التيار العلماني
كان لجهود التجديد في الفكر الإسلامي التي قام بها محمد عبده وتلاميذه، التي هدفت إلى محاولة صياغة المبادئ التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي صياغة جديدة على ضوء ما يمكن اقتباسه من الأفكار الغربية التي لا تتعارض مع جوهر الإسلام، كان لتلك الجهود أثرها في ظهور فكرة إمكانية إقامة مجتمع «قومي» علماني، يحتفظ فيه بالإسلام كعقيدة ورابطة اجتماعية، ولكن دون أن يكون الدين مصدرًا للتشريع أو للنظام السياسي، وفي اتجاه موازٍ لجهود تلاميذ محمد عبده، كان هناك فريق من الكتَّاب المسيحيين الشَّوام، تطوَّرت على أيديهم هذه الفكرة، فكان لهم دَور بارز في تحديد مجرى التيار العلماني.
وكان الأمر مختلفًا عند إخوانهم المسلمين من تلاميذ محمد عبده؛ لأن الإسلام لم يعرف السلطة اللاهوتية الكنسية، فالمؤمن يؤدي فروض العبادة دون حاجة إلى «رجل دين» يقِيم له طقوس العبادة. ولم يكن الفقهاء الذين أثْرُوا الشريعة الإسلامية باجتهاداتهم، يلبِسون مسوح رجال الدين، أو يتولَّون مناصب دينية؛ لأنه لم تكن هناك «هيئة دينية» ذات نظام تراتُبي إلا في العهد العثماني. وكان الفقهاء يتكسبون من الاشتغال بالتعليم أو القضاء، أو الأعمال الحِرفية والتجارية.
وحتى عندما أصبحت هناك «هيئة دينية» رسمية، لم يكن لها من السطوة والنفوذ ما كان للكنيسة في أوروبا؛ فما يقدمه عضو الهيئة الدينية المسلم من فتوى ينتهي دائمًا بعبارة «والله أعلم.» لتعني أن ما يقدِّمه من (رأي) ليس بالضرورة حكمًا إلهيًّا واجب الاتِّباع. هذا فضلًا عما يتضمنه القرآن من حضٍّ على إعمال الفكر، والتدبر، والعلم، والتحديد الصريح لمسئولية الفرد عن عمله أمام الله سبحانه وتعالى وحده.
لذلك كان اتجاه محمد عبده وتلاميذه إلى إصلاح المجتمع من خلال تجديد الفكر الإسلامي بالاجتهاد، واقتباس ما ينفع المجتمع من أفكار الغرب، والجمع بين «الديني» و«الدنيوى»، يستند إلى القرآن الكريم والسنة الشريفة، ولا يرى تعارضًا في ذلك؛ فالإسلام يُبيح الاجتهاد في شئون الدنيا «أنتم أعلم بشئون دنياكم.»، ويقبل تقنين العُرف طالما حقق «المصلحة» للناس، ولم يتعارض مع نص ديني صريح. فلا عجب أن نجد تيار الإصلاح الإسلامي الذي دعا إليه محمد عبده وتلاميذه قبِل ما روَّج له دعاة «العلمانية» من إخوانهم الكتاب المسيحيين العرب؛ ولكنهم اختلفوا معهم في دعواهم إلى تنحية الدين جانبًا باعتباره «مسألة شخصية»، وكذلك في دعواهم إلى رفض الدين كمعوِّق للعلم، منافٍ له.
ومن الغريب أن التيار «السلفي» الإسلامي رأى «العلمانية» بعيون أولئك الكتاب المسيحيين العرب، ومن سار على دربهم، فعدُّوا القول بها «كفرًا بيِّنًا»، وأن لا معنى لها سوى الإلحاد، والتزموا بظاهر الدين النصي بما يُشبه التزام «الكنيسة» بالنص الديني الذي جعل من تصفية نفوذها نقطة انطلاق على طريق النهضة.
