الفصل الحادي عشر
انطلق صوت جرس حديدي مكتوم من برج الكنيسة الذي يعلو كلية روبرت، مُوقِظًا الكاهن جيمس مولر من غفوته في فترة الظهيرة بينما يتردَّد صداه عبر حوائط منزل الكاهن. كان ذلك جرس الغداء الأول، حيث يُقرَع ثلاث مرات مشيرًا إلى أن طلاب المدرسة الإعدادية عليهم أن يكونوا في المَقصِف أو في طريقهم إليه. تثاءب الكاهن في مقعده الجلدي البارد الذي غلبه النعاس عليه، وحاول أن يتذكر تفاصيل خُطَّته لهذا المساء. كان مدعوًّا على العشاء لدى مُنصِف بِك، هذا كل ما يذكره، ولكنه لا يتذكر موعد الدعوة. مسح فمه بظهر يده، ونهض واقفًا، واتجه إلى الجانب الآخر من مكتبه ذي الأرضية الحجرية، ثم جلس في كرسيِّه، وأخذ يقلِّب أوراقه للحظات قبل أن يجد خطاب البِك.
عزيزي الكاهن جيمس مولر
أكتب إليك كي أدعوك لتناوُل العشاء يوم الخميس القادم بصحبتي أنا والآنسة كوهين. لا بدَّ وأنك تدرك أن الآنسة كوهين تعيش حالة من الحزن والبؤس الشديدَيْنِ عقب وفاة والدها، ولكنني على يقينٍ من أنها سوف تسعد باستقبالك. برجاء أن تعطي الردَّ للساعي الذي يحمل إليك هذا الخطاب، فلديه تعليمات بأن ينتظر حسبما تدعو الحاجة. يُقدَّم العشاء في السابعة والنصف.
إنَّ السابعة والنصف موعدٌ مبكِّر لتناول العشاء، ولكن لا يمكن تغيير الموعد الآن. بلَّل حافتَي أصبعيه الوسطى والسبَّابة، ورفع الخطاب لأعلى نحو شعاع الضوء الأصفر الصادر من مصباح مكتبه وتفحَّصه بمزيد من الدقة. كانت العلامة المائية من مكتبة فاخرة في روما، ورغم أن الخطاب حديثٌ فإن الورق نفسه قد أصابه الاصفرار عند الحواف. ربما كان البِك أقلَّ ثراءً مما يُفترَض عمومًا عنه. وعلى أي حال، فإن تلك الدعوة تُعَد ضربة حظٍّ ممتازة؛ فمع حادث السفينة ووفاة نائب القنصل الأمريكي والمخاوف المستمرة من التمرُّد على الدستور، أصبح مُنصِف بِك شخصًا شديد الأهمية لأجهزة المخابرات العثمانية والأمريكية. وسوف يسعد الصدر الأعظم ووزارة الحربية بالحصول على تقرير حول ظروف البِك العائلية. لم يكن أحدٌ يشك فيه من أي ناحية سوى مجموعات القراءة التي يُنشئها وإثارة الطبقات المثقَّفة عن طريق محاضراته الحماسية عن روسو، ولكن تحت وطأة الضغط السياسي المتزايد لاكتشاف السبب وراء الحادث، يجب تأمل أدق التفاصيل بما فيها تلك التي لا تحمل أي قدرٍ من الخطورة.
بعد أن حدَّق الكاهن إلى الخطاب بضع لحظات إضافية، نحَّاه جانبًا وأخذ يتصفَّح كومة من المستندات التي كان قد حصل عليها منذ بضعة أيام في حفل عشاءٍ في ضيافة قائد البحرية الألماني الأميرال كروب. لم يبدُ أن تلك المستندات ذات أهمية خاصَّة؛ فهي بضعة خطابات وصكُّ قطعة أرض خارج شتوتجارت وبعض الملاحظات على هوامش صحيفة. ولكن لمَّا كانت لغته الألمانية ضعيفة، فقد رأى الكاهن أنه من الأفضل إعادة النظر فيها مستعينًا بمعجمٍ قبل أن يتخلَّص منها، فالمرء لا يفهم أبدًا تلك الأمور؛ فقد تكون تلك الملاحظات على هامش المقال في الصحيفة إشارةً ضِمْنية إلى برنامجِ تدريبٍ بحريٍّ سريٍّ، أو خطط لمدِّ سكك حديدية.
