تمارين لتنمية الشخصية
-
(١)
الاجتماع المختلط.
-
(٢)
المناقشة والإلقاء.
-
(٣)
الثقافة واللغة.
-
(٤)
التمثيل.
-
(٥)
اعتبار عادات جديدة.
-
(٦)
الهواية.
-
(٧)
الدفاع عن قضية عادلة.
-
(٨)
تلخيص.
(١) الاجتماع المختلط
عندما نجد صبيًّا أو شابًّا قد ضعفت عضلاته وترهل جسمه ننصح له — إذا لم يكن يشكو مرضًا معينًا — بالرياضة، والرياضة هي مرانة لتثقيف الجسم وشد العضلات وتقويم القامة.
والشخصية الضعيفة تحتاج، لكي تقوى، إلى مرانة بل مرانات مختلفة ومعينة، فما يحتاج إليه أحد الشبان أو الفتيات قد لا يحتاج إليه شاب أو فتاة آخران، وقد يكون نقص الشخصية راجعًا إلى إهمال البزة أو اتخاذ بزة معينة قد وسمت، بل وصمت، في ذهن الجمهور بأنها رمز لشخصية محتقرة، وفي انتقالنا إلى البيئة الاجتماعية الغربية قد أصبح للملابس قيمة اجتماعية ورمزية شخصية لا يمكن لأحدنا أن يتجاهلها، فلو أننا عقدنا اجتماعًا منزليًّا وحضرته سيدة مبرقعة، أو لا تزال متلففة في الحبرة أو الملاءة، لشعرنا بأن التناسق الاجتماعي ليس على أتمه، وكذلك الحال في ملابس الرجال جميعًا.
ولسنا نظن أن الهندام الحسن يحتاج إلى مرانة؛ لأن الإنسان الذي يمتاز بذكاء متوسط يعرف قيمته، وهو أول درجات الشخصية كما سبق لنا شرح ذلك، بل الذي يلاحظ هنا أن كثيرًا من الشبان والفتيات يعنون بالملابس أكثر مما تستحق، والغاية المضمرة بالطبع من هذه العناية هي تكبير شخصياتهم، ولو أنهم أنفقوا بعض المال والوقت اللذين يرصدان للملابس على الوسائل الأخرى التي تُكبِّر الشخصية لكانت النتيجة أبلغ؛ إذ ما الفائدة من الفستان الأنيق للفتاة إذا كانت بكماء أو كالبكماء لا تُحسن النطق أو الحديث، كلما قعدت في مجتمع بقيت صامتة تسمع ولا تنطق؟
وأكبر مرانة للشخصية هو الاجتماع، ذلك أن الشخصية بطبيعتها اجتماعية، فهي تزكو في المجتمع، وهي تهزل بالانعزال والانفراد، وكثير من الشبان يعتادون عادات انفرادية تجعلهم كأنهم «محايدون» ليس منهم نفع أو ضرر، فهم مثل ذلك الذي ذكره الإنجيل بأنه ليس باردًا ولا حارًّا، بل فاترًا، وليس لمثل هذا شخصية، ونحن نعرف أمثال هؤلاء في ذلك الشاب «المستقيم» الذي لا يعرف غير منزله ومكتبه، فهو لا يشترك في نادٍ، ولا يقعد على مقهى، وليس له أصدقاء، بل هو لا يشترك في حزب سياسي أو جمعية خيرية، بل قد تنزع به عاداته الانفرادية إلى كراهة الزيارة لأقاربه أو أصدقاء زوجته، ومثل هذا الشاب لن تشفع فيه استقامة، فهو يظل متأخرًا؛ لأنه ضعيف الشخصية، وهذا الضعف يرجع إلى أنه غير اجتماعي، وهو في حاجة إلى مرانة بالاختلاط.
أي يجب أن ننزعه من البيئة المنزلية المحدودة إلى البيئة الاجتماعية الواسعة، ويجب أن نبين له أن التزامه للبيت قد دمغه بأوصاف معينة، فهو مثلًا يتكلم مثل زوجته، ويتحدث أحاديث القيل والقال عن الحوادث والمنازعات العائلية، بل إن صوته تسوده نغمة أنثوية، والزوجة الساذجة قد ترتاح إلى مثل هذا الزواج، ولكنها إذا كانت رشيدة ناضجة فإنها يجب أن تأسف، ويجب أن تحث زوجها على مرانة اجتماعية حتى تُكبِّر شخصيته.
والمرانة هنا تعني أن هذا الشاب يجب أن يُعنَى بأصدقائه، وأن يختار منهم عددًا يوافونه بالاجتماع في مقهى أو نادٍ، وهو بالطبع يختارهم لميزات في شخصياتهم، وهو يحادثهم ويناقشهم في الموضوعات المختلفة؛ لكي يستنير منهم، ولكي يعالج ما فيه من عادات سيئة بانتقادهم له.
وبالطبع يجب أن نعد النادي خيرًا من المقهى؛ لأن الشاب يجد في النادي شبانًا مثله هم في العادة في درجته الاجتماعية، فهو لن ينكمش في اجتماعاتهم، كما أن النادي — إذا كان راقيًا — يستطيع أن يُربِّي شخصيته بأن يُكلفه واجبات مختلفة؛ كأن يكون عضوًا في لجنة رياضية أو ثقافية أو اجتماعية، وهو في هذه اللجنة يمرن صوته على الكلام ويجرؤ على الحديث على الرغم مما يحس من خجل، وقد يشترك في مناظرات تُربِّي فيه كفاءات جديدة في القدرة اللغوية والخطبة، ولكلتيهما الشأن العظيم في تكوين الشخصية.
