التيار القومي
كانت «القومية» من أهم ما تعلَّمه المثقفون العرب من اطِّلاعهم على الفكر الغربي؛ فقد كانت الفكرة القومية بارزة عند مفكري عصر التنوير في القرن الثامن عشر، وكانت ثمارها واضحة للعيان في القرن التاسع عشر الذي شهد بروز ألمانيا وإيطاليا كدولتين قوميتين. وخلبت الفكرة القومية لُبَّ من اختلفوا إلى أوروبا من أبناء الشرق، وخاصة من جاءوا من الدولة العثمانية، أتراكًا كانوا أم عربًا. وانتقلت عدوى الفكرة إلى بلاد البلقان التابعة للدولة العثمانية. وساعد التعليم الحديث، سواء كان حكوميًّا أم أهليًّا في مدارس الإرساليات التبشيرية، وتعلُّم اللغات الأجنبية، وتيسير الكتب المترجَمة بفضل الطباعة، وكتابات الطهطاوي وغيره ممن أعادوا اكتشاف أوروبا في القرن التاسع عشر، ساعد ذلك كله — بصورة أو بأخرى — على التعرُّف على الفكرة القومية، واهتمام المثقفين بإعادة طرح سؤال الهُوية.
كان الشعور السائد بين المسلمين من رعايا الدولة العثمانية هو الانتماء للإسلام أم «للأمة الإسلامية»، وهو شعور فضفاض غلبَ عليه طابع الشعور بالحاجة إلى التضامن بين أبناء الأمة في أوقات المِحن والشدائد على نحو قريب الشبه بمفهوم «العصبية» عند ابن خلدون. مثال ذلك ما حدث عند غزو نابليون لمصر (الحملة الفرنسية)؛ فتنادى العرب بالجهاد، وجاء «المجاهدون» إلى مصر من الحجاز وشمال أفريقيا للدفاع عن حياض الإسلام، وابتهل الجميع إلى الله أن ينصر «الإسلام والمسلمين». وعندما أدخل محمد علي نظام التجنيد الحديث، لم يُثِر في الجنود مشاعر «الوطنية» المصرية، ولكنه أثار عندهم «فريضة الجهاد»، وجعل خطباء المساجد يؤكدون عليها، وسمَّى الديوان الخاص بشئون الجيش «ديوان الجهادية».
حقًّا كان رفاعة الطهطاوي أول من عرَّف «الوطن»، الذي كان يعني عنده مصر ذات التاريخ الممتد منذ الفراعنة، وشبَّه في كتاباته محمد علي بالإسكندر الأكبر، فلقَّبه «بالمقدوني الثاني»، وقدَّم — على نحو ما رأينا — تعريفًا لمفهوم «الوطنية» شدَّ الاقتراب مما طرحه العلمانيون فيما بعد، ولكن الطهطاوي لم يتجاوز تلك الحدود للحديث عن الفكرة القومية، بل ظل يعتبر مصر «وطنًا» متميزًا، لجميع سكانه حقوق متساوية بحكم اشتراكهم في «المنافع العمومية» (أي موارد البلاد)، وجعل الأخوَّة في الوطن كالأخوَّة في الدين، فغلَّب الولاء للوطن على التعاطف مع أهل الديانات ممن يعيشون في أوطان أخرى، ولكنه أكد انتماء مصر إلى «الأمة الإسلامية».
ورغم الدَّور الذي لعبته الجندية كبوتقة للشعور الوطني، والتركيز على ما لمصر من «كيان» خاص في ظل أسرة محمد علي، ورغم كتابات الطهطاوي، ظل السواد الأعظم من الناس يغلب عندهم الشعور بالانتماء إلى «أمة» الإسلام، والتضامن مع إخوانهم المسلمين في الملمَّات، وخاصة أن طرْح الأفكار الجديدة لم يتجاوز نخبة المثقفين العارفين لفكر الغرب، ليصل إلى الجماهير العريضة التي كانت تلك الأفكار الجديدة بالنسبة لها «رطانة» يصعب فهمها.
وليس صحيحًا ما يَرِد في بعض المؤلفات من أن إبراهيم باشا بن محمد علي، كان لديه إحساس قوي بالعروبة، ورغبة في إقامة «إمبراطورية عربية» استنادًا إلى تفسير أحد الفرنسيين لعبارة سمعها من إبراهيم، ذكر فيها أنه قدِم إلى مصر صغيرًا، وأن جو مصر وشمسها جعلاه عربيًّا، وربط البعض هذه العبارة بطلب إبراهيم من أبيه أن يأمر بوقوف الجيش المصري في توسعه شمالًا بالشام على حساب الدولة العثمانية يقف عند جبال طوروس، فقد كان يخشى العبور إلى الأناضول لسببين: أحدهما سياسي، والآخر استراتيجي؛ لأن ذلك قد يؤدي إلى استثارة الدول الكبرى لما يمثله توسيع العمليات العسكرية إلى الأناضول من إخلال «بالتوازن» الإقليمي، وهو مبدأ هام في السياسة الأوروبية عندئذ، مما قد يدفع تلك الدول إلى التدخل ضد محمد علي (وهو ما حدث بالفعل)، والسبب الثاني يتعلق بخطورة التوسع عبر طوروس واختراق هضبة الأناضول، لما يترتب عليه من إطالة خطوط الإمداد والتموين؛ فأشاع من أوَّلوا هذا الموقف من إبراهيم، أنه طلب من والده أن يتوقف الجيش حيثما لا يجد من يتحدث العربية! وذلك لتأكيد فكرة نية إقامة «إمبراطورية عربية»، وهو ما لم يكن واردًا — عندئذٍ — بذهن محمد علي وولده إبراهيم. فما قصَده إبراهيم — في حديثه إلى الفرنسي — أنه قد أصبح عربيًّا هو أنه قد تمصَّر؛ لأن المصريين عندما يرِد ذكرهم بوثائق محمد علي، يُقال لهم «أولاد العرب» تمييزًا لهم عن الترك والفرنجة، واستخدم وصف «أولاد العرب» للمصريين من المسلمين والأقباط على حدٍّ سواء.