زفر الكاهن أنفاسه وطَقْطقَ رقبته في الاتجاهين. بالإضافة إلى مشروع الترجمة الصغير هذا ومسئولياته المعتادة في كلية روبرت، ثمة عدد من المهامِّ غير الضرورية التي بحاجة إلى الاعتناء بها على المدى القريب. كانت غرفة مكتبِه مثالًا للفوضى، ولم تكن كتبه مُرتَّبة ترتيبًا أبجديًّا، ومكتبه مغطًّى بعشرات الأكوام من الأوراق التي تستحق كلٌّ منها مراجعة دقيقة. غمس قلمه في المحبَرة التي تعلو المكتب، وكتب قائمةً بالمهام التي يتعيَّن عليه إنجازها خلال الأيام الثلاثة المقبلة، ثم وضع القائمة في وسط مكتبه راضيًا عن إنجازه وذهب كي يُعِدَّ نفسه للعشاء.
عندما انطلق الكاهن مولر في طريقه أخيرًا كانت الشمس تغمس اللون البرتقالي في مجموعة من أشجار الصَّنَوْبر خلف لو بيتي شون دو مورت، أو ما يُعرَف بطريق الموت الصغير. توقَّف عند حافة نتوء جبليٍّ يطلُّ على البوسفور، وحجبَ وَهَج الشمس التي تتجه نحو الغروب عن عينيه، وراقب سفينةً حربية ألمانية مُسلَّحة وهي تتجه ببطْء نحو بحر مرمرة. وتحته مباشرةً تطلُّ من أسفل النتوء الجبلي أنقاضُ مبنى قلعة روميل، وهو البرج الذي فَرَضَ منه محمد باشا الحصارَ على إسطنبول منذ أكثر من أربعة قرون. كان أُمَناء كلية روبرت قد اختاروا موقعها بعناية، ورغم أن لائحة الكلية تَفْرِض عليهم «تعليم شباب الإمبراطورية العثمانية وإرشادهم إلى أساليب العالم الحديث»، فلم يكن سرًّا أن العديد من الأمريكيين العاملين في كلية روبرت يعملون تحت إمرة وزارة الحربية. ومن وجهة نظر الكاهن، لم يكن ذلك تناقُضًا في المصالح أو النوايا؛ فإذا أمكن للمرء أن يخدم بلاده في الوقت الذي يعلِّم فيه أبناء الدول الأخرى، فذلك أفضل وأفضل.
التفَّ طريق الكاهن مولر وهو يهبط التل مرورًا بمقبرة عتيقة أفسدتها الجاذبية. كان مشهدًا مروِّعًا، شواهد القبور الضيقة التي أصبحت مبهمة بمرور الزمن، وكلٌّ منها يعلوه حجر مكلَّل بعمامة صاحب القبر أو طربوشه. حاول قصارى جهده ألا يتخيَّل العظام الراقدة تحت قدميه، أو اللحم الذي كان يكسو تلك العظام يومًا ما، فحبس أنفاسه ومضى في طريقه هابطًا التل. وعندما ابتعد جيمس عن المقبرة، رأى منزل مُنصِف بِك وقد أصبح ظاهرًا للعيان، وهو منزل شديد الضخامة، فخم، عتيق، يطل على الماء، مطلي باللون الأصفر. لم يكن قد دخل هذا المنزل قط، ولكنه كثيرًا ما لاحظه من بُعد، وكان مرآه يذكِّره دائمًا بالفيل الذي ركبه ذات مرة في كلكتا في تجربة أصابته بالاستياء. وبينما كان يقترب، لاحظ أن المنزل مكلَّل بسرب من الهداهد الأرجوانية المتطابقة تقريبًا في اللون والعدد مع ذلك السرب الذي لاحظه على الرصيف البحري صباح الحادث. كان على يقين أنه قد رأى هذا النوع من الهداهد حتى من قبل الحادث، ولكنه لم يتذكَّر أين كان ذلك.
