ماهية الشخصية
-
(١)
الشاب المصري والشاب الأوروبي.
-
(٢)
القواعد الوراثية للشخصية.
-
(٣)
ماهية الشخصية.
-
(٤)
الخاصة الاجتماعية للشخصية.
-
(٥)
المسئولية فيتامين الشخصية.
(١) الشاب المصري والشاب الأوروبي
عندما نقارن بين شاب أوروبي وآخر مصري نجد أن الاثنين يتساويان في الذكاء، بل أحيانًا يتساويان في التعليم من حيث إتقان فن أو علم، والوقوف على جميع ما يتصل بالعمل، ولكن إلى هنا، وتقف المساواة؛ لأننا نجد في الشاب الأوروبي ميزات أخرى ليست في الشاب المصري، منها أنه رشيق الهندام، خفيف الحركة، سريع إلى الكلمة الملائمة والإيمائة اللائقة، متحرك، مبتسم، خبير بألوان التحية والترحيب، له جرأة على مقابلة السيدات أو الآنسات، قادر على محادثتهن بما يشهد له بالظُّرف، كما أنه جريء على مقابلة رؤسائه، لا يخجل ذلك الخجل المميت الذي يوهم الخوف أو الضعف أو العجز.
وكل هذه الفروق يعرفها شبابنا ويتحسرون عليها ويحاولون علاجها، وهي حروف الهجاء في تكوين الشخصية، ثم هناك بالطبع ما هو أخطر منها، فإن ذلك الشاب الأوروبي الذي ذكرناه يمكنه أن يضطلع بالعمل الحر وينجح فيه، ويمكنه أن يفكر في مشروع خطير ويقوم به، وهو في بيته يعيش في نظام، ويسعد بروابط عائلية لا يسعد بها شبابنا، وله عادات تعينه على النجاح، والحق أنه ينجح في ظروف مؤاتية أو معاكسة قد لا ينجح فيها شبابنا.
فنحن هنا إزاء شابين كلاهما على درجة متساوية من التعليم والذكاء، ولكن الشاب الأوروبي يمتاز بشخصية تساعده على النجاح، في حين قد حرمها الشاب المصري، فإذا تحرينا الأسباب التي أدت إلى هذا الفرق وجدناها في ذلك المجتمع الأوروبي الذي تستفيض فيه الحرية، فتغرس في أفراده المسئولية، وهي الشرط الأول للشخصية.
ذلك أن الطفل ثم الصبي في العائلة الأوربية يجد حرية للعمل، وهذه الحرية تتيح له الخطأ والصواب اللذين يتعلم منهما السلوك الاستقلالي ويأخذ نفسه بالمسئولية، وهو يرى في أبويه شخصين يُحبهما ويُقبلهما في وجناتهما كما يُقبلانه هو أيضًا، وهو يعيش معهما على المبادئ الديموقراطية، ويجد من آن لآخر الفرصة لأن يخرج ويعتمد على نفسه في اختيار الصديق أو دعوة الزملاء، بل المدرسة نفسها تتيح له بكثير من المخترعات في الملعب والنادي والمكتبة بأن يتعاون ويقرأ وحده بعد اختيار شخصي الكتاب الذي يُحب، وهو يخطب وينظم حفلة مدرسية أو نحو ذلك، فإذا ترك المدرسة ووجد العمل الذي يتكسب به رأى نفسه يعيش في مجتمع يحترمه ويمنحه صوتًا يقرر به رأيه في الحكومة التي تحكمه، ومثل هذا الشاب لم ير قط أن شرطيًّا يعتدي عليه بالضرب، ولم يجد رئيسًا يُطالبه بالخضوع الأعمى، ثم هو يجد أبواب الرقي الثقافي والحرفي والاجتماعي مفتحة أمامه، كما أنه يعيش في مجتمع مختلط من النساء والرجال، فهو يعرف كيف يعامل الآنسة أو السيدة معاملة ظريفة، ولعله رقص مع خطيبته أو غيرها فاكتسب من الرقص رشاقة للجسم ولياقة للنفس، وجميع هذه الظروف جديرة بأن تُكوِّن له شخصية محترمة محببة.
