الفصل الأول
وَفَدَت إلينورا كوهين إلى هذا العالم في وقت متأخر في يوم خميس من صيف عام ١٨٧٧.
وسيذكر أولئك الذين استيقظوا مبكِّرًا في صبيحة ذلك اليوم أنهم رأوا سِرْبًا من الهداهد البنفسجية والبيضاء تُحلِّق فوق المَرْفأ؛ حيث تحوم في حلقاتٍ ثم تندفع فجأةً كالأسهم كما لو كانت تحاول أن تَرْتِق خَرْقًا في السماء. وسواءٌ أباءت محاولاتها بالفشل أم حالفها النجاح، فإنها كانت تُبطئ انقضاضها في نهاية المطاف وتستقرُّ في أنحاء المدينة وعلى أعتاب دار القضاء، وعلى السقف المصنوع من القِرْمَيْد الأحمر الذي يعلو فندق كونستانتسا، وعلى برج الناقوس الذي يعلو أكاديمية القديس باسيليوس. جثمت الطيور في حجرة الإضاءة بالمنارة، وعلى مِئذنة الجامع الحجريَّة الثُّمانية الشكل، وعلى السطح الأمامي لسفينة بُخارية تنفُث دخانها في الأفق الصافي. كَسَت الهداهد المدينة مثل الجليد، وانتقلت عبر مزاريب المطر الناتئة من قصر الحاكِم، وغطَّت القُبَّة المطليَّة بالذهب للكنيسة الأرثوذكسية. وفي الأشجار المحيطة بمنزل يعقوب وليئة كوهين بدا السِّرْب في حالة جَذَل ذات طابع خاص؛ إذ أخذت الهداهد تغرِّد، وترفرف بأجنحتها، وتقفز من غصن إلى غصن كما لو كانت جَمْعًا من الفلَّاحين المصطَفِّين على جوانب شوارع العاصمة بُغيةَ مشاهدة أحد العروض الإمبراطورية. وكثيرًا ما يُنظَر إلى الهداهد على أنها فَأْلُ خير، لولا الأحداث المشئومة التي تزامنت مع مولِد إلينورا.
ففي وقت مبكِّر من صباح ذلك اليوم، تحرَّكت الفرقة الثالثة من سلاح الفرسان الملكيِّ التابع للقيصر ألكسندر الثاني من الشمال، وتجمَّعت على قِمَّة التلِّ المُطِلِّ على ساحة المدينة، وقد تألَّفت الفرقة من: ستمائة واثني عشر رجلًا، وخمسمائة وسبعة وثلاثين جوادًا، وثلاثة مدافع، وأربعٍ وعشرين خيمة رمادية باهتة من قماش القُنْب، ومطبخ مَيْداني، وعلمِ قَيْصر المخطَّط أفقيًّا باللونين الأصفر والأسود. وطوال أسبوعين كانوا يتنقَّلون معظم الوقت ولا يحصلون إلا على قليل من الطعام والراحة. ساروا وسط مُدُن كيليا وتولتشيا وباباداج حيث مستنقعات التوت في دلتا الدانوب وحقول القمح الشاسعة التي تُرِكت من غير زَرْع منذ الشتاء، وكان مقصدهم النهائي هو مدينة بلفن، وهي مركز تجاريٌّ في قلب سَهْل الدانوب؛ حيث كان المشير عثمان باشا وسبعة آلاف من القوات العثمانيَّة يحاولون التصدِّي لهم. إنها ستكون معركة مهمَّة، بل وربما نقطة تحوُّل في مسار الحرب، لكن بلفن كانت لا تزال على مسيرة عشرة أيام أخرى، وشَعَر رجال الفرقة الثالثة بالتَّملمُل والاضطراب.
وقد تُرِكَتْ كونستانتسا، التي كانت ترقد تحت أقدامهم كأنها وَلِيمة جاهزة، شبه عارية تمامًا من الحراسة؛ فعلى بُعْد مسافةٍ لا تزيد على اثني عشر مترًا من حافة قمَّة التل ترقد أطلالُ جدارٍ رومانيٍّ قديم. في القرون الماضية، حَمَتْ هذه الأحجارُ ذات اللون الورديِّ الباهت المدينةَ من الخنازير البرية وقُطَّاع الطرق والبربر التراقيين الذين كانوا يحاولون باستمرارٍ شنَّ الغارات على المَرْفأ. وكان الجدار الذي أعاد الرومانيون بناءه مرتين، ثم البيزنطيون مرةً أخرى، في حالةِ دمارٍ شامل عندما وصل العثمانيون إلى كونستانتسا في نهاية القرن الخامس عشر. وهكذا تُرِك مُقوَّضًا؛ فقد انتُزِعَت أفضل أحجاره لاستخدامها في بناء الطرق والقصور وجدران أخرى حول مدنٍ أخرى أكثر أهميةً من الناحية الاستراتيجيَّة. ولو كان أحدهم قد فكَّر في ترميم الجدار، لربما حمى المدينة من وحشيَّة الفرقة الثالثة، لكنه في حالته الحاليَّة لم يكن سوى حجرِ عثرةٍ.