بالقرب من سفح الممَرِّ الخاصِّ توقَّف الكاهن كي يلتقط أنفاسه. مسح جبهته بمنديل، وألقى نظرةً على الكتاب المُهترِئ ذي اللونين الأحمر والذهبي، الذي قرَّر في اللحظة الأخيرة أن يُحضِره معه، وهو كتاب مُترجَم لهيرودوت. وبينما كان يتصفَّح الغلاف الداخلي للكتاب، نبح كلْبٌ ففزع الكاهن. كانت لحظةً ذات خصوصية، لحظةً لم يكن ليفكِّر فيها مرَّة أخرى لو لم ينظر عندئذٍ لأعلى ويرى إلينورا تراقبه من نافذتها. وعندما أدركت أنه رآها، لم تلوِّح بيدها أو تبتسم، ولم تتراجع بعيدًا، ولم تتظاهر حتى أنها تنظر إلى مكان آخر؛ بل استمرت تحدِّق إليه بنفس النظرة البسيطة الخاوية. كانت طفلةً فضوليَّة حقًّا. وظلَّا ينظران أحدهما إلى الآخر فترةً طويلة قبل أن يتوجَّه الكاهن كي يقرع الباب الأمامي.
قال كبير الخدم: «مرحبًا، أظنُّك الكاهن مولر، أليس كذلك؟»
«بلى.»
فقال وهو يمسك بالباب: «تفضَّل، سوف أخبر مُنصِف بِك بأنك قد وصلت.»
«حسنًا، أشكرك.»
على الرغم من الواجهة الخارجية المُبهْرَجة لمنزل مُنصِف بِك، كانت غرفة الانتظار في المنزل مُزيَّنة على نحو أنيق؛ حيث كانت مزيجًا مُصمَّمًا بعناية من طراز لويس السادس عشر والطراز العثماني الكلاسيكي. سوَّى الكاهنُ ربطةَ عُنُقه وألقى نظرة على الرُّواق الرئيس. ولعلَّ الجاسوس الماهر كان سينتهز تلك الفرصة كي يفتِّش بعض الأدراج، أو على الأقلِّ يفحص قُفْل الباب الأمامي. نظر حوله، وقام بمحاولة تَعُوزها الحماسةُ للبحث في كَوْمة بطاقات على مائدة استقبال الزائرين. لا شيء ذا أهمية هنا، رغم أن المرء لا يتوقَّع أن يترك عميلٌ سِرِّي بطاقةَ عمله هكذا. وعندما رفع الكاهن رأسه مرة أخرى كانت إلينورا تقف أعلى الدَّرَج تحدِّق إليه بتلك النظرة الخاوية التي تحمل اتِّهامًا خفيًّا. ورغم أنه كان واقفًا على بُعْد، استطاع أن يرى وجهها مهمومًا شاحبًا، وعينيها غائرتين في مَحْجِريهما مخضَّبتين باللون الأحمر. كانت تحمل في يدها اليمنى قلمًا وورقة، وهبطت الدرج بحذر يشوبه التوتُّر كما لو كانت امرأة عجوزًا.
أخذ الكاهن مولر خطوة نحو أسفل الدَّرَج، ورسم على وجهه تعبيرًا مُتعاطِفًا.
«إنني حزين لسماع نبأ وفاة والدكِ.»
ارتجف ذَقَن إلينورا قليلًا، ولكنها لم تقُلْ شيئًا.
فتابع الكاهن قائلًا: «كان رجلًا أمينًا، رجلًا فاضلًا، وكان يهتم لأمركِ كثيرًا.»
فلمست شفتيها بحافة أصبعها وهزَّت رأسها.
«لم تتحدَّث الآنسة كوهين منذ أن وقع الحادث.»
استدار الكاهن مولر على وقع الصوت، ورأى البِك واقفًا في مدخل الرُّواق الكبير.
