الفصل التاسع عشر
وقفت العربة الملكية المزيَّنة بالمطاط الذهبي والأسود على حافة الماء، ولمعت أبوابُها وسقفها وتروسها السفلية باللون الأُرْجواني البرَّاق الذي يشبه ثمرة باذنجان غير ناضجة. رفعت إلينورا ثوبها عن الحصى وهي تسير خلف الرسول عبر الطريق الخاص، وكانت قد ارتدت ثوبًا حريريًّا باللون الأزرق الفاتح، وحذاءً من الجلد الأسود اللامع، وزيَّنت شعرها بباقة صغيرة من الزهور. انقضى ذلك الصباح بأكمله في الاستعداد، سواء الاستحمام أو اختيار الحُليِّ والجلوس بينما تضع السيدة داماكان الدبابيس في شعرها. لم تُدرِك حقيقة الموقف إلا الآن؛ هي — إلينورا كوهين — ذاهبة إلى القصر لمقابلة السلطان، وإذا كان ثمة مجال للتراجع من قبلُ فقد انتهى الآن.
في منتصف الطريق الأمامي، استطاعت إلينورا أن ترى جلود الجِياد وهي تتلألأ بلمعة حَجَر الغَلْيُون وأعينها كالرخام الأسود الحزين. وبينما اقتربت من تلك الخيول الضخمة، تصلَّبت وقفتُها ورفع كلٌّ منها قائمته الأمامية اليُسْرى كالجُندي الذي يُشْهِر سلاحه على سبيل التحية. هزَّت رأسها تعبيرًا عن شُكْرها لذلك التقدير، وتوهَّج منخار الجواد الأمامي علامةً على أن بقية الفريق يمكنه الاستراحة. فتح لها الحُوذِيُّ الباب، ودخلت إلى العربة. وبينما كانت تقوم بذلك صاح نَوْرَس على سقف منزل البِك وانطلق مُرْفرِفًا بجناحيه عبر البوسفور ومِنْقاره الأصفر البرتقالي يشير نحو القصر.
كانت العربة من الداخل مُبطَّنة بالمُخْمل الأرجواني الداكن، ومُجهَّزة بأثاث من العاج وغرزة ذهبية حول حافة الجدار. سوَّت إلينورا ثوبها من الخلف وجلست مُقابِلةً للرسول ووجهها للخلف. وبينما كانت الجياد تخطو بمحاذاة الشاطئ، راقبت منزل البِك وهو يختفي عن الأنظار تدريجيًّا ويصغر حجمُه أكثر فأكثر في النافذة الخلفية حتى اختفى خلف أحد مُنحَنَيات الطريق. نظرت إلى حذائها والجلد الأسود اللامع الذي يضغط على أصابع قدميها، وأخذت نَفَسًا عميقًا كي تُهدِّئ نفسها.
«لقد حظيتِ بشرف عظيم.»
نظرت إلينورا إلى الرسول. كان أنفه مُحاطًا بإطار بين عينيه الغائرتين في مَحْجِريهما، ولديه شامة ضخمة فوق فتحة أنفه اليسرى. ظنَّت في بادئ الأمر أنه الشخص نفسه الذي استدعاها بالأمس، ولكنها لم تكن متأكِّدة. وعلى أي حالة فهو يتوقَّع إجابة.
قالت: «نعم، لقد حظيتُ بشرف عظيم.» كانت تتحدَّث بهدوء، فهي ما زالت تعتاد على الشعور بالاهتزاز في أحْبالِها الصوتية.
«إنه لشرفٌ عظيم أن تحظَيْ بمقابلة السلطان.»
«نعم، أتشرَّف بذلك.»