على كلٍّ، لم يظهر الشعور القومي عند العرب إلا في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، ولعل تطبيق نظام التجنيد في الولايات العربية في ظل حركة الإصلاح في الدولة العثمانية، وما عاناه العرب من التمييز من جانب ضباطهم الأتراك، وكذلك إحساس طلاب المدارس العثمانية من العرب (وخاصة المدارس العسكرية) بهذا التمييز في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، لعل ذلك كان وراء شعور العرب باختلافهم عن الأتراك، ومن ثم كان تفكير نخبة المثقفين العرب في أن يكون لبلادهم كيانًا «ذاتيًّا» في الدولة العثمانية. وقد شارك هؤلاء في حركة المعارضة لاستبداد عبد الحميد الثاني، وتحالفوا مع جماعة «تركيا الفتاة» للإطاحة بحُكمه، وإقامة حكومة دستورية تسمح للعرب بقدرٍ من المشاركة في صنع القرار؛ فكان ارتباطهم بحزب «الاتحاد والترقي»، الذي نجح في تدبير انقلاب ١٩٠٨م.
وإذا كان العرب قد شاركوا في هذه الحركة؛ فقد كان لمسيحيي الشام الدَّور الأكبر في المشاركة العربية؛ فقد كانت هناك صلات تعود إلى ستينيات القرن التاسع عشر بين نخبة المثقفين المسيحيين في بيروت وبين دعاة الإصلاح في الدولة العثمانية في العاصمة إستانبول. وكانت الصحف العربية في بيروت تعبِّر عن آراء شبيهة بآراء «تركيا الفتاة» مع ميل أوضح نحو العلمانية. فقد دعت مجلة «الجِنان» التي أسسها بطرس البستاني عام ١٨٦٠م، واستمرت في الصدور حتى ١٨٧٦م، دعَت إلى ضرورة قيام حكم عادل صالح بدلًا من الحكم الفاسد الذي كان سببًا في تخلف الشرق. ولا يمكن لذلك الحكم أن يقوم إلا بمشاركة جميع أبناء البلاد فيه، والمساواة بين أبناء جميع الديانات، وأن يتم فيه الفصل بين الدين والدولة، والفصل بين السلطتين القضائية والتنفيذية، على أن يكون التعليم إجباريًّا، وأن يتم التركيز على تقوية الشعور الوطني بين أبناء البلاد.
واستمر الكتاب الشَّوام ينشرون الأفكار المعارضة لاستبداد عبد الحميد الثاني حتى وقوع ثورة ١٩٠٨م، وشاركت «المقطم» و«الأهرام» من مصر في موجة النقد والمعارضة، ومن أمثلة ذلك ما كتبه خليل غانم اللبناني الماروني الذي كان نائبًا في مجلس المبعوثان (النواب) العثماني عام ١٨٧٧م، وانضم لتركيا الفتاة، وكان من قادتها، ونشر كتابًا عن سلاطين آل عثمان، ذهب فيه إلى أن ما أفسد «الأمة العثمانية» أمران: الاستبداد الذي يُفسد الروح ويقضي على العدل والإنصاف، والإسلام الذي ما لبِث أن تحول إلى التعصب والاستبداد. ورأى أن الحكم الدستوري هو حجر الزاوية في الإصلاح المنشود.
كانت حركة «تركيا الفتاة» بمثابة جبهة وطنية تضم من ليست لهم ميول قومية محددة من دعاة الإصلاح (مثل خليل غانم)، ومن كانوا قوميين أتراكًا قبل كل شيء يرون استمرار سيطرة العنصر التركي على السلطة حتى في ظل الحكم الدستوري (مثل أحمد رضا ورفاقه)، وهناك من يطلبون المساواة بين الأجناس والأديان في الدولة، ويدعون إلى لا مركزية السلطة (الحكم الذاتي للولايات) مثل الأمير صباح الدين، وما ربط بين هؤلاء وأولئك العمل من أجل إسقاط حكم السلطان عبد الحميد الثاني. وعندما قام انقلاب ١٩٠٨م، وتم عزل عبد الحميد وسيطرة «حزب الاتحاد والترقي» على الحكم، كشف القوميون الأتراك عن نواياهم الحقيقية في سيادة العنصر التركي وتتريك شعوب الدولة العثمانية، ومن ثم كانت الفُرقة بين حلفاء الأمس على نحو ما حدث بالنسبة لدعاة القومية العربية.
