الفصل السابع
في الصباح التالي جلست إلينورا ووالدها على السطح الأمامي للسفينة يشاهدان إسطنبول وهي تظهر للعِيان من البحر. بدت المدينة ضبابيَّةً للوهلة الأولى، لا تتجسَّد إلا كشبح ينام تحت الضباب، ولكن عندما اقتربت السفينة استطاعت أن ترى الخطوط العريضة للمدينة ومصابيح شوارعها تُومِض كما لو كانت جمهرة من النيازك. لم يكن الفجر قد حلَّ بعدُ، وتدثَّرت إلينورا ببطانية من الصوف الخَشِن وهي جالسة على ساق والدها. كان لا يزال غاضبًا منها، ففيما عدا تحية الصباح واقتراح الصعود إلى السطح الأمامي للسفينة، لم يتبادل معها يعقوب أكثر من بضع كلمات منذ أن أفصحت عن وجودها. شعرت بغضبه متجسِّدًا في الوضع المشدود لساعده والشهيق المُنتظِم الذي كان يستخدمه لتهدئة أفكاره. لم تستطع أن تستشفَّ كُنْه تلك الأفكار، ولم تعلم هل كان يخطِّط لإرسالها إلى كونستانتسا أم ينوي السماح لها بالبقاء معه في إسطنبول. لم تكن على دِراية بحدود غضب والدها، ولم تكن لديها أدوات تمكِّنها من تقدير حَجْم هذا الغضب، ولكنها أدركت أنه من الأفضل ألَّا تخْرِق هذا الصمت.
أشرقت الشمس في موعدها من زاوية بعيدة في السماء، ومع شروقها انحسر الضباب. كان البوسفور مُزدحِمًا بالفعل، مكدَّسًا بمراكب الصيد وقوارب التجديف والسفن البخارية المتثاقِلة التي تمرُّ بين حين وآخر. وعلى الشاطئ تحت ظلال أشجار السَّرْو، أخذ أشخاصٌ ضئيلو الجسم ينادُون على بضاعتهم مُحدِثين هَرْجًا ومَرْجًا، يساومون في الأسعار ويعقدون الصفقات ويتوسَّلون. تلَأْلَأَت ثلاثة مساجد عملاقة ذات قِباب على شكل السُّلَحْفاة في الشمس المُشرِقة ومآذنها تخترق السماء كالحِراب، وعند المصبِّ كان يقبع أعظم مبنًى شاهدته إلينورا في حياتها؛ حدائق تعلوها حدائق، وقناطر، وأسوار، وجُدران عالية يطوِّقها حائط من الرخام الأبيض اللامع، وتطلُّ عليها وحدة من الأبراج الزجاجية. إنه قصر توب كابي مقر جلالة السلطان عبد الحميد الثاني، الذي يقبع على حافة القرن الذهبي دليلًا على الثروة والسلطة اللتين تفوقان الخيال.
بينما كانت السفينة تدخل المَرْفأ، دوَّى نفير القبطان، وانطلقت مجموعة من الصيحات في آنٍ واحد على سطح السفينة. شرع فريق من العمال في ربط الحبال، وانفتح بدن السفينة بصعوبة، وتقدَّم حشد من عمَّال السفن إلى السفينة مُحكِمين تثبيت الصناديق والأقفاص والبراميل إلى ظهورهم كما لو كانوا بِغالًا. وقُبالة محطة القطار الجديدة كانت أحواض السفن تضمُّ حشدًا هائجًا من البشر، مزيجًا من الطرابيش والعمائم والسترات والمعاطف. تزاحم المتسوِّلون الحُفاة مع الباعة الجائلين الذين يلوِّحون ببضائعهم فوق رءوسهم، وفي أطراف الحشد أخذت سيارات الأجرة تناوِر الجِمال والكلاب الضالَّة محاوِلةً الحصول على مكان. كان ذلك ما تعنيه الآنسة يونسكو عندما أطلقت على محطة القطار في بوخارست «حشدٌ سوقيٌّ من الرجال يخمُشون ويُزعِجون بعضهم بعضًا تنافُسًا على وضعٍ أكثر تميُّزًا إلى حدٍّ ما في الحشد.» وبينما لمحت إلينورا ما يبدو مؤخِّرة فيل يختفي في الزاوية، نَشَبَ شِجار بين عاملَيْنِ، واستطاعت أن تشعر بذراعَيْ والدها وهو يضمُّها بشدة كي يحميها. غاصت في حِجْره أكثر، واستنشقت الرائحة المألوفة للكركديه ودخان الغَلْيُون قبل أن تجرؤ على توجيه سؤال.
قالت وهي تنظر إلى الجزء السفلي الكثيف من لحيته: «بابا، إلى أين نذهب الآن؟»
فأطلق تنهيدةً.