ويرتبط رواج الدعوة للتيار العلماني بالمجلات التي صدرت في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، وعرضت على صفحاتها الأفكار الأوروبية السياسية والاجتماعية والعلمية بأسلوب ضمنيٍّ حينًا، وأسلوب صريح حينًا آخر. من تلك المجلات «الجِنان» التي أصدرها بطرس البستاني وابنه سليم في بيروت، وصدرت في المدة (١٨٧٠–١٨٨٦م)، و«المقتطف» التي أصدرها يعقوب صروف وفارس نمر ببيروت أيضًا عام ١٨٧٦م، ثم انتقلت إلى القاهرة حيث استمرت في الصدور حتى العقد الرابع من القرن العشرين، وأخيرًا مجلة «الهلال» التي أصدرها جُرجي زيدان بالقاهرة عام ١٨٩٢م، ولا زالت تصدر حتى اليوم.
وقد نأت تلك المجلات بنفسها عن الخوض في أمور السياسة المحلية أو الدين حتى لا تثير ضدَّها المعارضة، ولكن الموضوعات التي نشرتها دارت حول «المدنيَّة» باعتبارها الخير ذاته، وأن الأخذ بها وتنميتها فيه صلاح الأمور وتهذيب السلوك، وأن العلم أساس المدنيَّة ويمكن للعرب أن ينقلوه إلى ثقافتهم العربية؛ لأن الاكتشافات العلمية الحديثة هي سرُّ قوة المجتمع الذي يقوم على قاعدة المصلحة «الوطنية».
وبرز من بين ذلك النفر من الكتاب شبلي شميِّل (١٨٥٠–١٩١٧م)، وكان ينتمي إلى عائلة لبنانية استقرت بمصر على عهد الخديو إسماعيل، درس الطب بالكلية البروتستانتية (الجامعة الأمريكية الآن) ببيروت، ثم استكمل دراسة الطب بفرنسا، ومارس مهنته في مصر، ولكنه لم ينَل شهرته كطبيب، وإنما كمُبشِّر بنظرية دارون في النشوء والارتقاء، فكان أول من طرح هذه النظرية وما أحدثته من ثورة في التفكير البيولوجي على القراء العرب، وقدم ترجمة عربية لشرح بوخنر لأفكار دارون. فكان يعتبر «العلم» أساس كل شيء، وهو جدير بالتقديس؛ لأنه «الدين» الذي يجب الإيمان به، ووجَّه بهذا الصدد نقدًا مُرًّا للكنيسة وهيمنتها على المجتمع، وطالب بحق الفرد في اختيار طريقه والتعبير عن ذاته، وعدَّ الحكم القائم على الدين حكمًا زائفًا فاسدًا، يستخدم السلطة لمنع نمو العقل البشرى نموًّا صحيحًا، ويُرسي قواعد الاستبداد وإنكار حقوق الأفراد الذين يجب أن يعيشوا «وفقًا للطبيعة» وقوانينها؛ لأن التطور يتحقق بالصراع من أجل البقاء، والبقاء لا يكون إلا للأصلح.
والمجتمع الأصلح — عنده — هو المجتمع الذي تعمل جميع خلاياه من أجل خير الجميع، والقوانين والنظم الاجتماعية والسياسية تُقام لخدمة الصالح العام وتتغير بتغير واقعه، فلا تتصف بالثبات؛ لأن الثبات يعني الجمود والفناء. ولا يمكن الاتفاق على ما يعنيه «الصالح العام» إلا إذا توفَّرت الحرية، وخاصة حرية الفكر. ويتطلب ذلك — في رأيه — فصل الدين (باعتباره عنصر تفرقة) عن الحياة السياسية، فالأمم تقوى بمقدار ضعف سلطان الدين فيها، والتعصب القومي الأعمى — عنده — لا يقل شرًا عن التعصب الديني الأعمى؛ لذلك لا بد أن تحل «الوطنية العالمية» محل الولاء لوطن محدد؛ فالتقدم الاجتماعي يواكب التقدُّم العلمي، وسوف يتطور مفهوم «الوطن» يومًا ما ليشمل العالم كله.
