الفصل الثاني
حدَّق سلطان الإمبراطورية العثمانية خادم الحرمين الشريفين وخليفة المسلمين وأمير المؤمنين والخاقان الأعظم لممالك متعددة، جلالة السلطان عبد الحميد الثاني، إلى بلاط السقف الأخضر والأزرق المتداخل، في حين رَغَّى حلَّاقُ القصر وجْهَه بالصابون. وتناهى إلى مسامعه من غرفةٍ مجاورة نقْرُ أوتار العود والثرثرة الخافتة للجواري. غرَّد بلبل من مِحْبسه، ووقعت شمسُ منتصف الصباح على قدمَيْه في صورة شبكة من الظلال والأضواء. أغمض عبد الحميد عينَيْه، وأنصت وهو يستنشق رائحة الياسمين المُنبعِثة من الصابون، إلى صوت نَصْل شَفْرة الحلاقة يتحرَّك على عنقه.
دَأَب هذا الرجل نفسُه على الحِلاقة لعبد الحميد كلَّ صباح طوال الثلاثين عامًا الماضية، منذ أن نبتت أولى شُعَيرات الرجولة في ذقنه الملكي، وقبل ذلك الحين خدم سبع سنوات في بلاط والد عبد الحميد. كان الحلَّاق طاعنًا في السن، ولكنَّ يدَيْه كانتا ثابتتَيْن كَيَدِ الخطَّاط، حتى بعد مرور كلِّ تلك السنوات من الممارسة؛ فهو لا يزال يُقْدِم على مهمَّة الحِلاقة الصباحيَّة كما لو كانت أهمَّ مهمَّة في حياته. وقد قدَّر عبد الحميد هذه الجديَّة كثيرًا، فمع كثرة المكائد والدسائس التي تحوم حول القصر، كان في حاجة إلى أن يَثِق في حَلَّاقه ثقةً مُطلَقة؛ إذ لم يكن من المُستجَدِّ أن يحاول أحد أفراد بلاط السلطان قَتْل السلطان؛ بل إن ثلاثة من أقاربه البعيدين قد اغْتِيلوا بالفعل؛ وهم مورات الثاني ومصطفى دوزم وإبراهيم الأول، على يد أفرادٍ من العاملين لديهم ممَّنْ يُفترض بهم الولاء. فقد اغْتِيل مورات على يد طبَّاخه، وقَتل مصطفى حارسُه الخاصُّ، أما إبراهيم فقد كانت نهايته على يد حلَّاقه.
فتح عبد الحميد عينَيْه وشاهد حلَّاقه وهو يمسح شفرته في قطعة من الجلد، ثم أغمض عينَيْه مرةً أخرى وغاص أكثر في مَقْعَده تاركًا موسيقى العود الآتية من بعيد تَنْساب في أوصاله كما لو كانت مياه البحر الدافِق. كان ثمة حزن عميق في تلك الأوتار، أعوام عديدة من الأسى. وإذا لم تخُنْه ذاكرته كان الفارابي هو من روى قصة اختراع العود؛ حيث اسْتَلْهم مخترعُه فكرةَ العنق المنحني من هيكلٍ عظميٍّ كان مُتدلِّيًا من شجرة خرُّوب. لِمَن كان هذا الهيكل العظمي؟ هذا ما لا يستطيع عبد الحميد أن يتذكَّره. ربما كان لِلَامَك، أو لأحد أبناء نوح. على أي حال، كان العود آلة موسيقيَّة قديمة تقترن جُذُورها بالحزن والأسى.
ووسط غمرة هذه الأفكار، شعر السلطان بحضور أحدهم.
«جلالة السلطان؟»
كان هذا هو الصدر الأعظم جمال الدين باشا. كان وجْهُه محمَرًّا من الإجهاد، وشاربه مَبْرومًا بما يشبه خيطًا من اللُّعاب.
قال وهو يجفِّف وجْهَه بمنديل: «جلالة السلطان، أعتذر عن مقاطعتك أثناء الحِلاقة، لكنَّ لديَّ خبرًا مزعجًا للغاية.»
قال السلطان وهو يشير إلى الحلَّاق ليُكمل: «تكلَّم من فضلك، فأخبار مملكتي ليست ضربًا من المقاطعة.»
«جلالة السلطان، لقد وقعت بلفن منذ ثلاثة أيام في قبضة الروس، وتقهقر عثمان باشا ومَن تبقَّى من رجاله إلى جابروفو.»
