الفصل الخامس
رفع الكاهن جيمس مولر قدمه إلى حافة فِراشه، وانحنى كي يربط رباط الحذاء. «دار الأرنب حول الشجرة ثم دخل إلى جُحْره.» كان على مشارف الأربعين، عالِمًا ومُعلِّمًا شهيرًا، ولكنه هنا كان يدندن لحن أغنيةٍ قد حفظها منذ ما يزيد على ثلاثين عامًا. وكان هذا بذرة مقال عن العلاقة بين الألحان والذاكرة، أو ربما بحثًا عن الطقوس الطفوليَّة للعظماء، وهو مقال آخر لم يكن لديه الوقت ليكتبه. أزال قطعةً من الوبر عن مُقدِّمة حذائه، ثم نهض وعدَّل وضع معطفه على كتفيه. يشير جدول اليوم إلى أنهم سيتوقَّفون في كونستانتسا لفترة وجيزة لأخذ الركَّاب الجُدد، ومنهم — حسبما تدل البطاقة الموضوعة على باب قُمْرته — السيد يعقوب كوهين، الرفيق الجديد الذي سيشاركه الفراش المُتعدِّد الطوابق على متن السفينة. لا شكَّ أن السيد كوهين يهودي الديانة، وهو ما لا يشكِّل مشكلة بالنسبة إلى الكاهن. فقد عرف نصيبه العادل من الصفوة في نيو هافن، رغم أن السيد كوهين هذا لن يكون بالطبع خرِّيج جامعة ييل. وتحسَّس جيبه العلوي بحثًا عن السجائر، وألقى نظرةً على القُمْرَة، ولمَّا لم يجد أي شيء محرج أو يدل على الفوضى تقدَّم إلى سطح السفينة.
كان يومًا شتويًّا مضيئًا، باردًا، ولكنْ في الوقت نفسه لطيفًا. اختلطت رائحة الفحم المُحترِق بالصنوبر، ودبَّ النشاط في أرصفة الميناء، وأخذ جَمْهرةٌ من عمَّال السفن يَحْمِلون على ظهورهم الحقائب من عربات الركَّاب إلى بَدَن السفينة. وكان ثمة عددٌ قليل من لحظات الوداع الباكية، وسائق عربة ركَّاب يلوِّح بذراعَيْه غاضبًا على الأرجح بسبب أجرة التوصيل الزهيدة التي تلقَّاها. وخلف أرصفة الميناء اصطفَّت كونستانتسا بين قِمَّة تلَّينِ، وتجمَّعت بضع مئات من المنازل الرمادية الحجرية في نصف دائرة حول إحدى ساحات المدينة غير المميزة. أخذ جيمس نَفَسًا عميقًا، وأخرج سيجارة من جيب مِعْطفه وأشعلها بحركة مسرحية متباهية. لا تبدو كونستانتسا مكانًا رهيبًا للعيش بالنسبة إلى مَنْ لا يعرف أفضل منها؛ فالمناخ لطيف بقدر كافٍ، وقد لعبت — حسبما يذكر — دورًا ذا أهمية في سقوط الإمبراطورية الرومانية. أخذ نَفَسًا عميقًا ونفض الرماد قبل أن يتذكَّر ذلك الدور: لقد قضى أوفيد أعوامه الأخيرة البائسة في كونستانتسا التي كانت تُعرَف وقتها باسم توميس، أو كما أطلق عليها «آخِر منطقة نائية في نهاية العالم»، ولا بدَّ أنها بدت هكذا لتلك الروح العذبة الذكية في المَنْفى.
