الفصل الثاني والعشرون
بينما كانت السيدة داماكان تثبِّت المشابِك في ظهر ثوب إلينورا واحدًا تلو الآخر كما لو كانت درجات سُلَّم غير ثابت، استغرقت إلينورا لحظةً كي تتأمَّل نفسها في مرآة مائدة الزينة. كان الإرهاق باديًا عليها بوضوح، فعيناها ذابلتان عند الأطراف ووجنتاها شاحبتان كالخزف، ومهما حاولتْ أن تهدِّئ من ارتجاف يديها فقد ظلَّتا ترتجفان قليلًا إلى جانبها. لم تتناول أيَّ شيء في الإفطار ذلك الصباح، وشعرت أن مَعِدتها ملساء كحوض استحمام خالٍ. لم تتفوَّه هي أو السيدة داماكان بكلمة عن الحوار الذي دار بينهما منذ بضع ساعات، ولكن ذِكْراه كانت تحوم حولهما. كان خطاب والدِها ودليلٌ مادي على غيابه كافيَيْن كي تفقد أعصابها، وبالإضافة إلى ذلك كان عليها أن تستوعِب روايته القاسية عن مولدها والنبوءة (مهما تكن صحتها) وخطاب روكساندرا. رَمَقت نفسها في المرآة، وشعرت برعب الانتظار في أخْمَص قدميها وفي أعصابها كمِجَسَّات كثيرة تتحسَّس العالم من حولها. لم تكن ترغب في الذهاب إلى القصر، ليس الآن، وليس وهي في تلك الحالة، ولكن لا أحد يستطيع رفض طلبٍ للسلطان؛ حتى لو كان ذلك مُمكِنًا فقد تأخَّر الوقت كثيرًا. وبينما كانت السيدة داماكان تربط المشبك الأخير في عُرْوته، توقفت العربة المَلَكية عند منزل البِك، وبعد مرور بضع لحظات طُرِق الباب الأمامي.
انطلقت العربة حاملةً إلينورا ورسول السلطان صامِتَيْن مارَّةً بالبحَّارة المتثائِبين والحرَّاس الليليين وهم يراقبون الجمر الخامد في المَجامِر. مرَّا بمجموعة من طلبة المدارس الثَّرْثارين خارج البازار المصري، عبر مجموعة متناثِرة من المُستجْدِين السائلين صعودًا إلى بوابة السلام. وبينما كانت بوابات القصر الداخلية تُفتَح، لمس رسول السلطان رُكْبتها.
قال وهو يجذب جفنه السفلي كاشفًا عن حافته المُمتلِئة بالعروق: «خذي حِذْرك، فأنتِ كلَّ ما نملكه.»
ودون أن يتفوَّه بكلمة أخرى، ودون حتى أن يُلقِي نظرةً خلفه، قاد الرسول إلينورا عبر حدائق القصر حتى أوْدَعها أمام راية النبي محمَّد عليه الصلاة والسلام. اقتِيدت إلى غرفة المقابلات مباشرةً، ولاحظت وهي تنحني أن الغرفة شبه خالية. فبالإضافة إلى السلطان وهي شخصيًّا والقليل من الحَرَس، لم يكن يوجد أحدٌ سوى شخصين تعرَّفت على أحدهما؛ إنه الصدر الأعظم، والآخر امرأة أكبر سنًّا لم ترَها من قبلُ.
«صباح الخير أيتها الآنسة كوهين.»
عندما تحدَّث السلطان، توقَّف كلُّ مَنْ في الغرفة عما يفعلونه والتفتوا نحوه.
«صباح الخير يا فخامة السلطان.»
«أرجو أن تكون رحلتك إلى القصر لطيفة.»
«نعم، كثيرًا.»
«إنني سعيد لسماع ذلك.»
وتابع قائلًا وهو يُومِئ إلى الصدر الأعظم: «هل قابلتِ جمال الدين باشا؟»
«نعم يا فخامة السلطان.»
لم تكن إلينورا والصدر الأعظم قد تعرَّفا رسميًّا حتى الآن، ولكنها تعرَّفت عليه من المقابلة الماضية.