كان هذا أسوأَ الأخبار حقًّا، ولم يكن مفاجئًا بدرجة خاصَّة، ولكنه مع ذلك خبر مزعج. تنهَّد السلطان وهو يشاهد بطرف عينه الحلَّاق وهو ينتزع الشعر النَّابت في منطقة عَظْم وَجْنَته. كانت بلفن هي الأخيرة في سلسلة طويلة من العوائق العسكرية، وعلى الأرجح سيعني هذا نهاية الحرب، ثم عَقْد مؤتمر آخر للقوى العظمى، واخْتِلاق حُجَّة أخرى لتقسيم إمبراطوريته. في حقيقة الأمر هو لم يكترث لفقدان السيطرة على بلغاريا أو رومانيا؛ فهو لا يَأْبَه حتى إذا ابتلعتهما الأرض، والأمر كذلك مع اليونان ودول البلقان. لم تكن الأرض هي ما يزعجه، بل العار الذي سيلحق به؛ أنياب القوى العظمى التي يسيل لُعابُها وهي تحوم حول قصره مثل الذئاب. وهو لا يكترث لبلغاريا ورومانيا، لكنَّه كان على دِراية بأن الأمر لن ينتهي عند هذا الحدِّ؛ فالروس ابتغَوا الاستيلاء على قارص، ولطالما تاق الفرنسيون إلى اغتنام بلاد الشام، أما اليونانيون، فلن يهدأ لهم بالٌ حتى يُحكِموا قبضتهم القذرة على إسطنبول.
«يرى عثمان باشا أنه من الأفضل سَحْب رجاله إلى أدرنة، لكنه لن يفعل ذلك دون موافقتك.»
استشار السلطان مستشاره. وكان لجمال الدين باشا، ذلك الرجل القصير السمين ذي الوجه الشديد الحُمْرة، أنفٌ كبير بدرجة لافتة، على جانبَيْه عينان تُشبهان انحناءة سنِّ القلم، ويُختطُّ تحته شارب رفيع.
«وماذا ترى أنت؟»
«في هذه الحالة، يتحتَّم عليَّ أن أتفق مع عثمان باشا؛ فأدرنة هي الموقع المثاليُّ الذي سيُمكِننا منه أن ندافع عن العاصمة إذا لَزِم الأمر، وأخشى أن هذا وارِدُ الحدوث.»
«هذا هو رأيك؟»
«هذا هو رأيي يا جلالة السلطان، ولا يمكنني أن أرى غير ذلك.»
كان هذا هو العيب الأكبر في جمال الدين؛ فرغم أنه كان أفضل بمراحل، مشورةً وولاءً، من الصدر الأعظم السابق لدى عبد الحميد، فإنه كثيرًا ما دهسته عجلة الأحداث في خِضَمِّ وقوعها، وفَتنتْهُ للغاية مكانتُهُ الخاصة في التاريخ. ومن وجهة نظره، كان كلُّ تمرُّد بدايةَ ثورة، وكلُّ تجسُّس بدايةَ انقلاب، وكلُّ حربٍ نقطةَ تحوُّل في ميزان القوة. ومع أنه كان شديد الذكاء، لم يكن جمال الدين باشا قادرًا على النظر على المدى البعيد، والرجوع إلى الوراء ومراجعة موقفه، ولكنه كان صائبًا في هذه الواقعة على وجه الخصوص. فعلى المرء أن يدافع عن إسطنبول مهما كلَّف الأمر.
قال عبد الحميد: «حسنًا، لعثمان باشا مُطلَق الحرية في سَحْب قواته إلى أدرنة أو أيِّ مكان آخر قد يراه مناسبًا. والآن أخبرني يا جمال الدين باشا، ماذا لديك من أخبار أخرى؟»
عدَّل الصدر الأعظم عمامته، وحدَّق إلى الدفتر الأسود الصغير الذي يحتفظ به في جيب سترته العلويِّ، وبدأ يسرد أحداث الأيام الماضية.
«نحن مستمرون في تحقيقنا بشأن تمرُّد الضابط. وصل العميد الجديد لكلية روبرت إلى إسطنبول منذ يومين، وثمة عدد هائل من التقارير حول التوتُّر الطائفي في سنجق نوفي بازار.»
شعر عبد الحميد بوَخْزة شَفْرة المُوسَى تحت أنفه وطرف بعينيه ليكتم عطسة.
«أخبِرْني المزيد عن هذا العميد الجديد.»