طوال هذا الصباح حتى وقتٍ متأخر من فترة ما بعد الظهيرة ورجال الفرقة الثالثة يعيثون فسادًا في شوارع كونستانتسا؛ يُحطِّمون نوافذ المتاجر، ويروِّعون الكلاب الضالَّة، ويدمِّرون كلَّ ما تطوله أيديهم من تماثيل. أشعلوا النيران في قصر الحاكِم، ونهبوا دار القضاء، وحطَّموا الزجاج الملوَّن الذي يعلو مدخل أكاديمية القدِّيس باسيليوس. نُهِب مَتْجر الصائغ بكلِّ ما فيه؛ وسُرِقت كل محتويات حانوت الإسكافي؛ وبُعثِر البيضُ المكسور والشاي في مَتْجر العادِيَّات، وحطَّموا أيضًا الواجهة الأمامية لمَتْجر السجَّاد الخاص بيعقوب كوهين، وثقبوا الجدار بحِرابِهم. وباستثناء الكنيسة الأرثوذكسية التي وقفت شامخةً في آخر اليوم لم يمسَسْها أذًى، كما لو كان الله نفسه قد حماها، كانت المكتبة هي البِناية المحليَّة الوحيدة التي نجت سالمةً من وحشيَّة الفرقة الثالثة؛ لا لأنهم يُكنُّون تقديرًا خاصًّا للمعرفة، وإنما يعود الفضل كلُّه في نجاة مكتبة المدينة إلى شجاعة حارِسِها؛ فبينما انكمش بقيَّةُ سكان المدينة رِعْدةً تحت فِراشهم، أو جَثَموا معًا في الطوابق السفليَّة وفي خزانات الملابس، وقف أمينُ المكتبة في جُرْأة على الدَّرَج الأمامي لمملكته، حاملًا نسخة مُهَلْهَلة من رواية «يفجييني أونيجين» فوق رأسه، كما لو كانت تميمةً سحرية. ومع أن رجال الفرقة الثالثة كانوا في الغالب على جهل تامٍّ بالقراءة والكتابة، فقد استطاعوا تمييز شكْلِ حروف لغتهم الأصلية السِّيريلية، وكان هذا على ما يبدو كفيلًا لهم كي يعفوا عن المبنى ويُفلِتوه من براثنهم.
في تلك الأثناء، وفي منزل حجريٍّ صغيرٍ رماديِّ اللون بالقرب من قِمَّة إيست هيل، اشتدَّت آلام المخاض بليئة كوهين، وفاحت غرفةُ المعيشة برائحةِ خُلاصة أزهار الويتشهازل والكحول والعَرَق. وكان صندوق البياضات مفتوحًا، وعلى الطاولة كَوْمةٌ من أغطية الأسرَّة المُلطَّخة باليود. ولمَّا كان الطبيب المُدرَّب الوحيد في المدينة مشغولًا في مهمَّة أخرى، تولَّى رعاية ليئة قابِلتان تتاريَّتان تَقْطُنان قريةً مجاورة. لقد أحضرتْهما العنايةُ الإلهية إلى عتبة منزل كوهين في اللحظة التي كانت ليئة في أمسِّ الاحتياج إليهما؛ فقد قرأتا العلامات وقالتا في ذلك: بحرٌ من الجياد؛ ومَحْفِل من الطيور؛ والنجم الشمالي بمحاذاة القمر. وذكرتا أن هذه كانت نبوءةً تنبَّأ بها ملكهم الأخير وهو يُحتضَر، لكن لم يكن أمامهما وقتٌ للشرح. طلبت القابِلتان أن يصْطَحِبهما أحدٌ إلى غرفة النوم، ثم طلبتا أغطيةَ أسرَّة نظيفة وكحولًا ومياهًا مَغليَّة، ثم أغلقتا الباب وراءهما؛ وكل عشرين دقيقة تقريبًا تُهَرْوِل صغراهما مندفعةً خارج الغرفة حاملةً وعاءً فارغًا أو كومةً ملْءَ الذراعين من الأغطية المُستعمَلة. وبخلاف هذه الرحلات القصيرة الخاطفة، ظلَّ الباب مغلقًا.