سارت العربة مُحدِثةً ضجيجًا مرورًا بالألواح الخشبية لجسر جالاتا، ثم استدارت يسارًا عند البازار المصري مُفرِّقةً حشدًا من الحمام مُقيمًا تحت القباب الخارجية للمسجد الجديد. ومن الناحية الأخرى، استطاعت إلينورا أن ترى برج جالاتا وهو ينحني فوق المدينة كما لو كان أصبعًا مُنذِرًا. وها هي بيشكطاش تستلقي في كَسَلٍ على الشاطئ: المَرْفأ ومسجد بيشكطاش والمنازل التي تُطِلُّ على الماء، وقد استطاعت أن تُحدِّد من بينها بسهولة الواجهة الصفراء لمنزل البِك. انحنت مُقترِبةً من نافذة العربة حتى لمست حافةُ أنفها الزجاجَ؛ هناك في الطابق الثاني عند الفتحة الثالثة إلى اليسار تقع النافذة البارزة التي قضت خلفها العديد من الأُمْسيات وهي تقرأ وتشاهد مرور السفن وتتخيَّل حياةَ الناس على الجانب الآخر من المياه. ولكن إلينورا لن تعلم أبدًا ما إذا كان أحد السكان في الجانب الآخر من المضيق، سواء باعة السمك أو خادمة تبتاع الكُرْكُم من سوق التوابل أو صاحب مَتْجَرٍ تَقِيٌّ يتوضأ في النافورة العامة التي تقع خارج المسجد الجديد، قد نظر وفكَّر في حياتها.
«هل أنتِ على دِراية كافية بأصول وقواعد البلاط الملكي؟»
فقالت وهي ترفع ذقنها للأمام: «كلَّا.»
فتنحنح الرسول قليلًا وارتسم على وجهه تعبيرٌ شديد الجديَّة.
«في بلاط السلطان ثمة قواعد مُحدَّدة عليكِ اتباعها. لقد كُتِبت كُتُب كاملة في هذا الموضوع، وللأسف لا وقت لدينا الآن لتوضيح ذلك.»
فهزَّت إلينورا رأسها.
«أهم ثلاث قواعد عليكِ أن تتذكريها هي؛ أولًا: الانحناء فوْرَ دخول غرفة المقابلات، وعندما تنحنين يجب أن تلمس جبهتك الأرض.»
لمست جبهَتَها بإبهامها كي توضِّح أنها فهمت الأمر.
«ثانيًا: عليكِ دائمًا أن تُخاطِبي السلطان إذا خاطبتِه بلقب فخامة السلطان.»
فردَّدت: «فخامته.»
فصحَّح لها قائلًا: «بل فخامتك. عندما تخاطبين السلطان تُطلِقين عليه فخامتك، أما إذا كنتِ تُحدِّثِين عنه شخصًا آخر، وهو ما يجب ألَّا تقومي به، فسوف تُطلِقين عليه فخامته.»
«فخامتك.»
«ثالثًا: يجب أن تتذكري دائمًا أن تواجهي السلطان، مهما يكن مَن يتحدث إليكِ فلا تُدِيري ظهركِ للسلطان.»
كرَّرت إلينورا القواعد الثلاث لنفسها.
«تلك هي الأساسيات الثلاثة في البلاط الملكي. وثمة الكثير من القواعد الأخرى، فعلى سبيل المثال عليكِ ألَّا تعارضي السلطان أبدًا، وألَّا تقاطعي فخامته أثناء تحدُّثه، وألَّا تقدِّمي له النصيحة ما لم تُطلَب منكِ صراحةً. ولكننا لا نملك وقتًا لتوضيح تلك القواعد.»
وهنا انعطفت العربة إلى شارع مُنحدِر مُلْتوٍ مُقحَم وسط المحلَّات، مُكْتظٍّ بمَوْكِب مُتَرَّب من المُستجْدِين السائلين. أبطأت الجِياد وهي تمرُّ عبر الحشود — غِطاء الرأس المجعَّد الأبيض الخاص بالبدو، والسكاكين القوقازية المُعلَّقة في أحزمة زاهية مُزركَشة، والأوشمة الهَنْدَسية على ذقون النساء البربريات وجبهاتهن — الكلُّ صاعدٌ التلَّ نحو القصر مُحدِثًا الكثير من الضوضاء. كانت بوابة السلام مَعْلمًا جديرًا بالمشاهدة في حدِّ ذاته؛ حيث يعلوها سقف أخضر مكسوٌّ بالخشب على هيئة مَوْجة، ويحرسها ستة من الحرَّاس؛ اثنان منهم كي يفتحا البوابة، وأربعة كي يمنعوا الزائرين من الدخول. وأمام الحشود لاحظت إلينورا فلَّاحًا مسنًّا يرتدي طربوشًا أحمر اللون مُهترِئًا، ويحمل خروفًا تحت ذراعه ويلوِّح بعصاه في الهواء مُردِّدًا إحدى الكلمات مرارًا وتَكْرارًا، كما لو كان التَّكْرار سوف يُصلح من أيِّ خطأ قد ارتُكِب من قبلُ.