وكان شبلي شميِّل — أيضًا — أول من قدَّم الفكرة الاشتراكية في العالم العربي للقراء، وإن كان قد سمَّاها «الاجتماعية»، وفي طرحه للفكرة لم يهتم بمبدأ المِلكية العامة لوسائل الإنتاج، بل كان يعبِّر عن اعتقاده بالتزام الحكومة العمل على تحقيق التقدم الاجتماعي وإرساء أسس التعاون في سبيل الصالح العام للمجتمع؛ فعلى الحكومة أن تتيح العمل للقادرين، وتضمن لهم الأجور العادلة، وتوفر لهم الخدمات الصحية، وأن تُقيم جامعة عصرية تدرس العلوم، ومدارس فنية، ومدارس ابتدائية في كل قرية وحيٍّ، ومؤسسات عامة لتوزيع المياه والطاقة، وتفتح الباب على مصراعيه أمام الصحف لتنوير الرأي العام. وكلها إصلاحات يمكن أن تتحقق في ظل مجتمع رأسمالي ليبرالي.
لم يكن المجتمع في مصر أو غيرها من البلاد العربية قد عرَف التطور الرأسمالي على نحو ما عرفته أوروبا، ولم تكن الأرض بعد خصبة لتلقي المبادئ الاشتراكية، ولكن طرح شميِّل لها ساعد على توعية القراء في البلاد العربية بما يجب أن تكون عليه الحكومة العصرية؛ فكان لهذا الطرح أثره في الدعوة إلى الحكم الدستوري في مصر وبلاد الدولة العثمانية. فقد كان شميِّل من أنصار جماعة «تركيا الفتاة»، معارضًا لاستبداد السلطان عبد الحميد الثاني. وقد وصف أنصار «تركيا الفتاة» بأنهم من أنصار التقدم الاجتماعي، والحرية، والوحدة الاجتماعية التي تتجاوز حدود الفوارق الدينية، وعدَّهم «طلائع» لحركة البشرية تجاه المجتمع العالمي.
كتب شميِّل هذا الكلام عام ١٨٩٨م، قبل أن يصل رجال تركيا الفتاة إلى الحكم بعشر سنوات، وعندما نجح انقلابهم كشفوا عن تعصبهم للقومية التركية، وعصفوا بالقوميات الأخرى التي انضوت تحت لواء الدولة العثمانية (على نحو ما سنرى في الفصل التالي)، مما يكشف عن النظرة «المثالية» التي اتسمت بها رؤية شميِّل لهم.
وإذا كان شلبي شميِّل قد فصم عُرى العلاقة بين الدين والعلم في إطار طرحه للأفكار التي استلهمها من الغرب؛ فقد ارتبط اسم معاصره (اللبناني أيضًا) فرح أنطون (١٨٧٤–١٩٢٢م) الذي نزل مصر عام ١٨٩٧م، وأصدر بها مجلة «الجامعة» وانتقل إلى المهجر، وإن ظل ينتقل بين القاهرة ونيويورك وأصدر هناك عددًا من المجلات العربية. واستفزت كتاباته محمد عبده بسبب حملته على الدين، واعتباره نقيضًا للعلم. فدار بين الرجلين حوار حول دراسة فرح أنطون التي نشرها عن حياة ابن رشد وفلسفته متَّبعًا منهج المستشرق الفرنسي رينان، وأهداها «إلى البيت الجديد في الشرق … إلى أولئك العقلاء من كل ملة ودين في الشرق، الذين عرفوا مضار مزج الدنيا بالدين في عصر كهذا العصر؛ فصاروا يطلبون وضع أديانهم في مكان مقدس محترم، ليتمكنوا من الاتحاد اتحادًا حقيقيًّا، ومجاراة تيار التمدُّن الأوروبي الجديد، لمزاحمة أهله، وإلا جرفهم جميعًا وجعلهم مُسخَّرين لغيرهم». وذكر في مقدمة الدراسة أنه يكتب عن حياة ابن رشد ليقضي على الفرقة بين عناصر الشرق، ويغسل القلوب من أحقادها، ويجمع كلمة أهل الشرق على نهج التمدن؛ لأن الزمان زمان الفلسفة والعلم، الذي يُلزِم كل فريق باحترام رأي غيره، وعقيدة غيره.
