الفصل السابع والعشرون
اختلفت زيارة إلينورا الثالثة للقصر عن سابِقتَيْها؛ وذلك من حيث الشكل والهدف معًا. عندما توقَّفت العربة المَلَكية أمام منزل البِك، كانت بالطابق العلوي في غرفتها ترتدي ثيابها بمساعدة السيدة داماكان وتفكِّر في خططها لهذا اليوم. كان قصفُ الرَّعْد يُدوِّي معظم الصباح، وثمة كَوْمة من الخطابات على مكتبها يتعيَّن الردُّ عليها، بالإضافة إلى البرقية المرسَلة من خالتها روكساندرا التي كانت قد كوَّرتها على هيئة كرة بجوار الكَوْمة. ورغم أنها لم تكن مُستعِدةً بعْدُ للعودة إلى نظام حياتها السابق، فإن فكرة القراءة قد بدأت تَرُوق لها للمرة الأولى منذ النَّوْبة التي تعرَّضت لها، وخطر لها أنها قد تُحب قضاء بعض الوقت في استكشاف منزل البِك، ولكن وصول العربة الملكية قد أفْسَدَ تلك الخُطَط بالطبع. أغلقت السيدة داماكان الزِّر في ظهر ثوب إلينورا، وأسرعا إلى الطابق السفلي حتى غرفة الجلوس؛ حيث كان رسول السلطان ينتظر ويداه متشابكتان عند حزامه، وكعبه يَقْرَع الأرض في قلق.
قال وهو ينحني حتى خصره: «أيتها الآنسة كوهين، إن فخامة السلطان يطلب مقابلتكِ في أسرع وقت ممكن.»
فتردَّدت قائلة: «حسنًا، بالطبع.»
استدارت إلى السيدة داماكان، ثم مرة أخرى إلى الرسول.
«هل تسمح لي بلحظة أُبدِّل فيها ثيابي؟»
فقال الرسول: «يمكنكِ ذلك، ولكن عليَّ أن أخبركِ بأن فخامته قد أكَّد أنه يرغب في مقابلتكِ فَوْر أن تتمكَّني من ذلك، دون أن تُلقِي بالًا لأمر الثياب أو الحالة التي أنتِ عليها.»
شعرت إلينورا بالسيدة داماكان وهي تدفعها برفقٍ من الخلف، وخرجت من الباب الأمامي تَتْبع الرسول عبر المَمْشى. ودون أن يسمح الوقتُ بالتفكير في أيِّ خاطرة أخرى، كانا قد استقلَّا العربة وسارت بهما في الطريق، ولكن بدلًا من أن تصعد التل نحو بوابة السلام سارت مع مُنْحنى البوسفور حول القرن الذهبي مرورًا بنافورة عامَّة خضراء اللون ذات قمة نُحاسِية نحو الجانب الشمالي الشرقي من القصر. كانت البوابة التي تحمي ذلك المَدْخَل أصغر كثيرًا من بوابة السلام، ولكنها مَهِيبة في حدِّ ذاتها. كانت فَتْحَتُها منحوتة من قطعة واحدة من حجر البازلت، ومزيَّنة بقِرْميد فيروزيِّ اللون على هيئة نجوم؛ مما أعطى إلينورا الانطباع بأنها حُوتٌ ضخْم يفتح فكَّيه كي يبتلعهما بالكامل.
وعندما ترجَّلت من العربة اقتربت منها امرأة شابَّة هادئة تُشْبه كثيرًا تلك اللواتي لاحَظَتْهُن عندما كانت تتعافى من النَّوْبة التي داهمتها في جناح السلطان الخاص. كانت صغيرةَ السن لا تتجاوز السابعة عشرة، رغم أنها كانت تبدو امرأةً في عباءتها القطنية الواسعة. ودون أن تتفوَّه بكلمة أمسكت بيد إلينورا بين يديها، وقبَّلت أطراف أصابعها.
«إن السلطان ينتظر.»