ولمَّا لم يكن بيدِ يعقوبَ زوجِ ليئة ما يفعله، أو شيء آخر يشغله، فقد استسلم للقلق. وشَغَلَ يعقوبُ — الذي كان ضخم البنية أزرق العينين، ذا شعرٍ أشعث فاحم السواد — نفسَه بِنَتْف أطراف لِحْيته، وخلط إيصالاته، وتعبئة غَلْيُونه. وبين الحين والآخر تتناهى إلى مسامعه صرخةٌ، أو بعض الكلمات المكتومة التي تحثُّ على الدفع، أو صوتُ إطلاق النار والجياد الآتي من بعيد. ولم يكن يعقوب رجلًا مُتديِّنًا بدرجة خاصَّة أو مؤمنًا بالخرافات، ومع ذلك هَمْهَمَ بما استطاع أن يتذكَّره من صلوات خاصَّة بولادة الأطفال، وقَرَع ثلاث مرات على الخشب كي يطرد العين الشريرة. وقد حاول قُصارى جهدِه ألَّا يستسلم للقلق، لكن ماذا عسى أبٌ ينتظر قُدُوم مولودِه الجديد أن يفعل غير ذلك؟
وبعد الغَسَق مباشرةً، في تلك الساعة البالغة الرِّقَّة التي تتحوَّل فيها السماء من اللون البنفسجي إلى الظلام، صمتت الهداهد، وتوقَّف إطلاق النار، وخفَّ وقْعُ حوافر الجياد حتى توقَّف تمامًا؛ وكأنما العالم بأَسْرِه توقَّف ليلتقط أنفاسه. في تلك اللحظة خرج من غرفة النوم صوتُ تنهيدة مُتعَبة، عَقِبها صوتُ صَفْعة على جسدٍ ثم صرخةُ المولود الجديد. عندئذٍ ظهرت القابلة الأكبر سنًّا، السيدة داماكان، حاملةً صُرَّةً تحت ذراعها. وباستثناء صوت الرضيع الخافت، غرقت الغرفةُ في الصمت.
همس يعقوب: «حمدًا لله!» ثم مال ليُقبِّل ابنته في جبهتها. كانت الطفلة رائعة، غَرِيرة، تتَّقِد بالحياة الجديدة، ثم مدَّ يده ليحملها بين ذراعَيْه، ولكن القابلة مَنَعَتْه.
قالت القابلة: «أيها السيد كوهين.»
رفع كوهين عينَيْه إلى خطِّ فمها الدقيق.
«ثمة بعض المتاعب.»
لم يتوقَّف نزيف ليئة، وكانت واهنةً بدرجة خطيرة. وبعد ساعات قلائل فحسب من الولادة أسلمت الروح. وكانت الكلمة الأخيرة التي تفوَّهت بها هي اسم مولودتها، وما إن نطقت بها حتى انفتحت السماء.
كان هطول المطر كما لم يشهده أحدٌ من قبلُ في كونستانتسا؛ وابلًا لا نهائيًّا من الأمطار والرعد. تدفَّقت الأمطار في صورة سيولٍ وأمواجٍ وصفحاتٍ من المياه، فأخمدت النيران، وطمست معالم الطرق، وغلَّفت ساحة المدينة بغطاء من الدخان الرطب. وعندما بلغت العاصفة أَشُدَّها، أوت الهداهد إلى فتحات الأشجار اليابسة وتَجاوِيفِها. أما الفرقة الثالثة فشدَّت الرِّحال جنوبًا صَوْب بلفن، حاملين غنائمهم تتدلَّى مثل أعشاش العناكب على ظهور جيادهم. أمطرت السماء طوال أربعة أيامٍ اعتنت فيها السيدة داماكان وابنة أخيها بالمولودة الجديدة. ودُفِنت ليئة في قبر جماعي يضم اثني عشر رجلًا تقريبًا قُتلوا أثناء محاولاتهم الدفاع عن مُمْتلكاتهم، وملأ يعقوب المنزل عويلًا. وبنهاية الأسبوع، كانت النُّفايات قد سدَّت المَرْفأ، واكتسى ميدان المدينة برماد رَطْب.
