الغربي في بلاد المسلمين بمختلِف الصور من الاستغلال، إلى الهيمنة، إلى الاحتلال. فقامت حركات سياسية اتخذت من الفكر السلفي دليلًا لها لعل أبرزها ما أسفرت عنه دعوة محمد بن عبد الوهاب من تكوين إمارة آل سعود بنجْد، والحركة السنوسية في ليبيا وشمال أفريقيا، وحركة محمد أحمد المهدي في السودان. وكلها حركات قامت استجابة لتحديات إقليمية ولكنها تنتمي إلى تيار إسلامي مؤثر، حظيَ بانتشار واسع بين السنة في مختلف أرجاء العالم الإسلامي، ولا زالت أصداؤه تتردد — بصورة أو بأخرى — في بعض الحركات الإسلامية المعاصرة.

وإذا كنا نحرص على تسجيل ما أحرزه التيار السلفي من انتشار؛ فإن ذلك لا يعني أن السلفيين ساهموا في «تجديد» الفكر الإسلامي؛ لأنهم لا يقبلون به من حيث المبدأ، ولأنهم لا يرون أن هناك ما يتجاوز المفهوم النصي الحَرفي لآي الذكر الحكيم والحديث النبوي الشريف، وما استَّنه الرسول الكريم وصحابته، وأن المجتمع «المثالي» هو ما كان سائدًا في صدر الإسلام. ولكن تأثير السلفيين كان — ولا يزال — كبيرًا على جماهير المسلمين نتيجة سيطرتهم على منابر المساجد، وبساطة خطابهم الديني، ودغدغته لمشاعر المؤمنين، وتأثيره على ضمائرهم.

ولكن عبء «تجديد» الفكر الإسلامي، أو الدعوة إلى ضرورة إيجاد صيغ فكرية إسلامية جديدة لمواجهة خطر الغزو الغربي؛ المادي والثقافي، وإلى ضرورة البحث عن علاج للتخلف الاقتصادي والعلمي الذي يعاني منه العالم الإسلامي، والبحث عن إطار ملائم يُحقق نوعًا من «الترابط» أو «الاستقواء» في مواجهة التهديد الاستعماري، مع احتفاظ المسلمين بهُويتهم الدينية والثقافية. وبعبارة أخرى، كان همُّ أولئك المفكرين المجددين هو البحث عن علاج ناجع لكل ما تُعانيه البلاد الإسلامية من أمراض بِنيوية جعلتها واهنة عاجزة في مواجهة الزحف الغربي، حتى إذا تخلَّصت البلاد الإسلامية من تلك الأمراض، وقفت على أقدامها صحيحة البنية، صامدة أمام الخطر الخارجي، فعلى حين نظر «السلفيون» إلى المشكلة نظرة «عاطفية … وجدانية»، نظر «المجددون» إليها نظرة «عقلانية» موضوعية تهتم بتشخيص المرض استنادًا إلى الأسباب وليس إلى الأعراض الناجمة عنه؛ لذلك كان من الطبيعي أن يختلف «المجددون» عن «السلفيين» من حيث الثقافة والتكوين رغم انطلاقهما من قاعدة دينية وثقافية واحدة. فقد كان «المجددون» أُناسًا أتيح لهم ما أتيح للطهطاوي من فرصة التعرُّف على واقع المجتمعات الغربية، وعوامل تفوُّقها المادي، بصورة أو بأخرى، واقتنعوا بإمكانية الاستفادة من الجوانب المادية في التجربة الغربية بما لا يمسُّ أصول العقيدة الإسلامية، وجوهر الثقافة الإسلامية. فالمجددون يمثلون «النخبة»، وما قدَّموه من أفكار كانت خطابًا «نخبويًّا» موجهًا لأهل الرأي وصُناع القرار في الأغلب الأعم، ولكن السلفيين قدَّموا أفكارًا تُخاطب وجدان الجماهير البسيطة التي تسود الأمية بينها؛ لذلك لقيَت قَبولًا واسعًا عند تلك الجماهير، حتى أن بعض الجماعات السلفية الحديثة أعلَت من شأن الأمية، وبررت ذلك بمقولة: «الإسلام دين الفطرة.».