وإذا كان المسيحيون الشَّوام قد لعبوا دَورًا ملحوظًا بين صفوف دعاة القومية في جبهة «تركيا الفتاة» التي أطاحت بالحكم الاستبدادي للسلطان عبد الحميد، فقد كان دعاة التجديد الإسلامي ينظرون للقضية من زاوية أخرى هي عودة الخلافة إلى العرب، واستردادها من مغتصبيها العثمانيين. وكان أشراف مكة هم المرشحون لتولي الخلافة عند من فكروا في هذا الموضوع من أهل السياسة إما نكاية في السلطان على نحو ما فعل الخديو المخلوع إسماعيل عندما كان يموِّل سرًّا مجلة «النحلة» التي أصدرها في لندن لويس صابونجى، وهو رجل دين كاثوليكي، روَّج على صفحات المجلة لفكرة عودة الخلافة إلى العرب. وإما خدمةً لمصالح الدول الطامعة في المشرق العربي، فراح رجالها يفكِّرون في شريف مكة كخليفة بديل للسلطان العثماني، أو تعبيرًا عن مطامع بعض الحكام مثلما قيل عن سعي الخديو عباس حلمي الثاني لتنصيب شريف مكة خليفة وإعلان نفسه «سلطانًا»، وهو قول لم يقُم عليه دليل. ولكن لكل ذلك دلالة واضحة على إدراك التناقض بين العرب والتُّرك، والتفكير في خلافة عربية كبديل للخلافة العثمانية.
وإذا كان اللعب بورقة الخلافة واردًا على مائدة السياسة، فقد ساهم مفكر عربي في طرْح فكرة الخلافة العربية في إطار مفهوم الجامعة الإسلامية بما يُشبه المزج بين الفكرة الإسلامية والفكرة القومية. أو بعبارة أخرى، إقامة خلافة إسلامية اتحادية متعددة القوميات، يقودها خليفة عربي … هذا المفكر هو عبد الرحمن الكواكبي (١٨٤٩–١٩٠٣م).
جاء الكواكبي من عائلة حلبية، وتلقَّى تعليمًا عربيًّا وتركيًّا، وعمل بخدمة الحكومة، ثم عمل بالصحافة فانتقد الحكم العثماني مما جلب عليه سخط الحكومة، فهرب إلى مصر عام ١٨٩٨م وجعل القاهرة مستقرًّا له حتى وفاته عام ١٩٠٣م، وكتب العديد من المقالات في صحيفة «المؤيد» ومجلة «المنار»، ونشر كتابين هما: «طبائع الاستبداد» و«أم القرى». ويهمنا هنا الكتاب الأخير الذي يُعبِّر عن الربط بين الجامعة الإسلامية والفكرة العربية.
ويعرِض الكواكبي في «أم القرى» لمؤتمر إسلامي تخيَّل انعقاده في مكة للنظر في أحوال العالم الإسلامي؛ أسباب ضعفه، وكيفية علاج هذا الضعف. ومن الجدير بالملاحظة أن الكواكبي وزع الوفود المشاركة في المؤتمر على الأقطار الإسلامية جاعلًا أغلبية المقاعد للعرب: فهناك وفد هندي، ووفد أفغاني، وثالث تركي، ورابع فارسي، أما المقاعد الأخرى فجعلها لوفود من مختلف البلاد العربية: العراقي، والشامي، والمصري، واليمنى، والمغربي، والحجازي … إلخ. وهذا التوزيع يكشف عن تصوُّره للوزن العربي في الدولة الإسلامية المقترحة.
وفي عرضه لأسباب انحطاط (تخلُّف) الأمة الإسلامية، نجده يردد الأفكار التي طرحها قبله دعاة التجديد الإسلامي، وهي: انتشار البدَع، وخاصة الممارسات الصوفية الغريبة عن روح الإسلام، والإغراق في التقليد، والعزوف عن الاجتهاد، وعدم التمييز بين ما هو جوهري في الإسلام وما هو عرَضي هامشي. واتهم الحكام المسلمين المتأخرين بتشجيع ذلك كله ليستبدوا بالأمر مما أفسد المجتمع كله.
وعلاج هذا الانحطاط، واسترداد شَوكة الإسلام إنما يقوم بقيام دولة عادلة، يعيش الناس فيها أحرارًا، في فكرهم ومعاشهم، تخضع فيها الحكومة لرقابة الشعب. ولتحقيق ذلك يجب إصلاح الشريعة بإقامة نظام شرعي موحد عن طريق الاجتهاد، ويجب أن يُربَّى النشء تربية دينية صحيحة. وفق ذلك كله لا بدَّ من أن تكون الخلافة عربية قُرشية؛ لأن العرب هم مادة الإسلام وحَفظته، ولأن القرآن نزل بلسان عربي مبين. على أن يقوم ممثلو «الأمة» باختيار الخليفة الذي يتخذ من مكة مركزًا له، ويتمتع بسلطة روحية على جميع المسلمين، ويعاونه مجلس شورى يعيِّنه حكام المسلمين، ويتولى إدارة أمور الحجاز بمساعدة مجلس من أهل البلاد.
لقد عبَّر الكواكبي في هذا الكتاب عن تصور مدرسة التجديد الإسلامي للمسألة القومية من منظور إسلامي محض، على حين كان البستاني وتلاميذه يُعبِّرون عن نفس المسألة من منظور علماني فهم يدعون إلى الحكم الذاتي للولايات العربية، وإلى التمسك باللغة العربية كلغة رسمية في الولايات العربية.
وقدَّم نجيب عازوري تصورًا لدولة عربية علمانية تُظلُّها سلطة روحية لخليفة عربي يتخذ من مكة مركزًا له، متأثرًا في ذلك بفكرة الخلافة العربية عند الكواكبي، ولكن من منظور مختلف تمامًا.