ثم هناك الضيافة، فإن ربة البيت الانفرادية ليس لها شخصية، ولذلك يجب أن تَزور وتُزار؛ أي: يجب أن تُعنَى بفن الضيافة لكي تُربِّي شخصيتها وشخصية زوجها، وكلنا يعرف الفرق بين ربة البيت الاجتماعية التي تُعنَى بهندامها وحديثها وإيماءاتها، بل أيضًا بنظافة بيتها وتنسيق أثاثه، وبين ربة البيت الانفرادية التي لا تَزور ولا تُزار، تلك التي تتخذ الرث من الملابس، ولا تحسن الحديث إلا عن المطبخ والأولاد والخدم وليس لها أي نشاط اجتماعي.
والاجتماع المختلط يُعلم الشاب والفتاة الرشاقة في الحركة والتأنق في الحديث، والعناية بالهندام وترقية الذوق، والاطلاع على الشئون العامة؛ وكل هذا يُربِّي الشخصية، بل للزمالة في الحرفة بين الشاب والفتاة قبل الزواج أكبر الأثر في التربية الاجتماعية للاثنين.
- (١)
تجنب العادات الانفرادية التي تجعلنا منفردين عن المجتمع.
- (٢)
اتخاذ الأصدقاء مع العناية بميزاتهم الشخصية.
- (٣)
الاشتراك في نادٍ، والمواظبة على الحضور في لجانه والقيام بواجباته.
- (٤)
يجب أن «نَزور ونُزار» ونُعنَى بفن الضيافة.
(٢) المناقشة والإلقاء
- (١)
فقد تتكلم بصوت يعلو أكثر مما يجب فيوهم الإساءة، أو ينخفض فيوهم الخوف والحياء.
- (٢)
وقد نعتاد عادات تثبت في كلامنا فنتنحنح أو نصمت طويلًا، أو نأكل الحروف في أواخر الكلمات.
- (٣)
وقد نعتاد المناقشة بطريقة المخاصمة فنعاند ونكابر.
- (٤)
وأحيانًا نستعمل كلمات معينة فيها جفاء أو جلافة، والشخصية تنقص قيمتها بمقدار هذا العجز، وهي تعلو وتنال الإعجاب بالإحسان في الإلقاء وحلاوة الحديث أو منطقه واختيار الكلمات المنيرة الدقيقة، ومن أقسى الامتحانات الشخصية أن يقف أحدنا للخطابة، فإن الذي لم يتعودها إذا فوجئ بإلقاء كلمة في اجتماع ما ينعقد لسانه ويتصبب عرقه ويقعد واهنًا خجلًا، في حين أن الخطيب المتمرن يُوحي إلينا جميعًا بقوة شخصيته، ولو لم يأت بغير التافه من المعاني، ذلك لأنه ألقى كلماته بفصاحة وجهارة وبعد عن الخجل.
ولهذا السبب يجب على الشاب الذي يرغب في تكوين شخصيته وترقيتها أن يُعنَى بالمناقشة والخطابة، ويتمرن عليهما، فإننا جميعًا في الوسط العائلي الذي نشأ فيه في مصر نُعاني «مركب نقص» في الخجل أو الخوف من الاجتماع، فقد كان أهلونا يمنعونا من الاختلاط، ويخوفوننا من الكلام في حضرة من أهم أكبر منا سنًا، ولذلك نحتاج إلى أن نتخلص من الخوف (أي: الخجل) بتمارين معينة نتجرأ فيها على الكلام في الاجتماعات، ونُمارس فيها الإلقاء بلغة حسنة قد عنينا فيها باختيار الكلمات كما عنينا بصيغة الإلقاء الجريء الصريح.
وبعض المدارس الأجنبية تُربِّي الشخصية في الصبيان بأن تعودهم الغناء والخطابة والتمثيل في الاجتماعات، والصبي الذي ينشأ على أن يغني أو يخطب أو يُمثِّل أمام نحو ٣٠ أو ٤٠ من إخوانه في المدرسة يستطيع أن يجرؤ على الوقوف خطيبًا، أو أن يقعد مناقشًا في أي اجتماع آخر، وهو بهذه الممارسة تتكوَّن له شخصية جريئة بعيد من العلتين الأصليتين للشخصية، وهما الخوف والخجل.
وإذا لم تكن مدارسنا قد عُنِيَتْ بهذه التمارين لتربية الشخصية فإنه يجب على الآباء أن يعنوا بها في البيوت مع أبنائهم؛ أي: يجب أن يجرئوهم على المناقشة، بل على الغناء والتمثيل في الوسط العائلي، وقد يكون الأثر صغيرًا؛ لأن الصبي قد يجرؤ بين أخوته ولكنه يجبن مع الغرباء، ولكن هنا خطوة يجب أن تقطع قبل الخطوات الأخرى في المجتمع.
أما الشاب الذي يجد في نفسه ضعفًا في الخطابة، وقصورًا في المناقشة، ونقحًا في التعبير؛ فيجب عليه أن ينضوي إلى جمعية ما، أو يُؤلف مع زملاء له مثل هذه الجمعية، ويرتب مع سائر الأعضاء حلقات لدرس الموضوعات السياسية والاجتماعية، والفائدة هنا مزدوجة؛ لأنه بالدرس يستنير ويزداد ثقافة وعرفانًا، وهو أيضًا يتمرن على الحديث والإلقاء، ويجد في إخوانه ما يجرئه على الإلقاء؛ إذ هم ليسوا أفضل منه وما يشكوه من نقص يجد مثله عندهم، بل ربما أكثر مما عنده، وإذا كانت ظروفه لا تسمح له بالانضواء إلى جمعية؛ فعليه أن يُرقِّي نفسه منفردًا في غرفته.
والخطابة ارتجال، وهي ارتجال في الكلام كما هي ارتجال في التفكير، أو هي تفكير بصوت عالٍ، وهي عادة لا أكثر ولا أقل، ومتى اعتدنا الخطابة عنينا بالإلقاء والتأنق في المعاني واختيار الألفاظ، وكل هذا يُكبِّر شخصيتنا.