أما الشاب المصري فينشأ طفلًا في البيت، حيث يجد القسر مكان الحرية، ويجد الخضوع مكان المساواة، فهو يُقبل يدي أبويه بدلًا من أن يُقبلهما في وجناتهما، وهو يخضع لأوامرهما، ثم هو يرى أمه التي لا تزال محجبة ذلك الحجاب المادي أو على الأقل ذلك الحجاب الروحي، تخشى الغرباء ولا تجالس الناس، ولا تتحدث إليهم في حرية وجراءة، فهو يأخذ عنها ذلك التراجع، ويبتئس بما عندها من حياء أو خجل، فينشأ وفي نفسه الخوف، هذا الخوف الذي قلما يستطيع الخروج منه مدى حياته.
ثم هو بعد ذلك يجد مدرسة قد أخذت بأساليب التعليم العصرية في دراسة المواد، ولكنها لم تأخذ بأساليب التربية العصرية، فهي تهتم بالامتحان أكثر مما تهتم بتكوين شخصيته، وهي تُطالبه بالخضوع لمعلميه أكثر مما تُطالبه بحبهم.
والمعلم كذلك يأمر ولا يعطف، ثم يخرج الشاب من المدرسة إلى مجتمع قد انفصل فيه الجنسان، بل هناك شبان مصريون قد بلغوا العشرين أو أكثر، لم تتح لهم هذه الحياة الشرقية التي يعيشون في بيئتها، أن يقعدوا إلى آنسة أو يساوروها في طريق يشتركوا معها في حديث، فهم من الناحية النسوية «متوحشون»؛ أي: في وحشة اجتماعية، لا يعرفون كيف يعاملون امرأة، بل عندما يُسئل أحدهم عن عقيدته في المرأة يجيب بسخافات نشأت في ذهنه؛ لأنه لم يعامل قط امرأة، وقد أحالته هذه الحال إما إلى ثائر عاجز، وإما إلى مستسلم مطاوع، وفي كلتا الحالتين لن تكون له تلك الشخصية النامية المتفائلة التي تكون في البيئة الحرة والمجتمع المختلط والحكومة العادلة.
ويجب أن يذكر القارئ أن الذكاء هو عبقرية الذهن، أما الشخصية فهي عبقرية الإرادة، وإذا كان مجتمعنا المصري؛ أي: العائلة ثم المدرسة ثم المجتمع الأكبر، كل هؤلاء يتجهون نحو كسر الإرادة أو تذليلها في الشاب أو الفتاة، فإنه لن ينجح في إيجاد الشخصيات البارزة، ولا نقول: السامية؛ لأنه لا تمكن شخصية قوية بغير إرادة قوية، ولا تكون الإرادة القوية إلا حيث الحرية التي تتيح العمل المستقل والابتكار الشخصي.
ومن هنا يمتاز الشاب الأوروبي عن الشاب المصري بشخصيته الناجعة التي تألفت في مجتمع حسن لم يصل إليه مجتمعنا إلى الآن.
(٢) القواعد الوراثية للشخصية
من المسلم به الآن أن الذكاء موروث كله أو معظمه؛ أي: أنه لا يزيد بتأثير الوسط إلا قليله أو لا يزيد بتاتًا، والذكاء يدلنا على القوة الذهنية ويمكن قياسه، ولكن الشخصية تقاس بالعواطف أكثر مما تقاس بالذكاء، فنحن لا نصف الرجل الذي يمتاز بالشخصية البارزة بأنه ذكي قادر على المعضلات في الفلسفة أو الرياضيات، ولكنا نصفه بأنه شجاع أو صبور أو قنوع أو متبصر، وهناك ما هو ضد هذه الصفات من الجبن والتعجل والطمع والطيش، وكل هذه هي صفات العواطف وليست صفات الذهن، ولهذا السبب نجد أن الشخصية أطوع للطبقة الاجتماعية من الذهن، فإن الرجل البليد لا ينتفع ذهنه بتاتًا بوجوده بين طبقة معينة من الناس الذين يمتازون بالرقي المدني أو الثقافي، أو هو قد ينتفع قليلًا جدًّا؛ لأن ذكاءه محدود، ولكن شخصيته، حتى مع بلادته ترقى إلى حد ما؛ لأنها تسير على غرار الطبقة التي يعيش صاحبها فيها؛ لأن تدريب العواطف أسهل من ترقية الذهن.
