الفصل الحادي والعشرون
جلست إلينورا وحيدةً على رأس مائدة طعام البِك اللَّامعة تتأمَّل كسرات الخبز المُتبقِّية من طعام إفطارها. كان قد مرَّ أكثر من أسبوع منذ مقابلتها السلطان، ولكن ذكرى تلك المقابلة لا تزال حيَّة تطفو على حافة ذاكرتها كبالون من الهواء الساخن. قلَّبت الرشْفَة الأخيرة الفاترة من فنجان الشاي بأصبعها الصغير ولمسته بشفتيها. في الصباح الذي تلا المقابلة، تناقشت هي والبِك بالتفصيل في تجربة مقابلتها بالسلطان. وصفت له حديقة القصر، والحرس، والوزراء وموظفيهم، والمأزق في البحر الأسود، ونصيحتها للسلطان. استمع البِك إلى وصفها بفخر واهتمام شديدَيْنِ، وخاصةً بعد أن اتَّضح أن السلطان قد عمل بنصيحتها. ولكن همَّه الأكبر كان بشأن ما إذا كان السلطان أو الصدر الأعظم قد وجَّه إليها أي أسئلة عنه هو شخصيًّا أو عن عاداته اليومية أو أيِّ شيء من هذا القبيل. مسحت إلينورا فمها بمنديل، وقلَّبت بإبهامها مجموعة من فُتات الخبز حول حافة طبقها، محاوِلةً أن تتذكَّر بعض التفاصيل الأدق عن القصر: التقوُّس البسيط في سقف غرفة المقابلات، ورائحة الليلك واللافندر، والمثلثات الفضية المُتداخِلة المُطرَّزة على ياقة قُفْطان الصدر الأعظم، وأشكال الضوء التي تسقط من خلال فروع أشجار الجوز حول النافورة الضخمة.
استغرقت في تلك الذكريات حتى سمعت قَرْعًا على الباب الأمامي ووقْعَ خطوات واثِقة تدخل المنزل، ورأت أن تلك الخُطُوات لمجموعة من حمَّالي القصر. راقبتهم من خلف عِضادة الباب وهم يسيرون عبر الباب الأمامي كمَوْكِب من الخنافس الأُرْجوانية، وكلٌّ منهم يحمل صندوقًا خشبيًّا بحجم صندوق الأمتعة. أُزِيحَت السجادة الضخمة في غرفة الجلوس بعيدًا، وكُدِّست الصناديق أزواجًا في المساحة بين مائدة استقبال الزائرين والباب الأمامي. ظلَّ السيد كروم وأحد مندوبي القصر يراقبون المَوْكِب في صمت، وعندما وُضِع الصندوقُ الأخير في مكانه أبرز المندوبُ حاملَ مستنداتٍ فضيًّا من خلف ظهره.
«هذا للآنسة كوهين.»
قال السيد كروم: «سوف أتأكَّد أنه قد وصل إليها.»
فألقى المندوب نظرةً على قفَّازه المُمتَد.
«لقد طالب فخامته بإعطاء هذا الخطاب للآنسة كوهين مباشرةً، ولا أحد غيرها.»
فخرجت إلينورا من خلف عضادة الباب.
«بعد إذنك.»
استدار الجميع كي يشاهدوها وهي تعْبُر الغرفة سيرًا مُرتدِيةً خفَّها ورداءها المنزليَّينِ. وعندما وصلت إلى المندوب، خفض رأسه كما لو لم يكن واثقًا مما إذا كان عليه الانحناء.
قال وهو يفتح الأنبوب الفضيَّ ويبسط ورقةً ثقيلةَ الوزن: «عليَّ أن أخبركِ بأن هذا الخطاب كتبه فخامة السلطان بيده.»
حملت إلينورا الخطاب بكلتا يديها. كان مكتوبًا بالفرنسية بخطِّ يدٍ أنيق يُوحِي بالثقة.