«بناءً على أوامر جلالتك حاولنا ألَّا نزعجه أو نثير أي شكوك. وعليه، لم تكن التحرِّيات التي قمنا بها شاملةً كما ينبغي أن تكون، ولكننا نعرف الحقائق الأساسية، وهي الآتي: وُلِد في ولاية اسمها كونيتيكت، وتلقَّى تعليمه هناك، وبعدما أنهى تعليمه حصل على وظيفةٍ بالجامعة الأمريكية في بيروت، وظلَّ هناك طوال السنوات السبع الماضية، وأحدثُ وظيفةٍ شغلها هي عميد شئون الطلبة.»
توقَّف الصدر الأعظم كي ينظر في دفتره.
ثم استطرد قائلًا: «ثمة شائعات حوله، ولكنها غير مدعومة بالمرة بأي أدلة حتى الآن. أشار بعض معارفنا إلى أنه جاسوس أمريكي، وأشار البعض الآخر إلى أنه شاذٌّ جنسيًّا.»
«أليس هذان النشاطان متعارضَيْن؟»
«نعم يا جلالة السلطان، ليسا بمتعارضَيْن.»
«مع أن كلَيْهما يتعارضان إلى حدٍّ ما مع مهنته.»
«بالفعل يا جلالة السلطان، وأقسمَتْ لي أيضًا مدام كورفيل، وهي إحدى معارفنا في القنصلية الأمريكية، أنها التقت العميدَ من قبلُ باسمٍ مختلف تمامًا عندما كانت تعيش في نيويورك، لكنها لا تستطيع أن تتذكَّر اسمه في ذلك الحين، ولا الظروف التي التقته فيها.»
قال السلطان: «استمِرَّ في رصد تحرُّكاته، وأحِطْني علمًا إذا اكتشفت أيَّ شيء مُثيرًا للانتباه.»
«سأفعل يا جلالة السلطان.»
وبينما جهَّز الحلَّاق وعاءً مليئًا برغوة الصابون، مال عبد الحميد إلى الوراء ووضع ساقًا على الأخرى، وحينها أدرك أنه غفل عن تبديل خُفِّه المنزلي؛ فارتداء خُفٍّ في هذا الجزء من القصر كان بمنزلة خَرْق صغير لقواعد الإتيكيت وآداب التصرُّف. ولكن إذا كان الصدر الأعظم قد لاحظ هذا، فإنه تكتَّم الأمرَ.
«قبل أن أهُمَّ بالرحيل يا جلالة السلطان، ثمة مسألة أخرى قد تكون ذات أهمية.»
«تفضَّل.»
«ثمة تقارير تُفِيد أن مُنصِف باركوس بِك قد أنشأ مؤخَّرًا جمعيَّة سرِّية جديدة، وهو نفسُه مُنصِف بِك الذي كان له دور نَشِط في حملة الترويج للدستور الذي كُتِب في ظلِّ حُكْم سَلَفك.»
ردَّ السلطان وهو غارق في التفكير: «مُنصِف بِك! أذكر هذا الاسم جيدًا. أظن أننا منحناه وظيفةً ما في ديار بكر.»
«هذا صحيح يا جلالة السلطان. ولعلك تذكر أيضًا أن وظيفته انتقلت في اللحظة الأخيرة إلى كونستانتسا.»
«التي تقع تحت سيطرة الروس الآن.»
«بالضبط، ولكن مدَّة بقاء مُنصِف بِك في مَنْصِبه انتهت للأسف العام الماضي، ومنذ ذلك الحين عاد إلى إسطنبول.»
أَوْمَأ عبد الحميد برأسه في غموض، وزَفَر وهو يشاهد الضوء يحيك نسيجًا من اللونين الأصفر والأحمر على جَفْنَيْه.
«هل نعرف طبيعة جماعته الجديدة؟ هل تمثِّل خطرًا؟ أم أنها مجرد حلقة أخرى من حلقات القراءة الثيوصوفية التي يعقدها؟»
«من الصعب معرفة ذلك يا جلالة السلطان.»
«لننتظِرْ ونَرَ مَجْريات الأمور.»
«حسنًا يا فخامة السلطان، ومرةً أخرى أعتذر لمقاطعة جلالتك أثناء الحِلاقة.»
«لا ضيرَ في هذا مطلقًا.»