وإذا كان ابن تيمية إمام السلفيين، فقد كان السيد جمال الدين الأفغاني (١٨٣٩–١٨٩٦م) رائد التجديد في الفكر الإسلامي وداعية «الجامعة الإسلامية»، ولعب تلاميذه دَورًا كبيرًا في حركة التجديد الإسلامي، كما تبنَّى بعضهم الفكرة الإسلامية التي بشَّر بها.

لقد أثارت شخصية الأفغاني اهتمام العديد من المؤرخين في الشرق والغرب على السواء، فراح البعض يقِيم الدليل على أصوله الفارسية الشيعية، وراح البعض الآخر يقِيم الدليل على أنه كان يعمل لحساب بريطانيا تارة، وروسيا تارة ثانية، والدولة العثمانية تارة ثالثة، وهي جهات تناقضت مصالحها وتضاربت، ولا يستقيم منطق قبولها استخدام من عمِل لصالح خصومها. ومهما كان الأمر، فقد كان السيد جمال الدين الأفغاني شخصية فريدة في عصرها يحيطها الكثير من الغموض. تنقَّل بين فارس وأفغانستان والهند والحجاز وإستانبول ومصر ولندن وباريس وبطرسبورج، طالت إقامته في بعضها، وقصرت في بعضها الآخر، وغادرها — في معظم الأحوال — مطرودًا مُبعَدًا بسبب نشاطه السياسي، ولم يحطَّ عصا الترحال إلا في مصر التي عاش فيها ثماني سنوات كانت من أخصب سِني حياته، وكذلك إستانبول التي قضى فيها سنوات عمره الأخيرة، ومات ودُفِن بها، عندما استدعاه السلطان عبد الحميد الثاني؛ ليستغل دعوته للجامعة الإسلامية لخدمة أغراضه السياسية؛ فعاش تلك السنوات (أسيرًا في قفص من ذهب) محاطًا بجواسيس السلطان، ممنوعًا من التحرك والسفر حتى قضى نحبه.

figure
الشيخ جمال الدين الأفغاني.

كان الأفغاني يُجيد عدة لغات، محدِّثًا لبِقًا، وخطيبًا مفوَّهًا، ولكنه كان قليل الإقبال على الكتابة؛ فلم ينشر سوى رسالة صغيرة في «الرد على الدَّهريين»، وأخرى في الرد على محاضرة للمستشرق الفرنسي رينان عن «الإسلام والعلم» وبعض الافتتاحيات التي كتبها لمجلة «العروة الوثقى» التي أصدرها في باريس بالاشتراك مع تلميذه محمد عبده، وقد وصلتنا معظم أفكاره من خلال ما كتبه تلاميذه من مقالات نُشرت بالصحف، ويُجمِع من عرفوه عن قرب على إخلاصه لعقيدته وغَيرته على الدين، وبساطته وتقشُّفه، مع حدةٍ في الطبع، وعنادٍ فيما يراه الحق. وقفَ الجانب الأكبر من حياته للدفاع عن حياض الإسلام التي اخترقتها سهام التوسُّع الغربي.

وجوهر القضية عند الأفغاني هو إقناع المسلمين بأن يُحسِنوا فهم دينهم، وأن يتمسَّكوا بتعاليمه وقيَمه حتى يستطيعوا مواجهة التحدي الغربي. إذ اعتقد أن الدول الأوروبية لم تكن متفوقة بالفطرة على البلاد الإسلامية، وأن الفكرة السائدة عن تفوُّق انجلترا على غيرها من الأمم ليست سوى وهْم، تتجلى خطورته في بثِّ الجُبن والخوف في نفوس المسلمين، ويرجع تفوُّق الإنجليز وغيرهم على المسلمين إلى تفرُّق المسلمين، وخلافهم بعضهم مع بعض؛ فإذا اجتمع المسلمون على كلمة سواء، واستخلصوا من عقيدتهم ما يُقرِّب بينهم (يقصد الشيعة والسنة)، لوقفوا في وجه العدوان الغربي وقفة رجل واحد، ولَهابَهم الأعداء.