عندما فرغ الكاهن مولر من السيجارة، لاحظ طائرًا غريبًا حطَّ بالقرب منه على السياج. بدا هذا الطائر كما لو كان هدهدًا، رغم أنه لم يشهد مثيلًا له في ألوانه من قبل، فهو ذو لون أُرْجواني فاتح مُخطَّط بخطوط ناصعة البياض على الأجنحة والصدر. وعلى الرغم من أن الهداهد عمومًا تميل إلى تجنُّب التواصل مع الإنسان، فإن ذلك الهدهد ظلَّ محدِّقًا بقوة غير عادية كما لو كان يطلب شيئًا. وبادَله الرجل النظر، مركِّزًا على الرقعة الأُرجوانية التي تقع فوق منقاره المُدبَّب الرقيق مباشرةً. وبعد مرور بضع لحظات، حلَّق الطائر منضمًّا إلى اثنين من رفاقه، وجثم ثلاثتهم فوق المقعد العلوي لعربة ركَّاب في انتظار إفراغ حمولتها. ألقى جيمس بعَقِب السيجارة في الميناء، وانحنى على السياج الخشبي يشاهد عمَّال السفن وهم يفرغون العربة من حمولتها من الأمتعة بينما يراقبهم رجلٌ ممتلئ البنية ذو لحية سوداء كثيفة. لا شكَّ أن الرجل تاجر، ويبدو أنه يهوديٌّ. ربما كان هو السيد يعقوب كوهين، أو ربما يكون مجرد يهوديٍّ آخر. وعندما تمَّ تخزين الصندوق الأخير بسلام في بدن السفينة، اعتلى الرجل المُلتحِي مَتْن السفينة، وحلَّقت الهداهد أعلى التل.
انتابت جسد الكاهن مولر قُشَعْرِيرة وهو يعتدل، فجذب مِعْطفه حول جسده. وكان قد رحل عن إسطنبول فصلًا دراسيًّا كاملًا، ولا بدَّ أن لديه الكثير من الأعمال في انتظاره لدى عودته، فسوف يبدأ الفصل الدراسي الجديد بعد عودته بأربعة أيام فقط، وثمة ثلاثة معلِّمين جُدد في المدرسة الثانوية، وعليه أن يكتب خطابًا لحفل توزيع الشهادات. وبالإضافة إلى مسئوليَّاته في كلية روبرت، لديه مقال مطلوب منه في «سجلَّات التعليم»، ونائب القنصل الأمريكي يتلهَّف على استلام تقريره عن حالة الأقلِّيَّات الدينية في ظلِّ النظام الخانع الجديد. وعلاوةً على هذا كلِّه، كان مصدرَ إحباطٍ للمسئولين عنه في وزارة الحربية؛ حيث مرَّت بضع سنين وهو لم يتمكَّن بعْدُ من كَشْف أيِّ معلومات استخباراتيَّة فيما يخصُّ النفوذ الألماني في إسطنبول. وكانت تلك المهمَّة الأخيرة أقصى ما يُشعره بالقلق. كان على دِراية بكتابة التقارير، وتدريب المعلِّمين الجُدد، وتحرير مقالات للنشر، ولكن لم تكن لديه فكرة عن كيفية جمع المعلومات. لم يكن جاسوسًا، أو على الأقل لم يتلقَّ أيَّ تدريب رسميٍّ في هذا المجال، ولم يكن النجاح الذي أَحْرَزه في بيروت سوى نتاج حظٍّ مثلما يعترف هو شخصيًّا، ولكنَّ الأشخاص الرفيعي المستوى في الوزارة قد اعتبروا صراحته تواضُعًا، وهكذا أصبح في هذا الموقف.