ومع ذلك لا يمكن أن ننكر أن هناك قواعد وراثية للشخصية؛ أي: أن الشخصية تتبع حالة معينة من الجسم، حتى إن هذا الجسم حينما يتغير بنمو أو تطور أو مرض تتغير الشخصية، فإننا نعرف مثلًا كيف تتغير شخصية الصبي في سن المراهقة حوالي الرابعة عشر من عمره حين يدخل في طور الشباب، وكذلك الفتاة، بل كيف تتغير المرأة عقب سن اليأس، وكذلك الخصي الذي تُجب خصيتاه تتغير شخصيته فلا يلتفت إلى الأنثى، ويموت فيه «اللبيد الجنسي» سواء أكان هذا في الإنسان أو حتى في الحيوان، واختلال بعض الغدد الصماء يُحدث اختلالًا في الشخصية؛ فإن الشذوذ الجنسي الذي يصاب به الشيخ بعد الخمسين قد ينشأ في حالات كثيرة من اختلال هذه الغدد.
وأجسام الناس تتبع أطرزة معينة، فهناك القصير المتكتل الذي يحب الضحك والنكتة والابتهاج، وهو سمر المجالس وسرور الأصدقاء، وهناك الطويل المعروق الذي لا يبتسم إلا بصعوبة ولا يتحدث إلا بمجهود، وشخصية كل منهما متأثرة بلا شك بفسيولوجية جسمه الخاص أو طرازه الفسيولوجي: الأول؛ أي: القصير، منبسط مكشوف متحدث، والثاني؛ أي: الطويل، منطوٍ مستور صامت.
وبلادة الذهن وبطء الحركة وخشونة البشرة ووقف النمو، هذه كلها هي نتيجة النقص في الغدة الدرقية (التي في العنق)، وأثرها واضح في الذكاء والشخصية معًا، وكلاهما يصح عندما تُعالج هذه الغدة، وكذلك الكظرية (التي فوق الكلية) تؤثر في حركة القلب، ولها لهذا السبب اتصال بصفات الشجاعة أو الجبن.
وكلنا يعرف أن التوءمين اللذين يمتازان بتقاسيم مشتركة في الجسم يمتازان أيضًا بقوة ذهنية متساوية، وبأخلاق متشابهة بل مطابقة، والأخلاق هي المجموعة التي تتألف منها الشخصية، وهذا يدل على أنهما، لما لهما من جهاز غددي متشابه، يتأثر كلاهما بمقادير متساوية من هذه الغدد فتتأثر أخلاقهما.
ولا يزال موضوع الغدد الصماء جديدًا، وفوائده للمستقبل أكثر مما هي للحاضر وسوف يكون أثره، كما نعرف من بواكيره، عظيمًا جدًّا جدًّا في تغيير وترقية الجسم والذهن والأخلاق.
ولأننا نجهل الكثير عن الغدد لا يسعنا إلا أن نتجاهل هذا الموضوع في مثل هذا الكتيب، وحسبنا ما أشرنا إليه هنا، لكن يجب ألا ننسى أن الاختلال الغددي يؤدي إلى نقائص بارزة واضحة في الشخصية، وما دمنا نُعالج الشخصية السوية في الإنسان العادي؛ فإننا نستطيع أن نُهمل الغدد ونتحدث عن الشخصية كما لو كانت غير متأثرة بها.
ومما يزيد الصعوبة في الكلام عن الغدد الصماء من حيث تأثيرها في الشخصية أن الجهاز الغددي في الإنسان موروث وليس مكتسبًا، فليس للفرد يد في تكوينه، وإن كانت الجراحة العصرية تفتح أبوابًا للأمل في تغيير هذه الحال، وفي إخضاع الغدد لألوان من المعالجة لترقية الشخصية.
(٣) ماهية الشخصية
الشخصية هي القدرة على السلوك الاجتماعي، وهي تقاس بهذه القدرة؛ أي: أنها قبل كل شيء خاصة اجتماعية، ويمكن الإنسان أن ينجح في عمله بلا شخصية أو بشخصية ضعيفة إذا كان نجاحه لا يحتاج إلى الاجتماع بالآخرين، فإن المؤلف الذي يعيش في جو من الكتب بين جدران مكتبته؛ كي يبحث موضوعًا في التاريخ أو الفلسفة ليس في حاجة إلى شخصية كي يؤدي هذا العمل، وكذلك العالم الذي يبحث موضوعًا في الكيمياء أو الطب أو الطبيعيات لا يحتاج إلى الشخصية الرشيقة اللبقة التي يحتاج إليها المحامي أو التاجر أو ربة البيت الاجتماعية، ولسنا نطلب من الراهب في صومعته أن تكون له شخصية، وقد لا يحتاج الفلاح الذي يرصد كل وقته واهتمامه للزراعة إلى أن يمتاز بشخصية قوية؛ لأن عمله الزراعي يستغرق كل وقته، وهو لذلك قليل الاختلاط بالناس.