كانت تملك عينين خضراوين لافتتين للنظر، لامعتين كالذهب، تستظلَّان بغطاءٍ كثيف من الرموش. أتاحت المرأة بعض الوقت لإلينورا كي تشعر بالارتياح لحضورها، ثم استدارت وقادتها إلى القصر نفسه. أخذتا تهبطان وتصعدان، واستدارتا لليمين مرَّتين ولليسار مرة قبل أن تدْخُلا قاعة مُقبَّبة تفوح برائحة الليمون والمِسْك.
قالت وهي تتوقَّف أمام باب مُرتفِع يحيط به اثنان من حرَّاس القصر: «عليَّ أن أتركك؛ فقد طلب السلطان مقابلتكِ على انفراد.»
تنحَّى الحارسان جانبًا، وشعرت إلينورا بالمرارة في حَلْقها، فأمسكت بيد الفتاة.
«بعد إذنكِ، هل يمكنني أن أطرح عليكِ سؤالًا؟»
رَمَقَت الفتاة إلينورا بمزيج من الشفقة والتعاطُف، كما لو كانت عصفورًا صغيرًا قد وجدته يتجوَّل وحيدًا في الغابات.
«هل تعلمين فيمَ يرغب فخامته في الحديث معي؟»
فقالت: «كلَّا، لا أعلم، ولكن ثقي بأنه سوف يعاملكِ جيدًا مهما يكن الأمر الذي يريدك بشأنه.»
حاولت إلينورا أن تفكِّر في سؤال آخر، ولكن لم يخطر على بالها أيُّ سؤال، وهكذا استدارت الفتاة الشابة عائدة عبر القاعة.
كانت الغرفة التي اقتِيدت إلينورا إليها تُعرَف باسم غرفة الزَّنْبَق، نسبةً إلى التصميم المحفور في الجبس حول مدخلها. كانت غرفةً صغيرة ذات طابع بسيط إلى حدٍّ ما، والحائط البعيد بها تشغل معظمه أريكةٌ زرقاء نصف دائرية جلس عليها السلطان يقرأ. وبالإضافة إلى الأريكة ومقعد خشبي مُحدَّب الشكل مُرصَّع بعِرق اللؤلؤ، لم تكن غرفة الزَّنْبَق تضمُّ أثاثًا سوى مكتب ولوحة زيتية تصوِّر صيد الثعالب. ظلَّت إلينورا تراقب السلطان بعض الوقت وهو يقرأ قبل أن تتحدث.
«هل هذه الساعة الرملية؟»
قال وهو يضع كتابه على الأريكة مقلوبًا: «نعم، لا أعلم كيف أشكركِ لترشيحها لي للقراءة.»
«إلى أين وصلتَ فيها؟»
«المجلد الثالث. عندما دخلتِ كنتُ قد وصلت إلى المشهد الذي يستدعي الجنرال كرزاب فيه أفراد العائلة الباقين كي يُوبِّخهم ويوزِّع الثروة التي اكتشفها في ظهر خزانة والدته.»
قالت إلينورا مُقتبِسة كلمة الجنرال كرزاب الشهيرة التي مرَّت منذ بضع صفحات: «إن الحقيقة سمكةٌ مراوغة تتلألأ قشورُها في الماء، ومحارِب شريف مُعرَّض للخطر …»
فابتسم السلطان وأكمل الاقتباس:
«ولكنها صمَّاء كالرصاص في قاع السفينة.»
وبينما كان السلطان يتحدث، أدركت إلينورا أنها قد ارتكبت خَرْقًا جسيمًا لقواعد السلوك الخاصة بالقصر. فلم تكتفِ بمخاطبته مباشرةً بلا ألقاب، بل إنها أيضًا قد نَسِيت أنْ تنحني عند دخولها الغرفة. غطَّت فمها وجَثَت على ركبتيها، حتى لمست جبهتها الأرض.
قال السلطان: «تفضَّلي.»
استدارت كي تنظر إليه وصُدْغها ما زال يلامس القِرْميد البارد.
قال وهو يشير نحو المقعد الخشبي المقعَّر على يمينه: «لا داعي لذلك، يمكنكِ الجلوس إذا أردتِ.»