أشعل سيجارته الثانية، وأخذته أفكارُه بعيدًا نحو نيران يالطا الدافئة، وممراتها ذات الرياح العاصفة، والواجهة الحزينة للمنازل الصيفية الخالية. كانت يالطا المكان المثاليَّ الذي يقصده للراحة من متاعب إسطنبول، بعيدًا عن أحزابها، بعيدًا عن خِداعها ومكائدها، ولكنه كان يعلم طوال الوقت أن عليه العودة. أسند سيجارته على السياج، وأخذ ينظر بلا مبالاة إلى مجموعة من الركَّاب الجُدد وهم يركبون السفينة، ووسط موجة من المناديل المُلوِّحة بالوداع نَفَثَت السفينة دخانها راحلةً من المَرْفأ. وبدأ يشعر بالندم لعدم اختياره الرحلة المباشرة من سيفاستوبول إلى إسطنبول، فتلك السفينة البخارية المحليَّة تتوقَّف على الأقل مرة يوميًّا، وأهم من ذلك أنه لم يكن على مَتْنِها مَنْ يمكن إجراء حوارٍ هادف معه. أدرك هذا الصباح أنه سوف يقضي ليلةَ رأس السنة في السفينة؛ ذلك لأنه لا أحدَ على مَتْن السفينة يتَّبِع التقويم الغربي. أرْغمَ جيمس نفسه على الابتسام وهو يتذكَّر شعار والدته المُفضَّل: «لا يمكننا إلا أن نستفيد قَدْر ما نستطيع من الموقف الذي يضعنا الله فيه.» ربَّتَ على جيبه العلوي مودِّعًا مَنْ تبقَّى على رصيف الميناء وداعًا حارًّا، وإن كان تهكُّميًّا بعض الشيء، ثم هبط إلى سطح المركب كي يقابل رفيقه الجديد في الغرفة.
كان رفيقه الجديد — حسبما اتَّضح — هو السيد يعقوب كوهين، نفس الشخص الملتحي الممتلئ البنية الذي لاحظه الكاهن مولر وهو على ظهر السفينة. وعند دخول غرفتهما المشتركة، وجد الرجل يفرِّغ محتوياتِ حقيبة سفرٍ بَالِية.
«أهلًا بك.»
استدار السيد كوهين ومدَّ يده.
«السيد مولر؟»
أجاب الكاهن كعادته عندما يتجاهل الناس لقَبَه: «يمكنك أن تدعوني جيمس، أو الكاهن مولر إذا سمحت.»
فقال: «وأنا يعقوب كوهين.» ثم تصافحا، وأردف قائلًا: «في طريقي إلى إسطنبول.»
فابتسم جيمس قائلًا: «حسنًا، أؤكد لك أنك في السفينة المُناسِبة.»
كان السيد كوهين يتحدَّث الإنجليزية بصورة مقبولة، بالإضافة إلى بعض الفرنسية ومعرفة سَطْحيَّة بالروسية. وبعد أن حاولا التفاهُم بتلك اللغات بالإضافة إلى بعض اللغات الأخرى، استقرَّا على التركية وسيلةً للتواصل بينهما. وبينما كان رفيقه في الغرفة يفرِّغ أمتعته، جلس جيمس أمام المائدة في زاوية الغرفة، وأخذا يتحدَّثان بحريَّة عن الرحلة. ومثلما توقَّع جيمس، كان السيد كوهين يزور إسطنبول في رحلة عمل؛ حيث كان يعمل على وجه التحديد في تجارة المنسوجات، وينوي تَصْفِية بعض المخزون الزائد. ورغم أن كونستانتسا لم تعُدْ تحت السيطرة السياسية للدولة العثمانية، فما زال لإسطنبول تأثير اقتصاديٌّ على المنطقة. وأوضح السيد كوهين أن التأثير الأكبر كان في تجارة المنسوجات على وجه الخصوص، فرغم أن أهل كونستانتسا وروسيا يقدِّرون السجَّاد الشرقي، كما هو الحال في كلِّ أنحاء أوروبا، فإن بعض الأنواع الأكثر تميُّزًا كانت أسهل في البيع في إسطنبول، أو هكذا كان يأمل.
دُهِش الكاهن مولر عندما وجد أن السيد كوهين أكثر ذكاءً وخبرةً بشئون الحياة مما يبدو، فقد قضى مُعظَم شبابه مُرتحِلًا في وسط آسيا والشرق الأوسط، مستغِلًّا ميراثًا صغيرًا كي يكوِّن رأسَ المال الذي بنى به مشروعه. وزار عشرات البلدان، ورغم أن تعليمه الرسميَّ لم يتجاوز سنَّ الثالثة عشرة، فقد كان مُثقَّفًا مُطَّلِعًا كأيٍّ من معلِّمِي كلية روبرت. وربما كانا سيستمران في حديثهما وقتَ الغداء لولا وَعْكة السيد كوهين المفاجئة العنيفة. اعتذر بشدة، وأوضح أنه مصابٌ بدُوَار البحر الذي يصيبه بالوَهَن، ورفض كلَّ عروض المساعدة مُصِرًّا على أنَّ أفضل علاج هو الرقود والراحة حتى يهدأ البحر.