لكن الحياة لا بدَّ أن تمضي، فعندما انقشعت السُّحب أخيرًا، استقلَّ يعقوب كوهين عربةً إلى تولتشيا، وبعث ببَرْقِيَّتين؛ إحداهما إلى أخت ليئة في بوخارست، والأخرى إلى صديقه وشريك أعماله في إسطنبول، وهو رجل تُرْكي يُدعَى مُنصِف باركوس الذي حصل مُؤخَّرًا على لقب البكويَّة. وفي البرقية الأولى أخبر شقيقة زوجته بالمأساة، وطلب منها أن تقدِّم له ما في استطاعتها من مساعدة. أما البرقية الثانية فقد بعثها بناءً على طلبٍ من السيدة داماكان يُوصِي فيها بتعيينها هي وابنة أخيها في أي وظيفة شاغرة ربما تكون متاحةً في منزل مُنصِف بِك؛ إذ نَوت السيدة داماكان وابنة أخيها — كما الحال مع معظم التتار الذين يقطُنون القرى المحيطة بكونستانتسا — الرحيلَ عما قريب والتطلُّعَ إلى حياة جديدة في إسطنبول؛ حيث يلقى المسلمون المزيد من الحفاوة والترحاب. وحتى يأتي ذلك الحين، وافقتا على المكوث مع يعقوب ومساعدته بأقصى استطاعتهما.
بعد بضعة أيام وصل الردُّ من مُنصِف بِك، الذي أشار فيه إلى أنه يُسْعده استقبال السيدة داماكان، وأنه كان في الواقع يبحث عن خادمة جديدة.
أما الردُّ على برقية يعقوب الثانية فقد وصل بعدها بأسبوع، بمجيء روكساندرا؛ الأخت الكبرى لزوجته ليئة. كانت الساعة السادسة مساءً عندما توقَّفت عربتها في المَرْفأ. وكانت روكساندرا، تلك المرأة النحيلة التي ترتدي ملابس السفر وقبعة من اللَّبَّاد الأخضر الداكن، ذاتَ أنفٍ حادٍّ وذقن صغير وشامة في منتصف وجنتها اليسرى بدت كما لو كانت قِمَّة بركان وشيك الاندلاع. ترجَّلت روكساندرا من العربة وفي يسراها حقيبة سفر، وفي يمناها برقية مجعَّدة مبلَّلة بالعرق، ثم حاسبت السائق وبدأت تشقُّ طريقها أعلى التل نحو منزل زوج أختها.
وبينما كانت روكساندرا ترتقي الدَّرَج الأمامي من منزل كوهين، عدلت قبعتها ثم حدَّقت إلى الوراء في لمعةِ رَوْثِ الطيور الذي يغطِّي المَمْشى الأمامي، وحَمْلَقت في سِرْب الهداهد البنفسجية والبيضاء الجاثم على شجرة الدُّلْب فوقها، ثم التفتت نحو الباب وقَرَعَتْه. ولمَّا لم يُجِبْ أحدٌ، قرعت مرةً أخرى وهي تميل برأسها للأمام كي تُنْصِت إلى صوت أي حركة بالداخل، ومرةً أخرى لم يكن مِن مُجِيب هناك. ولأنها لم تكن ممَّنْ ينتظرون بالخارج في الطقس البارد، فقد عدلت قبعتها وسمحت لنفسها بالدخول.
كان منزل كوهين بأكمله لا يزيد على حجرة الطعام الموجودة في المنزل الذي قضت فيه روكساندرا وليئة طفولتهما في بوخارست. وكان يتألَّف من ثلاث غرف نوم، وحجرة للمؤن، ومطبخ، وغرفة معيشة جدرانُها عاريةٌ ما خَلا لوحة فحمية صغيرة لليئة فوق المِدْفأة. وفي أحد أركان الغرفة الرئيسة خِزانةٌ ومائدة طعام مَصنُوعة من خشب البتولا المُحبَّب تُغطِّيها كَوْمة من الأطباق المُتَّسِخة، وفي الركن الآخر زوجٌ من المقاعد الجلديَّة البالية قُبالة المِدْفأة. وكانت أرضية غرفة المعيشة غارقةً في بحر من السجاد الشرقي المفروش دون اعتبار للألوان أو الطِّراز، بل أحيانًا تجد ثلاثًا من السجاد بعضها فوق بعض، كما لو كانت مدينةً قديمةً مبنيَّة على أنقاض حضارات أَقْدم. وبعد أن تخطَّت روكساندرا العتبة في حذر شديد، أنزلت حقيبة سفرها، ثم أغلقت الباب الأماميَّ خلفها.