وهذه الحلقات التي أشرنا إليها يجب أن يقودها رئيس مدرب يتجنب السخرية عند العجز؛ لأن أعظم ما يشكوه الشاب هو الخجل، فإذا سخرنا به عند تلعثمه أو تردده زدناه خجلًا، وأغلب الظن أنه بعد ذلك يتجنب الحلقة ويرفض التمرين، بل كذلك الصبي في البيت يجب ألا نهزأ به.
ويجب على كل شاب أن يعرف أنه لن تتكون له شخصية حسنة إلا بعد أن يكون قد بلغ بعض الشيء في الإلقاء، وصارت العناية عنده بالحديث عادة، وارتفاعه من الإلقاء الحسن في الحديث إلى الإلقاء الحسن في الخطابة هو ارتقاء عظيم في الشخصية، فإن قليلًا هم الذين يُحسنون الخطابة، وميزتهم لهذا السبب كبيرة، وعندما نقارن بين كاتب عظيم يمتاز بدقة المعاني وفصاحة الأسلوب وسمو التفكير، وبين آخر دونه بكثير، ولكنه يحسن الخطابة، ويجرؤ على الارتجال في الاجتماعات نحس أن الثاني شخصية ليست للأول، ويجب أن نلاحظ هنا أن التفوق في الكتابة لا يعني بتاتًا التفوق في الخطابة.
وقد أحدث العصر الحديث قيمة للاجتماع، فنحن نجتمع في البرلمان واللجنة والمجلس البلدي والجمعية الخيرية، بل نجتمع في البيوت ضيوفًا زائرين ومزورين، فيجب أن نُعنَى بالإلقاء ونتمرن عليه، وقد كانت سُنَّة الانحطاط الشائعة في بلادنا منذ خمسين سنة تقتضي من المرأة أن تقعد خرساء مكتوفة اليدين، حتى يقال: إنها مهذبة، أما الآن فسُنَّة الارتقاء تقتضينا مطالبة المرأة بالحيوية والقدرة على النطق والأداء، ونحن نقدر شخصيتها بكلامها وليس بصمتها، فيجب أن تتمرن هي أيضًا على الإلقاء والحديث.
(٣) الثقافة واللغة
حين يعمد الشاب إلى ترك عاداته الانفرادية ويجتمع بغيره من الشبان، بل يندمج في المجتمعات المختلفة من الجنسين، وحين يُعنَى بحديثه ولغته ويجود في عباراته، حين يفعل هذا يجد أنه قد حصل على صقل اجتماعي ليس عامًّا بين الشبان، وهو أيضًا حاصل على شخصية اجتماعية مقبولة إلى حد ما، ولكن يجب عليه ألا ينسى أن هذا الصقل هو في أكثره مرانة جسمية، وهو من هذه الناحية دون المرانة النفسية التي حصل عليها بالصقل من الداخل؛ أي: بالنمو الثقافي.
وقد سبق أن قلنا: إن الشخصية تنمو بتحمل المسئوليات، وعلى قدر هذه المسئوليات يكون النمو كمًّا ونوعًا، والثقافة تعد من المسئوليات العالية التي تنقل الفرد من همومه الصغيرة المحلية الخاصة إلى الهموم العامة الكبرى، فهو يقرأ الجريدة ويندغم في أخبارها السياسية التي تشمل العالم، ويأخذ على نفسه همومًا ومشاغل عالمية تتحيز مكانًا من نشاطه الذهني كل يوم، ولسنا نعني هنا قراءة اللت والعجن في المجلات الأسبوعية، وما فيها من قيل وقال وسائر تلك التفاهات التي لا يرضاها غير صبي أو شاب لا تزيد سنه العقلية على عشر سنوات، وإنما عني قراءة الجريدة التي تزودنا بالأخبار السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يتغير بها العالم كل يوم، وذلك كي نتغير نحن أيضًا؛ أي: لا نبقى جامدين في عالم متغير متطور، بل كذلك المجلة التي تحاول أن تنيرنا عن تطور الحوادث بأقلام ليست فقط نزيهة، بل فهيمة، تدرك الأبعاد للحوادث والقيم للتطورات.
ويمكن التمييز بين شابين أحدهما يداوم على قراءة المجلات التافهة، وهو في حديثه يقص على إخوانه ما قرأ من قصص ليس لها أي دلالة، وبين آخر قد اهتم بالسياسة العالمية يقارن بين نهضة الهند ونهضة مصر، وبين الاشتراكية والديمقراطية، وبين التعليم الإلزامي والتعليم الابتدائي، فإن الأول صبي فج الشخصية راكد جامد، والثاني شاب ناضج الشخصية نامٍ متطور، وفي اجتماع الاثنين يقعد الأول تلميذًا متواضعًا مستمعًا للثاني.
ونحن نعيش في عصر انفجاري قد تغلبت فيه الثورات على التطورات، ولذلك فإن الجريدة النزيهة التي تكتب بفهم وإدراك تعد من أقوى الوسائل للثقافة؛ أي: للتغيير النفسي والنمو الشخصي، ويجب أن يُعنَى كل شاب باختيار جرائده ومجلاته من الطراز الأول في لغته أو اللغة الأجنبية، وأن يغيرها كلما رأى فيها انحطاطًا أو تغيرًا شينًا؛ لأنه إنما يعيش في عصره بمقدار ما تعكس الجريدة أو المجلة شئون هذا العصر إلى ذهنه.
وقيمة الكتاب في نمو الشخصية لا تقل عن قيمة الجريدة أو المجلة، ونعني هنا بالكتاب ذلك الذي يعالج الشئون العامة عالمية أو قطرية، ويصل بيننا وبين التطور الاقتصادي أو الاجتماعي، ولذلك فإن المكتبة الحسنة ضرورية للشخصية الحسنة؛ لأنها تنشئنا وتحملنا مسئوليات إنسانية سامية، ولسنا بالطبع نقصد إلى الانزواء في المكتبة والتعلق بالقراءة، والانعزال غرامًا بالكتب؛ لأننا بهذه الخصال نكسب الثقافة ولكننا نخسر الشخصية؛ إذ إننا نبتعد عن المجتمع، والشخصية هي كما سبق أن كررنا صفة اجتماعية تخصب بالاجتماع وتجدب بالانفراد.