ولكنه لم ينظر إلى وحدة المسلمين وتكاتفهم نظرة وجدانية حماسية، ولكنه لفت الأنظار إلى أن ما حققته أوروبا من انتصارات إنما تحقق بفضل تقدم العلم في الغرب وتطبيقه التطبيق الصحيح. ونبَّه الأذهان إلى أن تخلُّص البلاد الإسلامية من الجهل والتخلف الاقتصادي لا يمكن أن يتحقق بمجرد التقليد، ومحاكاة ما فعله الأوروبيون؛ لأن التجربة الأوروبية جاءت ثمرةً لنظام اجتماعي له إطاره الفكري وقيَمه، وضوابطه القانونية؛ فلا يمكن للمسلمين أن يحققوا التقدُّم العلمي والنهوض الاقتصادي إلا بإصلاح المجتمع، وتخليصه من الفساد، وهذا الإصلاح الاجتماعي لا يتحقق — في رأيه — إلا بتحقيق الرفاهية الاجتماعية عن طريق توفير العدالة الاجتماعية بمفهومها الإسلامي، وتنمية مواهب الفرد ووعيه وفكره من خلال نظام تعليمٍ سويٍّ، ورأى أن ذلك ما كانت عليه الأمة الإسلامية في أوج مجدها، وما حققه المسلمون من انتصارات عسكرية في الماضي كان رمزًا لازدهار المدنية الإسلامية، وأن ما تَحقق في الماضي يمكن أن يتحقق في الحاضر على ركيزتين؛ قطف ثمار علوم الغرب، وإعادة بناء وحدة الأمة الإسلامية.

وهكذا، غلبَت دعوة المسلمين إلى الوحدة على كتابات الأفغاني؛ فهو يدعو المسلمين إلى تجاوز الخلافات العقيدية، والخصومات التقليدية، والاختلافات الطائفية، وأن يتحدوا لصدِّ الخطر المشترك الذي يهددهم، والدفاع عن بلادهم وثقافتهم. ورأى الأفغاني أن إدراك الخطر كفيلٌ بإزالة أعمق الخلافات بين السنة والشيعة، وفكَّر في آخر أيامه في تحقيق التقارُب بين الفريقين وصولًا إلى نوع من المصالحة تمثِّل حجر الزاوية في «الوحدة الإسلامية».

وحذَّر الأفغاني من أن تحوُّل الخلافات السياسية ومصالح الحكام دون تحقيق الوحدة، فعلى الحكَّام أن يُغلِّبوا مصلحة الأمة الإسلامية على مصالحهم الخاصة، ودعا الناس إلى التخلُّص من حكَّامهم الذين يقفون حجر عَثرة في طريق الوحدة الإسلامية، ولم تكن تلك الوحدة — عنده — اندماجية تضم البلاد الإسلامية في دولة واحدة مركزية، ولكنه تصوَّر أن تتخذ الوحدة طابعًا روحيًّا يتمثل في الخضوع لخليفة واحد، على أن تكون لكل دولة إسلامية مطلق اليد في شئونها الداخلية مع الالتزام بنسَق موحَّد للسلطة يسمح بصياغة سياسة خارجية وتنموية واحدة، ورأى أن الأمر يتطلب أن يكون الحاكم قويًّا، عادلًا، واعيًا بخطورة الموقف، تتوفر لديه هِمة عالية. فهو يحبِّذ الحكم المطلق، ولا يقبل تقييد سلطة الحاكم إلا بالشريعة ومشورة «الحكماء».

والوحدة الإسلامية — عنده — لا تعني وحدة الحكام أو تضامنهم، ولكنها تعني وحدة الأمة وتضامنها، وشعور أبناء الأمة بمسئوليتهم تجاه بعضهم البعض، والعمل معًا لخير بلادهم، ورأى الأفغاني أن الرابطة الدينية لا تتعارض مع الروابط القومية القائمة بين أقوام يعتنقون أديانًا مختلفة، بل دعا إلى نوع من التضامن الطبيعي الذي يربط بين جميع شعوب الشرق التي يتهدَّدها التوسع الأوروبي، متعديًا بذلك حدود الأمة الإسلامية، معبِّرًا عن وعي عبقري بضرورة قيام حركة موحَّدة لشعوب الشرق في مواجهة الاستعمار.