كان كِتاب فرح أنطون شبيهًا بكتابات شبلي شميِّل من حيث اتخاذه طابع «البيان السياسي»، رمى فيه إلى وضع أسس دولة علمانية تقوم على كاهل مواطنيها من المسلمين والمسيحيين على قدمٍ سواء. ولتحقيق ذلك، رأى ضرورة التمييز بين ما هو جوهري، وما كان عرَضيًّا في جميع الأديان. أي الفصل بين مبادئ الدين ومجموعة الشرائع المنسوبة إليه. ورأى أن المبادئ واحدة في جميع الأديان، وأن الشرائع غايتها حثُّ الناس على الفضيلة والخلق القويم، وهو القاعدة التي يجب التركيز عليها في تفسير الشرائع، ولو عن طريق التأويل وليس التمسك بحرفية النصوص. فالشرائع — عنده — وسيلة لغاية وليست غاية في حد ذاتها؛ لأن الطبيعة البشرية واحدة في جميع الأديان، وكذلك حقوق الإنسان وواجباته واحدة، يتفق فيها أصحاب الديانات مع من لا دين لهم.
وبنى فرح أنطون على ذلك قواعد العلمانية الفصل بين السلطتين الزمنية والدينية؛ لتناقضهما بعضهما مع بعض، ولأن قيام النظام الاجتماعي على ترابطهما واتحادهما يؤدي إلى اضطهاد السلطة الحاكمة للذين يخالفونها الرأي، وخاصة أهل الفكر، بينما هدف السلطة ضمان الحرية البشرية في حدود الدستور، ومن ثَم لا يتعرض أصحاب الآراء المعارضة للاضطهاد. ومن مبررات الفصل بين السلطتين — أيضًا — ضرورة أن يقوم المجتمع المتمدِّن على المساواة المطلقة بين أبنائه دون النظر إلى دياناتهم. كما أن السلطة الدينية تتعامل مع الآخرة، بينما السلطة الزمنية تتعامل مع شئون الدنيا. والجمع بين الدين والسياسة يُضعِف الدين ذاته عندما يُنزِله إلى حلبة الصراع السياسي، ويجعله عُرضة لكل مزالق الحياة السياسية. ولمَّا كان الدين الحق واحدًا، فالمصالح الدينية المختلفة تؤدي إلى الحروب وما يترتب عليها من نكبات.
أثارت أفكار فرح أنطون الشيخ محمد عبده وتلميذه رشيد رضا، وكانت في تلك الأفكار نقاط قد يقبَل بها محمد عبده، فقد ميَّز — أيضًا — بين ما هو جوهري أصيل في الدين، وما كان عرَضيًّا، كما قال بأن جميع الأديان تعبِّر عن حقيقة واحدة، ولكنه رأى في الإسلام وحده الدين المُعبِّر عن الحقيقة التامة، وإذا كان محمد عبده قد قبِل بأن يكون للحكومة الحق في حرية التشريع؛ فقد حرص على أن تكون القوانين الحديثة في إطار الشريعة ولا تخرج عنه، ويرى ضرورة التزام الحكَّام برأي فقهاء الشريعة، وإذا كان يؤمن بحق غير المسلمين في المساواة مع إخوانهم المسلمين؛ فذلك في إطار الدولة الإسلامية. وساء محمد عبده ما ذكره فرح أنطون من أن الإسلام اضطهد العلم بأكثر مما فعلته المسيحية، فكتب محمد عبده كتابه عن «الإسلام والمسيحية» للرد على أنطون، كما كتب كتابه الآخر «الإسلام دين العلم والمدنيَّة» للرد على رينان، ودُعاة العلمانية عمومًا.
وفي ردوده على محمد عبده، عارَض أنطون مقولة محمد عبده من أن الدين إذا عاد إلى نقائه الأول يصبح أساسًا متينًا للحياة السياسية؛ فقال أنطون بأن العالم قد تغير، ولم تعد الدول الحديثة قائمة على الدين بل على الوحدة الوطنية والعلم الحديث. وضرب مثلًا بانتصار محمد علي باشا على الوهابيين رغم أنهم أصحاب دعوة تنقية الإسلام مما شابَهُ من معتقدات، وعزَى انتصار محمد علي عليهم إلى كونه أول من أدرك في الشرق أن العالم قد تغيَّر. وأبدى أنطون اعتراضه على دعوة محمد عبده إلى الوحدة الإسلامية، وأكَّد صعوبة تحقيقها، وأنها حتى إذا تحققت؛ فلن تُغير من واقع الحال شيئًا لأنها لن تستطيع صدَّ الزحف الأوروبي.