وكلنا يعرف ذلك العالم الذي يستغرق في الاكتشاف أو الاختراع، ثم إذا اقتضته الظروف أن يشترك في اجتماع بيتي أو حفل رسمي بدا مربوكًا في حركته، أعسر في إيماءته، بل حتى الارتباك يتناول ألفاظه، فهو يعجز عن الترحيب والحفاوة، يصمت عندما يُنتظر منه الكلام، ويتكلم بغير ما تواضع عليه الناس، أي أنه — بعبارة أخرى — لم يحقق ذلك الصقل الاجتماعي الذي يُنتظر من ذوي الشخصيات المهذبة المرنة، والواقع أن مثل هذا الرجل لا يحتاج عمله — نعني نجاحه في عمله — إلى شخصية عالية، ونحن نطلب منه ذكاء كي يصل إلى اكتشافه أو اختراعه أكثر مما نطلب منه شخصية.
فالشخصية هي القدرة على السلوك الاجتماعي، وهي تتفاضل بمقدار التفرق في هذا السلوك، وهي الصقل الاجتماعي الذي يعني الرشاقة في الحركة والحديث، ولباقة الإيماء والبعد عن الفجاجة الريفية، وهي القدرة على الخدمة الخاصة أو العامة، ونحن كثيرًا ما نصف أحد الناس بأن «ليس له شخصية» إذا اعتقدنا أنه غير قادر على خدمتنا؛ أي: الخدمة الخاصة، ولكن الخدمة العامة برهان أقوى على الشخصية من الخدمة الخاصة، وهناك درجات أخرى من الشخصية سوف نتحدث عنها، ولكنا نريد هنا أن نثبت أن الشخصية «خاصة اجتماعية»، وأنه كلما زادت ضروب الاجتماع الراقي للفرد زادت الفرص لترقية الشخصية، ومن هنا امتياز الشاب الأوروبي على الشاب المصري في شخصيته التي تغتذي بمجتمع مختلط من النساء والرجال مثلًا.
وقد يكون الإنسان من أحسن الناس قلبًا وذكاء واستقامة، ولكنه يسلك سلوكًا ريفيًا يحوي كثيرًا من الفجاجة أو الجلافة التي لا تُستنكر في الريف، ولكنها لا تُطاق في مجتمع المدينة، كما أنه قد يهمل ملابسه أو يتكلم بلغة جافة، أو قد يكون ناشئًا في بيئة ثرية لم تُكلفه تبعات، فهو خائر الشخصية لا يُعتمد عليه، ففي كل هذه الحالات نجد شخصية ضعيفة.
وكما أن لكل كاتب أسلوبه الذي لا يتغير في الخط بحيث لا يمكن التزوير عليه بخط كاتب آخر، كذلك لكل إنسان شخصية معينة نعرفها في طريقته في المشي والكلام والإيماء، بل في أسلوب المعاملة من حيث ميله إلى المصالحة أو العناد أو التسامح أو التصاعب، بل أيضًا في نظرة للدنيا هل هو متشائم أو متفاءل، وهل هو منبسط منفتح أو منكمش لا يكشف عن أسراره.
ولكن إذا كانت الشخصية كالخط لا يمكن تقليدها فليس معنى هذا أنها جامدة لا تتغير، فإن القدرة على التغير هي إحدى خواص الشخصية الراقية التي تطلب العادات الجديدة، والاقتحامات الجديدة، والتعرف إلى شخصيات أخرى جديدة بغية الارتقاء والتكشف والنمو والتطور، ولكن «القدرة على التغيير» لا تعني أيضًا التقلب بلا ضابط، فلسنا مثلًا نرى الشخصية القوية في ذلك الشاب الذي يُدخن بضعة أشهر ثم ينقطع عن التدخين بضعة أشهر أخرى ثم يعود، ولا نرى أية شخصية في ذلك النيوروزي الذي يُغير أصدقاءه، أو في ذلك الآخر الذي يُغير زوجاته، وفي الأوساط المتمدنة تعلو قيمة الشخصية، ولهذا السبب لا تعجب حين تعرف أن أحد السيكلوجيين قام باستفتاء بين طلبة الجامعات الأمريكية عن الفتاة الجديرة بالإعجاب؛ هل هي الفتاة الممتازة بالجمال أو الممتازة بالشخصية؟ فكانت الأكثرية في صف الثانية؛ لأن الشخصية هنا تعني الحيوية والتيقظ والمغناطيسية الجذابة والابتسامة المنيرة واللفظة الرشيقة … إلخ، والجمال وحده لا يوازن هذه الميزات؛ لأنه يمكن أن يكون جمالًا باردًا جامدًا كأنه من جمال التماثيل.