ودعا الأفغاني إلى تحرير الفكر الديني من قيود التقليد، وفتْح باب الاجتهاد لإبداع فقهٍ جديد يستجيب لحاجات العصر، ونادى بضرورة التدقيق في النصوص الدينية واستخلاص الصحيح منها بالاعتماد على القرآن والسنة وما أجمع عليه المسلمون في صدر الإسلام، أما آراء الفقهاء والمدارس الفقهية المختلفة؛ فيتم الاستئناس بها، ولا تُعد ملزِمة للأمة الإسلامية لأنها اجتهادات صدرت عن الفقهاء استجابة لظروف المجتمع في عصر مُعين يختلف عن ذلك العصر. ورأى الأفغاني أن القرآن لا يُناقِض حقائق العلم؛ فإذا ظهر خلاف بينهما فمردُّه إلى عجز وقصور تفسير الآيات القرآنية. وذهب إلى ضرورة اطِّلاع العلماء المسلمين على التيارات الفكرية الحديثة وقبول ما لا يتعارض منها مع الشريعة الإسلامية، ويَفيد المسلمين في حياتهم، ورفض ما عدا ذلك بالحُجج العقلية والبراهين المنطقية.

والتفَّ حول الأفغاني أثناء وجوده في مصر مجموعة من الشباب من بينهم الطالبان الأزهريان محمد عبده وسعد زغلول والصحفي القبطي ميخائيل عبد السيد، والكاتب والمسرحي والصحفي اليهودي يعقوب صنوع، والأزهري السوري عبد القادر المغربي، والكاتب الصحفي السوري أديب إسحاق وغيرهم ممن اجتذبتهم مجالسُه، وعبَّروا عن أفكاره في مقالات جرَت بها أقلامهم في الصحف المصرية والشامية، ولعبوا أدوارًا متفاوتة الأهمية، متنوعة التوجُّه في الحياة السياسية والثقافية في مصر والمشرق العربي. وكان هذا شأن الأفغاني أينما حلَّ يجتذب الشباب المشغول بهموم أمته حوله.

figure
الزعيم سعد زغلول.

ونظرة إلى هذا التنوع في الأوطان والمعتقدات الدينية بين تلاميذه تكشف لنا عن جانب آخر في فكر الأفغاني أو قُل — إن شئت — في تصوُّره للنهضة الإسلامية. فرغم تمسُّكه الشديد بالعقيدة الإسلامية واعتبارها حجر الزاوية في مشروعه السياسي؛ إلا أن هذا التنوع في تكوين ومعتقدات تلاميذه يُوحي بأنه نظر إلى الإسلام كحضارة وثقافة يشترك فيها كل من ينتمي إلى بلاد الإسلام بغض النظر عن ديانته. ورغم أنه رأى أن التعصب للدين الإسلامي يُعدُّ دافعًا للتقدم، أبدى نفوره من التعصب الأعمى للدين، ورأى أن الثقافة الإسلامية تُحدد هُوية أبناء الأمة من المسلمين وغيرهم من أصحاب الديانات الأخرى.

ويُعدُّ الشيخ محمد عبده (١٨٤٩–١٩٠٥م) أبرز تلاميذ السيد جمال الدين الأفغاني، وتعاون معه في إصدار مجلة «العروة الوثقى» بباريس، بل حمل عبء تحرير القسط الأكبر منها، كان محمد عبده منفيًّا لمدة ثلاث سنوات جزاءَ تعاونه مع رجال الثورة العرابية، فذهب إلى بيروت، ثم التحق بالأفغاني في باريس وشاركه نشاطه، وبعد توقُّف إصدار «العروة الوثقى» ذهب إلى تونس ثم عاد إلى بيروت حيث اشتغل بالتدريس هناك. وفي عام ١٨٨٨م حصل على عفوٍ من الخديو فعاد إلى مصر، وعيِّن قاضيًا بالمحاكم الأهلية ثم أصبح مفتيًا عام ١٨٩٩م، وكان العفو، وتولي هذه المناصب بتدخل من أطراف عدة منها الأميرة نازلي فاضل عند اللورد كرومر المعتمد البريطاني، ومن ثَم كانت هذه العودة وما صاحَبها من توثيق علاقته بسلطات الاحتلال البريطاني مَعلمًا لتحوُّلٍ في فكره نأى به عن أسلوب العمل السياسي الذي مارسه أستاذه الأفغاني.

figure
الشيخ محمد عبده.
figure
أحمد عرابي سنة ١٨٨٢م زعيم الثورة العرابية.
figure
اللورد كرومر.