«عندما ترغب في التعبير عن شيءٍ، فإنها تكتبه على ورقة.»
فقال الكاهن: «حسنًا.»
«ليس موقفًا مثاليًّا، ولكنها لا ترغب في الحديث.»
حدَّق كلاهما إلى إلينورا التي كانت لا تزال واقفة أسفل الدَّرَج، ثم تابع البِك قائلًا:
«والآن دعني أقُدْكَ إلى غرفة الطعام.»
جلس الكاهن على يسار مضيِّفه في الناحية المقابلة للآنسة كوهين، وحاول أن يتابِع المحادثة.
سألها وهو يبسط منديل المائدة على ساقيه: «أنتِ تعرفين الكتابة إذن. كم هذا مثير للإعجاب! مَنْ علَّمكِ الكتابة؟»
نزعت إلينورا الغطاء عن قَلَمِها وكتبت كلمةً في أعلى الصفحة، ثم أدارت الورقة نحو الكاهن مولر كي يقرأَها:
«والدي.»
قال الكاهن وهو يبسط المنديل مرة أخرى: «حسنًا، لقد فهمت. بالطبع هذا منطقي.»
وقبل أن يتوجه الكاهن بأي أسئلة أخرى، ظهر السيد كروم حاملًا ثلاث صوانٍ فِضية، ووضع واحدة أمام كلٍّ منهم. كان العشاء تلك الليلة مكوَّنًا من لحم الضأن المشوي مع الجزر مقدَّمًا على طبقة من البُرْغُل. ورغم الصحبة المتحفِّظة في الكلام، فقد كان العشاء نفسه جيدًا؛ فلَحْم الضأن مطهوٌّ بطريقة رائعة، مقرمش قليلًا من الحواف وطريٌّ من الداخل، والجَزَر ليِّن كفاكهة الصيف، والبُرْغُل بنكهة زهر البرتقال. وكان الشيء الوحيد المفقود في هذا العشاء هو الحوار. فبعيدًا عن المجاملات الضرورية وطلبات تبادُل المِلْح والفُلْفُل، تناولوا الطعام في صمت، وأدوات المائدة تُصْدِر أصواتًا بينما انهمك الكاهن والبِك في تناوُل الطعام.
قال الكاهن محاوِلًا استدراج مضيِّفه كي يخرج عن صمته: «إن الفترة الحاليَّة مثيرة للاهتمام.»
«حقًّا.»
«لم أرَ اضْطِرابًا كهذا منذ الحرب الأهلية. إن المهديين والصرب والأرمن واليهود يُحدِثون لَغَطًا غير معلوم السبب. يبدو أن العالم بأسره يُحدِث لَغَطًا.»
فهزَّ البِك رأسه بحكمة.
«إن اللَّغط قد يُنهِي نفسه بنفسه.»
«يقول البعض إنه فجر يوم جديد.»
«إن البعض يقولون أشياء كثيرة.»
قطع الكاهن قطعة من اللحم ومضغها بعناية قبل أن يحاوِل استدراج مضيِّفه مرة أخرى.
«ثمة مَنْ يقولون إن النظام السياسي سوف يُعاد تنظيمه على نحو جذريٍّ قريبًا.»
ابتسم البِك في أدب، ولكن لم يَبْدُ عليه الاكتراث. كان واضحًا أنه لا يرغب في الانخراط في مناقشة سياسية، وهكذا فقد حوَّل جيمس انتباهه نحو إلينورا.
«حسبما أذكر فأنت قارئة ممتازة. أخبريني عن أحد الكتب التي قرأتِها مؤخَّرًا.»
ارتبكت إلينورا، ولكن كما توقَّع فقد كانت أكثر أدبًا من أن تمتنع عن الإجابة.
«إنني أُعِيد قراءة الساعة الرملية.»
«تُعيدِين قراءتها؟»
«نعم.»
«لأنك لم تفهميها من أول مرة؟»
فكتبتْ «كلَّا»، ثم أدركت أنها إجابة مُقْتضَبة على نحو فظٍّ بالنسبة إلى ضيفهما، فأضافت: «ثمة بعض الكلمات التي لا أفهمها، ولكنني أستطيع عادةً أن أفهمها من السياق.»