وغاية الشخصية، هي بعد كل شيء، التأثير، فإن المحامي قد يكون درس قضيته الدرس الوافي، ولكنه لضعف شخصيته — سواء لقلة عنايته بملابسه أو سوء إلقائه أو خشونة صوته، أو غير ذلك من الأسباب التافهة التي يسهل علاجها — سيئ التأثير، فلا يصل إلى إقناع القاضي بصحة دعواه كما يصل إليها خصمه الذي ربما كان أقل ذكاء ولكنه أكثر تأثيرًا، والتأثير هو الوسيلة للإنجاز، فقد نكون أذكى الناس ولكننا لا ننجز عملًا لضعف شخصيتنا.
وقد ذكرنا هنا «الأسباب التافهة» التي تجعل الشخصية مؤثرة فعالة، ولكن هناك أسبابًا أخرى خطيرة ستكون بعض الفصول القادمة موضوع درسها.
والفرق بين الظريف والثقيل هو فرق في الشخصية، وقد يكون فرقًا حاسمًا في الحصول على المعاش أو الحرمان، والطبيب الناجح كثيرًا ما يُعزى نجاحه إلى شخصيته المؤثرة في المريض، بالحديث المقنع والكلمة الموحية والإيماءة الملائمة، وقد لا يُعزى إلى براعته في الطب، وكلنا يعرف أن التاجر المبتسم المتهلل خير من زميله المتجهم، والأول يكسب المشتري ويقترب من النجاح أكثر من الثاني.
وخلاصة القول: إن الشخصية هي القدرة على السلوك الاجتماعي الحسن والتأثير الفعال الذي يجعل ذكاءنا ومهارتنا مجديين، والإنجاز هو غاية السلوك الاجتماعي الحسن وغاية التأثير الفعال.
(٤) الخاصة الاجتماعية للشخصية
نحتاج إلى أن نؤكد الخاصة الاجتماعية للشخصية، فإننا نستطيع أن نميز بين الذكاء والشخصية بأن الأول هو حدة الذهن والثانية هي حدة الإرادة، ونستطيع أن نُزيد على ذلك فنقول: إن الذكاء أغلبه إن لم يكن كله موروث، لا يزيد إلا قليلًا أو لا يزيد بتاتًا بالوسط، أما الشخصية فأغلبها مكتسب، ثم نزيد على ما قدمنا بأن الذكاء انفرادي — إذا حذفنا من اعتبارنا اللغة — أما الشخصية فلا بد أن تكون اجتماعية.
ويقول الفرنسيون في أمثالهم: «الدفة أوقى من الشراع.» لأن الدفة هي التي توجه، أما الشراع فقوة غشيمة قد تحمل السفينة إلى الصخرة وتحطمها، وكذلك الشأن في الذكاء والشخصية: فإن الذكاء هو الشراع، هو القوة الغشيمة التي تستطيع أن تؤدي إلى الخير أو الشر، وإلى الخدمة الاجتماعية أو الإجرام الاجتماعي، ولكن الشخصية هي الدفة، هي التي توجه هذا الذكاء وتستخدمه.
قد لا يكون هناك أي فرق في مقدار الذكاء الفطري (وكل ذكاء فطري تقريبًا) بين عالم مكب على اكتشافه في المعمل وبين مجرم يتلصص في الظلام للفتك بالسابلة واغتصاب ما يحملون، ولكن هناك فرقًا عظيمًا لا شك فيه بين شخصية الأول وشخصية الثاني؛ لأن الأول عاش في مجتمع معين حمله منذ الطفولة على أن يعجب ببعض القصص التي تشيد بذكر المخترعين أو المكتشفين، ثم نشأ على التلمذة في مدارس وجهته وجهة عالمية، واختلط بطبقة من المعلمين والأساتذة رأى فيهم قدوة فكانوا له بمثابة البوصلة تُعين اتجاهه، ومن هنا تكونت شخصيته التي تكشفت في النهاية إلى عالم بَحَّاثَة يُنشد المجد والسعادة والمكانة في موضوع يبحثه في معمله لخير البشر.