لم يكتفِ محمد عبده بما حصَّله من تعليم في الأزهر، فتعلَّم اللغة الفرنسية؛ فكانت النافذة التي أطل منها على الفكر الأوروبي على نطاق واسع، وكان على اتصال ببعض المفكرين الأوروبيين مثل تولستوي وسبنسر، وكان يتردد على أوروبا من حين لآخر ليُمعن النظر في أحوالها، والتفكير في إصلاح شأن العالم الإسلامي.

شغل فقهاء المسلمين منذ ابن تيمية بالفارق الكبير بين المجتمع الإسلامي كما جاء في المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، وما آلت إليه أحواله في زمانهم، وعاد السؤال يُطرَح بإلحاح على يد المفكرين من دعاة تجديد الفكر الإسلامي: كيف يتم التوفيق بين ما ينبغي أن يكون عليه المجتمع الإسلامي، وبين ما بات عليه واقعه الآن؟ وإلى أي مدًى يُمكن القول إن المجتمع الإسلامي لا يزال إسلاميًّا حقًّا؟

كان محمد عبده مُدركًا لأهمية الإصلاحات القانونية التي شهِدها عصر إسماعيل، وتلك التي تمَّت في عهد الاحتلال البريطاني، ويرى فيها مصلحة لمصر، ولكن أقلقته تلك الازدواجية في النظام القانوني، فبقيَ القضاء الشرعي على حاله دون إصلاح، وقام إلى جانبه نظام قانوني دنيوي، يسير كل منهما عكس اتجاه الآخر. وخشيَ محمد عبده أن يترتب على ذلك نمو النزعة إلى توطيد العلمانية في مجتمع يتعارض جوهريًّا مع تلك النزعة، مما قد يؤدي إلى الانقسام والازدواجية في كل ناحية من نواحي الحياة، فهناك إلى جانب الأزهر والمدارس الدينية، المدارس الحكومية التي تُقدِّم تعليمًا حديثًا، ومدارس الإرساليات الأجنبية التي تُقدِّم تعليمًا أجنبيًّا خالصًا. وخشيَ محمد عبده أن يؤدي ذلك إلى إيجاد طبقتين من المثقفين لكلٍّ منها عقليته الخاصة؛ العقلية الإسلامية التقليدية التي لا تقبل بالتغيير، وعقلية المثقفين ثقافة غربية الذين لا تربطهم بثقافتهم التقليدية روابط متينة مما ينعكس سلبيًّا على القيم الخُلقية للمجتمع، ويُحدِث نوعًا من الاغتراب عند أصحاب الثقافة الحديثة يجعلهم يكتفون بتقليد المظاهر الخارجية للحضارة الغربية دون الوقوف على جوهرها، في الوقت الذي يعزفون فيه عن تعميق ثقافتهم الوطنية.

ذهب محمد عبده إلى ضرورة سدِّ هذه الثغرة القائمة في المجتمع الإسلامي بالاعتراف بالحاجة إلى التغيير، وربط ذلك التغيير بمبادئ الإسلام، لأن التغيير — في حدِّ ذاته — من متطلبات فهم الإسلام على حقيقته. فالإسلام يقدِّم الأساس الصالح للتغيير والرقابة السليمة عليه، ولم يكن محمد عبده يضع الأخذ بالمؤسسات والأفكار الغربية والأفكار في المجتمع الإسلامي موضع تساؤل، ولكن كان شغله الشاغل أن لا يتزعزع إيمان المسلم الذي يعيش في العالم الحديث، وكان أشدُّ ما يقلقه أدعياء الثقافة الحديثة الذين يُشككون في صلاحية الدين كأساس للحياة، واعتبرهم يمثِّلون الخطر الأكبر على الأمة.