وقبل أن يَهُمَّ جمال الدين باشا بالرحيل أخبر السلطان بمعلومة أخيرة؛ حيث قال هامسًا وهو يميل نحو السلطان إن والدة جلالته كانت تبحث عنه طوال الصباح، وقد بدا عليها الاستياء الشديد. شَكَر عبد الحميد — وهو يلمس انحناء فكِّه الأملس — مستشارَه على هذه المعلومة، ونهض على نحوٍ مفاجئ قاصدًا مكانًا أكثر انعزالًا. ولم يكن هذا لأنه كان يتحاشى لقاء والدته، بل كلُّ ما هنالك أنه أراد أن يفكِّر بمفرده في سقوط بلفن وعواقبه المتعدِّدة قبلما ينشغل بمخاوف أيِّ شخص آخر. غادر السلطان مجمَّع الحمَّامات من باب جانبي، ثم شقَّ طريقه حول حافَة حدائق الحريم، ومرَّ بجدران سجن القصر، ثم سار وسط الحظائر الواقعة شمال الحديقة إلى ما يُعرَف باسم «حديقة الفيل»، التي سُمِّيَت بهذا الاسم لأسباب يجهلها.
كان مبتغاه الوصول إلى بقعة ضيِّقة من أشجار المشمش والكريز اللاذع في الركن الشمالي الأقصى للحديقة، وهي بستانٌ مُنعزِلٌ كثيرًا ما يذهب إليه قَصْدًا للتفكير. زُرِعَت تلك الأشجار منذ قرنَيْن بناءً على أمرٍ مِن السلطان أحمد الثاني، وأصبحت بمرور السنين المكان المفضَّل للسناجب والطيور الصغيرة الذي يعِجُّ بثرثرتها وضجيجها. اكتشف عبد الحميد البستان الذي كاد يخلو دائمًا من الزوَّار من البشر عندما كان أميرًا صغيرًا في بلاط أبيه. والآن بعدما صار هو نفسه سلطانًا، وصار الآن أمرُهُ مُطاعًا من مدينة سالونيك حتى البصرة، يذهب عبد الحميد إلى هناك كثيرًا للقراءة ومشاهدة الطيور بموازاة الماء.
بعد أن تأمَّل السلطان عواقِبَ انسحاب عثمان باشا، حَمَى عينَيْه من الشمس، ونظر بعيدًا لِتلألُئ مياه البوسفور؛ راجيًا أن يُمسِك بجمهرة مبكِّرة من طيور اللَّقْلَق أو مجموعة بعيدة المنال من طيور جلم الماء، ثم تتبَّع بنظراته سِرْبًا من طيور السَّمَام وهي تنحني فوق الممرات المائية الممتدة من برج جالاتا إلى محطة قطار حيدر باشا الجديدة في حي قاضيكوي. وبخلاف طائر السَّمَام، لم يكن يوجد ما يسترعي الانتباه بدرجة خاصَّة سوى التشكيلة المعتادة من طيور النَّوْرَس وغراب البحر والسُّنونو.
«ها أنت ذا.»
لم يكن عبد الحميد في حاجة لأن يلتفت، فهو يستطيع أن يميِّز صوت أمِّه في أيِّ مكان. ومع ذلك استدار بالفعل، وقبَّل يدها ثم تزحزح ليُفسِح لها مكانًا على المَقْعَد. وعلى الرغم من أنها قد عمدت قَصْدًا إلى قطع حبل أفكاره، وتجاهلت مرةً أخرى أن تخاطبه باللَّقب الذي يليق به، فإنها أمه.
«صباح الخير يا أمي. إنه صباح رائع، أليس كذلك؟»
قالت وهي ما زالت واقفة: «بلى، إنه صباحٌ رائع. وأنا نادمة عن جدٍّ على مقاطعة استمتاعك به.»
«من فضلكِ يا أمي اجلسي، فأنتِ تزيدين استمتاعي.»
قالت له: «لديَّ طَلَبٌ صغير فحسب يا جَلالتك، وعندئذٍ سأغادر.»
كانت أمُّه على قَدْر فائق من الجمال، حتى مع تقدُّمها في العمر. إنها قطعًا فقدت قَوامها الرشيق، وسطرت الحياةُ علاماتِ الخبرة على وجهها، ولكنه ما زال في إمكانه أن يرى آثارَ ما جذب والدَه إليها بقوة.
استهلَّت كلامها وهي تقبض يديها خلف ظهرها قائلةً: «كما تعلم، سيُقيم القصر الأسبوع المقبل عشاءً على شرف السفير الفرنسي وزوجته.»
قطَّب عبد الحميد حاجبَيْه؛ لقد كان السفير الفرنسي رجلًا مُتعَجْرِفًا واضح الأغراض بدرجة مُزعِجة. ولم تكن زوجته أفضل منه حالًا؛ فهي امرأة حمقاء بدينة كرَّست حياتها لإقامة الحفلات وردِّ التفاهات الاجتماعية.