أما الثاني، الذي لا يقل ذكاء عن الأول، فقد عاش في مجتمع معين حمله منذ الطفولة على أن يُعجب بقصص المجرمين الذين سرقوا أو قتلوا وعجزت الشرطة عن إلقاء القبض عليهم، بل لعله في صباه قد ارتكب بعض السرقات الصغيرة في الحقل أو المنزل المجاور، وبدلًا من أن يجد اللطمة الرادعة من أبيه وجد التستر من أمه، ثم بلغ الشباب فعرف إخوانًا له يسيرون معه في اقتحامات مختلفة يداري بعضهم بعضًا، فكان هؤلاء الإخوان دفة وجهته وجهة الإجرام.
فنحن هنا إزاء شخصيتين مختلفتين كل الاختلاف، مع أن الذكاء قد يكون سواء بينهما لا يزيد أحدهما عن الآخر فيه، وإنما هي البيئة الأولى؛ أي: المجتمع الأول حين يكون التأثير الأخلاقي عظيمًا، ثم ما تلا ذلك من مجتمعات نصبت أهدافًا وعينت غايات.
أذكر أني عرفت أحد المجرمين، وكنت أُقاعده وأُسامره واستدرجه إلى ذكر جرائمه الماضية، فما كان أشد استغرابي له حين كان يقص عليَّ اقتحاماته في لهجة الإعجاب بنفسه بل الحماسة، حتى كان أحيانًا يقف من فرط التأجج العاطفي حين يصف بعض المواقف، كيف سرق هذه البقرة، وكيف فر من هذا الخفير، وكيف استطاع أن يخدع السجانين ويهرب إلى السجن النقود والدخان وغيرهما، ولم ألحظ عليه قط أنه كان يخجل من ذكر هذه الجرائم أو يداخله ريبة في أنه لم يكن شريفًا، فلماذا؟
لأنه نشأ في مجتمع كوَّن له شخصية معينة هي شخصية المجرم، ولأن هذا المجتمع كان أفراده يمارسون الجريمة ويقصون قصصها أمامه قدوة يقتدي بها، ويعينون له هدفًا، وفي أثناء هذه التربية للجريمة يكون قد رسم لنفسه ميزانًا للفضيلة والرذيلة، فالفضيلة عنده هي الجرأة والمكر والتلصص والاقتحام والرضى بالعقوبة كأنه بطل أو شهيد، والرذيلة عنده هي الاستكانة والرضى بكسب العيش بالتعب والمواظبة والقناعة بالأجور التي ينالها غيره من أبناء قريته أو مدينته.
وعلى هذا يجب أن نقول: إن المجتمع هو الذي يريبنا ويكون لنا شخصيتنا، مجتمع البيت أولًا ثم مجتمع الشارع وصبيان اللعب، ثم مجتمع المدرسة ومجتمع الحرفة، ثم القهوة والنادي والمكتب، والجريدة التي نقرأ والإذاعة التي نسمع؛ فكل هذه الأشياء هي مجتمعنا الذي يصدمنا في اليوم أكثر من عشرين مرة، ويكون لنا أخلاقنا ويبني شخصياتنا، ويوحي إلينا ويقدم لنا القدوة ويعين لنا ما يجب أن نعجب به ونحب أو نستقبح ونكره، ونحن نقيس الشئون الاجتماعية بأقيسة المجرمين إذا كنا قد نشأنا في بيئته؛ أي: مجتمع، المجرمين، أو بأقيسة العلماء إذا كنا قد نشأنا في مجتمع العلماء.
وهذه الأقيسة يمكن أن تتغير بتغير المجتمع، والتغير بالطبع يكون أيسر إذا ابتدأ قبل اكتمال الشباب، ولكنه يمكث مع ذلك حتى بعد هذه السن، فلو أننا نقلنا صبيًّا من الفلاحين عندنا أو بدويًّا من الصحراء إلى نيويورك لن تمضي عليه سنوات حتى يكتسب شخصية أمريكية تراها في كل شيء من أخلاقه، من إيقاع القدمين في السير، إلى الروح الديمقراطي، إلى تعلم الرقص، إلى الإيمان بالنجاح المالي، إلى غير ذلك من سمات الحضارة الأمريكية.