تأمَّل الكاهن تلك الإجابة، وبدلًا من أن يستمرَّ في خطِّ الاستجواب أخرج كتاب هيرودوت القديم الخاصَّ به، واختار مَقْطعًا قصيرًا، ثم أعطى الكتاب عبر المائدة لإلينورا.
قال وهو يشير إلى بداية الفقرة: «أتمانعين في قراءة ذلك؟»
هزَّت رأسها كما لو كانت تأْمُل أن يكون ذلك فعلًا معتادًا وقت العشاء، وانحنت على الصفحة وتتبَّعت الكلمات بأصبعها، ولكنها توقَّفت في منتصف الفقرة.
كتبت: «ماذا يعني الكاتب عندما يقول إن الأرض والسماء مليئتان بالريش؟»
اتَّجه الكاهن مولر إلى الناحية الأخرى من المائدة وأخذ منها الكتاب، وقرأ بصوت عالٍ من أجل مضيِّفه.
«يقولون إنه لا أحد في شمال البلدان المجاورة لهم يمكنه الرؤية أو الرحيل أبعد من ذلك؛ وذلك بسبب وابل الريش، فالأرض والسماء مليئتان بالريش، وهو يعوق الرؤية.»
كانت فقرة غريبة، ربما ليست الاختيار الأمثل لاختبار فهم فتاة صغيرة، ولكنها كانت الفقرة التي اختارها. قلَّب عدة صفحات للأمام حتى وصل إلى الجزء الذي يفسِّر فيه هيرودوت معنى الريش.
قال وهو يقرأ بصوت عالٍ مرة أخرى: «ها هي الإجابة. فيما يتعلَّق بالريش الذي يقول السكوثيون إن الهواء يمتلئ به، وهو كثيف لدرجة أنْ لا أحد يمكنه الرؤية أو المرور خلاله، لديَّ هذا الرأي: في شمال تلك البلاد يتساقط الثلج باستمرار، رغم أنه في الصيف أقل منه في الشتاء، كما هو متوقع. ومَنْ يرى الثلج يتساقط بكثافة بالقرب منه فسوف يفهم مقصدي؛ فالثلج كالريش. وهكذا، فإنني أعتقد أن السكوثيون وجيرانهم يتحدثون عن الثلج على نحو مجازي، وهكذا فقد تحدثت عن تلك الأماكن التي يقال إنها الأبعد على الإطلاق.»
أعطاها الكتاب مرة أخرى، وقرأت الفقرة لنفسها قبل أن تجيب.
«لماذا ينتظر كل تلك الصفحات حتى يخبرنا بأن الريش هو الثلج؟ يبدو ذلك بلا معنى على الإطلاق.»
فاعترف الكاهن قائلًا: «أنتِ على حق، يبدو ذلك بلا معنى.»
وضع جيمس أدوات المائدة الخاصة به على حافة طبقِه. كانت موهوبة من الطراز الأول، على طراز لوكريتيوس وميل ومندلسون، ولكن ثمة شيء آخر فيها أيضًا؛ كانت ذات حضور نبيل ونظرة معذَّبة تمتزج بانعدام كامل لتأمل الذات، أو هكذا يبدو على الأقل. وعلى أي حال، لم يكن السؤال هل كانت طفلة استثنائية؟ ولكن السؤال كيف سيتم التعامل معها؟
لسوء الحظِّ، لم تكن إسطنبول الأرض المُثْلى بالنسبة إلى عقلٍ كعقلها؛ فلم تكن كلية روبرت خيارًا مُمكِنًا بالنسبة إليها لعدة أسباب، ولم تكن مدرسة البنات في إسطنبول جادَّة بما يكفي. ربما كان أفضل طريق هو أن تستأجر معلِّمًا خاصًّا يعلِّمها اليونانية واللاتينية وعلم البلاغة والفلسفة والتاريخ، ولكن مرةً أخرى كان المعلمون الخصوصيون في إسطنبول ذوو مستوًى متدنٍّ إلى حدٍّ ما. فكَّر الكاهن في الأمر قليلًا قبل أن يتوصَّل إلى الحلِّ المثالي؛ سوف يعرض عليها أن يعلِّمها بنفسه، فمن المثير للاهتمام أن يراقب بنفسه الطريقة التي يعمل بها عقلُها. ويكفي اكتسابها للمفردات اللغوية الذي يستحق دراسة مُنفصِلة، كما أن مُدِيريه سوف يسعدون بأيِّ وضعٍ يُتِيح له التواصُل المستمِر مع منزل مُنصِف بِك.