عزيزتي الآنسة كوهين
قبل أن أتناول أمر الصناديق، أودُّ أن أعبِّر لكِ عن سعادتي الشديدة بالفرصة التي أُتِيحت لي للتعرُّف عليكِ في ذلك اليوم. يمكن للمرء أن يؤكِّد من النظرة الأولى أنكِ شخص استثنائي بالفعل، فيما يتعلق بذكائكِ وشخصيتكِ. وأرجو أن تكوني قد استمتعتِ بزيارتكِ للقصر، وآمُل أن نتقابل مرة أخرى في المستقبل.
أما عن الصناديق التي تكدَّست بلا شك أمام حائط غرفة جلوس البِك، فسوف تجِدِينَ داخلها خلاصة عشرة أعوام من التقارير الرسمية والمعاهدات والبيانات المالية والمراسلات الدبلوماسية المُتعلِّقة بأمر علاقتنا بالإمبراطوريتين الروسية والألمانية، بالإضافة إلى القوى العظمى الأخرى مثل فرنسا وبريطانيا وإمبراطورية هابسبورج. أرجو أن تَدْرُسي تلك المستندات بعناية، وفي غضون أسبوعين سوف أُرسِل في طلبكِ مرة أخرى كي نناقِش محتوياتها. ولستُ بحاجة لأن أخبركِ بأن تلك المستندات غاية في السريَّة، وأنه محظورٌ عليكِ مشاركة محتوياتها مع أيِّ شخص مهما تكن الظروف.
أنتظر لقاءنا التالي بلهفة شديدة.
وأخيرًا وصلت الصناديق إلى مَقرِّها في المكتبة، ورُصَّت بعناية تحت صفٍّ من النوافذ مُواجِهةً لميناء بيشكطاش. وفي الجانب الآخر من الزجاج هبَّت رياح شديدة من الماء في غير أوانها، مُحدِثةً اهتزازًا عنيفًا في فروع الأشجار، حتى أخذت طيور البحر تتقافز وتتشقلب في حركاتٍ بهلوانية. ولكن بالداخل كان الجوُّ هادئًا، واختلطت طبقات كثيفة من دخان السيجار بالرائحة العتيقة لجلود الكتب القديمة والكُونياك، بينما ظلَّت أهداب الستائر الثقيلة تُداعِب أسطح الصناديق كأزهار الهِنْدباء البرية. أزاحت إلينورا غطاء الصندوق الذي يحمل رقم واحد، وانحنت على مَدْخَله وأخذت تقلِّب فيه بأصابعها. نزعت مجموعة مُتنوِّعة من الخطابات مربوطة بخيط حريريٍّ وفكَّتها، كان الخطاب الأول مُرفَقًا بمظروف مربع كبير موجَّهًا إلى اللواء نيكولاي كاراكوزوف، وكان ملطَّخًا من الجانب بما يبدو أنه مربَّى الفراولة. ولم يكن ثمة عنوان للمرسِل. دفعت إلينورا حواف المظروف وتركت الرسالة تنزلق للخارج. كانت دعوة مكتوبة بخط اليد إلى حفلٍ بمناسبة تجديد محلِّ إقامة السفير الفرنسي. لم تجد شيئًا يُثِير الاهتمام الفوري في تلك الرِّزْمة، فأعادتها إلى مؤخِّرة الصندوق وحملت أول ملفَّيْنِ إلى مكتب الكولونيل.