تساءلت إلينورا وهما يترجَّلان من العربة: «ماذا يريد؟»
نظر إليها الرسول لحظةً بوجه خالٍ من التعبير، وعندما أدرك مَنْ تقصد أصْدَر صوتًا دالًّا على الاحتقار.
«إنَّ طلبات الناس من فخامته لا تنتهي أبدًا.»
كانت على استعدادٍ لاستكمال المحادثة، ولكن في تلك اللحظة فُتِحت البوابات الداخلية وقادهما حارس إلى القصر نفسه. كانت حدائق القصر تفوح برائحة الياسمين وأزهار اللوز، وكانت مُنسَّقة على هيئة دوائر مُتحِدة المركز ذات انحناءة خفيفة، كلٌّ منها مزروعة بمجموعة مختلفة من أزهار الفاكهة المُتفتِّحة. قاد الرسول إلينورا عبر ممرٍّ واسع تصطفُّ على جانبيه الأشجارُ المُقلَّمة، مارِّين بالباشوات والإنكشارية الذين ينسلُّون صامِتين كالثعابين في الماء. كان يسير بسرعة، فلم يترك لها فرصة كي تتأمَّل بإعجاب النافورة الضخمة ذات اللونين الأزرق والأبيض التي تقع في وسط الحدائق أو تتمهَّل أمام المباني التي تطلُّ من بين أوراق الشجر. توقَّف أخيرًا في الطرف البعيد من الحدائق أمام بوابة بنفس حجم تلك التي عبرا منها توًّا، يحرسها أربعة رجال يرتدون نفس الزي النظامي ذا اللون الأرجواني الزاهي الذي تحمله العربة الملكية. كانوا بلا شكٍّ أضخم رجال رأتهم إلينورا حقًّا، فكلٌّ منهم يماثل طوله ارتفاع الحِصان، وتبرز عضلات ساقه من تحت الثياب.
قال الرسول وهو يشير إلى قطعة بالية إلى حدٍّ ما من القماش الأخضر تعلو كُتْلةً من الحجر الرملي المجاور للبوابة: «هذه هي رايَةُ النَّبي محمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام.»
انحنت إلينورا مُقْترِبة من الراية المُطرَّزة بكتابة من الفضة:
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
«إنها تشير إلى مدخل الغرف الخاصة بفخامة السلطان. لا يمكنني المرور أبعد من ذلك.»
أشار إلى أحد الحرَّاس، ثم ألقى تحية الوداع وأسرع مُتجِهًا إلى ممرٍّ جانبي. وقفت إلينورا بضع لحظات بجوار راية النَّبِي محمَّد قبل أن تتحدَّث.
توجَّهت إلى الحرس مُتسائِلة: «إذا سمحت، هل عليَّ أن أقف هنا؟ أم أنتظر في مكان آخر؟»
ظلَّ الحرَّاس صامتين يحدِّقون أمامهم في نقطة غير مُحدَّدة في منتصف المسافة. لم تكن إلينورا واثقة من صوتها بعدُ، فظنَّت أنها ربما لم تتحدَّث بصوت واضح بما يكفي.
أعادت السؤال بصوت أعلى: «هل عليَّ أن أنتظر هنا؟»
ولكن الحرَّاس لم يُبدوا ما يدلُّ على إدراكِهم لوجودها، وكأنها لم تتحدَّث قطُّ.
«إذا سمحت.»