وفي دحضه لِما ذهب إليه محمد عبده — من استحالة الفصل بين الدين والدولة؛ لأن الحاكم لا يستطيع التخلص من تأثير الدين عليه، وأن الإنسان جسد وروح، فلا حياة له إن زهقت روحه، وكذلك المجتمع لا حياة له إذا نحَّى الدين جانبًا — رد فرح أنطون بشرح النظام الديمقراطي من حيث التزام الحاكم بالدستور وبالقوانين التي يصدرها مجلس منتخب من الشعب، فالشعب مصدر السلطات، وحكمة ممثليهم أوسع مدًى من حكمة الحاكم الفرد، وقدراتهم الذهنية تفوق قدراته. فالمجلس المنتخَب أعلى منزلة من الحاكم ومن السلطة الدينية معًا. وعندما تكون الحكومة علمانية، تضع للسلطة الدينية حدودًا لا تتجاوزها، ولا تتدخل الحكومة في الشئون الدينية طالما كانت السلطة الدينية بعيدة عن السياسة. فالحكومة تعمل لخدمة الشعب، وما يهم الشعب شئون الدنيا.
لقد تأثر بأفكار شبلي شميِّل وفرح أنطون جيل آخر من الكتاب في النصف الأول من القرن العشرين، كان منهم سلامة موسى، وعزيز ميرهم، وعزيز فهمي، وأحمد لطفي السيد، وطه حسين، ومحمد حسين هيكل وغيرهم من الكتَّاب الذين عبَّروا عن التيارات الفكرية والسياسية الليبرالية والاشتراكية، وواجهوا مشكلة التعامل مع الديني والزمني من مختلِف الزوايا، وتراوحت مواقفهم بين التمسك بأن يكون للدين عالمه، وللسياسة عالمها، وبين النظرة الخاصة إلى ظروف وواقع المجتمع العربي التي تجعل من الدين مكوِّنًا أساسيًّا للمجتمع، وتنظر للقضية من منظور حضاري-ثقافي، وتدرك ما في ذلك من ركائز إيجابية لمشروع نهضوي، يلحق الأمة بركب المدنية.
إن الرواد الذين قدَّموا الفكر العلماني، فاتهم إدراك واقع المجتمع الذي طرحوا عليه هذا الفكر، وجاءت فكرة تنحية الدين جانبًا لتثير نفور القاعدة العريضة من المثقفين الذين كان تيار الإصلاح الإسلامي يستوعبهم، ولعب السلفيون الدور الأكبر في وصم العلمانية بالإلحاد، ودعمَ وجهة نظرهم ما حدث في تركيا بعد الحرب العالمية الأولى من إعلان مصطفى كمال (أتاتورك) علمانية الدولة التركية الحديثة بما تضمنه من وضع قانون للأحوال الشخصية ضرب عَرض الحائط بالشريعة الإسلامية فيما يتعلق بالأسرة والزواج والميراث. وصحب ذلك إلغاء الخلافة الإسلامية؛ فتكرست في أذهان الجماهير أن النموذج التركي خير برهان على أن العلمانية والإلحاد صنوان، وأن ما ارتبط بها من أفكار اجتماعية وسياسية هدفها تقويض أركان الإسلام. وغالَى البعض في هذا الاتجاه إلى حد الربط بين الأصول الغربية لليبرالية والاشتراكية والقومية؛ فجمعوها في سلة واحدة باعتبارها من الأدوات التي سعى الغرب إلى تصديرها إلى بلاد الإسلام، مستهدفًا بذلك النَّيل من العقيدة الإسلامية.
وهكذا ألحق الطرح السيئ للفكرة، دون اعتبار للبَون الشاسع بين تجربة الغرب وواقع مجتمعات الشرق. والنموذج التركي لتطبيق العلمانية الذي اشتطَّ بدوره في محاولة توجيه خطاب إلى أوروبا بأن تركيا الحديثة قطعة من أوروبا، وهو خطاب لم يلقَ الصدى الذي توقعه أتاتورك حتى يومنا هذا. ألحق الطرح السيئ والنموذج التركي أبلغ الضرر بالعلمانية، ودُعاتها، والحركات السياسية التي تُركز عليها.