ونجيب عازوري مسيحي كاثوليكي من الشام، تربَّى تربية فرنسية، وعمل بخدمة الإدارة العثمانية بالقدس فترة من الزمن، ثم ترك منصبه لأسباب مجهولة، وهاجر إلى باريس حيث أسس هناك «عُصبة الوطن العربي» عام ١٩٠٤م، ونشر كتابًا بالفرنسية بعنوان «يقظة الأمة العربية» عام ١٩٠٥م، ضمَّنه رؤيته للدولة العربية، كما أصدر — أيضًا — مجلة بالفرنسية بعنوان «الاستقلال العربي» عام ١٩٠٧م، ولكنها لم تعمِّر طويلًا. وانتقل من باريس إلى القاهرة التي قضى فيها بقية سنوات عمره حتى وفاته عام ١٩١٦م، فكان يكتب من حين لآخر في «الأهرام» وغيرها من الصحف المصرية.
وفي كتابه «يقظة الأمة العربية»، يذهب نجيب عازوري إلى أن هناك أمة عربية واحدة — بالمفهوم العلمي والسياسي للكلمة — وأن هذه الأمة تجمع بين المسلمين والمسيحيين، وأن المشاكل الطائفية التي تنشأ بينهم هي — في حقيقتها — مشاكل سياسية، تقف وراءها قوى خارجية تغذيها لخدمة مصالحها الخاصة، وأن المسيحيين لا يقلُّون عروبة عن المسلمين؛ ولذلك لا بدَّ من أن تكون اللغة العربية هي اللغة المستخدمة في الكنائس العربية على اختلاف مذاهبها. ولكنه استبعد مصر من إطار العروبة؛ لأنه كان يرى أن المصريين ليسوا عربًا، ومن ثَم لا تدخل مصر ضمن «الدولة العربية» التي يدعو لاستقلالها عن الحكم التركي. واعتبر التُّرك مسئولين عن تخلُّف البلاد العربية؛ فلولا وقوع بلاد العرب تحت حكمهم لكان العرب في طليعة الأمم المتمدنة، والدليل على ذلك — في رأيه — تفوُّق العرب على التُّرك في جميع المجالات. ولا أمل في أن يقوم إصلاح في الدولة يراعي مصالح العرب والأكراد والأرمن؛ لذلك لا سبيل للخلاص أمام هذه «الأمم» الثلاث سوى بالاستقلال، ويرى أن ذلك يمكن تحقيقه عن طريق العمل في اتجاهين؛ الداخل بالعمل على تقويض أركان الدولة العثمانية وخاصة أن جهازها الإداري يتسم بالضعف والفساد، والاتجاه الآخر يتمثل في الاستعانة بالدول الأوروبية لمساعدة العرب على تحقيق الاستقلال.
ولكن ما هي الدول التي يركَن العرب إليها طلبًا للعون؟ خصص العازوري قسطًا كبيرًا من كتابه لاستعراض مصالح الدول الأوروبية في المشرق العربي، وانتهى إلى أن إنجلترا وفرنسا هما اللتان تستطيعان مساعدة العرب على تحقيق حكم الاستقلال؛ لأن تقاليد «الحرية» راسخة فيهما، وخاصة في فرنسا تحديدًا. وكان نجيب عازوري في ذلك لا يشذُّ عن غيره من نخبة المثقفين العرب عندئذٍ الذين تطلَّعوا إلى مساعدة إنجلترا أو فرنسا لهم. فإذا كان عازوري قد راهن على فرنسا فقد سبقه في ذلك مصطفى كامل الزعيم الوطني المصري، كما أن «حزب اللامركزية» الذي كان من أقطابه محمد رشيد رضا وغيره من الشَّوام المسلمين دعاة الجامعة الإسلامية، علَّقوا آمالهم على إنجلترا. ولعل ذلك يرجع إلى إدراكهم أن أي تغيُّر إقليمي يقوم على حساب الدولة العثمانية لا بدَّ أن تتبناه الدول الكبرى.
غير أن نجيب عازوري انفرد بين دعاة القومية العربية من أبناء جيله باستشراف الخطر الذي تمثله الصهيونية، وإدراكه لخطورة ما ترمي إليه من إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، فقال: «تبرز في البلاد الآسيوية التابعة للدولة العثمانية ظاهرتان متناقضتان رغم طبيعتيهما الواحدة، هما: يقظة الأمة العربية، وسعي اليهود الخفي لإعادة مُلك إسرائيل القديم على نطاق واسع، ومُقدر لهاتين الحركتين أن تصطدما بعضهما ببعض حتى تتغلب إحداهما على الأخرى، ويتوقَّف مصير العالم أجمع على النتيجة الأخيرة لهذه الصراع.».
أما الدولة العربية المستقلة — في رأيه — فيجب أن تكون سلطنة دستورية ليبرالية، يرأسها سلطان عربي مسلم، على أن يلتزم باحترام الاستقلال الذاتي للبنان ونجْد واليمن. وأن تكون السلطة الروحية لخليفة عربي في مكة على أن تكون له سلطة إدارية في الحجاز على نحو ما للبابا من صلاحيات في الفاتيكان، ولكن عازوري لم يُحدد من يراه مرشحًا للسلطنة، ومن يشغل منصب الخليفة، طالما كان القرار بيدِ الدولة الكبرى التي تتبنى مشروع «الدولة» العربية المستقلة.