كان الصندوق الأول خليطًا من المراسلات بين إسطنبول وسانت بطرسبرج: خطابات شخصية ودعوات وتهديدات مقنَّعة وأخرى صريحة، وعروض شكاوى واعتذارات، وبعض طلبات اللجوء السياسي. كانت المراسلات في معظمها باللغة الفرنسية، مع استخدام كلماتٍ تركية وروسية حسبما تدعو الحاجة. وكان فحوى معظم الخطابات واضحًا، رغم أن القنصل الروسي يُشِير أحيانًا إلى اتفاقيات ومحادثات ومسئولين غير معروفينَ لها. ظلَّت إلينورا تقرأ طوال اليوم باستثناء استراحة قصيرة كانت تأخذها لتناوُل الغداء. وعندما طرق السيد كروم بابها لإبلاغها بحلول مَوعِد العشاء، كانت قد قرأت حوالي نصف الصندوق الأول، ورغم أنه ما زال هناك العديد من الأمور التي لا تفهمها، فقد أدركت الآن الخطوط العريضة للعلاقة بين الروس والعثمانيين.
استغرقت إلينورا كلَّ يوم على مدى أسبوعين في عالم الصناديق، في الأحداث العابرة الدقيقة الخاصة بالدبلوماسية والعداء المتبادَل والتحالُفات المتقلِّبة. وبينما كانت تقرأ اتَّسع فهمُها للموقف الجيوسياسي الراهن؛ فقد أَجبرت حربُ ١٨٧٨ ومعاهدة برلين التي تَلَتْها العثمانيين على التخلِّي عن سيطرتهم على معظم الأراضي في جنوب غرب أوروبا؛ وعادت موانئ شبه جزيرة القرم إلى الروس، وأُعطِيت البوسنة لآل هابسبورج، ووُلِدت بضع أمم بما فيها مملكتا بلغاريا ورومانيا. وفي الوقت نفسه جَثَمت كلٌّ من فرنسا وبريطانيا تراقب المَجْزَرة، مُتحَيِّنةً الفرصة المناسبة كالغربان على أعمدة السياج. ولمَّا كان العثمانيون مُحتجَزينَ بين موسكو وفيينا، وبين لندن وباريس، فقد توجَّهوا إلى برلين. وبناءً على أوامر الصدر الأعظم، عُيِّن أمراء البحار الألمان في مناصب مستشارين عسكريين، واستُقبِل القيصر في إسطنبول بعرضٍ عسكري إمبراطوري، وحصلت الإمبراطورية على قَرض ضخْم من البنك الألماني بهدف تمويل وصلة إسطنبول-بغداد من سكة حديد برلين-بغداد. وكان القيصر قد كتب في أحد الخطابات الشخصية القليلة التي أرسلها إلى السلطان عبد الحميد الثاني قائلًا إن هذا الشريان سوف يدعم كلتا الإمبراطوريتين ويقوِّي العلاقة بينهما لأعوام عديدة قادمة، ومَهَرَ القيصر خطابه بختم رسمي والتحية غير الرسمية على نحو غريب: مع تحيات التحالُف، ويلي.
نامت إلينورا بعمق في الليالي الاثنتي عشرة الأولى، وعقلها مشغول بالعلاقات والاحتمالات، ولكن في الليلة الأخيرة السابقة لزيارتها للسلطان لم تتمكَّن من الخلود إلى النوم. كانت السماء صفحة سوداء حريرية عميقة، تتناثر فيها النجوم كالسكَّر المسكوب، وهادئة فيما عدا بضع قطط ضالَّة وحيدة تتجوَّل على الضفة. مرَّت مجموعة متناثرة من السفن عبر المضيق، وكان القمر مُفعَمًا بالوهج المنعكس. تقلَّبت إلينورا على بطنها وجذبت الغطاء بإحكام حول كتفها. كانت قد قرأت عن الأَرَق في رسالة أرسطو التي تحمل عنوان «عن النوم والأحلام»، وأيضًا في «الساعة الرملية»، وفي تلك الكتب كانت الكلمة تستحضر مشاهد رومانسية مثل الكولونيل الشاب المُصاب بالأرق رايسو وهو يتردَّد على حديقة منزل والده المُتوفَّى حديثًا حاملًا في يده كوبًا من اللبن الدافئ ولحنًا ما زال يتكوَّن على شفتيه. ولكن تجربة الأرق نفسها كانت أمرًا مختلفًا تمامًا؛ كان ميعاد نومها قد مضى منذ فترة طويلة، وشعرت بمزيج من التعب والقلق وكأن ثقلًا يزن خمسة كيلوجرامات مُعلَّق في مؤخرة عنقها. كانت ترغب بشدة في النوم، ولكن عقلها لم يستطع التوقُّف عن العمل، وظلَّت أطرافها ترتجف في قلقٍ انتظارًا للصباح.