ولكن يجب ألا يفهم القارئ أننا نقصد إلى أن الحذلقة السطحية في الثقافة خير من تعمقها، كلا فإن الحذلقة سرعان ما تُكشف، ولكنا نقصد إلى أن التعمق يجب ألا يحملنا على خصال الانفراد والانزواء في المكتبة، وهذا كثيرًا ما يحدث، وقد يكون انتفاع العالم بهذا المنعزل المتعمق الذي هزلت شخصيته بقلة الاختلاط أكبر جدًّا من انتفاعه بالاجتماعي الممتاز بالشخصية، ولكن هذا البحث ليس موضوع كتابنا، ونستطيع أن نقول: إنه عند النظر الدقيق والتأمل العميق نجد لهذا المتعمق للثقافة شخصية في غاية السمو والعظمة، ولكن الذين يدركون سموها قليلون، وهم في العادة من طبقته، ونحن نريد بالشخصية تلك التي يُقدرها الرجل العادي في أوساطنا الاجتماعية المألوفة.
وقد سبق أن أوضحنا قيمة اللغة في التعبير الحسن وإبراز الشخصية، وهنا يجب أن نوضح قيمتها في النمو الثقافي، فإن الفهم نوعان: فهم سلبي؛ وهو أن نفهم على قدر ما نقرأ فنساير الكاتب في آرائه ونقتنع بأقواله، وفهم إيجابي؛ وهو أن نتجاذب مع الكاتب الموضوع فنأخذ ونُعطي ونقبل ونرفض، وهذا هو الفهم الخالق، وعندئذ نحن نقرأ وكأننا نؤلف، ولن تكون هذه حالنا إلا إذا عرفنا دقائق اللغة، وميزنا بين تماويه الكاتب التافه وزخارفه — وما أكثرها في جرائدنا ومجلاتنا وكتبنا — وبين الدراسة الجدية والخدمة الأمينة للقارئ.
واللغة هي تراث حافل بالسخيف والسمين والدقيق المضطرب من المعاني، وأول درجات الثقافة أن نكون على معرفة حسنة باللغة نقرأ ما بين السطور وما وراء الكلمات، ونتعود الدقة في الفهم، ثم بعد ذلك يجب ألا نستهتر في الثقافة فلا نحتطب المعارف من أي مكانن ولا نقرأ كلما اتفق؛ لأن هذه الفوضى لا تُنمي الشخصية.
(ولكن يجب هنا أن أقول: إن المبتدئ الذي لم يتعود القراءة، ولم يفتن بالكتب يمكنه، إذا لم يجد النصحية الأمينة، أن يضرب في الفوضى الثقافية ويقرأ كلما اتفق له، ثم يختبر نفسه ويسأل: ماذا كسبت من قراءة هذه المجلة أو هذا الكتاب؟ وهو يحسن إذا لخص كل كتاب في كراسة؛ لأنه عندئذ يعين فائدته ويقدرها، وينزع إلى القراءة النافعة ويميزها).
وخلاصة هذا الفصل أن التدريب اللغوي والنمو الثقافي هما مرانة نفسية لتربية الشخصية وصقل داخلي لها، وتزداد قيمتها بالتقدم في السن؛ لأن المثقف تكفه عادة القراءة من ناحية عن عادات أخرى كالشراب أو المقامرة، وهي من ناحية أخرى تُكبِّر شخصيته بالنمو الثقافي المطرد.
(٤) التمثيل
من أحسن البدع الجديدة في المدارس إنشاء فرق للمناقشة والخطابة وأخرى للتمثيل، فإن الصبي الذي يجرؤ على أن يتحدث في طلاقة بين إخوانه وأمام المعلم، أو يخطبهم في لغة مرتجلة، يتعود القدرة على الخطابة والجرأة في الحديث، ويكسب لشخصيته كسبًا لن يفقده مدى حياته.
وكذلك فرقة التمثيل، فإن أعظم ما يمتاز به الممثل رشاقة الحركة ولباقة الجواب مع الإيماءة اللائقة واللغة الواضحة، والممثل مثل الخطيب، يقف أمام الغرباء، فيتمرن على الجرأة ويمارس النطق العالي في شهامة وسداد بعيدين عن الركاكة والوجل اللذين يصيبان غير المتمرن في مثل هذه المواقف، ولذلك يعد التمثيل مرانة حسنة لتربية الشخصية، فيجب أن يُشجع في كل مدرسة أو معهد أو نادٍ، ويجب أن تكون له جمعياته وفرقه التي يقودها ممثلون مدربون قد احترفوا التمثيل، كما أن للرياضة فرقها التي يعلم فيها رياضيون محترفون.
وإذا كنا نعرف أن الخجل هو العلة المميتة للشخصية، فإننا يجب أن نسلم أيضًا بأن تعود الخطابة وتعلم التمثيل يشفيان هذه العلة، ولكن إذا كان أحدنا ممن تعلم في مدارس لم تكن تُعنَى بتربية الشخصية، بل لم تكن تعرف بوجود هذه الكلمة، قد نشأ وهو يحس الخجل في المواقف العامة والتردد في النطق، فإنه يحسن إذا هو انتمى إلى أحد الأندية وألف مع إخوانه جمعية للتمثيل، وأدى بعض الأدوار في الدرامات المختلفة، وهو هنا يكسب ثقافة وفنًّا وتاريخًا وأدبًا إلى جنب ما يكسب من تغيير في شخصيته بما يتعلمه من التمثيل؛ لأن الممثل الماهر يجب أن يدرس درامته ويعيش في عصرها وينقل جوها، وكل هذا يحتاج إلى مجهودات ثقافية غير صغيرة، وبالطبع لا نقصد بالتمثيل تلك السخافات التي تُؤلف أو تُترجم، ويكون الممثلون فيها مهرجين لا ينقصهم لكمال التهريج إلا أن يلبسوا طربوشًا بلا زر ويطلوا وجوههم بالدقيق، وكثير من الدرامات التي يراها الجمهور في مصر من هذا الطراز، وإنما نقصد الدرامة الإغريقية القديمة أو الدرامة الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية العصرية.