انتهز جيمس تلك الفرصة كي يخرج في جَوْلة ويكتب بضعةَ خطاباتٍ في المكتبة، وعندما عاد إلى الغرفة قُبَيل العشاء وجد السيد كوهين راقدًا وظهره للباب في الفراش العلويِّ. كانت الغرفة تَفُوح برائحة العرق الجافِّ ونَكْهة المرض. اقترب جيمس من الفراش ووضع يده على كتف السيد كوهين وأيقظه برفق.
«أيها السيد كوهين، أهلًا بك في عالم اليقظة.»
تَمْتَم قائلًا وهو ينقلب على ظهره: «السيد مولر.»
فاستدرك مصحِّحًا له: «جيمس، أو الكاهن مولر إذا سمحت.»
طَرَفَ يعقوب بعينَيْه وجال بلسانه في فمه.
«معذرةً.»
فأجاب جيمس وهو يجلس على الفراش السفلي: «لا عليك، لا مشكلة على الإطلاق. أخبِرْني يا سيدي، كيف حالك الآن؟»
«أفضلُ قليلًا.»
«جميلٌ أن أسمع ذلك.»
وبينما كانا يتحدَّثان، خلع جيمس حذاءه وارتدى سروالًا جديدًا.
تساءل السيد كوهين: «كم الساعة؟»
قال جيمس وهو يُخرِج الساعة من جَيْبه كي يتأكَّد: «إنها تمام السابعة، سوف يُقدَّم العشاء في غضون نصف ساعة.»
غسل جيمس يدَيْه بسرعة، ونَضَح القليل من الماء على وجهه، ثم نظر لنفسه في المرآة.
ثم قال وهو يرتدي سترة العشاء: «كنت أخطِّط للنهوض مبكِّرًا وحَجْز مائدة، ولكن إذا رغبتَ في الانضمام إليَّ يسعدني أن أنتظرك.»
نهض يعقوب وهو مُجهَد قليلًا ودلَّى ساقَيْه من حافة الفراش، مُنحنِيًا للأمام قليلًا كي يتجنَّب اصطدام رأسه بالسقف. بدا كما لو كان غجريًّا وهو يرتدي قميصه الداخلي وسرواله المجعَّد، وكان شعره شعثًا وعيناه الزرقاوان اللَّامعتان تجوبان أنحاء الغرفة.
قال وهو يمسح وجهه: «نعم، سيكون هذا لطيفًا. شكرًا لك.»
هبط يعقوب السُّلَّم المعدني الضعيف درجةً تِلْو الأخرى، واستقرَّ أمام المرآة. لم يكن السيد كوهين في حالة مبشِّرة على الإطلاق، ولكن بنَضْحةٍ من المياه وتمشيطٍ للشعر وتبديلٍ للملابس تحوَّل إلى شخص مَقْبول المَنظَر، على الأقل بالنسبة إلى مستوى السفينة. ورغم أن الإفطار والغداء لم يكونا رسميَّيْنِ، فقد كان الطاقم يبذل كلَّ ما في وسعه كي يُضفِي جوًّا من الفخامة والرقيِّ وقتَ العشاء. ولمَّا كانت السفينة من الدرجة الثانية، فلا معاطفَ طويلة أو ملابس للسهرة، ولا دبابيس مُزخرَفة مصنوعة من الزُّمُرد ولا ثُريَّات بلَّورية، ولكن ببعض القماش الأحمر وأغطية الموائد المتجعِّدة وطبَّاخ واسع الحِيلة كانت الإجراءات تتمُّ على نحو مُرضٍ.