نادت روكساندرا: «مرحبًا، هل من أحد هنا؟»
كان يعقوب جالسًا طوال الوقت عند الطاولة ورأسه بين ذراعَيْه خلف كَوْمة من الأوراق. وعندما وقف ليُحَيِّيها، كان واضحًا كم هو في أمسِّ الاحتياج إلى مساعدة روكساندرا؛ فقد كان مِعْطفه الطويل مُلطَّخًا ببُقَعٍ في عِدَّة أماكن، وأطلق لِحْيته في إهمال واضح، وكانت عيناه شديدتَي الحُمرة.
قال كوهين مدهوشًا لدى رؤيتها في غرفة معيشته: «يا روكساندرا، اجلسي من فضلك.»
سحبت روكساندرا مقعدًا عند رأس الطاولة وجلست.
ثم قالت وهي تضع البرقية على المائدة مُبْرهِنةً بها على سبب مجيئها: «لقد طلبتَ المساعدة، وها أنا ذا.»
أجاب يعقوب: «بالطبع. كيف حالك؟»
أجابت: «بالنسبة إلى الظروف الحاليَّة، فأنا بخير. أشكرك. لكن الرحلة كانت طويلة، وأرغب بشدة في تناول قَدَح من الشاي.»
بينما كانت روكساندرا تتحدَّث، اندفعت السيدة داماكان بظهرها من المطبخ يتدلَّى من فمها خيط، حاملةً إلينورا في ثَنيَّة ذراعها وهي مُقمَّطة. وكانت إلينورا مستغرِقةً في النوم ورموشها ترفرف مثل أجنحة حشرة اليَعْسُوب، وقد قبضت يدَيْها في سلام عند منتصف صدرها.
قالت روكساندرا وهي تميل فوق اللِّفافة: «لها فمُ أمِّها نفسه.» ثم نظرت إلى أعلى وقالت: «هذه مُرْضِعتها على ما أعتقد.»
ردَّ يعقوب: «نعم، بشكلٍ ما، لقد حضرت السيدة داماكان وابنة أخيها ميلادَ إلينورا، وكان من كرم أخلاقهما مساعدتي على مدار الأسابيع القلائل الماضية.»
قالت روكساندرا: «حسنًا، لقد فهمت. أنتِ السيدة دالامان، أليس كذلك؟ هل تمانعين في إعداد قَدَح من الشاي لي؟ شاي ثقيل من فضلك. لقد كانت رحلةً طويلةً.»
جلست روكساندرا على مقعدها مرةً أخرى وراقبت السيدة داماكان وهي تخرج من الغرفة.
قالت روكساندرا: «إني أُفضِّل بصفة عامة الدخول في صميم الموضوع مباشرةً، سواء أكانت هذه هي الطريقة الأكثر تهذيبًا أم لا. وهذا أمرٌ ينبغي أن تعرفه عنِّي.»
أَوْمأ يعقوب برأسه موافقًا.
استهلَّت روكساندرا كلامها: «لقد تسلَّمتُ برقيتك، وها قد جئتُ لتقديم المساعدة التي طلبتها. وللقيام بهذا الدور، فإنني مُستعِدَّة أن أمكث في كونستانتسا لمدة شهر على الأقل للمساعدة في المهام المنزلية وما إلى ذلك.»
ثم أدارت نظرها في أرجاء غرفة المعيشة.
«لقد قلتَ إن السيدة دالاماتيان سوف تغادر قريبًا، أليس كذلك؟»
أجاب يعقوب: «بلى، هي وابنة أخيها ستنتقلان إلى إسطنبول.»
دمدمت روكساندرا: «مدينة قذرة مليئة بالأتراك.»
قال يعقوب: «هما أيضًا من الأتراك؛ التتار على وجه التحديد.»
قالت روكساندرا: «حسنًا، لا يعنيني كُنْهُهما. ستغادران قريبًا، أليس كذلك؟»
«إنهما تنويان الرحيل في نهاية هذا الأسبوع، مع أن استعداداتهما ضئيلة إلى حدٍّ ما.»