فالمجتمع الحسن هو المدرسة المثلى لتربية الأخلاق، والمجتمع السيئ هو شر ما يمكن أن يُصاب به صبي في طفولته وصباه، والشخصية تتكون بالاجتماع ولا يمكن أن تنمو بالانفراد، وإذا شئنا أن نبني شخصيات سامية للمستقبل فيجب أن ننظر إلى بيوتنا؛ هل هي تُؤلف فيما بينها مجتمعات حسنة، وهل الحرب الأهلية القائمة داخل عائلاتنا يمكنها أن تبني هذه الشخصيات؟ ثم بعد ذلك يجب أن ننظر إلى الشارع والقهوة والنادي والمجلة والإذاعة؛ هل هي جميعها تبني أبناءنا أم تهدمهم؟
إن الشخصية إرادة؛ أي: نزعات أو اتجاهات، هي الدفة التي تُعيِّن للذكاء وجهته، وإنما نُعيِّن هذه الوجهة، بما نتعلم من المجتمع الذي نعيش فيه.
(٥) المسئولية فيتامين الشخصية
تطلق لفظة «فيتامين» على مواد ضئيلة الجرم خطيرة القيمة في نمو أجسامنا وصيانة صحتنا ووقايتنا من الأمراض، وفي نشاطنا الذهني والجسمي، ونستطيع أن نعيش معيشة التنفس أو المعيشة النباتية هامدين أو ساكنين لا نقوى على نشاط أو تفكير إذا حُرِمنا بعض هذه الفيتامينات، ولكن الحياة النشيطة تحتاج إلى الفيتامينات
وكذلك الشأن في الشخصية، فإن لأضعف الناس شخصية ما، ولو كانت ضعيفة حائرة أو ناصلة حائلة، ولكن الغذاء القوي الذي تنمو عليه هو المسئولية، وعلى قدر المسئوليات تتكون الشخصيات، وإذا عدم أحدنا المسئوليات ونشأ وهو لا يُطالب بتكاليف وواجبات فإننا لن ننتظر منه شخصية، أما إذا رُبِّيَ منذ الطفولة على تحمل المسئوليات تكوَّنت له بمر السنين شخصية محترمة.
انظر مثلًا إلى حال الصبي في البيت، فإنك إذا تركت له الحرية في العمل والسلوك إلى حد ما أعطيته الفرصة لأن يتحمل المسئوليات؛ لأن الحرية تعني المسئولية؛ إذ هو حين يمارس هذه الحرية سوف يصطدم بعقبات يجب عليه التفكير في عبورها، وعليه أن يجيب على أخطائه ويبررها، فهنا المسئولية التي تغذو شخصيته وتنميها، ونستطيع أن نُربِّي هذه الشخصية بأن نُكلف هذا الصبي واجبات صغيرة يقوم بها ويسأل عنها، وأن نكل إليه التصرف في بضعة قروش أو مليمات يكون له فيها حق الابتكار من ناحية الإنفاق أو الادخار، ومثل هذه المسئوليات الصغيرة تُكوِّن رجولته الطفلة، وهذا بخلاف ذلك الصبي الآخر الذي لا يُكلَّف أي واجب، ولا تُطلق له حرية العمل في البيت أو التصرف ببعض النقود، فإنه ينشأ بلا شخصية؛ لأنه لم تُلق عليه أية مسئولية، ولهذا السبب يجب أن نستعمل النقود وسيلة لتربية الشخصية، وأن نُعطيها للصبي بحساب الأسبوع أو الشهر؛ كي نُزيد مسئوليته ونُجبره على التفكير والتبصر، فالنقود يجب أن تكون للتدريب كما هي للاستمتاع، وخير للصبي أن يشتري لنفسه أدواته المدرسية حتى ولو تعرض للغش والصداع من أن نشتريها له نحن؛ لأن خسارته حين يشتري بنفسه سيتعوض منها خبرة وتربية لشخصيته، أما ما دام يعتمد علينا فإنه ينشأ بلا شخصية.