قضى جيمس ويعقوب معظم وقت العشاء في تلك الليلة الأولى يتبادلان الآراء حول قصصٍ من أسفارهما، وغنيٌّ عن القول أن مبشِّرًا دينيًّا وبائعًا للسجاد ربما يقابلان شرائح مختلفة من سكان المدينة. وظلَّ جيمس مدهوشًا من اختلاف حكاياتهما؛ ففي كلِّ مرات زيارته إلى شيراز لم يقابل قطُّ عرَّافًا أو لصًّا محترفًا، ولكن في قصص يعقوب كانت المدينة تعجُّ بكليهما. ومن ناحية أخرى، لم يتناول يعقوب العشاء قطُّ مع رئيس دولة أو سفير، رغم أنه أصرَّ على كونه مُقرَّبًا من مُنصِف بِك عندما كان يشغل منصب الحاكِم العثماني لكونستانتسا. ولم يكن ذلك الاختلاف في التجربة حَجَر عَثْرة في طريق الحوار، بل إنه في حقيقة الأمر أضفى عليه ثراءً. وبعد تناول العشاء، ذهب الرجلان إلى غرفة جلوس تُعرَف باسم استراحة التدخين، حيث فتحا زجاجةً من النبيذ الأحمر وأخذا يتجاذبان أطراف الحديث بينهما بنفس الطريقة حتى وقت متأخِّر.
كان جيمس شديدَ الإعجاب بمدى معرفة رفيق غرفته بالمنسوجات، فقد كان بإمكانه أن يحدِّد عيبًا في القماش في الناحية الأخرى من الغرفة، وكان يعلم عن تاريخ صناعة السجاد أكثر من أيِّ بائع آخر في البازار الكبير. ولكن موهبته الكبرى كانت في البيع؛ فرغم أن بضائعه مخزَّنة بأمان في بدن السفينة ولا يمكنها أن تخرج للعرض، فإن وَصْف يعقوب للسجَّاد وألوانه الزاهية وتصميماته الكلاسيكية وروعة الصناعة، قد أقنع أكثر من مسافر بدفع عُرْبُون كي تصلهم الشحنة لاحقًا. وحتى جيمس الذي يَعْرِف تأرجُح البيع وتقلُّباته وكان حريصًا على تقليل الإنفاق بعد إجازة طويلة كهذه، اقتنع أن يدفع عشرة بالمائة من ثمن سجادة فَخْمة من طِراز هيركي باللونين الأبيض والأُرْجُواني أخبره يعقوب أنها ستبدو جميلةً في مكتبه ومناسبة له.
كانت علاقتهما نموذجًا مثاليًّا للصداقات التي يعقدها المرء على مَتْن سفينة؛ حيث لا شيء سوى الحديث، وليس المرء بحاجة إلى أن يراعي فوارق الطبقة والمكانة الاجتماعية. كان رباطًا متينًا قويًّا من النوع الذي لم يعرفه جيمس منذ أيام صباه عندما كان طالبًا. وبالطبع احتفظ بأسراره الكئيبة لنفسه، ولكن مع مرور أيام الأسبوع قصَّ على يعقوب قصَّةَ وفاة والده، وبعض أسوأ أشكال الإذلال التي قابلها لدى وصوله إلى نيو هافن، والأحداث التي أدَّت إلى قَرارِه الحصولَ على شهادة من مدرسة اللاهوت. ومن جانبه شاركه يعقوب بعضَ التفاصيل الأصعب الخاصة بنشأته، والقصة المأسويَّة لوفاة زوجته الأولى، وقصة الزواج الخالي من الحبِّ التي تَبِعتها. ولكنه لم يُفصِح عن ابنته إلينورا إلا في الليلة الأخيرة من الرحلة.