كانت قد قرأت محتويات الصناديق كلَّها، مئات الصفحات من المقارعة بالسيوف والعلاقات الوديَّة الحَذِرة، ولكنها ما زالت لا تدري كيف تفكِّر أو ماذا تقول عندما يَطْلب منها السلطان النصيحة. ونظرًا لأن الإمبراطوريتين الروسية والعثمانية كانتا مُقيَّدتين بلا رحمة بحدود الجغرافيا، فقد كانتا مُتورِّطتين في المأزق الدموي نفسه لعدة قرون، تتصارعان على رُقَع غير ذات أهمية من الأرض، تسلِّحان الجيوش وتسترضيان القوى العظمى. حتى إذا كانت تعلم ما تقول، فكيف لها — هي إلينورا كوهين — أن تؤثِّر على تلك القوى الضخمة العنيدة؟
انطلق نفير الضباب ثلاث مرات في تلك الليلة يَهْدي سفنَ الشحن اليقِظة عبر المضيق، ويُقْلِق ساكني إسطنبول في أسِرَّتهم. وبعد بزوغ الفجر مباشرةً، أيقظت النفخة الرابعة إلينورا من غَفْوةٍ كانت قد استغرقت فيها منذ لحظات، وعلمت أنها لن تتمكَّن من الخلود إلى النوم مرَّة أخرى. كان الوقت ما زال مبكِّرًا على الإفطار، ولكن نيران المطبخ كانت قد أُشعِلت بالفعل. صاح باعة الخبز في أول الشارع وآخره كطيور النَّوْرَس التي انفصلت عن أسرابها، وتسلَّلت الهِرر الباحثة عن فريسة في ممرات ضيِّقة كريهة الرائحة حاملةً غنائمها. وفي نهاية الأمر، أقنعت إلينورا نفسها بأنها لو لم تتمكَّن من الخلود إلى النوم ففي استطاعتها على الأقل أن تُلقِي نظرةً أخيرة على الصناديق.
لم تتفاجأ بوجود البِك في المكتبة، رغم أن مظهره قد صَدَمها إلى حدٍّ ما. كان نائمًا في مقعده بجوار المِدْفأة وحُلَّته متجعِّدة وعيناه مُتدَلِّيتان كالكلاب الخاملة. وكان ثمة فنجان شاي فارغ على المائدة بجواره، بالإضافة إلى مصباح جاز وكَوْمة من الخطابات. أغلقت إلينورا الباب وجلست في المقعد المقابل له، وجذبت ركبتيها نحو صدرها. وبينما كانت تراقبه نائمًا، أحدث الجَمْر صريرًا في المِدْفأة وتسلَّلت هالة من ضوء الشمس عبر الستائر. وأخيرًا تحرَّك البِك وفتح عينيه.
«الآنسة كوهين.»
خفت صوته وهو ينظر حوله في الغرفة.
«هل أتى الصباح؟»
«نعم يا سيدي، تقريبًا.»
وقف وسوَّى حُلَّته ومرَّر يده بطول كلا كُمَّيه.
قال وهو يلقي نظرةً على اللوحة التي تعلو المائدة المجاوِرة له: «لم أستطع النوم.»
طوت إلينورا ساقَيْها تحت ثوبها المنزلي.
«وأنا أيضًا.»
وفي فترة الصمت التي تَلَتْ ذلك، أخرج البِك نظَّارته من جيب مِعْطفه الداخلي وبحث عن منديل، ولكنه لم يجد، فمسح نظارته في طرف قميصه، ثم أمسك بخطابَيْن في أعلى الكومة المجاورة له ومدَّ يده إليها بهما، فأَخَذتْهما منه.