خَطَت خطوة للأمام ولوَّحت بيدها أمام الحارس الأقرب إليها. كانت عيناه زرقاوين داكنتين كالأحجار الكريمة الدقيقة، ولديه نَدْبة عريضة في وجنته من الصُّدْغ حتى الفم. خفض بصره ونظر إليها، ثم وضع يده على أذنه وهزَّ رأسه؛ يبدو أنه أصم. ثم أشار إلى مقعد طويل عند الجانب الآخر من البوابة واستأنف وقفته.
لم تشعر إلينورا برغبة في الجلوس؛ فقد كانت شديدة التوتر، ورغم ذلك فقد تتبَّعت أصبع الحارس نحو المقعد الرخامي واستدارت مُلقِيةً نظرة على الحديقة التي أتتْ عبرها، وهنا لاحظت مجموعةً صغيرة من سِرْبها وقد حطَّت على المستوى الأعلى من النافورة الرئيسة. ها هي أربعة هداهد باللونين الأُرْجواني والأبيض تراقبها في هذا اليوم العظيم. كان وجودها وحده كافيًا كي يعطيها مزيدًا من الثقة، وعندما اقْتِيدت عبر البوابة إلى غرفة مقابلات السلطان كانت تعلم أنها تنتظرها بالخارج.
كانت حوائط غرفة المقابلات مُزيَّنة بالجبس المنحوت بالأخضر والأحمر والأزرق، وتضيئها من أعلى حِزَم من الضوء تسقط من حاجز شبكي يعلوه سقف مزيَّن بألوان الطاووس، وكانت الغرفة تفوح برائحة زهر الليلك. كانت الغرفة أصغر كثيرًا مما توقعت، تقريبًا بنفس حجم غرفة نومها في منزل البِك. وقف صفٌّ مُنظَّم من الوزراء وموظفيهم بمحاذاة الحائط إلى يمينها، وإلى يسارها جلس جمال الدين باشا الصدر الأعظم في مقعد خشبي ضخم. وفي منتصف الحائط الخلفي على أريكة قرمزية ضخمة اتَّكأ فخامة السلطان عبد الحميد الثاني. جسمانيًّا كان السلطان رجلًا نحيلًا ذا حاجبين داكنين كثيفين وشارب حادٍّ وشفتين كالكَرَز المزدوج. كان شعورًا غريبًا رؤيته شخصيًّا. شعرت إلينورا بالقشعريرة تسري في جسدها، ها هو سلطان الإمبراطورية العثمانية خليفة المسلمين. كان أحد أقوى الرجال في العالم، ولكنه في الوقت نفسه رجل كسائر الرجال.
انحنت على ركبة واحدة كما علَّمها الرسول، وضغطت جبهتها على الأرض الرخاميَّة الباردة. وعندما وقفت مرَّة أخرى، ابتسم الصدر الأعظم واعتدل في مقعده. أعاد ضبط شريط عمامته، ثم أخرج مفكِّرة صغيرة من ثنايا قُفْطانه.
«أيتها الآنسة كوهين، أنتِ بالطبع تُدْركين أننا مشغولون بالكثير من الأعمال كلَّ يوم، ولكن رغم ذلك فقد انبهر فخامته بما سمعناه عنكِ وعن دراساتك وعن قصَّة حياتك …»
«بالطبع.»
بالكاد سمعَتْ إلينورا ما قاله السلطان، ولكنه عندما تحدَّث غرقت الغرفة في الصمت. انحنت مرة أخرى وسرت حُمْرة الخجل في جسدها بأكمله. أخبرت نفسها بأنه يخاطبها، وشعرت بالعرق يتصبَّب في راحتيها.
بدأ قائلًا: «هل تمانعين إذا توجَّهتُ إليكِ ببعض الأسئلة؟ لقد سمعنا عددًا من الأمور المُذهِلة عنكِ، ولكن يصعب أحيانًا التمييز بين ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي.»
قالت إلينورا بصوت أجش: «تفضَّل، شكرًا يا فخامة السلطان.»