وفكرة «الاستقلال العربي» التي روَّج لها نجيب عازوري تُعبِّر عن إدراك مبكر من جانبه لعدم استعداد جماعة «تركيا الفتاة» للاعتراف فعليًّا بحقوق القوميات التي تخضع للدولة العثمانية، وقد صدَق حدسه عند وصول أولئك القوم إلى الحكم بعد إطاحة عبد الحميد الثاني، فاتجهوا إلى اتباع سياسة «عثمنة» جميع شعوب الدولة؛ أي جعلهم «وطنيين» عثمانيين، وفرض اللغة التركية لغة رسمية للدولة، ورغم ما حققه نظام الحكم الجديد من إصلاحات في الإدارة المحلية، والأمن العام، وبعض المشروعات العامة، والتعليم، والتشجيع على تحرير المرأة، شعر القوميون العرب والأرمن والألبان والأكراد بما تمثِّله سياسة «التتريك» من خطر داهم على هُويتهم القومية، وتطلُّعهم إلى نَيل حقوقهم القومية، فتفرَّقت بهم وبإدارة «الاتحاد والترقي» السُّبل، وراح دعاة كل قومية يعملون من أجل تحقيق تطلعاتهم السياسية.
ولكن دعاة القومية العربية لم يكونوا على قلب رجل واحد؛ فتعددت التنظيمات السياسية التي عملوا من خلالها، وتباينت مواقفها تباين تصور أصحابها لسبيل تحقيق مراميها وأهدافها السياسية. فالجمعيات السرية التي كوَّنها المثقفون العرب (بعد ثورة ١٩٠٨م) من المدنيين والعسكريين مثل: الجمعية القحطانية التي أسسها بعض الضباط عام ١٩٠٩م كان من بينهم عزيز علي المصري، الذي أسس في عام ١٩١٤م جمعية «العهد»، وجمعية «العربية الفتاة» التي أسسها بعض المثقفين المدنيين وطلاب المدارس العليا عام ١٩٠٩م أيضًا. هذه الجمعيات كانت تعمل من أجل استقلال الولايات العربية في المشرق عن الدولة العثمانية، ولكنها لم توحِّد صفوفها في تنظيم واحد، رغم وحدة الغاية والتوجُّه عند كل من انضوَوا تحت لواء تلك الجمعيات. وقد ذهبَت إحداها (عام ١٩١١م) إلى إصدار بيان اتهمَت فيه الأتراك بالتسبب فيما يعانيه العرب من بؤس، وبمسئوليتهم عن التخلف الاقتصادي للبلاد العربية، وانتشار الفقر، والعمل على محو الثقافة العربية، والتضحية بالبلاد من أجل مصلحة الأجانب، فهي بعيدة تمامًا عن الإسلام، وعلى العرب الاتحاد معًا (مسلمين ومسيحيين ويهود) للتخلص من نِير الحكم العثماني، وفي نفس العام (١٩١١م)، وجَّه بعض المنتسبين إلى تلك الجمعيات رسالة إلى الشريف حسين بن على عن طريق السيد طالب النقيب زعيم البصرة، يقولون فيها أن العرب على استعداد للوقوف وراءه للتخلص من الحكم العثماني، وأنهم سوف يبايعونه بالخلافة إذا استجاب لهم. فالجمعيات السرية — إذَن — لم ترَ بديلًا للاستقلال عن الدولة، وفقدت الأمل في حصول العرب على حقوقهم المشروعة في إطار تلك الدولة.
غير أن فريقًا آخر من الشَّوام المقيمين بمصر، ومعظمهم من المشايعين لفكرة «الجامعة الإسلامية» ظلوا يتمسَّكون بالدولة العثمانية، ويرون ضرورة المحافظة عليها باعتبارها دولة «الخلافة» الإسلامية. ولكنهم عمِلوا من أجل الحصول على الحكم الذاتي في إطار «الوطنية العثمانية»، وعلَّقوا آمالهم على دعم بريطانيا لهم لتحقيق أهدافهم. ففي عام ١٩١٢م أسسوا بالقاهرة «حزب اللامركزية الإدارية العثماني» الذي كانت تربطه قنوات اتصال مع بعض الليبراليين دعاة اللامركزية من رجال «تركيا الفتاة»، كما كانت له شبكة من «لجان الإصلاح» في المدن العربية المشرقية، وخاصة بيروت. وكانت مطالب الحزب متواضعة مثل: استخدام العربية لغة رسمية في الولايات العربية، وأن ينفرد العرب بتولي الوظائف الإدارية في تلك الولايات، وألا يُعيَّن أحد في وظائف الولايات دون استشارة أعيان تلك الولايات، وأن تقتصر خدمة المجندين العرب على الولايات التي ينتمون إليها في زمن السلم، وأن تُخصَّص بعض الموارد المالية المحلية لسدِّ حاجات الولاية صاحبة تلك الموارد، وأن يتم توسيع اختصاص مجالس الولايات، وتنظيم إدارات الشرطة والقضاء والضرائب على أسس حديثة بالاستعانة بالخبراء الأجانب. ورأى رجال الحزب أن يكون العمل العلني، القانوني، السلمي، أداتهم لتحقيق تلك المطالب.