قال: «كنتُ أرغب في أن أنتظر حتى تكبرين قليلًا، ولكن الوقت قد حان.»
همست قائلة: «أشكرك، رغم أنني لا أدري ما الأمر.»
قال وهو يأخذ بقية الكومة: «سوف أترككِ مع خواطركِ.» ثم غادر الغرفة.
كان الخطاب العلوي هو نفس الخطاب الذي وجدَتْه منذ بضعة أشهر في مكتب الكولونيل. كان مغطًّى ببصمات الأصابع والتراب، ولم يكن يحمل طابع بريد أو ختمًا أو عنوان مرسِل، بل فقط الكلمات «مُنصِف باركوس بِك، حاملته إليك السيدة داماكان» على مقدِّمة الخطاب. رفعته إلينورا إلى أنفها واستنشقت الرائحة. كان ورقُه مصفرًّا عند الحواف ومطويًّا على هيئة مربع، وأمسكت به بين راحتيها الصغيرتين المُرتَعِشتين. وكان الحبر قد بدأ يميل للَّون البني، لكنها استطاعت قراءته بسهولة في ضوء الصباح.
عزيزي مُنصِف بِك
آمُل أن يصلك هذا الخطاب وأنت في سعادة وتتمتَّع بصحة جيدة، رغم أنه عليَّ أن أعترف أن الشكوك تساورني بشأن ما إذا كان هذا الخطاب سيصل إليك. لست أشكُّ إطلاقًا في أمانة السيدة التي بعثتُ معها بتلك الرسالة، ولا في رغبتها الحارَّة في توصيلها، بل إنني في حقيقة الأمر أكتب بناءً على إلحاحها. ولكن إذا كان لامرأةٍ أن تقطع تلك المسافة الشاسعة وحيدةً في غمار المعركة، فلا يسع المرء مع رسولٍ كهذا إلا أن يكون له بعض التحفُّظات. ولكنني رغم ذلك فإنني على يقين من أنه لا يوجد خِيار آخر؛ فأسلاك التلغراف ما زالت معطَّلة، والخدمة البريدية قد توقَّفت.
كما تعلم، فقد سقطت كونستانتسا منذ حوالي أسبوعين على يد سلاح الفرسان الملكي التابع للقيصر، وفي أثناء ذلك رأيتُ أهوالًا لم أتخيَّلها من قبل؛ السلب والنهب والحرق والتخريب المتعمَّد للممتلكات والاغتصاب الوحشي المتكرِّر لنساء مدينَتِنا. لا وقت كي أصف تلك الأحداث، رغم أنها قد حُفِرت في ذاكرتي للأبد. أعتقد أنه يكفي القول إن الحديث عن سُمعة جنود القوزاق ليس مبالغةً على الإطلاق، فهم يتسمون بالفظاظة والغلظة والعنف والقسوة والسُّكْر. وللأسف فإن القوات العثمانية ليست أفضلَ حالًا، فقد هرب هؤلاء المئات من الجبناء المُتمركِزين في كونستانتسا في الليلة السابقة للهجوم تارِكين المدينة بلا دفاع. ولكنني لن أعطِّلك بتلك التفاصيل، فلا شكَّ أنك قد سمعت العديد من الروايات المشابهة، وليس لديَّ سوى مساحة محدودة كي أوضِّح لك أمرًا غاية في الأهمية. سوف أدخل في الموضوع مباشرةً.