والمسرح في الأمة الراقية هو ميدان المثليات، ومن هنا قيمة التمثيل السيكلوجية للممثل زيادة على قيمته في تربية الشخصية، ونحن حين نعرف هذه الحقيقة تتضح لأذهاننا حقيقة أخرى؛ هي أنه يجب أن يكون كل منا ممثلًا من حيث إنه يؤدي عمله كما لو كان ممثلًا يُمثل هذا العمل على المسرح، فإننا نعيش ونُؤدي حياتنا في تراخٍ وتثاؤب، بحيث لو سئل أحدنا أن يصعد إلى المسرح ويؤدي هذه الحرفة أمام الجمهور أحس تغيرًا نفسيًّا؛ إذ هو يستبدل بالتراخي والتثاؤب والاستهتار جِدًّا ونشاطًا وهمة، وذلك لأنه يحس أن المسرح يطلب منه الشخصية التي لا تلائم الحرفة.
فالمحامي الذي يقصد كل يوم إلى مكتبه أو إلى المحكمة لا يُبالي هندامه، أو هو قد يسير وهو يدخن سجارته، وقد يقعد إلى مكتبه فيعمل وهو في تراخٍ يشرب القهوة أو يتثاءب، وهو في مرافعته في جلسة المحكمة لا يُوحي إلى الحاضرين أنه يؤدي عمله على أوجه الأمثل، ولكن لو طلب إلى هذا المحامي نفسه أن يصعد إلى المسرح وأن يمثل حرفته لتغيرت سيكلوجيته؛ إذ هو عندئذ لا يترك صغيرة في هندامه أو لغته أو إيماءته إلا ويُعنَى بهما العناية القصوى، وهذا زيادة على درسه لتفاصيل القضية التي يترافع فيها.
وعلى هذا المنطق يجب أن يكون كل منا ممثلًا في حرفته، وأن يضع هذه الفكرة نصب ذهنه، فإذا كان طبيبًا فليتخيل أنه يمثل الطبيب الأمثل، وإذا كان تاجرًا فليرسم أمام ذهنه التاجر الحسن الناجح، وإذا كان صانعًا فليؤدي عمله كما لو كان ممثلًا فيه.
- (١)
الاجتماع المختلط.
- (٢)
المناقشة والإلقاء.
- (٣)
الثقافة واللغة.
- (٤)
التمثيل.
ونحن حين وضعنا هذه الفصول تخيلنا شابًّا يحس خجلًا ووجلًا، وهو ينزوي ويتردد ويعجز عن تحقيق النجاح لهذه الصفات، وهذه المرانة التي شرحناها في هذه الفصول الأربعة جديرة بأن تُكوِّن له شخصية، ولكن يجب ألا ننسى أن هذه المرانة تُكوِّن ظواهر الشخصية وليس بواطنها.
- (١)
اعتياد عادات جديدة.
- (٢)
الهواية.
- (٣)
الدفاع عن قضية عادلة.
(٥) اعتياد عادات جديدة
الشخصية الراقية ليست راكدة أو جامدة؛ لأن كلمة «الرقي» تعني التغير؛ إذ كيف يرتقي الإنسان دون أن يتغير؟ فنحن نرتقي بأن ننتقل من حال منخفضة إلى حالة مرتفعة، وهذا يعني في النهاية أن نكون على الدوام راضين عن التغير بل راغبين فيه.
وكثيرًا ما نرى جمود الشخصية أو ركودها واضحًا في أولئك الذين يظنون أنهم يلتزمون التقاليد، فيكرهون التغير أيًّا كان وجهته، وكثيرًا ما يكون الجمود ناشئًا من خمود الحيوية؛ لأن كل تغيير يحتاج إلى مجهود، وإذا ضعفت الصحة خارت الهمة، ومن هنا كراهة المسنين للتغير؛ لأن الشيخوخة هامدة قد انطفأت فيها حيوية الشباب.
ولكن الشاب الذي ينشد شخصية ناجحة يجب أن يكون على استعداد دائم للتغير، وقد يكون التزام عادات معينة تؤخره وتستهلك وقته وماله وصحته، فهو جدير بأن يفحص عن هذه العادات ويقومها واحدة بعد أخرى من حيث نفعها أو ضررها لشخصيته، فإذا اقتنع بأنها مضرة كف عنها وأخذ في اعتياد عادة جديدة تُنمي شخصيته وترقيها.
ولكنا لا نستطيع أن نتغير إلا إذا تكونت عندنا الإرادة للتغير، وهذه الإرادة لا تنشأ إلا بعد الاقتناع بضرورة التغير، والاقتناع هو أول درجات التغير؛ لأنه يُحدث الرغبة ثم تتحول الرغبة إلى إرادة، فليست الإرادة شيئًا يقتسر جبرًا وقهرًا للنفس، وهي لو تمت على هذا الغرار لكان ضررها أكبر، وإليك المثل التالي للتوضيح:
- (١)
الاقتناع بأن الخمر مضرة، وطريقة هذا الاقتناع أن يوضح الأسباب لنفسه، كأن يشرح — كتابة — الأضرار المالية والصحية والحرفية، ثم الضرر في شخصيته، ويتابع التوضيح لهذه الأضرار يومًا بعد يوم، بل هو يُحسن كثيرًا إذا استطاع أن يعرف الأسباب التي حملته على حب الخمر ويحللها تحليلًا نفسيًّا.
- (٢)
عندئذ تنشأ رغبة عامة في نفسه لكي يتغير.