فضلًا عن كونها الليلة الأخيرة على مَتْن السفينة، كانت أيضًا الليلة الأخيرة في عام ١٨٨٥، وكانا يحتفلان. تراجعا إلى استراحة التدخين يحتسيان الزجاجة الأخيرة من نبيذ الكاهن مولر ويدخِّنان الفتات الأخير من غَلْيُون يعقوب. وكان الوقت قد تأخَّر بالفعل، أو لعله كان مبكرًا، وكانت الغرفة لهما وحدهما. ارتفع دخان الغَلْيُون الأزرق فوق رأسَيْهما، ولم تتسلَّل سوى النجوم الساطعة عبر الكوَّات الضبابيَّة.
قال يعقوب وهو يعدِّل نفسه على كرسيه: «أودُّ أن أستشيرك في أمر.»
فقال جيمس وهو يتكئ للخلف مُنصِتًا وقد وضع كاحلًا فوق الآخر: «بالطبع.»
«إنه يخصُّ ابنتي.»
«نعم، لقد ذكرتَها في حديثك منذ بضعة أيام. اسمها إليانور، أليس كذلك؟»
«إلينورا.»
صمت يعقوب للحظة وهو يحدِّق في فُوَّهة الغَلْيُون.
قال: «لقد ذكرتُها، ولكنني لم أخبرك بأيِّ شيء عنها.»
رشَفَ جيمس رَشْفة من النبيذ ورفع حاجبَيْه.
توقَّف يعقوب للحظات وهو ينظر ليده، ثم قال: «إن إلينورا … إذا قابلتَها فسوف تعلم على الفور. يمكنك أن تُطلِق عليها عبقريَّة أو موهوبة، فلستُ أعلم ما الكلمة الصحيحة التي تَصِفُها.»
انحنى الكاهن مولر إلى الأمام واتكأ بمِرفقَيْه على ركبتَيْه. كان قد قابل العديد من الأطفال الاستثنائيين على مدار سنوات عمله، أطفال تعلَّموا القراءة مبكِّرًا والقيام بعملياتٍ حسابية صعبة في رءوسهم، أو أطفال يعتادون اللغات الأجنبية بسهولة. وكان الموضوع مُشوِّقًا من الناحية الاحترافية والشخصية، وكان قد فكَّر مرارًا في جَمْع كُتيِّب عن الأشخاص العباقرة عبر التاريخ. ولكن معظم الأطفال الذين قابلهم لم يكونوا عباقرة، على الأقلِّ ليسوا على شاكلة بنتام أو مندلسون أو ميل.
«قلتَ من قبل إنك التحقت بالجامعة في سنِّ السادسة عشرة؟»
قال جيمس: «نعم، قُبَيل عيد ميلادي السابع عشر.»
«أعتقد أنه بالتدريب والتوجيه المناسبَيْنِ قد تتمكَّن إلينورا من الالتحاق بالجامعة خلال عامين أو ربما ثلاثة أعوام. لستُ أرغب في ذلك، ولكنني أعتقد أن ذلك بوسعها.»
«كم عمرها؟»
«لقد أتمَّت عامها الثامن في شهر أغسطس.»
«هذا مُذهِل بالفعل.»
كان جيمس يَثِق في رفيقه في الغرفة؛ فقد كان رجلًا صادقًا لا يحبُّ المظاهر أو الغرور، ولكن يصْعُب تصديقُ تلك المزاعم دون الشكِّ فيها. تحدَّثا طويلًا عن إنجازات إلينورا المتعدِّدة، وعن الدروس التي أعدَّها لها يعقوب، ومخاوف روكساندرا بشأن مُستقْبَل الطفلة، بالإضافة إلى مخاوفها من ردِّ فعل أهل المدينة إذا علموا بأمر قُدرات إلينورا. فعل جيمس ما بوسعه كي يُسانِد صديقَه، ولكن رغم أنه كان يرغب في تصديقه، فإنه لم يتمالك نفسه أن يعبِّر عن بعض الشكوك التي تُراوِدُه. وفي كلِّ مرة كان يفعل ذلك، كان يعقوب يأخذ نَفَسًا عميقًا من غَلْيُونه وينفُثه وهو يهزُّ رأسه.
قال: «لو أنَّك قابلتها، لخَبَرْتَ ذلك في لحظة.»