وانظر في مثال آخر، هاك صبيين كلاهما حصل على الشهادة الابتدائية حوالي الثانية عشرة، وقصد أحدهما إلى المدرسة الثانوية يتعلم، وقصد الآخر إلى مكتب يعمل ويتكسب، فإذا عدنا إليهما بعد سنة وجدنا أن الصبي الثاني الذي عمل وتكسَّب قد تكونت له شخصية لم يحصل عليها الأول الذي تعلم؛ وذلك لأن العمل والتكسُّب قد أجبرا هذا الثاني على الاختلاط بالناس والحديث إليهم، فهنا نذكر أن الشخصية تُكسب بالاجتماع، وتقاس بالقدرة على السلوك الاجتماعي، ثم هو قد تحمل بالعمل والتكسُّب مسئوليات لم يتحملها زميله الذي قضى سنته في المدرسة، وصحيح أن هذا قد درب ذهنه وزاد معارفه، ولكن هذه كلها لم تُكوِّن له الشخصية التي إنما تتكون بالاجتماع والمسئولية، ونحن نميز بين الاثنين بمحض الحديث بضع دقائق إلى كل منهما، فإن الصبي المكتسب يتحدث إلينا في لباقة وبلا خجل، وهو سريع إلى تلبية إشارتنا، راغب في سرورنا، يوهمنا الاستقلال، أما الثاني فمرتبك، خجول، محتجز، لا نستطيع أن نثق به.
ولهذا السبب أيضًا نجد أن الحرفة تُربي الشخصية، وهل منا من يجهل ذلك الوارث الذي يعيش في القاهرة بدخل ميسور يأتيه كل عام من عزبته، أو بضعة المنازل التي تُؤجر في المدينة، وهو قاعد هانئ، وكيف أنه قليل العناية بهندامه ولغته، سيئ الملابس، سيئ الحفاوة، سمين مترهل مربوك الحركة متعتع اللغة؛ ذلك لأنه لم يتحمل المسئوليات التي يتحملها الموظف أو المحترف في عمل يتكسب منه، حيث تحمله الرغبة في الكسب على العناية بهندامه ولغته والحفاوة بأفراد الجمهور.
وشخصية العامل في عمل حر أقوى وأنجح من شخصية الموظف في الحكومة لهذه الأسباب نفسها؛ أي: لاضطرار الأول إلى احترام الجمهور، وإلى تحمل مسئوليات كثيرة.
ومما يبصرنا بموضوعنا هذا أننا نجد الموظف العادي قد امتاز فجأة بشخصية جديدة حين يُرقى إلى مركز سامٍ له فيه رياسة ما، فإن هذه المسئوليات الجديدة تحيله شخصًا آخر قد زادت عنايته بهندامه ولغته، بل تزيده أحيانًا حتى في ثقافته.
وكلنا يعرف الفرق بين الشخصية الناضجة التي تمتاز بها الزوجة — وأكثر منها الأم — وبين الشخصية الفجة التي نجدها في الفتاة، فإن الزوجة قد تحملت مسئوليات الزواج والبيت، وأحيانًا الأمومة، وقد عاملت الخدم والأطفال وبعض طبقات المجتمع، وقد استضافت الزائرين، وطُولبت بالترحيب بهم والاستعداد للقائهم، وشغلت ذهنها بصحة أطفالها والعناية بتربيتهم، واضطرت إلى التبصر للمستقبل، وكل هذه المسئوليات قد كوَّنت شخصيتها التي تجعلنا نحس الثقة بها حين نتحدث إليها، أما الفتاة فلم تجد الفرصة بالمسئوليات الجسام لأن تتكوَّن شخصيتها إلى هذا الحد.
فالمسئولية هي التي تكوِّن الشخصية، وإذا شئنا أن نُربي أولادنا على أن ينشئوا لهم شخصيات ناجعة محترمة؛ فإننا يجب أن نُكلفهم المسئوليات منذ طفولتهم، ويحسن أن نكلفهم أعمالًا يتكسبون بها — إذا استطاعوا — مدة الإجازات المدرسية، ما دامت هذه الأعمال لا ترهقهم، بل ربما يكون من الحسن أن ترصد سنة وسط الدراسة؛ لكي يؤدوا فيها عملًا كاسبًا يضطرهم إلى الاختلاط بالمجتمع، ويحملهم مسئوليات لا تعرفها المدرسة أو الكلية، كما يُجبرهم على احترام المجتمع، ويُصقل سلوكهم في اللغة والحركة، وإذا فعلنا ذلك فإننا نتوقى ذلك الارتباك الذي نراه كثيرًا في خريجي الجامعة، بل نتوقى — وهذا أخطر — ذلك الخوف من تحمل المسئوليات.