تحرَّكت نحو المقعد بحذرٍ خشية أن تخْرِق قواعد البروتوكول مرة أخرى، وجلست على حافته. لاحظت عن قرب أن وجه السلطان يُشبِه كثيرًا وجه البِك، وخاصةً الأنف والشفة العليا. ولكن على النقيض من رائحة سيجار التبغ الأخضر الخاصة بالبِك، كان السلطان يفوح بعبير الخزامى وزهر الليلك مع لمسة من رائحة البرتقال.
بدأ السلطان قائلًا: «أردتُ الحديث معكِ على انفراد، فلديَّ سؤال مهمٌّ أرغب في توجيهه إليكِ، وأودُّ الحصول على إجابتكِ الشخصية دون التعرُّض لضغط من البلاط. هل تزعجكِ الإجابة عنه شخصيًّا؟ هل أنتِ مستعدة لاتخاذ قرار خطير قد يؤثِّر على مسار حياتكِ؟»
نظرت إلينورا إلى حذائها وهو يتأرجح فوق الأرض.
«نعم.»
«بالطبع، فإن القرار يخصُّكِ وحدكِ، ولكن أتمنَّى أن تضعي في الاعتبار أن اختياركِ سوف يؤثِّر على حياة الكثيرين.»
توقَّف كي ينظر إليها. كانت يداها مَطْوِيتين في حجرها، ووجهها يكتسي بتعبير من الهدوء الشديد.
«ما أرغبُ في سؤالكِ عنه هو ما إذا كنتِ ترغبين في الحياة في القصر. سوف تقيمين هنا في جناح الحريم، وربما في تلك الغرفة نفسها، وسوف تقضين أيامكِ في القراءة وعزْف العود وتعلُّم دورس الخط وأيِّ نشاط يعجبكِ. وسوف تُجاب كلُّ طلباتكِ، وليس عليك القيام بشيء في المقابل عدا مناقشة أحد شئون الدولة كلَّ حين وآخر معي أو مع الصدر الأعظم.»
فكَّت إلينورا تشابُك يديها وتخلَّلت شعرها بأصابعها. كان سؤالًا خطيرًا بالفعل، وقد أصابها بالمفاجأة إلى حدٍّ ما. كانت ثمة احتمالات وعواقِب كثيرة كي تفكِّر بها. حاولت أن تفكِّر في الأمر، ولكن بينما كانت تفعل سيطر عليها شعور ثقيل كأنها في دوامة، شعور لا يشبه فقدان الوعي الذي أصابها قبل النَّوْبة السابقة، فطرفت بعينيها وتمالكت نفسها.
«وماذا عن البِك؟»
«البِك؟ إنَّ كلَّ ما أظنُّه أن البِك سوف يواصل حياته كما كان يفعل قبل قدومكِ.»
«ألن يَسْتاء؟»
بدا السلطان حائرًا إلى حدٍّ ما.
«لا يمكنني أن أتنبَّأ بردِّ فعله، ولكنني أذكِّركِ أن هذا القرار يخصُّكِ وحدكِ. ورغم أنني أتفق معكِ في ضرورة التفكير في المُحيطِين بنا، فمن المهمِّ أن تتذكَّري مصلحتكِ الشخصية.»
فهزَّت رأسها بالموافقة على رأيه.
«وماذا سيحدث لي إذا لم أوافق على العيش في القصر؟»
قال السلطان: «حسنًا، لا أحدَ يعلم بالضبط، ولكن هذا سؤال بارِع؛ فهو يوضِّح أنكِ تفهمين مَوْقفَكِ جيدًا.»
توقَّف وهو يَلُوك في فمه قطعة من الكراميل.
«أظنُّ أنكِ تعلمين أن خالتكِ في طريقها إلى إسطنبول، وأُدْرِك أنها تنوي إعادتكِ معها إلى كونستانتسا. وبالطبع فإذا اخترتِ العيش في القصر فسوف نُجْرِي ترتيبات أخرى لها.»