في خلال تلك الأحداث العاصفة داهمتْ زوجتي العزيزةَ ليئةَ آلامُ المخاض، وبعد أن وضعت طفلةً تعرَّضت لنزيف شديد، وغطَّت صدمةُ وفاتها على كلِّ مظاهر الفرحة بميلاد طفلتي الأولى؛ فلم أتمالك قواي كي أكتب خطابًا إلا الآن بعد مرور أسبوعين على الأحداث التي ذكرتها. أعلم أن تصوُّر سيناريوهات مغايِرة لما حدث لا تفيد على الإطلاق، ولكنني لا أملك إلا أن أتساءل ماذا كان سيحدث لو حضر الولادةَ طبيبُ المدينة د. هوسيك، الذي كان مشغولًا بالعناية بالجرحى؟ فقد حضرت ولادةَ إلينورا بدلًا منه قابلتان تتاريتان أرسلتْهما العنايةُ الإلهية إلى باب منزلنا فَوْر أن بدأت آلام المخاض تُداهِم ليئة.
أخبرَتاني بأن ما جَذَبَهما إلى منزلي نبوءةٌ قديمة أنبأتْ بها مجموعةٌ من العلامات؛ طيور وحلقة من الجياد وطَوْر القمر، شيء من هذا القبيل. عليَّ أن أعترف بأنني لا أفهم طبيعة تلك العلامات، ولست أثق بها كثيرًا. ولكنني أعلم أن هاتين المرأتين، وإحداهما حاملة الرسالة، قد قدَّمتا لي مساعدة قيِّمة، ولست أدري ماذا كنتُ سأفعل من دونهما؛ فقد وافَقَتَا على البقاء معي ومساعدتي في إدارة شئون المنزل حتى موعد رَحَيلِهما إلى إسطنبول. وكما ذكرتُ في برقيتي التي أرسلتها منذ أسبوع، فسوف تبحث كلتاهما عن عمل عند وصولهما إلى إسطنبول، وأُوصي بتعيينهما في إدارة شئون أيِّ منزل تراه مناسبًا.
أما الآن وقد شارف هذا الخطاب على النهاية، أودُّ أن أطلب طلبًا صغيرًا خاصًّا بي. فلمَّا كانت ابنتي قد أتت إلى العالم يتيمةَ الأم ولا تملك عائلة مُمتدَّة، أشعر بالحاجة لإجراء ترتيبات رسمية في حال حدوث أيِّ مكروه لي. فكما أوضحتُ لك من قبل، فإنني أعتبرك من أشرف الرجال الذين أعرفهم وأكثرهم استقامة وثباتًا على المبادئ، وأتشرف بتَرْك ابنتي في رعايتك لو حدث لي أيُّ مكروه. أرجو أن تدرس ذلك الطلب بمنأًى عن الظروف التي وصلك فيها، وآمُل أن نلتقي قريبًا في ظروف أفضل.
وحتى ذلك الحين سوف أظلُّ
عندما انتهت إلينورا من قراءة الخطاب، طوته كما كانَ ووضعته في المظروف. أعادت ربط ثوبها المنزلي، ونظرت إلى الرماد المتبقِّي من نيران الليلة الماضية. يبدو أن والدها لم يكن يثق كثيرًا بعلامات السيدة داماكان، وهي تثق بوالدها أكثرَ من أيِّ شخص في العالم. ولكن ها هي في الصفحة؛ النبوءة، الجياد والطيور، مصير مكتوب سلفًا، قَدَر عتيق لا تعلم طبيعته. كانت لديها أسئلة كثيرة عن نفسها وعن والدها والسِّرْب الذي يتبعها والسيدة داماكان والبِك ومولدها والقابلتين والنبوءة، ولِمَ لَمْ يخبرها أحد بذلك من قبل. كادت تنسى أمر الخطاب الثاني الذي كان مُوجَّهًا أيضًا إلى مُنصِف باركوس بِك ومختومًا بتاريخ منتصف فبراير، وكان أقصرَ كثيرًا من الخطاب السابق. أخرجت الورقة من المظروف وقرأت سريعًا.