ورأى محمد عبده أن الإسلام صالح تمامًا لتقديم الأساس الخُلقي لمجتمع حديث عصري؛ فالإسلام يردع المؤمن عن ارتكاب ما يتعارض مع قيمه وتعاليمه، وهذا الردع يجعل المسلمين قادرين على التمييز بين الصالح والطالح في مختلِف نواحي التغيير والابتكار التي تقع في المجتمع؛ لذلك دعا إلى تنقية الإسلام من البدع والضلالات التي أصابته في عصور الانحطاط، والعودة به إلى «نقائه الأول» أيام السلف الصالح قبل ظهور الخلافات (أي أيام الرسول والراشدين)، واعتبار الدين من ضمن «موازين العقل البشري» التي وضعها الله لضبطه وتقويمه حفاظًا على البشرية.

كما دعا إلى التمييز بين ما للحكومة من حق الطاعة على الشعب، وما للشعب من حق العدالة على الحكومة، وردِّ الحاكم عن خطئه بنصح الأمة له «بالقول والفعل».

ورأى محمد عبده أن الإسلام «دين الفطرة» الذي يحتلُّ مركز الوسط بين انسجامه التام مع متطلبات العقل البشرى واكتشافات العلم الحديث، والإيمان بالله تعالى. ففي الإسلام جواب على قضايا العالم الحديث، ويستطيع أن يقدِّم للأوروبيين ما يقِيهم فتن المدنية الحديثة ومفاسدها السياسية، وكان مفتاح دفاعه عن الإسلام، فهمه الخاص للدين الحق، وهو فهم يميز بين ما هو جوهري لا يقبل التغيير، وبين ما هو غير ذلك ويمكن تغييره دون حرج. فالإسلام عنده عقيدة بسيطة تتضمن المعتقدات الخاصة بأخطر أمور الحياة، وبعض القيَم الخاصة بالسلوك البشرى، ورأى أن العقل والكتاب العزيز ضروريان لاكتشاف هذه المعتقدات، ولتجسيدها في أمور الحياة. فالمسلم الحقيقي هو الذي يستعمل عقله في شئون الدنيا والدين؛ فالإسلام لم يدعُ أبدًا إلى تعطيل عمل العقل، بل يحضُّ — دائمًا — على التفكير والتدبير وطلب العلم.

ورأى محمد عبده أن المسلمين اليوم مطالَبون بأن يقوموا بإعادة تأويل الشريعة وتكييفها وفقًا لمتطلبات الحياة الحديثة، ولتحقيق ذلك لا بد من الأخذ بمبدأ «المصلحة» قاعدةً لاستنباط فقه خاص بالسلوك الاجتماعي، وكذلك مبدأ «المواءمة» الذي يُتيح للقاضي أن يختار الرأي الشرعي المناسب للحالة التي ينظرها، من بين مختلِف المذاهب، ولعل ذلك كان وراء سعي محمد عبده عندما أصبح مُفتيًا لمشروع المقارنة العلمية بين المذاهب السنية الأربعة بهدف التوصُّل إلى صيغة فقهية موحدة، وهو اتجاه نال اهتمامًا من الدولة منذ مطلع العشرينيات من القرن العشرين، تبلور في قانون المحاكم الشرعية وتعديلاته التي أخذت بمبدأ الاستفادة من فقه المذاهب الأربعة.