«هل صحيح أنكِ تقرئين بخمس لغات؟»
أحْصَتْ إلينورا العدد في ذهنها. لم تكن ترغب في معارضة السلطان، ولكن الحقيقة أنها تعرف القراءة بسبع لغات: الرومانية واليونانية واللاتينية والتركية والفرنسية والإنجليزية والعربية.
«بعد إذنك يا فخامة السلطان، هذا ليس صحيحًا.»
فدوَّن الصدر الأعظم شيئًا في مفكِّرته.
«كَمْ لغة تعرفين القراءة بها؟»
«سبع لغات يا فخامة السلطان.»
تابع السلطان بابتسامة ماكِرة: «وهل صحيح أنكِ قرأتِ كلَّ الكتب في مكتبة القائم عليكِ صديقنا مُنصِف باركوس بِك؟»
«قرأتُ الكثير من الكتب في المكتبة يا فخامة السلطان، ولكنني لم أقرأها كلَّها.»
فهزَّ السلطان رأسه.
«وأيٌّ من الكتب التي قرأتِها هو كتابكِ المفضَّل؟»
«الساعة الرملية يا فخامة السلطان.»
ألقت نظرة على الصدر الأعظم الذي كان يدوِّن إجاباتها في مفكِّرته.
قال عبد الحميد مفكِّرًا: «الساعة الرملية! لا أعتقد أنني صادفتُ هذا الكتاب من قبل.»
«إنه كتاب شديد الروعة يا فخامة السلطان.»
التفت السلطان إلى الصدر الأعظم.
«هل قرأتَ الساعة الرملية؟»
«كلَّا يا فخامة السلطان، لم أقرأه.»
ثم التفت إلى صفِّ الوزراء على يساره.
«هل قرأ أحدكم الساعة الرملية؟»
ارتفع وابل من الهمسات المتوتِّرة قبل أن يتحدَّث أحد الوزراء.
«لا أظن يا فخامة السلطان أن هذا الكتاب مُترجَم إلى التركية.»
«حسنًا، علينا أن نأمر بترجمته …»
وهنا دخل الرسول إلى الغرفة وهمس شيئًا في أذن جمال الدين باشا، فهزَّ رأسه وغادر الرسول الغرفة بصمت كما دخلها.
تابع السلطان قائلًا: «أنا شخصيًّا متحيِّز لروايات الغموض والتشويق، ومعظم مؤلفيها بريطانيون. وأرى أن إدجار آلان بو وويلكي كولينز أفضلهم، رغم أنني مُعجَب ببعض الكتَّاب الفرنسيين أيضًا.»
توقَّف ونظر إلى السقف.
«وبالطبع، فإنني مُنجذِب أيضًا لكبار شعراء العرب والفرس.»
قبل أن تجيب إلينورا، دخل رسول آخر إلى الغرفة وسلَّم برقيةً إلى الصدر الأعظم.
قال بعد أن قرأ البرقية: «فخامة السلطان، إنني آسف جدًّا لمقاطعة حديثنا مع الآنسة كوهين، ولكن أمرًا عاجلًا غاية في الخطورة قد طرأ الآن.»
تقدَّم أحد الحرَّاس كي يقود إلينورا خارج الغرفة، ولكن السلطان رفع يده مستَوْقِفًا إيَّاه.
«يمكنها أن تبقى، فأعتقد أن هذا الأمر لن يستغرق أكثر من بضع لحظات، ولا أحبُّ أن أترك ضَيْفتنا تنتظر بالخارج.»
قال جمال الدين باشا: «نعم يا فخامة السلطان، بالطبع.»
بسط البرقية على مفكِّرته وقرأها لنفسه مرة أخرى قبل أن يُلخِّص محتواها للبلاط.
«تبلغنا البحرية الملكية الألمانية بأن السفينة ميسودي ما زالت تتعرَّض لمُضايقات من زوارِق الطوربيد الروسية حتى بعد انسحابها في اتجاه سينوب، وهم يقولون إنهم قد قاموا بمحاولات عديدة للاتصال بالقادة البحريين الروس في كلِّ من سيفاستوبول وسانت بطرسبرج بلا جدوى، ويبدو من الصمت الروسي أن ذلك عدوان رسمي.»