قالت روكساندرا: «كما ذكرتُ، يُسعدني أن أمكث هنا لمدة شهر، أو ربما حتى شهرين، لتقديم المساعدة المطلوبة. ولكن إذا كنتَ تنتظر منِّي أن أمكث أكثر من بضعة أشهر، فأعتقد أننا سنُضطر إلى أن نتزوج.»
لطالما كانت روكساندرا الفتاة الإيثاريَّة والابنة البارَّة؛ فقد اعتنت بأبوَيْها أثناء مرضهما وشيخوختهما حتى وفاتهما، بينما ذهبت أختها الصغرى إلى المدرسة لتتلقَّى تعليمها وتزوَّجت. وبحلول الوقت الذي مات فيه أبوها، منذ ما يزيد قليلًا على العام، كانت روكساندرا قد اقتربت على نحو يدعو للقلق من سنِّ الثلاثين، وقد آلمتْها الحياةُ وصارت شديدةَ الامتعاض. وعلى الرغم من أنها ورِثتْ ثروةً هائلة ستخوِّل لمن يتزوَّجها الحصولَ على مَهْر كبير، فإنها لم تستطع العثور على الزوج المناسب. ولم تكن تطمح في هذه المرحلة في إقامة علاقة رومانسيَّة، وإنما كل ما أرادته هو أن يكون لها بيت خاصٌّ بها، وزوجٌ يَصْلُح كي تتبادل معه الدعابات بعد العشاء.
ردَّ يعقوب بعد طول صمتٍ: «هل تمانعين إذا احتفظتُ بردِّي حتى آخذَ بعض الوقت للتفكير؟»
«كلا البتة.»
«وماذا عن أغراضك؟ أهذا كلُّ شيءٍ؟»
ابتسمتْ روكساندرا ونظرت نحو الصندوق الصغير ذي الكُسْوة الجلدية الموضوع أمام ساقَيْها.
قالت: «لا داعيَ للقلق بشأن أغراضي، لقد اتخذتُ ترتيباتي بالفعل.»
وفي صبيحة اليوم التالي وصل من بوخارست صندوقا أمتعةٍ كبيران، وبدأت روكساندرا تتصرَّف على سجيَّتها كأنها في منزلها؛ فبعدما أفرغتْ محتويات الصندوقَيْن في غرفة النوم الثانية، استعانت بمساعدة ابنة أخي السيدة داماكان في تنظيف الأسطح وغَسْل النوافذ ونَفْض السجَّاد وإزالة الأتربة عن خِزانات الكتب وإزالة الرماد من المِدْفأة. وعندما فرغتا من هذه المهام، غسلت روكساندرا المَمْشى الأمامي، وحاولت ترويع سِرْب الهداهد التي اتخذت من شجرة الدُّلْب المجاورة للمنزل مأوًى لها. ولكن كلما لوَّحت بذراعَيْها وألقت بالحجارة، تمسَّكت الهداهد بمأواها. وبعدها بثلاثة أيام، كان المَمْشى مُغطًّى بروث الطيور مرةً أخرى. ورغم هذا الإزعاج البسيط، استقرَّت روكساندرا في ارتياح في وضعها الجديد. كانت تطبخ وتنظِّف، وعندما كانت السيدة داماكان وابنة أخيها مُنْهَمِكتَيْن في الإعداد لرحلتهما جنوبًا بطول ساحل البحر الأسود، اعتنت بإلينورا. وعندما رحلت القابِلتان بنهاية الأسبوع الثاني لمجيء روكساندرا إلى كونستانتسا، تولَّت الشئون المنزلية بالكامل. وبنهاية الأسبوع الثالث، قَرَع يعقوبُ بابَ غرفةِ نومها، وقال إنه يوافق على الزواج منها؛ لأن في ذلك مصلحةَ الجميع، والحل الأمثل في ضوء الظروف الراهنة.
أُقِيمَت مراسم الزواج في تولتشيا؛ إذ كان معبد كونستانتسا لا يزال قَيْد الإصلاح. وقف يعقوب وروكساندرا في مقدِّمة الغرفة مع الحاخام، وهو شابٌّ ذو لحية حمراء كبيرة. وشهد على زواجهما الأخوان الأصغران للحاخام، وفي مؤخِّرة الغرفة كانت إلينورا تصرخ بين ذراعَيْ زوجة الحاخام. وبعد مراسم الزواج تفقَّد يعقوب بعض الأعمال في تولتشيا، ثم استقلَّا عربةً في الساعة السادسة للعودة إلى كونستانتسا، والهداهد تتبعهما على مسافة معقولة فوق رأسَيْهما.