وفيما يتعلق بالرؤية السياسية لمحمد عبده، نجده يتفق مع أستاذه الأفغاني في أن الأمة الإسلامية تعاني من التخلُّف (الانحطاط)، وأن الأمر يقتضي إصلاحها من الداخل، وأن تبني المؤسسات الغربية وحده لن يحقق الإصلاح المنشود؛ فالأمر يتطلب إعادة تفسير الشريعة، يحتاج إلى اجتهاد يُبدع فقهًا جديدًا. ومن الضروري بعثُ الخلافة الصحيحة ذات السلطة الروحية التي يتولاها خليفة يلعب دور «المجتهد الأكبر»؛ لأن وحدة الأمة — في تصوُّره — وحدة معنوية لا تتعارض مع انقسام البلاد الإسلامية إلى دول قومية، ولأن أقوى وحدة هي تلك التي تجمع بين من ينتمون إلى وطن واحد، وأن انتساب غير المسلمين إلى الأمة، لا يقل أصالة عن انتساب المسلمين أنفسهم إليها، وهنا نلمح أثر النظرة إلى الإسلام كحضارة وثقافة التي وجدناها عند أستاذه الأفغاني، والتي تُعززها هنا — عند محمد عبده — حالةُ مصر على وجه الخصوص؛ فقد كان يرى أن «للأمة المصرية» كيانًا مستقلًّا، ولكنها شاركت الأمة الإسلامية انحطاطها؛ ولذلك لا أمل لها في حكم نفسها بنفسها (الاستقلال) قبل أن تصلح حالها.

ورأى أن المتطلَّب الأساسي في الحاكم أن يكون عادلًا، يحكم وفقًا للشريعة الإسلامية، ومشورة أعيان البلاد، ورأى أن مصر لم تتهيأ بعد للحكم الدستوري؛ لأن المصريين في حاجة للتمرس — تدريجيًّا — على أصول الحكم، وأن ذلك يتم من خلال مجالس محلية واستشارية قبل الوصول إلى الدستور والمجلس النيابي، ولعل ذلك يفسر موقفه المعارض لدعوة مصطفى كامل إلى إنهاء الوجود البريطاني في مصر.

figure
الزعيم مصطفى كامل بملابسه الرسمية سنة ١٩٠٨م.

وجاء الشيخ محمد رشيد رضا (١٨٦٥–١٩٣٥م) ليمثِّل الحلقة الثالثة في تيار التجديد الإسلامي الذي يدعو إلى الوحدة الإسلامية، أو «الجامعة الإسلامية»، الذي يجمع بين تجديد الفكر الإسلامي، وتصوُّر لمشروع سياسي للنهوض بالأمة الإسلامية.

figure
الشيخ محمد رشيد رضا.

ومحمد رشيد رضا يُعدُّ تلميذًا لمحمد عبده، وهو من أبناء طرابلس الشام، التقى بمحمد عبده هناك عام ١٨٩٤م، وجاء إلى مصر عام ١٨٩٧م ليُصدر في العام التالي مجلة «المنار» التي ورِثت «العروة الوثقى» في الدعوة إلى الجامعة الإسلامية، وأثرت في جيل جديد من الشباب في مختلف أنحاء العالم الإسلامي. وقد حدد محمد رشيد رضا رسالة «المنار» في افتتاحية العدد الأول بما لا يخرج عن إطار الفكر الإصلاحي لأستاذه محمد عبده، وهي: الإصلاح الإسلامي بإصلاح التربية والتعليم، وبيان تقصير علماء المسلمين فيما يجب عليهم من الإصلاح، ومقاومة البدع والمنكرات.

ويبدو تأثره بمحمد عبده فيما طرحه من أفكار تتصل بالتجديد والإصلاح الديني؛ كالدعوة إلى استقلال الفكر، وحرية العقل، وتجنب تقليد العلماء السابقين، وإبطال التقاليد والعادات التي أفسدت العقائد والأخلاق والأعمال، وارتبطت بالبدَع والخرافات، وتجنب كل ما يخالف القرآن والسنة من قيم وسلوكيات اجتماعية، والدعوة إلى الاجتهاد، وحفظ المصالح، ودرء المفاسد، ومراعاة العُرف، وإصلاح نظام التربية والتعليم والدعوة إلى الإقبال على التخصص في العلوم والفنون التي تحتاجها الأمة في النهوض باقتصادها، وطالب بالاهتمام بالوعظ في بلاد الإسلام، وإعداد الدعاة لنشره خارج ديار الإسلام.

وجملة القول أن محمد رشيد رضا كان داعية لفكر أستاذه محمد عبده، ولكنه نحا بمجلة «المنار» نحوًا جعلها أقرب ما تكون إلى السلفية ودُعاتها، وبقي من فكرة الجامعة الإسلامية على صفحاتها الحملة التي شنتها المجلة ضد قرار أتاتورك إلغاء الخلافة في تركيا، وتبنَّى الدعوة إلى إحياء الخلافة، مما جعل المجلة وصاحبها يرتبطان بمصالح الحكام الطامعين في وراثة منصب الخلافة.

figure
مصطفى كمال أتاتورك أول رئيس تركي أسقط الخلافة.