بينما كان السلطان يتحدَّث عن الحياة في القصر ومُقْتنيات المكتبة المَلَكية، توجَّهت عينا إلينورا إلى لوحة صيد الثعالب. كانت الجياد والكلاب تطْغَى على الصورة، لدرجة أن الأمر استغرق منها لحظاتٍ كي تكتشف ذيل ثعلب صغير في تجويف شجرة في أسفل يمين الصورة. وأدركت أنها قد ظلَّت صامتةً بعض الوقت عندما نهض السلطان واقفًا.
«أيمكنني أن أعرف ما الخيار الذي تَمِيلين إليه؟»
لم تكن إلينورا تميل إلى أيٍّ من الخيارين، بل كانت ترغب في مواصلة حياتها كما هي في هدوء مع مُنصِف بِك والسيد كروم والسيدة داماكان، ولكنها أدركت أن ذلك لم يَعُدْ خيارًا مُتاحًا الآن، فقد أصبح وجودها يُثِير متاعِب مُفرِطة للبِك، ورَفْضُها عرض السلطان لن يزيدَ تلك المتاعب إلَّا سوءًا. وبالطبع، فإن المرء لا يمكنه الإفصاح عن تلك الأفكار.
قالت: «إنني أميل نحو العيش في القصر، ولكنني أرغب في بعض الوقت كي أَحْسِم قراري.»
قال السلطان وهو يجلس مرة أخرى على المقعد: «حسنًا، إنه قرارٌ خطير، ولا أرغب في أن تتسرَّعي في اتِّخاذه. سوف أُرْسل لكِ رسولًا غدًا صباحًا، وإذا قررتِ الإقامة هنا أعِدِّي أمتعتكِ. أما في حالة الرفض، فإنني أتمنَّى أن تُرْسلي لي خطابًا صغيرًا بذلك.»
«حسنًا.»
وقف السلطان مرة أخرى ورافقها حتى الباب. وللحظة وهما يقفان في مدخل غرفة الزَّنْبَق، بدا كلٌّ منهما على حقيقته؛ مجرد طفلة صغيرة ورجل ضئيل الحجم في منتصف العمر. انحنى عبد الحميد حتَّى خَصْره، وأمسك يدها وقبَّلها.
وفي رحلة العودة من القصر، رأت إلينورا إسطنبول بلون جديد: القصور الساحلية، والرجال المسنِّين الذين يصطادون على جسر جالاتا، وحُمَّى التبادُل التجاري في الأسواق، حتى الطيور البحرية التي تحلِّق فوق الرءوس؛ كلُّ شيء قد أصبح مشبَّعًا بعَبَق الاحتمالات. خطر لها الجزء المفضَّل لديها من حديث الملازم براشوف لشقيقه قبل وفاته مباشرة: «مع كلِّ خيار، حتى خيار السكون واللانشاط، علينا أن نُغلِق الباب في وجه مجموعة من المصائر المستقبلية البديلة. وكلُّ خطوة نتخذها في طريق القدر تقلِّل من الاحتمالات، وتمثِّل وفاة عالَم موازٍ.» وعندما يفكِّر المرء في ثقل الخيارات المطروحة، حتى أكثر تلك الخيارات تفاهة، فإنه يصعب تخيُّل الكيفية التي يُقرَّرُ بها أيُّ شيء في هذا العالم.
لم تكن إلينورا في مِزاج يسمح لها بالحديث عند عودتها إلى المنزل، فقد كان لديها الكثير لتفكِّر فيه، ولم يكن أمامها كثير من الوقت. وبعد أن أخبرت البِك بفحوى زيارتها إلى القصر وعَرْض السلطان، قَضَيا المساء غارقَيْنِ في صمت مُتبادَل، فجلس البِك يتصفَّح جرائد الأسبوع بينما كانت هي تهتمُّ بالخطابات التي لم ترُدَّ عليها، ومنها خطاب من طفلة في باريس كانت ترغب في معرفة الكتب التي درستها، وشكوى طويلة من راهب إيطالي يصف الموقف السياسي في سيينا. وردَّتْ على بضعة خطابات قبل أن تستغرق في تأمُّل مجموعة بعيدة من السحب، وأدركت أن الحقيقة أنها لا ترغب في أيِّ شيء؛ لا حماية السلطان ولا البِك، ولا كونستانتسا أو روكساندرا، ولا نبوءة السيدة داماكان ولا كل هؤلاء الناس الذين يطلبون نصائحها، بل ما ترغب فيه بشدة أن تُصبِح وحيدةً طليقة مستقِلَّة. ولكن للأسف لم يكن هذا أحد الخيارات المطروحة أمامها.