قال وهو يُومِئ إلى المرأة الأكبر سنًّا التي تقف على يساره: «ولكنني أعتقد أنه عليَّ أن أقدِّمكِ إلى أمِّي، السلطانة الأم. لقد تأثَّرتْ كثيرًا بحديثي عن المقابلة الماضية ورغبت في أن تحظى بالفرصة كي تقابلكِ شخصيًّا.»
كانت والدة السلطان إنسانة أنِيقة راقِية، تتدلَّى المجوهرات من عُنُقها، وجسدُها غارقٌ في العطور.
قالت إلينورا وهي تنحني مرة أخرى: «تشرَّفتُ بمقابلتكِ.» ولكنها لم تكن انحناءةً عميقة كالسابقة عندما دخلت الغرفة.
«إنَّ الشرف لي يا عزيزتي.»
قال السلطان وهو يطوي يديه تحت ذَقَنه: «قبل أن نشرع في عملنا الرسمي، أودُّ أن أُبْلغكِ أن فريق المترجمين لدينا قد انتهى من ترجمة المجلد الأول من «الساعة الرملية» إلى التركية، وقد بدأتُ أقرؤها منذ بضعة أيام فحسب، ولكنني أدركت بالفعل سبب استمتاعكِ بها كثيرًا إلى ذلك الحدِّ.»
هزَّت إلينورا رأسها. لم تكن مُتَّزِنة بسبب سرعة الانحناء، وتدفَّق في رأسها طوفان من المشاهد من «الساعة الرملية»: الآنسة هولفرت تختبئ مُتكوِّمة على نفسها في قبْوِ المنزل الريفي الخاص بابن عمها، والملازم براشوف وهو يمرُّ عبر المدن التي تتوهَّج بالمشاعل والمِدْفَعية الثقيلة، والقاضي رايكو وهو يضحك بطريقة لا يمكن التحكُّم بها في قاعة المحكمة المُزدحِمة. مرَّ كلُّ ذلك في رأسها، ولكنها لم تستطع أن تفكِّر كيف تُجِيب السلطان؛ كلُّ ما تَبادر إلى ذهنها هو أحد سطور المجلَّد الرابع: «جَذَبَه خيطُ القَدَر عبر الدنس والأشواك والمصاعب والمأساة وليالي الأرَق التي لا تُحصَى. كان يبدو أحيانًا كما لو كان صراعًا غير ذي جَدْوى، ولكنه عندما وصل إلى خطِّ النهاية أخيرًا فَهِمَ أنَّ كلَّ ذلك كان ضروريًّا.» هل كانت كلُّ حياتها السابقة مجردَ إعدادٍ لتلك اللَّحظة؟ أوْمَضت بعينيها وتماسكت.
«نعم يا فخامة السلطان.»
قال السلطان وهو يتَّكئ على مِرْفقه: «ثمة أمر آخر، فكما تعلمين فإنني أهوى مشاهدة الطيور منذ أعوام عديدة، وتُعَد إسطنبول مُلتقَى عِدَّة أنواع من الطيور المهاجرة، ويوفِّر القصر مَوقِعًا مثاليًّا لملاحظة حركاتها. وفي الشهور القليلة الماضية، لاحظتُ أكثر من مرة سِرْبًا غريبًا من الهداهد الأُرْجوانية الجاثِمة حول منزل مُنصِف بِك. لن أُزْعِجك بملاحظاتي، ولكن تلك الطيور ليست مألوفة في المنطقة، وتُشِير الكتابات إلى أنها كائنات مُنعزِلة في المقام الأول. أرغب في معرفة خواطرك عن هذا الأمر، على الأقلِّ لأن السِّرْب يبدو مُرتبِطًا بكِ إلى حدٍّ ما.»
توقَّف مُتِيحًا لها الفرصة كي تُجِيب.
فقالت إلينورا: «إنه سِرْبي؛ لقد كان معي عندما وُلِدتُ، وتَبِعني من كونستانتسا إلى هنا.»
طبقًا لخطاب والدها وحديث السيدة داماكان، فإن سِرْبها يرتبط أيضًا — على الأقلِّ رمزيًّا — بالنبوءة. ولكنها رأت أنه من الأفضل ألَّا تُفْصِح عن هذا الارتباط؛ فهي شخصيًّا لا تفهمه فهمًا تامًّا.