«أعلم أنكَ لا تميل إليه، لكنَّ حفل العشاء تأخَّر طويلًا، ونحن في حاجة إلى كلِّ الدعم الذي يمكننا الحصول عليه إذا ما أردنا أن نكون قوَّة موازنة للروس.»
قال السلطان: «نعم، بالفعل علينا ذلك.»
لم يستطِع أن يستشفَّ من تعليق والدته ما إذا كانت قد تلقَّت أخبارًا عن هزيمة عثمان باشا في بلفن أم لا. وتحسُّبًا لعدم سماعها بالأمر، احتفظ عبد الحميد بأفكاره لنفسه.
استرسلت والدته قائلة: «لعلك تذكُر أن السفير مُغرَم بكافيار البيلوجا على وجه الخصوص؛ فهو كثيرًا ما يأتي على ذِكْر هذه الحقيقة في مراسلاته معي ومع الصدر الأعظم.»
«أجل، أذكر أنه ذكر شيئًا عن الكافيار. وإني متأكِّد أنك ستحرصين على تقديمه في العشاء.»
«إنه في قائمة الطعام بالفعل يا جلالتك، ولكن لسوء الحظِّ أخبرني موسى بِك هذا الصباح أن كافيار بيلوجا نَفِد من المخزن، وقال إنه طلب شِحْنة جديدة، لكنها تأخَّرت بسبب أعمال العنف المُندلِعة في المنطقة، ولن تصل إلَّا بعد انتهاء الحفل.»
«يا له من سوء حظٍّ شديد يا أمَّاه!»
لطالما احْتدَم الخلاف بين والدة السلطان وموسى بِك، حارس مخازن القصر، منذ أن كان السلطان أميرًا صغيرًا. وبالمقارنة بصراعات القصر، لم يكن هذا الخلاف خَطِرًا نسبيًّا؛ بل مجرد حرب استنزافٍ رَغِب كلُّ طَرَف فيها فيما هو أكثر قليلًا من مجرد مضايقة خَصْمه. وبدأ عبد الحميد يشكُّ مؤخَّرًا أن نُفُور أمِّه العام من اليهود نبعَ من سنوات عِراكها مع موسى بِك، مع أنه كان يمكن أن يكون العكس تمامًا بكل سهولة.
قالت: «توجد عشر عُلَب من سمك الحِفْش في المخزن.»
«سيَفِي سمك الحفش بالغرض.»
واسترسلت قائلةً: «هذا سيناريو أسوأ الفروض، وهو ليس شديد السوء في ضوء المعاناة الهائلة حولنا، ولكن في ضوء ما نعرفه من امتداح السفير لكافيار بيلوجا على وجه التحديد، واحتمال احتياجنا إلى مساندة حكومته في المستقبل القريب، رأيت أنه ربما يمكن أن أفتِّشَ جيدًا عن بضع عُلَب في مخزن حفظ اللحوم خاصَّتك، غير أن موسى بِك لن يسمح لي بالدخول؛ فقد قال إن الدخول إلى هناك يقتضي أمرًا صريحًا من فخامة السلطان نفسه.»
حكَّ السلطان أصابعه في الحُبَيْبات الخشبية للمقعد. لماذا يأتيه الناس دائمًا بمثل سفاسف الأمور هذه؟ هل سلطان الإمبراطورية العثمانية في حاجة بحقٍّ إلى أن يشغل نفسه ببضع عُلَب من الكافيار؟ لقد كانت لديه شئون أهم ليتفرَّغ لها؛ مثل شئون الدولة وشئون الحرب والعلاقات الدبلوماسية الدولية.
قال السلطان باذلًا قُصارى جهدِه كي يحتوي غضبه: «سأطلب منه ذلك صراحةً.»
«ثمة أمر آخر يا جلالة السلطان.»
«ما هو يا أمي؟»
قالت وهي تحدِّق إلى قدمَيْه: «يبدو أن خُفَّيْك قد أفسدتهما رطوبة الحدائق. وإذا راق لك أن أُحضر لكَ خفًّا آخر أو حذاءً فأنا في خدمتك.»
«كلَّا. شكرًا لكِ يا أمي، لكن أظن أنْ لا حاجة لي بتغييره الآن.»
«حسنًا.» هكذا قالت، ثم استدارت لِتَرْحل وهي مُنْحَنِية.