ولم يكن ذلك وحده ما أصاب فكر محمد عبده على يد تلميذ من تلاميذه ممن حرصوا على الدفاع عن الإسلام أكثر من حرصهم على توضيح جوهره على نحو ما فعل أستاذهم. من هؤلاء محمد فريد وجدي الذي ذهب في كتابه «المدنيَّة والإسلام» أن الإسلام ينطوي — ضِمنًا — على كل ما تم التوصُّل إليه عن طريق العلم الحديث، وهو تحوير لفكرة محمد عبده القائلة بأن المدنية الحقيقية مطابقة للإسلام؛ أي أن ما تعارض منها مع الإسلام كان زائفًا، فجاء محمد فريد وجدي ليؤكد أن كل ما جاءت به المدنية الحديثة موجود في الإسلام، وبذلك «يذوب» الإسلام في كتابات وجدي ومن ساروا على دربه، يذوب في الفكر الأوروبي ويفقد هويته التي حرص عليها محمد عبده.

ومن بين تلاميذ محمد عبده الذين تأثروا بفكره، ودفعوا الجانب الاجتماعي من فكرة الإصلاح عنده خطوة إلى الأمام: قاسم أمين (١٨٦٥–١٩٠٨م) الذي نشر عام ١٨٩٩م كتابه «تحرير المرأة»، انطلق فيه من فكرة انحطاط الإسلام الذي رآه نتيجة لتدهور القوة الاجتماعية وليس سببًا لها، ويعود إلى اختلال العلاقة بين الرجل والمرأة، والأم والولد؛ ولذلك وجب تعليم النساء حتى تتم تربية النشء تربية سوية وأن تُتاح للمرأة الحرية والمكانة اللازمة لتلعب دورها في المجتمع وهو «إصلاح» أخلاق الأمة. فالشريعة الإسلامية ساوت بين المرأة والرجل فيما عدا تعدد الزوجات والميراث. ولا يجب أن تقتصر تربية البنات على العناية بتدبير المنزل، بل تتولى إعداد المرأة لكسب الرزق مما يتطلب القضاء على الحجاب والخِدر.

أثار كتاب قاسم أمين عاصفة احتجاج وصدرت سلسلة من الكتب والمقالات كانت المعارضة فيها أكثر حظًّا من التأييد؛ فرد قاسم أمين على معارضيه بكتاب آخر هو «المرأة الجديدة» ذهب فيه إلى أن حرية المرأة أساس كل الحريات، وتقدِّم معيارًا لها، فعندما تكون المرأة حرة يصبح المواطن حرًّا، وأن الحُجج المستخدمة ضد حرية المرأة هي نفس الحُجج المضادة لكل الحريات. وجاء الكتاب الأخير ليؤكد أن الدين وحده لا يخلق دولة ومجتمعًا ومدنيَّة؛ لأن ذلك يتطلب توافر عوامل عِدة من بينها الدين. وبذلك قطع قاسم أمين الصلة التي أقامها محمد عبده بين الإسلام والمدنيَّة، مع احترامه الكامل للإسلام (الذي جعله يردُّ على افتراءات الدوق داركور بكتاب نشره بالفرنسية)؛ فقد أعطى قاسم أمين للمدنية الحق في أن تبني قواعدها الخاصة بها وتتخير آليات عملها. وهذا يعني أن المدنية يجب أن تُقاس على أساس هذه القواعد؛ فهناك فرق بين التسليم بأن الإسلام دين الحق، والقول بأن المدنيَّة الإسلامية هي المدنية الأفضل، طالما كان واقع الحال يكشف عن تخلف العالم الإسلامي في ذلك العصر.

وبذلك اقترب قاسم أمين — قليلًا — من التيار العلماني، وإن اختلف معه تمامًا في تقدير دور الدين في بناء المجتمع وإرساء دعائم قيَمه الخُلقية.

figure
قاسم أمين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