تنهَّد عبد الحميد وضغط على قصبة أنفه.
«إنَّ هذه البرقية مُرسَلة من الجنرال فون كابريفي نفسه، وهو يقول إنه يتفهَّم دِقَّة الموقف ويحترم سيادتنا لأقصى الحدود، ولكنه يكرِّر توصيته بالردِّ العنيف.»
سأل السلطان: «وبِمَ توصي أنت؟»
«أُوصي بإعطاء قبطان ميسودي الحرية في الاستجابة بالكيفية التي يراها مناسبة؛ فزوارق الطوربيد الروسية الجديدة بها بعض الأسلحة، ولكنها لن تصمد أمام نيران سفينة حربيَّة مُدرَّعة.»
«أليس ثمة خيارات أخرى؟»
«أجل، لا أرى أمامي أيَّ خيارات أخرى. أُدرك أنك تتحفَّظ بشأن الطوربيدات الروسية يا فخامة السلطان، ولكن تلك السفن قد أصبحت داخل المياه العثمانية. وإذا لم نرُدَّ على العدوان على المياه الإقليمية، فسوف نفْقِد مكانتنا في البحر الأسود، وإذا لم نفعل أيَّ شيء فسوف ينمُّ ذلك عن الخوف بالنسبة إلى سانت بطرسبرج وبرلين أيضًا.»
فكَّر السلطان للحظة في نصيحة الصدر الأعظم، ثم التفت إلى صفِّ الوزراء على يساره.
«هل تتفقون جميعًا مع جمال الدين باشا؟»
ارتفع خليط من الهمهمة بالموافقة وهزِّ الرأس. عقد عبد الحميد حاجبَيْه وأمسك بحافة قُفْطانه، وبدا أنه نَسِي نفسه وهو يتحسَّس طراز القماش، ثم رفع رأسه ونظر إلى إلينورا.
«وأنتِ ما رأيك؟ بِمَ تُوصِين؟»
«أنا؟»
«نعم، بصفتك ساكنة قديمة لمقاطعات البحر الأسود ودارِسة للتاريخ، بِمَ تُوصين؟»
سعل الصدر الأعظم بقوَّة في يده ودوَّن بضع كلمات في مفكِّرته.
قالت إلينورا: «لا يمكنني أن أقول إنني أفهم الوضع جيِّدًا.»
كان الرسول قد أخبرها بأنها يمكنها تقديم النصيحة للسلطان في حال أن طُلِبت منها النصيحة صراحةً، وقد طلب فخامته نصيحتها بوضوح؛ ولكنها لم تكن تعلم أيَّ شيء عن السياسة ما عدا ما قرأته في الكتب. عضَّت باطن صُدْغها وأخذت تفكِّر في كلِّ الكتب التي قرأتها من قبلُ محاوِلةً أن تتذكَّر موقفًا مشابهًا.
قالت أخيرًا: «ربما كان هذا الموقف يا فخامة السلطان مشابِهًا لموقف بيثينيا بعد صعود الملك ميثريداتس.»
فقال السلطان: «استمري.»
«طبقًا للمؤرخ أبيان، كانت كلٌّ من بيثينيا وروما مُهدَّدتيْنِ من الملك ميثريداتس، ولكن تهديد ببيثينيا كان مباشرًا. ولمَّا كانت روما تعلم ذلك، فقد تمكَّنت من تحريض بيثينيا ضد ميثريداتس. خسر البيثينيون المعركة وتكبَّدوا خسائر فادحة، ولكن خسارتهم أعطت الرومان وقتًا كي يستجمعوا قواهم.»
فكَّر السلطان للحظة.
«إذا أطلقنا النيران على زوارق الطوربيد الروسية، فسوف نُشعل فتيل معركة تصبُّ في صالح ألمانيا …»
قاطعها الصدر الأعظم قائلًا: «فخامة السلطان، لقد استرعى انتباهي أمرٌ غاية في الأهمية والسريَّة. هل يمكنني الحديث معك على انفراد؟»