ولكن مع تفاقُم سياسة التتريك عام ١٩١٣م، وتصاعد التمييز ضد العرب من جانب الحكومة العثمانية التي جعلت السيادة للعنصر التركي، قام فريق من دعاة «العروبة» بعقد مؤتمر «عربي» في باريس، اشترك فيه نحو خمسة وعشرين شخصًا كان من بينهم عراقيان، والآخرون من الشَّوام، معظمهم من الطلاب أو المقيمين بباريس، ولم تكن الحكومة الفرنسية بعيدة عن الترتيبات الخاصة بعقد هذا المؤتمر، ومن هنا جاء حرص حزب اللامركزية على التواجد حتى لا ينفرد أنصار «العربية الفتاة» بأمر المؤتمر. وتكشف المناقشات التي دارت بالمؤتمر عن الميل نحو الاعتدال، فقد ربط الخطباء بين الرغبة في الرقي الحضاري كدافع للمطالبة بالإصلاح، وأنهم يعلِّقون آمالهم على وقوف أوروبا إلى جانب مطالبهم العادلة بالضغط على الحكومة العثمانية لتحقيق الإصلاح، وعوَّلوا على فرنسا لإقناع الدول الأوروبية الأخرى بعدالة قضيتهم. وأكدوا حرصهم على الدولة العثمانية ورغبتهم في تقويتها بشرط أن يكون نظام الحكم ديمقراطيًّا قائمًا على مبدأ المساواة، ومن ثم لا بدَّ من اشتراك العرب في الحكومة المركزية، وأن تنال الولايات العربية استقلالًا ذاتيًّا، وأن تصبح العربية لغة رسمية في البرلمان العثماني ودوائر الحكومة المحلية، وألا يكون هناك تمييز بين العرب على أساس الدين.
سارعت الحكومة العثمانية بإرسال مبعوث عنها للتفاوض حول المطالب التي طُرحت أمام المؤتمر، ولكن الأعضاء تبيَّنوا أن نية الإصلاح لا تتوفر عند الدولة، فمالت الكفة إلى جانب دعاة استقلال البلاد العربية.
ولكن «رؤية» القوميين العرب للاستقلال لم تكن تتضمن إجماعًا على الوحدة العربية السياسية، على نحو ما رأينا عند عازوري؛ فكان هناك من يدعون إلى استقلال سوريا، ويبررون ذلك بتوفر عناصر الوحدة التاريخية والجغرافية، والتنوع البشري الثقافي؛ لذلك يجب أن تقام في سوريا (الكبرى) دولة علمانية ديمقراطية اتحادية، مؤلَّفة من وحدات إدارية يتمتع كل منها بالحكم الذاتي، ويُراعى في تحديد تلك الوحدات الطبيعة السكانية الغالبة فيها من حيث العِرق والدين، وهي الأفكار التي روَّج لها خليل غانم وجورج سمنة.
وهناك من فضلوا استقلالًا إداريًّا للولايات العربية في إطار الدولة العثمانية وفق مطالب «حزب اللامركزية الإدارية» حرصًا على بقاء «الخلافة»، وخشية وقوع تلك الولايات بين براثن الاستعمار الأوروبي، كما حدث لمصر وتونس والجزائر من قبلها، وهؤلاء كانوا يفكرون في صيغة «الملَكية الثنائية» كحلٍّ مناسب، استلهموا فيه حالة إمبراطورية النمسا والمجر، فتكون الدولة العثمانية دولة الترك والعرب، يحكمها السلطان باعتباره — أيضًا — ملِكًا للعرب، وتتكوَّن الدولة من اتحاد بين دولة عربية وأخرى تركية. ونفرَ هؤلاء من فكرة الثورة على الدولة، لما قد يترتب على ذلك من إضرار بوحدة «الأمة الإسلامية»، وتمكين أعداء الإسلام منها لخدمة مصالحهم.
وحتى دعاة «الدولة العربية المستقلة» كانت الانقسامات سائدة بينهم حول حدود الدولة ونظام الحكم فيها؛ رأى البعض أن تكون الدولة علمانية ديمقراطية يحكمها ملك عربي، بينما رأى البعض الآخر في تلك الدولة كيانًا أوسع يضم الولايات العربية في دولة واحدة يحكمها «خليفة» عربي، تمتد سلطته الروحية إلى العالم الإسلامي كله، كانت الغالبية تسلم بضرورة قيام «كيان عربي»، وذهب المشاركون في المؤتمر العربي بباريس إلى أن العرب يشكلون «أمة» وفق توصيف مفكري الغرب لمفهوم الأمة؛ فهم أصحاب لغة وثقافة واحدة، يجمعهم تاريخ متواصل مشترك، وتربطهم بعضهم ببعض مصالح مشتركة، ولهم تطلعات مماثلة. ومن ثم رأوا أن هناك «قومية عربية» واضحة المعالم.
ولكن القومية — بهذا الوصف — ذات طبيعة علمانية خالصة، غير أن العرب لم يتقبَّلوا فكرة الفصل بين القومية والدين (وهو هنا الإسلام) على نحو ما فعل التُّرك بعد الحرب العالمية الأولى. فهم يرون في الإسلام حجر الزاوية في ثقافتهم، ولا يرون العروبة من منظورٍ غير منظوره، وهم الذين يَعدُّون أنفسهم «مادة» للإسلام. وهي إشكالية ممتدة كان لها تأثيرها على رؤية المسلمين والمسيحيين العرب للقومية. فأصرَّ المسلمون على اعتبار الإسلام أساسًا لشعور العرب بوحدتهم كأمة، مع الاعتراف بانتماء المسيحيين العرب إليها.
وإذا كان ميشيل عفلق — داعية البعث العربي — قد حاول الوصول إلى حل لهذه الإشكالية بتأكيد الدور المركزي للإسلام في تكوين «الأمة» العربية؛ فإن ساطع الحصري ركَّز على الصفة العلمانية للقومية العربية مؤكدًا أن «الثقافة» العربية هي المحدد للقومية العربية وليس الدين.