ردَّد السلطان: «سِرْبك! إذن فالأمر بتلك البساطة.»
فابتسمت إلينورا مؤكِّدة هذا الأمر.
تابع السلطان مغيِّرًا الموضوع: «على أي حال أعتقد أنكِ تصفَّحتِ المستندات التي أرسلناها إليكِ، وأنكِ وجَدْتِها مُشوِّقة.»
«نعم يا فخامة السلطان، لقد قرأتُها.»
«وماذا كان انطباعكِ عنها؟»
فبدَّلت إلينورا مكان قدميها على الأرض.
ثم قالت: «وجدتها مُمتِعة للغاية. ثمة بضعة خطابات لم أفهمها جيدًا، ولكن بالنسبة إلى معظم الخطابات فقد وجدتُها مُمتِعة للغاية.»
«أيُّ خطابات لم تفهميها؟»
«يصعبُ تحديد ذلك.»
وجَّهت حديثها إلى الصدر الأعظم الذي وجَّه إليها السؤال، ثم تذكَّرت قواعد البروتوكول فالتفتت مرةً أخرى إلى السلطان.
«كان ثمة خطاب، على سبيل المثال، مِن القنصل الروسي إلى القصر يحدِّد شروط تبادُل الأسرى، وكذلك كان ثمة مسوَّدة أوَّليَّة لمعاهدة سان ستيفانو. ولا أظن أنني أفهم السياق السياسي لأيٍّ من الموقفين.»
طمأنها السلطان قائلًا: «مع هذا الكمِّ الكبير من المستندات وتلك السياسات المُعقَّدة، لم نتوقَّع منكِ أن تفهمي كلَّ التفاصيل، رغم أنه بوسعنا بالطبع أن نقدِّم لكِ مستندات توضِّح سياق كلا الموقفين.»
التفتَ إلى الصدر الأعظم قائلًا: «هل ستتولَّى ذلك الأمر؟»
«نعم يا فخامة السلطان.»
واصل السلطان حديثه مُلتفِتًا مرَّةً أخرى إلى إلينورا: «والآن رغم أنكِ لم تحظَيْ بالفرصة لقراءة كلِّ المستندات ذات الصلة بالموضوع، فإنني أودُّ أن أسمع انطباعاتكِ عن الموقف ككلٍّ، بالإضافة إلى أيِّ نصيحة يمكنكِ تقديمها حول تصرُّفنا في المستقبل.»
أحكمت إلينورا إطباق قَبْضَتَيْها وهي تغرس أظافرها في راحَتَيْها. كانت صعوبة السؤال الذي وجَّهه إليها السلطان تُحِيط بها كغيمة من البعوض. فتحت فمها كي تعتذر، كي تخبرهم بأنها تشعر بالتعب الشديد، وبأنها بأمانة شديدة لا تملك انطباعًا عن الموقف ككلٍّ، ولكن قبل أن تتحدث اندفعت والدة السلطان قائلة: «أتعلمين أن نصيحتكِ السابقة للسلطان قد نُفِّذت بالفعل؟ وحتى الآن على الأقل فهي ناجحة.»
قالت إلينورا: «كلا، لم يكن لديَّ علم بذلك.»
«لقد نُشِرَ الأمر في الصحف المحلية.»
«ولكنني لا أقرأ الصحف المحلية.»
تابع الصدر الأعظم قائلًا وهو يدوِّن شيئًا ما في مفكِّرته: «لقد نُشِرَ في الصحف العالمية أيضًا.»
قالت إلينورا: «إنني لا أقرأ أيَّ صحف على الإطلاق، وأعتذر إذا كان من المُفترَض أن أقوم بذلك، ولكنني ظننت أنه عليَّ قراءة محتويات الصناديق فحسب.»
وضع الصدر الأعظم مفكِّرته جانبًا. بدا كما لو كان سيطرح سؤالًا، ولكنه جعَّد أنفه فحسب.
قال السلطان: «لقد كانت خطتكِ ناجحة تمامًا؛ فعندما رأى الروسيون أننا لن نشتبك في القتال، توقَّفوا عن مُضايقَتنا وعادوا إلى سيفاستوبول. وأما الألمان فقد شعروا بالضيق في بادئ الأمر، ولكنهم في النهاية بدت عليهم السعادة لتجاهُلنا اقتراحهم بالاشتباك في القتال.»