وبعد تناوُل عشاء صامت من يَخْنة اللحم والأرز، انصرفت إلينورا وجرَّت قدميها إلى الطابق العلوي حتى الفراش. وضعت شمعتها على المائدة المجاورة للفراش، واتجهت إلى الناحية الأخرى صَوْب النافذة البارزة. كان المضيق يتلألأ كبِلَّوْرات السكر عاكسًا حبلًا من المصابيح التي تتدلَّى بين مآذن المسجد الجديد. استندت بمِرْفقَيْها على إفريز النافذة، وحدَّقت إلى حوائط القصر الذي قد تصبح من سكانه غدًا. كانت ترى هياكل سفنٍ تعبر الماء كما لو كانت أشباحًا كثيرة، وسمعت على بُعْدٍ صوت مِكْبَح قطار وهو يتوقَّف في محطة سيركيزي. كان هذا الصوت يحمل معه خاطِرةً تحطُّ برِقَّة على إفريز النافذة كما لو كانت طائرًا بحريًّا عابرًا للمحيط. وبدا لها الحلُّ المثالي، ولكن قبل أن تتمكَّن من دراسته قُرِع الباب.
«تفضَّل.»
كان البِك يقف في المدخل وملامحُه تبدو كالشبح.
قال: «آمُل ألَّا أكون قد أيقظتُك.» رغم أنه كان واضحًا أنها لم تنَمْ بَعْدُ.
قالت وهي تستدير كي تواجهه: «كلَّا، على الإطلاق.»
«كنت أودُّ أن أخبركِ بأنني سوف أبذل أقصى ما في وسعي كي أساندكِ وأدافع عن مصالحكِ، مهما يكن قرارك.»
ظلَّ صامتًا للحظة وضوء الشمعة يتراقص بشدة على وجهه، ثم مدَّ يده في جيب مِعْطفه وأخرج كيسًا صغيرًا.
قال وهو يحمل الكيس في راحته المفتوحة: «لقد ترك والدكِ هذا. كان مع أمتعته.»
وضع الكيس على الطاولة المجاوِرة للفراش وعاد إلى الرَّدْهة، وأخذت ملامحه الحادَّة تغيب في الظلام.
«مهما يكن المسار الذي تختارينه، فسوف يكون مفيدًا.»
قالت: «أشكرك، أشكرك على كلِّ شيء.»
«لا شكر على واجب.»
أغلق الباب خلفه، وظلَّت إلينورا ثلاث دقائق كاملةً تقف عند النافِذة المفتوحة تحدِّق إلى ظلام غرفتها وهي تفكِّر في خطتها، ثم أغلقت النافذة وخلعت ثيابها وتسلَّلت إلى الفراش. وقبل أن تُطفِئ الشمعة فكَّت الكيس الجلدي الناعم وحدقت بداخله. كانت به عُملتا كوروس من فئة العشرة، وخمس عملات من فئة المائة جنيه. لم تكن ذات خبرة كبيرة بالنقود، ولكنها أدركت أن ذلك كافٍ.