- (٣)
رويدًا رويدًا تستحيل هذه الرغبة العامة إلى إرادة خاصة كي يتغير ويكف عن الخمر، وعندئذ يجد نفسه قد أقلع فجأة عن عادته.
- (٤)
يجب ألا يقف التغير عند الناحية السلبية؛ أي: الانعكاف عن الخمر فقط، بل يجب التجاوز إلى الناحية الإيجابية، بإيجاد عادة أخرى تقوم مقام الخمر حتى يمتلئ الفراغ النفسي.
وكذلك الشأن في العادات السيئة الأخرى التي تُؤخر نمو الشخصية، مثل العادة السرية أو التدخين أو المقامرة، فإنه لكي تتكون الإرادة يجب أن يسبقها اقتناع بضرورة التغيير، وهذا الاقتناع ينشأ بعد مراقبة من الإنسان أمام محكمة ضميره، يبين فيها الأضرار من هذه العادات، ويكون الإيضاح لهذه الأضرار كتابة وشفاهًا حتى يتم الاقتناع.
- (١)
برنامج سنة أو سنتين لتحسين الصحة واعتدال القوام وزيادة القوة، وذلك بالانضمام إلى أحد الأندية التي تُعنَى بتثقيف الجسم، ومن الحسن أن يكون ميعاد هذه المرانة هو نفسه ميعاد العادة السيئة لملء الفراغ، ولكي تبرز الفائدة فيزيد الاقتناع وتقوى الإرادة.
- (٢)
برنامج لثلاث سنوات لزيادة الثقافة، وذلك بتعيين جريدة يومية ودراسة موضوع أو موضوعين، مثل اللغة الفرنسية، أو الانتساب لإحدى الكليات والانتظام في برنامجها الخاص بغية الحصول على شهادة جامعية، ومتى تقدم الشاب في هذا البرنامج وجد نفسه قد أخذ بعادة الثقافة؛ فلن تمضي عليه سنوات حتى تكون له مكتبة، وحتى تتكون له علوم ثقافية سامية، هي خير ما يكسب في هذه الدنيا، وأسمى ما يُرقِّي شخصيته.
- (٣)
برنامج اجتماعي لسنة أو سنتين يترقى به، من التزام أصدقاء معينين لا تكون الفائدة كبيرة بقضاء الوقت معهم إلى التعرف إلى أصدقاء آخرين أرقى وأنفع، وذلك بالزيارات وترقية الضيافة.
- (٤)
بل كذلك يمكن إيجاد برنامج عائلي غايته ترقية العلاقات الزوجية على أساس جديد من التعاطف والمعيشة الجميلة وتجديد الأثاث وتربية الأولاد، فإن العائلة مجموعة من الشخصيات ترتقي باعتياد عادات جديدة في المعاملة بين بعضها البعض، وفي اتصالاتها بالضيوف، والبيت الحسن هو معهد حر للرأي والمناقشة، وهو عندئذ يُربِّي الشخصية، كما أنه متحف فني يُرقِّي الذوق.
وخلاصة هذا الفصل أن الشخصية الراقية تحتاج إلى اعتياد عادات حسنة جديدة تزيد رقينا، وخير ما يهيئنا لهذه العادات أن نضع البرامج المفصلة نؤديها في سنة أو أكثر؛ لأن البرامج مرانة تهيئنا للعادة الحسنة، والعادة الحسنة تُكوِّن الشخصية الحسنة.
(٦) الهواية
وضعت هذه الكلمة لكي أعبر بها عما يسمونه في الإنجليزية «هوبي»، أو ما كنا نسميه باللغة العامية «غية» من الغاوي الذي يهوى عملًا ويكب عليه، ولو لم ينتفع منه، بل لعله يستضر إذا نظرنا إلى الفوائد المادية، وهو إنما يقبل عليه؛ لأنه يسد في نفسه حاجة أو يشبع شهوة ذهنية، فهناك هواة الحمام أو الخيل، وهواة التحف الفنية، بل هناك من يجعل غرس الأشجار للزينة أو العطر هوايته، كما أن هناك ألوانًا متعددة من الهوايات؛ فإن الموظف الذي يحترف الكتابة في مصالحة الحكومة قد يهوى النجارة، ويؤسس له ورشة صغيرة في البيت يلجأ إليها في فراغه، ويصنع فيها الكراسي أو الموائد أو غير ذلك … إلخ.
والهواية ضرورية في عصرنا وخاصة للطبقة المتوسطة والطبقة العالية؛ وذلك لأن الفراغ كثير عند هاتين الطبقتين؛ إذ قلما يزيد العمل الواجب على ست أو سبع ساعات في اليوم، ففي سائر اليوم نحو مثل ذلك الوقت من الفراغ الذي يجب أن نشغله بعمل ما، والطبيعة تكره الخواء وتُسارع إلى ملئه، فإذا لم نملأه نحن بعمل صالح مفيد يرقينا، فإنها تملؤه بالطالح من العادات السيئة والخواطر الفاسدة.
ثم إننا في مجتمعنا الحاضر كثيرًا ما نحترف العمل الذي نكره، ونحن نرضاه مضطرين للكسب فقط، وقد تكون لنا في أعماق نفوسنا رغبات أخرى كنا في صبانا وشبابنا نتحرق لكي نحققها، ولكن الظروف حالت دون ذلك، وهذه الرغبات لا تفتأ مستقرة في العقل الباطن تجمح بنا من وقت لآخر، وقد تحملنا على إهمال حرفتنا أو على السأم منها والكراهية لها، وفي هذا ضرر كبير بمعيشتنا.
والعقل الباطن يبقى في صراع لا ينقطع مع العقل الواعي، ولكنا عندما نعمد إلى هذه الرغبات فنحققها هواية نخصها ببعض وقتنا أو مالنا، نستطيع أن نعيش سعداء راضين عن عملنا الذي نحترف، وإن كرهناه بعض الشيء، ومقبلين على هوايتنا التي تسد فراغنا.