توقَّف السلطان ونظر في عينَي والدته.
«ولذلك السبب أودُّ أن أسمع انطباعاتكِ عن موقفنا السياسي بوجه عام.»
مسحت إلينورا راحتَيْها في ظهر ثوبها وابتلعت لُعابها. كما قالت السيدة داماكان، عليها أن تثق بنفسها؛ ليس أمامها سوى ذلك، وتمنَّت لو كان في وسعها أن تفكِّر في اعتذار مناسب. تزاحمت في عقلها صور الخلفاء والمُفْتِين، والملوك القدامى والعواصم المهجورة.
قالت متشبِّثة بأول خاطرة مكتمِلة خطرت في بالها: «إن موقف الإمبراطورية بوجه عام لا يختلف كثيرًا في رأيي عن موقف الهيركانيين كما وصفه زينوفون في روايته «سايروبيديا».»
توقَّفت إلينورا كي ترى مدى تأثير هذا التشبيه، ولكن لم يبدُ أن أحدًا من الحاضرين يعلم شيئًا عن الهيركانيين، أو عن زينوفون من تلك الزاوية.
«كان الهيركانيون تابعين لجيرانهم الأكثر قوة — الآشوريين — الذين كانوا يستغلونهم أسوأ استغلال في شئون السياسة، بالإضافة إلى الشئون العسكرية. وفي الموقف الذي يصفه زينوفون، أُعطيَت الأوامر للفرسان الهيركانيين بحماية مؤخِّرة سارية آشورية، حتى إذا حلَّ أيُّ خطر من الخلف يتحمَّلون هم وطأته، ولكن …»
توقَّفت إلينورا لحظةً كي تُبلِّل شفتيها بلسانها، وعندما فعلت ذلك أُصِيبت بدوار. انقشعت غَيْمة عن أشعة الشمس التي أشرقت في الغرفة، مُضِيئةً رقعة الرخام التي تقف عليها.
قالت محاولةً ترتيب أفكارها: «وبينما هم …»
وهنا انهارت إلينورا. جَثَت أولًا على ركبتيها، ثم ارتجفتِ ارتجافةً شديدة وانهارت حتى سقطت على الأرض. وعلى الأرض في مُنتصَفِ غرفة مقابلات السلطان دخلت في نوبة من التشنُّجات، وتوقَّف عقلها عن العمل تمامًا.
رغم أن إلينورا كانت قد قرأت القرآن كاملًا، بل وحفظته في الواقع، فإنها لم تُلقِ بالًا لمسألة الوحي. وإذا لم تستحضره الظروف، فلم تكن تفكِّر في محتوياته إلَّا نادرًا. ومن العجيب أن سورة الغاشية كانت أوَّل ما خطر ببالها عندما فتحت عينيها، وأغمضت عينيها وفتحتْهما مرة أخرى في محاولة لإدراك ما يُحِيط بها: فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ. وعبر باب مفتوح استطاعت أن ترى ساحةً واسعة تمتلئ بفتيات جميلات ينقُرْن على الآلات الوترية ويهمسن بعضهن لبعض في نبرة ضاحكة. ها هي العين الجارية، والبُسط الممدودة، والنمارق المصفوفة.
كانت ترقد ووجهها للأسفل على أريكة مُرتفِعة في منتصف غرفة صغيرة متفرِّعة من الساحة، وكان رأسها مَسنُودًا بمجموعة من الوسادات المُخْمَلية، وقدماها حافيتان. شعرت بالخَدَر والوخز في يدها اليمنى، وسرعان ما اكتشفت أنها عالِقةٌ بين جسدها والوسادة. وبصعوبة شديدة تمكَّنت من جذب يدها من تحتها وانقلبت على ظهرها، وعندما فعلت ذلك رأت أن والدة السلطان تقوم على رعايتها. حاولت أن تجلس، ولكنها عندما رفعت رأسها اخْتَرَقها ألم حادٌّ من صُدْغها حتى الجهة الأخرى. وهنا فحسب تذكَّرت نهاية السورة وبدت منطقيةً لها: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ.