رقدت إلينورا في الفراش تستمع إلى أصوات المنزل وهي تتلاشى، وصرير الأبواب وحركتها وهي تهدأ مُفسِحةً المجال لأصوات خارجية أكثر خُفُوتًا مثل هبوب الرياح عبر أوراق الشجر ووقع أقدام الحيوانات. بزغ القمر كمدينة بعيدة في الأفق مضيئًا مكتبَها ومقعدها ومائدة الزينة الخاصة بها بالضوء الأبيض الذي يميِّز أواخر الصيف. سوف تفتقد تلك الغرفة كما افتقدت غرفتها في كونستانتسا، ولكنها لن تستطيع البقاء. لا يمكنها ذلك. عندما ارتفع القمر إلى عنان السماء وصمت المنزل، تسلَّلت إلينورا من الفراش وسارت بحَذَر حتى خزانتها. نحَّت فساتينها جانبًا وأخذت السروال والقميص والطربوش والسترة التي لاحظت وجودها في يومها الأول في إسطنبول. وضعت المشابِك في شعرها، والقليل من غبار الكحل أسفل عينيها، فتمكَّنت من أن تظهر بمَظْهر ساعٍ ذي ملامحَ رقيقةٍ بصورة مُقنِعة.
ثم أتى دور الخطاب. أخرجت ورقةً من دُرْج المكتب الأوسط، وغَمَست قلمها المُفضَّل في المِحْبرة، ثم كتبت كلمة واحدة في أعلى الصفحة: «الوداع»، ثم وقَّعت باسمها ووضعت بصمة أصبعها. كان قلبها يخفُق الآن أسرع، وأنفاسها تتلاحق. فتحت الدُّرْج العلوي من خزانة الملابس وأخرجت مؤشِّر والدتها، ووضعته في جيب مِعْطفها الداخلي. مدَّت أصابع قدميها وطقطقت فكَّيْها، ثم وضعت كيس والدها الجلدي بجوار المؤشِّر. نظرت إلى نفسها مرة أخرى في المرآة، ثم مدَّت رأسها في الرَّدْهة وغادرت غرفتها.
وعند أعلى الدَّرَج توقَّفت ونظرت إلى غرفة الجلوس. كانت غرفةً كالكهف ذات أركان مُظلِمة وظلال تتراقص عند الحواف. أحكمت قبضة يدها على الدرابزين، وتسلَّلت لأسفل الدَّرَج على أطراف أصابعها وهي تتنفَّس من فمها بينما كانت تستمع إلى وَقْع أقدامها. وعندما وصلت إلى أسفل الدَّرَج أصدر المنزل أنِينًا كما لو كانت قد خَطَتْ على جُرْح مفتوح، وامتدت السجادة أمامها كبُحَيْرة من النار تتلألأ بانعكاسات ضوء القمر في الثريَّا. لمست الكيس في جَيْب مِعْطفها وسرت رجفةٌ في أوصالها، ثم واصلت طريقها أسفل القاعة الرئيسة حتى جناح الحريم مُرورًا بالأروقة المُظلِمة المزدحمة نزولًا بالدَّرَج، ثم عبر الباب الحديدي الصغير الذي وجدت أنه يقود إلى خارج إسطبلات البِك. تركت الباب مفتوحًا قليلًا، وتسلَّلت مرورًا بمجموعة من الجياد التي تصْهَل خارج بوابات الإسطبل.
أصبحت خارج المنزل. كان الهواء يداعِب كاحِلَيها ولا شيء فوقها سوى السماء، صفحة مُظلِمة تتخلَّلها لمحاتٌ من السماء الزرقاء التي تخفيها. تسلَّل قِطٌّ أبيضُ في طريقها، وغمز لها بعينه الزرقاء الواحدة، ففهمت الأمر. كان العالَم كبيرًا باردًا يفوح بالاحتمالات. كان سِرْبها قد تشتَّت؛ فقد انتهت مهمَّتُه هنا. ألقت نظرة خلفها على منزل البِك الأصفر الفخم، وهرعت أسفل الطريق الرئيس. لم تكن واثِقة مما إذا كانت قد رأت خيال السيدة داماكان المنحني في نافذتها البارزة بالطابق الثاني، وشقَّت طريقها عبر الجسر المُنِير بضوء القمر نحو محطة سيركيزي. من هنا يمكنها أن تستقلَّ قطارًا إلى أيِّ مكان في أوروبا، إلى باريس أو بودابست أو برلين أو سانت بطرسبرج أو براج. يمكنها أن تختبئ وتتسلَّل خارج التاريخ دون أن يلاحظها أحد.