ولكن ما قيمة هذا في تنمية الشخصية؟
قيمته كبيرة بل جليلة، فإن الشخصية تحتاج إلى الاتزان وإلى العادات الحسنة وإلى النمو الثقافي، والاتزان يحتاج إلى أن يكون العقلان الواعي والباطن على سواء، ليست بينهما حرب، هذا يؤدي عملًا للكسب والآخر ينشد التحقيق لرغبات قديمة راسخة، ولا يمكن الاتزان للشخصية ما لم يكن العقل الباطن راضيًا، أو على الأقل ليس ساخطًا إلى حد الثورة، وبعيد جدًّا أن نجد شخصية متزنة سليمة لشاب غير سعيد في عائلته أو عمله أو مجتمعه؛ لأنه في هذه الأعمال جميعها يضطر إلى أن يداري ويوارب وهو يتعب وينفق مجهودًا في كل ذلك، والأصل في هذا التعب أنه مضطر إلى أن يبدو خاضعًا لعقله الواعي، راضيًا بالمظاهر، ساكنًا عن مساخط يكبتها العقل الباطن ويعبر عنها في لطف أو عنف، والشخصية تضطرب في هذه الأحوال جميعها.
وليس بيننا من يستطيع أن يقول: إنه يجد كل ما يشتهي في المجتمع والعائلة والحرفة، ولذلك فإن الهواية ترفه عنه، وتفتح لعقله الباطن أبوابًا للنشاط حتى يعود الاتزان لشخصيته، والكظم الذي تثقل وطأته علينا نفرج عنه بالهواية، نمارسها في فراغنا أحرارًا، ليس علينا رقيب يستعجلنا أو يحد منها، وهي من ناحية تحول بيننا وبين مفاسد الفراغ من عادات سيئة، أو من التراخي وقضاء الوقت في تثاؤب على القهوة أو في البيت إلى تعلم القمار أو تعود الخمر؛ إلى غير ذلك، كما أنها تتيح لنا الرقي، فهناك هوايات كثيرة تضطرنا إلى الدرس، فإن من يهوى غرس الأشجار يجد صحة وثقافة في هوايته، ومن يهوى الرسم ودراسة أحد العلوم أو تربية الحيوان ينتفع كثيرًا بهذه الهوايات، ونحن حين نقعد إلى أحد الذين جعلوا من تربية الحمام هواية مثلًا نجد في حديثه من المعارف النادرة ما نتعجب له، وعندما نقعد إلى شاب هوي غرس الأزهار لا نكاد نشبع من حديثه أيامًا متوالية؛ لوفرة معارفه الفاتنة عنها.
ونحن عندما نتعرف إلى أحد الناس لا نستطيع أن نعرف أخلاقه، ونقدر شخصيته من العمل الذي يحترف ويتكسب منه؛ لأن لكل عمل مراسًا خاصًّا يكاد لا يتميز إلا قليلًا من شخص إلى آخر، ولكنا نقدر هذه الشخصية من الطريقة التي يقضي بها فراغه، ومن انتفاعه بهذا الفراغ، فإن الفراغ هو الذي يُكيف شخصيته، فهو سمين مترهل أو نحيف متفزز، وهو مثقف أو جاهل، وهو اجتماعي أو انفرادي، وهو نشط الذهن أو خامله، ومن الطريقة التي يستغل بها فراغه أكثر من العمل الذي يحترف.
فالهواية تُقوِّم الشخصية وتثقف الذهن، وهي لهذا السبب مرانة حسنة لتربية الشخصية وترقيتها، فيجب أن يكون لكل شاب هواية، فالشاب الذي يبدأ بالتعلق بالقراءة واقتناء الكتب لا يلبث بعد سنوات أن يجد نفسه يملك مكتبة فاخرة يعتز بها، كما يستنير منها، والشاب الذي يهوى جمع التحف قد ينتهي بعد عشرين سنة مثلًا إلى اقتناء مجموعة تقدر بألوف الجنيهات، وهو في غضون هذا الجمع يدرس الفنون أو العاديات، والشاب الذي يهوى التجارة أو الهندسة الكهربائية أو الميكانبكية يجد نفسه بعد سنوات وهو أستاذ ناضج في ذهنه.
ويمكن للقارئ الحائر أن يسأل عن بعض المجلات الأمريكية التي تتخصص في معالجة الهوايات، وقد لا يجد فيها هوايته، ولكنها تفتح ذهنه لغيرها، ومهما تكن الهواية قليلة القيمة المالية فإنها كبيرة القيمة النفسية؛ لأنها تصالح العقل الباطن عن شهواته فتمنع التصادم بينه وبين العقل الواعي؛ وبذلك تتزن الشخصية وتستقيم وتنأى عن الانحرافات.
(٧) الدفاع عن قضية عادلة
خصصنا هذه الفصول لدراسة العيوب النفسية أو حتى الجسمية لتقوية الشخصية وترقيتها، وكما أن الألعاب الرياضية تُقوي العضلات الضعيفة، وتُكسب القامة العوجاء اعتدالًا، كذلك الرقص والخطابة والاجتماع المختلط وإجادة النطق واللغة والتمثيل والهواية؛ كل هذه تصلح ما اعوج من الشخصية وتُرقيها وتنميها.
ولكن يجب أن نكرر للقارئ أن أساس الشخصية هو المسئولية، وإذن لا معنى للشخصية في غير المجتمع؛ إذ هي قبل كل شيء صفة اجتماعية، وعلى ذلك يجب أن نقول: إن الدفاع عن قضية عادلة عامة يقدم لنا المرانة التي نحتاج إليها لتقويم الشخصية؛ لأنه يصل بيننا وبين المجتمع، ويحملنا مسئولية سامية، وهذه المسئولية نفسها تبعثنا على التفكير والدرس.