«ليس عليكِ أن تتحرَّكي، اهدئي وارقدي هنا فحسب.»
لمست والدة السلطان جبهة إلينورا بظهر يدها ثم رفعت كأسًا كبيرة إلى شفتيها.
قالت: «هيَّا، اشربي هذا.»
كانت الكأس تحتوي على شراب ذي لون أحمر داكن، وبنكهة الرمَّان ذي المذاق الحُلْو دون الأنسجة القاسية. وعندما انتهت إلينورا من تناوُل الشراب وضعت والدة السلطان الكأس نصف الفارغة على الأرض.
«لقد كنتِ عطشة.»
هزَّت إلينورا رأسها ووضعت يدها الخَدِرة المتعرِّقة على جبهتها. كانت ترغب في أن تسأل عن مكانها وما حدث، وما إلى ذلك، ولكنها كانت تشعر بالتعب لدرجةٍ تمنعها من الحديث، بل حتى من التفكير.
قالت والدة السلطان: «إن السلطان مهتمٌّ جدًّا بصحتكِ، وفور أن قرَّر الطبيب أن حالتكِ مستقِرة أصرَّ على إحضاركِ إلى هنا في جناحه الخاص؛ ظنًّا منه أنه أكثر الأماكن راحة كي تستعيدي صحتكِ وتتعافَيْ.»
حاولت إلينورا أن تتحدَّث مرة أخرى، ولكن الكلمات لم تخرج، بل فُقِدت في الطريق من عقلها إلى فمها، وعندما كانت تدرك أن الكلمات ضاعت منها كانت تنسى ما ترغب في قوله.
«خُذي رشفةً أخرى من عصير الرمَّان، فسوف يمدُّكِ بالطاقة.»
وبينما كانت إلينورا تشرب، شعرت بالقوة تتدفَّق في عروقها، وبالسكَّر وهو يُضَخُّ في دمها، ولكن رغم القوة كان عقلها مشوَّشًا.
سألتها والدة السلطان وهي تُداعِب ظهر يدها: «ماذا تذكرين؟ هل تذكرين ما قلتِه لنا؟»
رفعت إلينورا ذَقَنها كي تهزَّ رأسها.
«ألا تذكرين أيَّ شيء أخبرتِنا به؟ حول الكاهن مولر والأُحْجِية؟ حول مُنصِف بِك والشاب الغريب في مقهى أوروبا؟»
همست بصعوبة قائلة: «كلَّا، ماذا قلتُ؟» فلم تكن تذكر شيئًا سوى الهيركانيين.
قالت والدة السلطان: «ليس مهمًّا.» وقفتْ وأزاحت خُصْلة من شعر إلينورا عن جبهتها، ثم تابعت قائلة: «مِن الأفضل بالفعل أنك لا تذكرين شيئًا.»
أراحت إلينورا رأسها على الوسادة ونظرت مرة أخرى إلى الساحة التي تضمُّ الفتيات وآلاتِهنَّ الوترية، وحاولت أن تتذكَّر ما قالته. وعندما لم تتمكَّن من ذلك، أعادت أفكارها إلى الأمور المحيطة بها حاليًّا.
تساءلت إلينورا: «مَنْ هؤلاء؟ هل هنَّ موسيقيَّات السلطان؟»
قالت والدة السلطان وهي تنظر خلفها كي تُخفِي ابتسامة: «نوعًا ما، فالموسيقى نشاط شائع بين مَنْ يعِشْنَ في جناح الحريم.»
سألت إلينورا: «وهنَّ يعشْنَ هنا؟ كلُّهن؟»
أجابت: «نعم، كلُّهن يعشن هنا.»
«وأين أهلُهن؟»
توقَّفت والدة السلطان كما لو كانت لم تفكِّر في هذا السؤال من قبل.
قالت أخيرًا: «معظمهن يتيمات، ومَنْ أهلُهن على قيد الحياة أرسلوهن إلى هنا كي يُحسِّنوا من وَضْعِهن. فكما تعلمين، لقد كنتُ يومًا جارية شابة في بلاط السلطان أحمد الرابع والد عبد الحميد.»
«هل كنتِ يتيمة؟»
استغرقت والدة السلطان بعض الوقت كي تُجِيب عن هذا السؤال.