ولكن أفكار عفلق والحصري تعبِّر عن جيل آخر غير أولئك الذين اشتغلوا بالحركة العربية قبل الحرب الأولى، ثم تحطمت آمالهم بما حدث للمشرق العربي في نهاية الحرب من تجزئة على يد الدول الأوروبية ذاتها التي علَّقوا عليها آمالهم لتكون عونًا لهم على الاستقلال. واستعاض الجيل الآخر من «القوميين» العرب عن النظر إلى القومية العربية كخطوة لا بدَّ منها لإحياء الإسلام، بالنظر إلى الإسلام كمكوِّن أساسي للأمة العربية ومصدرًا لثقافتها.
ويأتي قسطنطين زريق المؤرخ الدمشقي المولَّد المعروف، في مقدمة من ربطوا القومية العربية بالإسلام في كتابه «الوعي القومي» (نُشر ١٩٣٩م) مؤكدًا حاجة العرب إلى القومية باعتبارها «العقيدة» التي تُولِّد الشعور بالمسئولية المشتركة، والإرادة في خلق مجتمع، والحفاظ عليه، ولما كان المجتمع العربي يستمد وحيه ومبادئه من الدين، وهذا الدين هو الإسلام؛ لذلك يجب التسليم بهذه العلاقة الجوهرية بين الإسلام والعروبة، يستمد العرب منه المبادئ الخُلقية التي توجَد في كل الأديان، وتُعبِّر عن نفسها بأسلوب مختلف في كل دين، ولكن جوهرها واحد، ولا يتعارض ذلك مع قيام كيان عربي عصري يستمد روحه من الدين، ونهضته من منجزات الحضارة الغربية.
على أن ذلك لا يعني أن سفينة «القومية العربية» قد استقرَّت في نهاية المطاف على شاطئ تحقيق الأمل المنشود في إقامة الدولة العربية الواحدة؛ فقد ظل ذلك حُلمًا يداعب دعاة الوحدة العربية، دون أن يتحوَّل إلى حقيقة ملموسة. ولكن هناك تيارات «قومية» ذات توجهات إقليمية، عرَفتها بعض البلاد العربية فيما بين الحربين العالميتين هما «القومية المصرية» و«القومية السورية». وقد سبق أن ألمحنا لجذور فكرة القومية السورية قبل الحرب العالمية الأولى، وقد تطورت على يد أنطون سعادة، و«الحزب القومي السوري»، فالتمس سعادة للفكرة السورية أصولًا فينيقية، جعلت سوريا تنتمي إلى البحر المتوسط أكثر من اتصالها بظهيرها العربي.
أما القومية المصرية فقد روَّج لها قبل الحرب الأولى أحمد لطفي السيد، بمفهوم علماني خالص، يرفض تمامًا فكرة الجامعة الإسلامية ويعتبرها ذات طابع «استعماري». ولكنه عبَّر عن اتجاه نخبة ضيقة من المثقفين. أما غالبية المصريين الذين التفُّوا حول «الحزب الوطني» بزعامة مصطفى كامل ثم محمد فريد؛ فقد أيَّدوا فكرة الجامعة الإسلامية لأنها تعني المحافظة على بقاء الدولة العثمانية. ولما كان «الحزب الوطني» متمسكًا بالسيادة العثمانية باعتبارها طوق النجاة من الاحتلال البريطاني؛ فقد كان عليه التمسك بالفكرة الإسلامية، وهو نفس الشعور الذي ساد تونس والجزائر؛ لذلك اعتبر المصريون الدعوة إلى القومية العربية، وإقامة دولة عربية نوعًا من «المؤامرة» الاستعمارية التي تهدف إلى تفتيت الدولة العثمانية، لأن تفتيت الدولة العثمانية يعني تكريس الوجود البريطاني في مصر. ومن ثَم كانت النظرة إلى دعاة القومية العربية (قبل الحرب الأولى) باعتبارهم «أدوات» في يد القوى الاستعمارية.
ولكن هزيمة الدولة العثمانية في الحرب، وتفكيك أوصالها جاء لمصلحة دعاة «القومية المصرية» التي لقيت دفعة قوية في زخم ثورة ١٩١٩م، وما ترتَّب على اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون من انبهار عالمي بالحضارة المصرية القديمة؛ فاتخذ بعض دعاة «القومية المصرية» من ذلك كله سبيلًا لتأصيل جذورها وصولًا إلى العصور الفرعونية، وتأكيد (أصالة) مصر وهضمها لجميع الغزاة بما فيهم العرب، بل ذهب البعض إلى اعتبار الحقبة الإسلامية من تاريخ مصر نوعًا من «الرِّدة» الحضارية التي عانت منها البلاد. وتمادى البعض في المطالبة بأن تسترد مصر وجهها الثقافي الأصيل فتكون لها لغتها وأدبها. وذهب البعض الآخر إلى القول بانتماء مصر إلى حضارة البحر المتوسط بحكم تأثير الحضارة المصرية القديمة على حضارة اليونان التي أثَّرت بدورها في الحضارة الرومانية التي تُعدُّ ركيزة الحضارة الأوروبية الحديثة. فمصر شاركت في صنع الحضارة الأوروبية؛ ولذلك يجب أن تأخذ بجميع مكونات تلك الحضارة دون حرج، وأن ننسى تمامًا كل روابطها بالدائرة العربية-الإسلامية. وهنا نجد فكرة «القومية المصرية» تلتقي مع فكرة «القومية السورية» في الانتساب إلى حضارة البحر المتوسط. وبلغ الغلو في هذا الاتجاه حدَّ ادعاء وجود «إنسان البحر المتوسط» الذي يختلف في بنيته ومزاجه عن إنسان «الصحراء» (ويقصد بذلك العرب).