ونحن نقصد بالدفاع عن قضية عادلة عامة أن تكون لنا في حياتنا مثليات وأهداف عملية قريبة التحقيق، يستطيع أحدنا أن يحس أنه بنشاطه وخدمته يمكنه أن ينتهي منها إلى غاية مفيدة للمجتمع، وقد سبق أن تكلمنا في الباب السابق بالفصل التاسع عن «الأهداف والمثليات» وقلنا: إن الرجل الذي يصل إلى هذه الدرجة من الشخصية، ويجد نفسه مسوقًا إلى خدمة المثليات البشرية العالية يعد على القمة من حيث كمال الشخصية، والآن نقول: إننا إذا وجدنا شابًّا لا يسترشد في حياته بمثليات وأهداف فعلينا أن ننصح له بأن يخلقها، وذلك بأن يختار قضية عادلة عامة يُدافع عنها، ويجعل من هذا الدفاع مرانة تُرقي شخصيته، وهو بالطبع يجب أن يختار هذه القضية بحيث تأتلف وشخصيته.
وفي بيئتنا المصرية مجال كبير لهذا النشاط؛ لأننا نحمل تراثًا ثقيلًا من التقاليد الحائرة والمظالم المركبة الاجتماعية والاقتصادية والعائلية، بحيث ينشأ شبابنا وهو يواجهون الدنيا في خوف، كما أن العصر الحديث قد غزانا على غير استعداد، وأفشى بيننا فوضى اقتصادية عممت الفقر، بل الحرمان في عدد كبير من السكان، وجر هذا الحرمان في أثره كوارث من الجريمة والمرض والبؤس، والشاب الذي يأخذ على عاتقه أن يكافح هذه المظالم أو يزيح عنا أعباء التقاليد الثقيلة يجد المرانة لترقية شخصيته؛ لأنه يحمل رسالة تكون له بمثابة العنوان في المجتمع، ينتسب إليها ويُعرف بها، وبمثابة الحافز على الدرس والرقي الثقافي، والقضية العادلة هي «هواية» سامية على المستوى العالي، ومرانتها نفسية أكثر منها جسمية، والشاب الذي ينتمي إلى جمعية الرفق بالحيوان، ويجمع لها التبرعات، ويشترك في اجتماعات أعضائها، ويقرأ تقاريرها، ويزور مستشفياتها؛ يكسب كثيرًا من هذه الرياضة النفسية، ولكن هناك ما هو أرقى وأعم فائدة وأبعث على النشاط النبيل: مكافحة الاستعمار أو التشرد أو التعطل أو الخمر أو الفقر أو الإجرام، ومثل: منح المرأة الحقوق المدنية والدستورية، ومثل: تحقيق الاستقلال لمصر، أو حتى الهند أو ترقية الزنوج أو إلغاء الحروب أو تأييد عصبة الأمم أو الدعوة للسلم.
فكل من هذه الشئون يعد قضية عادلة عامة، والشاب الذي يشتغل بها يجد نفسه مضطرًا إلى الدرس؛ لكي يعرف الأسباب والنتائج، فهو يترقى في ثقافته، وقد يحمله نشاطه على الخطابة للدعاية، فيجد مرانة أخرى تُكبِّر شخصيته، ثم هو يتصل بالمجتمع في أسمى همومنا وأشرفها، فيحمله الاختلاط على ألوان أخرى من الرقي، وهو يحس مسئولية عالية في الدفاع عن إحدى هذه القضايا العامة.
ونحن هنا إزاء مثليات وأهداف، ولكنها قريبة الغاية ممكنة التحقيق، تصل إلى قلب الجمهور وتثير اهتمامه، فالمشتغل بها يحس أنه نافع للمجتمع، وأنه يكبر بمقدار ضخامة المسئولية التي يتحملها، وأنه يدرس ويوالي التعرف إلى طبقات وأفراد من المجتمع تزيد ذهنه ذكاء ونورًا، ويجب أن نذكر الصفة الاجتماعية للذكاء مثل: الشخصية، فالمشتغل بأحد الشئون العامة يجد التدريب لذهنه وشخصيته معًا.
وإذا كان الشاب لا يجد من الظروف المحيطة به ما يبعث نشاطه لهذه الخدمة الاجتماعية، فعليه أن يخلق هذه الظروف، وعليه أن يقنع بالميدان الصغير يبتدئ به ثم ينتهي منه إلى ميدان أكبر، فالشاب الذي يجمع الصبيان في الشارع الذي يسكن فيه ويعلمهم ساعة، ويخصهم بفناء للرياضة واللعب والتسلية، يجد في هذا الميدان الصغير مجالًا للخدمة العامة سوف يكبر وينمو، كما أن شخصيته هو ستكبر وتنمو مع هذه الخدمة، ومن الهدف الصغير نصل إلى الأهداف الكبيرة.
(٨) تلخيص
في الفصول الثمانية السابقة نظرنا إلى الشخصية من حيث إنها مرانة يمكننا أن نتمرنها فننميها ونرقيها، وبما أن الشخصية تحتاج إلى الاجتماع وإلى المسئولية، باعتبارهما الركنين الأصلين في نموها، فإننا بدأنا بشرح قيمة الاجتماع عامة والاجتماع المختلط خاصة، ثم بينا أثر المناقشة والإلقاء واللغة، وقيمتها جميعًا اجتماعية، ثم عقدنا فصلان للرقص وللتمثيل من حيث إنه مرانة للشخصية الجامدة أو المرتبكة، وجميع هذه الفصول ترمي إلى جعل الشاب اجتماعيًّا على شيء من المهارة في اللغة والإيماءة والحديث مع الرشاقة والبشاشة، ولكن العمود الفقري للشخصية هو المسئولية، وقد عقدنا ثلاثة فصول عن إيجاد المسئولية باعتياد عادات جديدة وباتخاذ هواية، وأخيرًا — وهو الأهم — الدفاع عن قضية عامة عادلة إلى مثليات عاليه.
وهذه الأنواع من المرانة جديرة بترقية الشخصية مهما كان ضعفها في الأصل.