وبعد تناول الجبن، أُتيحت للكاهن مولر فرصة لعرض خدماته. سمح البِك لإلينورا بالانصراف، واقترح أن يذهبا هما إلى المكتبة لتناول الكونياك وتدخين السيجار.
قال البِك فَوْر أن جلسا: «أتمنَّى أن تكون قد استمتعتَ بالطعام.»
«نعم، بشدة، كان اللحم رائعًا، والبُرْغُل أيضًا. أكان ذلك ماء زهر البرتقال؟»
أدار البِك كأس الكونياك الخاصَّة به، وراقب السائل الذهبي وهو ينحسر عن جدران كأسه.
وقال مُتجاهِلًا سؤالَ الكاهن: «أخبِرْني، كيف تبدو لك الآنسة كوهين من وجهة نظرك الاحترافيَّة؟»
«يبدو أنها متماسِكة جيِّدًا في ضوء الظروف التي مرَّت بها.»
فوضع البِك كأسه على المائدة المُجاوِرة له.
«إنني أقدِّر تأدُّبَك في الحديث، ولكنْ ثمة وقت للمجاملة ووقت للمصارحة. إنها لم تتفوَّه بكلمة منذ الحادث، وكما تعلم، فقد مرَّ شهر تقريبًا. إن هذا النوع من الحِداد ليس طبيعيًّا، أليس كذلك؟»
سحب الكاهن نَفَسًا طويلًا من سيجاره ثم نفض الرماد، وكان الصَّمتُ هو إجابته، وترك قلقه يتوجَّه نحو حَفِيف النيران ومرونة الجلد الناعمة وصوت ركبة البِك وهو يعيد وضْعَ ساقٍ على ساق.
تساءل الكاهن أخيرًا: «هل فكَّرت في تَعْيين معلِّم خاصٍّ لها؟ قد يساعدها ذلك في الحصول على مادة أكثر جديَّة للقراءة وتَوْجيه تعليمِها في الاتِّجاه الصحيح.»
فغطَّى البِك أنفه بأصابعه وانحنى للأمام.
«كنتُ مقتنِعًا بأن القراءة جزءٌ من المشكلة.»
فصحَّح له الكاهن: «ليست القراءة ذاتها، ولكن طبيعة ما تقرؤه. إنني لا أُعطي قيمةً كبرى للروايات؛ فهي نوع أدبي لا يناسب سوى النساء التافهات والشباب الرومانسيين. وتلك التفاهات حتى وإن كانت تحفة فنيَّة مثل «الساعة الرملية»، لا يمكن أن يكون لها أيُّ نَفْع حقيقي. ولكنني أعتقد أنها لو حصلت على موادَّ أكثر جديَّة للقراءة مثل الفلسفة والتاريخ والبلاغة، فقد يكون ذلك مفيدًا لها.»
أنزَل البِك أصابعه من على أنفه وصبَّ لنفسه كأسًا أخرى.
«وهل تقترح لها معلِّمًا؟»
سَرَحَ جيمس بعينَيْه في أَرْفُف الكتب التي تقع في الجانب الآخر من المكتبة، كما لو كان يفكِّر في الأمر مليًّا قبل الإجابة.
ثم قال: «إذا رغبتَ في ذلك، يمكنني أن أتعهَّدها شخصيًّا. لقد كان والدها رجلًا طيبًا، وإنني أدين بذلك لذكراه على الأقل.»