مُنصِف باركوس بِك
أشكرك على التعازي القلبية المُخلِصة لوفاة زوجي العزيز يعقوب، وأنا أتقبَّلها وأقدِّرها بشدَّة، فقد أخبرني كثيرًا كم يحبك ويحترمك باعتبارك صديقًا، وذكر لي أيضًا ذات مرة أنه قد طلب منك تولِّي مسئولية إلينورا وحمايتها في حال وقوع أيِّ مكروه له. ورغم أنني كما قلت خالتها وزوجة أبيها، فإنني أطلب التخلِّي عن تلك المسئولية التي أكَّد لي يعقوب أنك قبلت تحمُّلها بصدر رحب؛ فلستُ في موقف يسمح الآن بالعناية بطفلة صغيرة. وأما عن الشئون المالية التي أشرتَ إليها في برقيتك السابقة، فيمكنك أن تستفيد من أيِّ أموال قد جناها يعقوب أثناء إقامته في إسطنبول، وسوف أتدبَّر أموري بطرقٍ أخرى.
وأشكر لك تفهُّمك في هذا الوقت العصيب.
وقفت إلينورا ووضعت الخطابين أمامها على المائدة. ولمَّا كان والدها غائبًا، لم يكن هناك سوى شخص واحد في العالم تأمُل أن يُهدِّئ طوفان الأسئلة الذي يدور في عقلها. أدارت المِقْبض وخرجت من المكتبة إلى الممر الذي يضيئه القمر، وبذلت أقصى جهدها كي تُهدِّئ من أفكارها وتركِّز على المهمة الحالية، فتوقَّفت ووضعتْ يدها على صدرها. كان قلبُها يخفق بقوة عبر القماش الرقيق لرداء نومها. أخذت نَفَسًا عميقًا وصفَّتْ ذهنها، وسارت خطوة بخطوة بطول محيط غرفة الطعام تحت ضوء الثريَّا الخافت مرورًا بباب المطبخ.
كان المطبخ باردًا خاليًا من السجاد، يفوح برائحة زيت الطهي والبصل. وفيما عدا سلسلة من المِقْليات التي تتدلَّى من فوق المَوْقِد، لم تكن ثمة أيُّ زخارف تُذكَر. وفي الجانب البعيد من الغرفة كانت توجد ثلاثة أبواب مثبَّتة بأدوات حديدية ثقيلة. كانت تعلم أن الباب الذي يقع في الجانب الأيسر يقود إلى ساحة صغيرة بالخارج، والباب الذي يقع في الجانب الأيمن يقود إلى حجرة المؤن، أما الباب الأوسط الذي يعلو البابين الآخرين بارتفاع بضع أصابع فهو يقود إلى جناح الخدم.
انفتح الباب بسهولة كاشفًا عن دَرَج خشبيٍّ مُنحدِر يتلاشى في ظلِّ ضوء شمعة خافت. صعدت إلينورا الدرجة الأولى مُحدِثة صوت صرير، وأُغلِق الباب خلفها. وضعت يدها على الدرابزين الحديدي البالي، وصعدت خطوة خطوة إلى رَدْهة في الأعلى. كان بوسعها أن ترى الآن أنَّ ضوء الشمعة يتسلَّل من أسفل أحد البابين. أمَلَتْ بشدة أن تكون تلك غرفة السيدة داماكان، وإن كانت غرفةَ السيد كروم فسوف تدَّعي أنها تبحث عمن يساعدها في شأن نسائي. لم تكن تعلم ما هو ذلك الشأن النسائي، ولكنها تعلم أن ذلك سوف يقودها إلى مكان السيدة داماكان دون مزيد من الأسئلة. أخذت إلينورا بضعة أنفاس مكتومة أمام الباب قبل أن تطْرُقه بهدوء شديد. مرَّت بُرْهة طويلة، ثم سمعت سُعالًا وصوت جرجرة قدمين على الأرض، ثم فُتِح الباب. إنها السيدة داماكان.