ولكن … هل كانت «القومية» بتشعباتها المختلفة، عربية كانت أم إقليمية (مصرية أو سورية) تُعبِّر عن إدراك الجماهير في مختلف أرجاء الوطن العربي لهويتهم؟ أم كانت مجرد أفكار تدور في أذهان نخبة المثقفين، يعبِّرون عنها في كتاباتهم؟
قبل الإجابة على هذا السؤال الجوهري، يجب أن نضع في اعتبارنا أن فكرة القومية التي وفدت إلينا مع الفكر الغربي في القرن التاسع عشر كانت تعبيرًا عن مرحلة معينة من مراحل التطور عرفها المجتمع الأوروبي، ارتبطت بالنمو الاقتصادي الرأسمالي، وما ترتب عليه من إفراز قوى اجتماعية جديدة (البرجوازية)، زحزحت القوى القديمة الإقطاعية عن مواقعها، وطرحت أفكارًا جديدة لتصفية مجموعة القيم التي ارتكز عليها المجتمع الإقطاعي القائم على نظام تراتبي صارم، يجمِّد الناس في مواقعهم الاجتماعية فلا يملكون منها فكاكًا. ومن ثم كانت أفكار عصر التنوير التي دعت إلى الحريات بمختلِف أبعادها، وإلى المساواة، وحقوق الإنسان، والحكم الدستوري. وجاءت الثورة الفرنسية لتُقدِّم الإطار السياسي لنظام يقوم على تلك الأفكار.
أما البلاد العربية فلم تشهد مثل هذا التطور في ظل الحكم العثماني، فكان المجتمع إقطاعيًّا زراعيًّا، رعويًّا، وتراوحت فرص النمو الرأسمالي بتوافر الظروف الموضوعية لتطور رأس المال التجاري أو غياب تلك الظروف نتيجة سطوة العسكر على السلطة وابتزازهم التجار بالقدر الذي استنزف كل ما استطاعوا تحقيقه من تراكم. وظلت القيم الاجتماعية السائدة في الوطن العربي قيمًا أبوية، قيدت — إلى حدٍّ كبير — قدرة الفرد على الحركة والإبداع.
وهكذا كانت الفكرة «القومية» عند طرحها في أواخر القرن التاسع عشر نبتة غريبة، اقتُلِعت من تربة فيها كل المقومات التي ساعدت على نموها، ونُقلِت إلى البلاد العربية حيث كانت التربة تفتقر فيها إلى إمكانات النمو فضلًا عن الإثمار؛ ولذلك كانت تلك الفكرة مجرد «رطانة» مثقفين، لم تتجاوز حلقاتهم الضيقة لتنتقل إلى الجماهير التي كانت تعيش حالة ذهنية ومزاجية تختلف تمامًا عن تلك التي عاشها المثقفون. كما كان دعاة «القومية» يمثلون — في واقع الأمر — أقلية بين المثقفين الذين كانت غالبيتهم تربَّت تربية تقليدية سواء في المدارس الدينية الإسلامية، أو في المدارس الحديثة التي أقامتها الدولة العثمانية في عصر الإصلاح أو أقامها محمد علي وخلفاؤه في مصر، وهي مدارس جمعت في برامجها الدراسية بين الإسلامي والحديث معًا. ومن ثم كان القطاع العريض بين المثقفين يناصر فكرة المواءمة بين الموروث الثقافي الإسلامي، وما يتم اكتسابه من علوم الغرب ومعارفه على نحو ما أشرنا من قبل. أما من تربَّوا في مدارس الإرساليات التبشيرية فقد حسموا اختيارهم للنموذج الغربي بما فيه فكرة «القومية»، وليس غريبًا أن يكون دعاة «القومية الإقليمية» من بين هؤلاء.
أما الجماهير العريضة فكانت بعيدة تمامًا عما يدور في حلقات المثقفين ثقافة غربية، ولعل ذلك يرجع إلى تعالي هؤلاء على الجماهير التي كانت تغطُّ في الجهل والأمية، ولا تستجيب إلا لمن يدغدغ مشاعرها الدينية، وتتحرك تضامنًا مع أخوَّة الدين؛ لذلك كان دعاة الفكر «السلفي»، أكثر تأثيرًا بين الجماهير من غيرهم، يليهم من حيث التأثير دعاة فكرة «الجامعة الإسلامية».
ولعل ذلك يفسر قلة حماس الجماهير للفكر القومي؛ لأن من طرحوه عليهم، ومن بذلوا جهدًا لجعل «الوحدة» العربية حقيقة ملموسة، لم يُوفَّقوا في تقديم ما يقنع الجماهير بأهمية تلك الفكرة؛ لذلك تُرِكت الساحة خالية أمام التيار الإسلامي «السلفي» الذي يملك القدرة على التأثير من خلال خطابه الديني فوق منابر المساجد. وسيظل هذا التيار الرجعي مسيطرًا على الساحة طالما كان المشروع النهضوي العربي الذي يحقق التنمية بمختلِف أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، غائبًا عن الوجود.