قالت أخيرًا: «نعم، لقد فقدْتُ والديَّ كليهما في سنٍّ مبكِّرة مثلكِ.»
في وقت لاحق من ذلك المساء أُعِيدت إلينورا إلى منزل البِك، وقضت معظم الأسبوع التالي راقِدة في الفراش. ظلَّت الستائر مُسدَلة والأغْطِية مُحكَمة حول ذَقَنها، وأخذت تتناول الخبز المُحمَّص المُبلَّل بالشاي، وتشرب كمِّيات كبيرة من عصير الرمَّان حتى اصطبغت أسنانها بلون أُرْجواني عند الحواف. لم تكن مريضةً أو جريحة، ولكنها أوضحت للبِك وللسيدة داماكان وللعدد اللانهائي من الأطباء الذين أرسلهم القصر، أنها فقدت قواها فحسب، كما لو كانت أُصِيبت بثَقْب في قلبها فانسكبتْ منه كلُّ طاقتها. وكان للأطباء تفسيرات أخرى أكثر علمية، تتراوح بين الصرع إلى التهاب السحايا إلى مرض السكَّر، ولكن أحدهم لم يستطع الجزم بحالتها. والأمر لا يهمُّ في الحقيقة، فأيًّا كان ما أصابها فها هي الآن تتعافى.
في تلك الأثناء، كانت إسطنبول تتبادل الشائعات ما بين همهمة وغمغمة. ففي نفس اللحظة التي كانت العربة المَلَكية تُعِيد فيها إلينورا عبر جسر جالاتا، كانت قصة النوبة التي أصابتها قد تسرَّبت عبر بوابات القصر وانحدرت أسفل التلِّ نحو وسط المدينة. وإذا أصغيتَ السَّمع فسوف تتمكنُ من سماع صوت الشائعات الواضح الذي هبط من أعلى كسِرْب من الجراد، وانطلق من منزل إلى آخر وهو يُحدِث طنينًا. ولمَّا كانت الألسن تتناقله باستخفاف، فقد ظلَّ يتحوَّل وهو ينتشر. لم تكن إلينورا قد ارتكبت خطأً أو أمرًا مشاكِسًا أو لا أخلاقي، وهكذا فلم تكن فضيحةً بالمعنى الكامل للكلمة؛ ولكن في الوقت نفسه لا يُنكِر المرء أنها قصة مُشوِّقة. ورغم أن إسطنبول مدينة تضمُّ مليوني نسمة وكثيرًا من الأحياء السكنية، وتتحدَّث عشرات اللغات، فقد كانت الشائعات تنتشر عبرها كما لو كانت قريةً صغيرة. وعندما تسلَّقت إلينورا فراشها الأبيض الدافئ واستغرقت في النوم، كانت الشائعة قد انقسمت بالفعل إلى فريقين متقابِلين.
انتشر الفريق الأول الذي اعتقد أن إلينورا عرَّافة أو متنبِّئة بالمستقبل من نوعٍ ما على ضفاف البوسفور، متوقِّفًا عند المنازل الصيفية للأثرياء في طريقه إلى جُزُر الأمراء. ظلَّ خبر الشائعة يُحاك على جُزُر الأمراء بضعة أيام، يطوف بكلِّ المهرجانات وحفلات العشاء قبل أن يعود إلى إسطنبول نفسها على ظهور الخدم. أما الفريق الثاني الذي زعم أن إلينورا جاسوسة بريطانية أُرسِلت كي تُفسِد التحالُف العثماني الألماني، فقد انطلق عبر جسر جالاتا صاعدًا التلَّ حتى بيرا، حيث تناقلته الجاليات الأجنبية فيما بينها همسًا، ناظرين خَلْفهم بين حين وآخر كي يتأكَّدوا من عدم وجود جواسيس آخرين يسترقون السَّمع إليهم. وداخل القصر سادت الرواية الأولى، ودعمتها رواياتُ مَنْ رأوا رأيَ العين النوبةَ التي داهمت إلينورا في غرفة المقابلات، ولكن بعض الفصائل — ومنهم الصدر الأعظم — تمسَّكوا بالجزء الثاني من الشائعة وظلُّوا يردِّدونه، مُصرِّين أن إلينورا عمِيلة أجنبية.