صاحت في دهشة وهي تضع يدها على كتف إلينورا: «عزيزتي، ماذا تفعلين هنا؟»
حاولت إلينورا أن تُجِيب، ولكنَّ طوفانًا من المشاعر اجتاحها. بدأ الأمر بنَشِيج مكتوم وشعور بالاختناق وانفجار في الدموع، ثم شعرت بارتياح يَسْري في أوْصالها بدءًا من جوفها مرورًا برِئتيها وحَلْقها كما لو كان كائنًا بحريًّا شاحِب العينين يبرز إلى سطح الماء أخيرًا بعد عقود من سُكْنى الأعماق. وعندما فتحت فمها، ارتجف جسدها النحيل. ضَغْط الأسبوعين الماضيين، والنبوءة، والسلطان، وكلُّ الأسئلة التي تراوِدُها، كلُّ ذلك ظهر في صورة انهيار. دفنت إلينورا وجهها في حضن الخادمة العجوز وبكت؛ بكت على والدها ووالدتها وعلى كونستانتسا، وعلى السيدة داماكان وابنة أخيها، وعلى المعاناة التي لم تكن تدْرِ شيئًا عنها، ولكن في المقام الأول بكت رثاءً لحالها وعلى استبعاد وجودها والشكِّ التام في موقعها في هذا العالم.
وعندما أُنهِكت قوى إلينورا، جلست فترة طويلة على حافة الفراش تحدِّق في الشمعة. ظلَّت السيدة داماكان تضمُّها وتداعِب شعرها وهي تهمس بلغة لا تفهمها إلينورا. وأخيرًا اعتدلت إلينورا واعْتذَرت بصوت خافت.
قالت وهي تمسح دموعها في كمِّ ثوبها: «أنا آسفة، آمل ألا أسبِّب لكِ إزعاجًا.»
«كلَّا، على الإطلاق.»
نظرت إلينورا إلى يديها التي تختبئ في طيَّات ثوبها المنزلي. كان وجود السيدة داماكان فحسب كافيًا لتهدئتها.
قالت الخادمة العجوز وهي تداعِب شعر إلينورا: «إنك طفلة شديدة التميُّز، وأنتِ تعلمين هذا، أليس كذلك؟»
فتمتمت إلينورا تعبيرًا عن الموافقة.
«أنتِ تعلمين أنكِ متميِّزة، ولكن أعتقد أنكِ لا تدرين كيف ذلك.»
فهزَّت إلينورا رأسها.
تابعت السيدة داماكان: «لآلاف الأعوام تناقَل قومي نبوءةً تنبَّأ بها آخِرُ ملوكِنا العظام في ساعته الأخيرة على فراش الموت، بقُدوم فتاة صغيرة تغيِّر مجرى التاريخ وتحرِّر شعبنا. وثمة علامات لمولدها: رقعة كبيرة من الجياد، ومحفل من الطيور، والنجم القطبي بمحاذاة القمر، واثنان من شعبنا. وعن طريق تلك العلامات سوف نعرف أنها هي الفتاة المقصودة.»
نظرت السيدة داماكان إلى إلينورا بمزيج من الخوف والإجلال، ووجهها يظلِّله وميضُ الشمعة.
«إنكِ هي.»
قاطعتْ إلينورا نظرة السيدة داماكان ونظرت للأسفل نحو بحيرة دموعها. سواء أكانت تصدق تلك الكلمات أم لا، فقد ارتجف جسدها حتى النخاع لتلك الكلمات التي قِيلت بهذا اليقين الذي لا يتزعزع.
ولكنها أصرَّت قائلة: «وماذا عن السلطان والصناديق؟ ماذا يُفترَض أن أفعل غدًا؟ لستُ أدري ما أقول، وكيف لي أن أكون ذلك الشخص الذي تتحدَّثين عنه إذا لم أكن أعلم ماذا أقول؟»
ابتلعت السيدة داماكان لُعابها وأغمضت عينيها.
«ثقي بنفسك، واستمعي إلى صوتك الداخلي. هذا كلُّ ما لدينا الآن.»