ثم قال وهو يسحب علبةً من التَّبْغ من جيب سترته: «أول شيء سنفعله هو إرسال برقية إلى روكساندرا، ثم يقِلُّنا صديقي مُنصِف بِك في سيارته حتى منزله. كنت أنوي البقاء معه طوال فترة رحلتي، وآمُل أن يتمكَّن من استضافتك أنت أيضًا.»
أشعل يعقوب غَلْيُونه تاركًا لها الفرصة لاستيعاب مغزى تلك الكلمات.
قال وهو يسحب نَفَسًا من الغَلْيُون: «لست أدري كيف خطر لكِ أنها فكرة جيدة، ولكن ها أنتِ هنا، وعلَّنا نستفيد من هذا الوضع بأقصى ما يمكننا.»
بينما كان والدها يدخِّن، هبَّت رائحة مالِحة لاذعة من أحواض السفن، فتذكَّرت إلينورا تلك الأيام المُظلِمة في السفينة. ارتجفت للذكرى، ودفعت ذلك الخاطر بعيدًا عن ذهنها. لم يطرح عليها والدها أيَّ أسئلة عن الوقت الذي قضته في السفينة؛ مما أشعرها بالسرور، فقد كانت على يقين من أن بعض الأمور من الأفضل ألَّا تُناقش. وعندما انتهى والدها من تدخين غَلْيُونه، وقف حاملًا حقيبته في يدٍ بينما يقودها باليد الأخرى هابطًا إلى المَرْفأ.
«هل تريد عربة يا سيدي؟ غرفة؟ حمل حقائب؟»
حتى قبل أن يغادرا سطح السفينة احتشد حولهما جمهرةٌ من الباعة الجائلين والسماسرة المتدافعين، وهم رجال ذوو وجوه مُلطَّخة بالشحم يلوِّحون بالبطاقات ويحاولون انتزاع حقيبة والدها.
وظلَّ يعقوب يردِّد وهو يمرُّ سريعًا: «كلَّا شكرًا، كلَّا شكرًا.»
فقال أحدهم مُطلِقًا ضحكة مكتومة: «فتاة لطيفة. هل هي ابنتك؟»
جذب يعقوب إلينورا عَبْر حشد الباعة والسماسرة إلى منطقةٍ أقلَّ ازدحامًا بالقرب من محطة القطار، ووضع حقيبته. لقد اختفى الكاهن مولر، ويبدو أن مُنصِف بِك لم يصل بعد. خطر لإلينورا أن تسأل والدها عمَّا إذا كانا سيرسلان البرقية إلى روكساندرا، ولكنه بدا متوتِّرًا، ولم ترغب في إثارة المزيد من غضبه بأسئلتها. بحث وسط الحشود مرة أخرى قبل أن يدفعها برفقٍ في اتجاه مقهًى صغير.
«تعالَي هنا يا إيلي. هيا نجلس ونحتسِ فنجانًا من الشاي.»
وفور أن طلبا الشاي انحدرت عربة نحو باب المقهى، مُشتِّتةً سِرْبًا من النوارس وبعض المُتطفِّلين غير المهذَّبين. كانت العربة ذات تصميم فخْمٍ، مكسوَّة بخشب البلوط، تقودها أربعة جياد عربية رمادية اللون. توقَّفت العربة للحظات قبل أن يُفتَح الباب ويَخرج منها رجلٌ طويل عريض المَنْكِبين. حَدَسَت إلينورا أن هذا هو مُنصِف بِك. كان يرتدي سترة زرقاء داكنة، ويعلو رأسَه شعرٌ أسود كثيف، وترتسم على وجهه بدقَّة تلك الملامح المُحدَّبة التي تميِّز المنمنمات الفارسية. يبدو أنه من ذلك النوع من الأشخاص الذين يقابلهم المرء في «الساعة الرملية»، ذلك النوع الذي لن تُدهَش إذا وجدته يناقش أمورًا ذات أهمية كبرى في قاعة استقبال الكُونت أولاف، أو يجلس مُستمتِعًا في المقصورة الخاصة بفون هيرتزوج في الأوبرا.
«مُنصِف بِك!»
ابتسم الرجل وعانق والدها بحرارة.
«عزيزي يعقوب، لم أرَكَ منذ زمن طويل.»
قال والدها: «حقًّا، منذ زمن طويل حقًّا.»
تعانقا مرة أخرى، ثم حوَّل مُنصِف بِك انتباهه نحو إلينورا التي كانت لا تزال جالسةً أمام المائدة.
تساءل «وهذه؟ مَنْ هذه الفتاة الجميلة؟»
شعرت إلينورا بالدم يندفع إلى أُذنَيْها، فرفعت بصرها وابتسمت لمُنصِف بِك أفضل ابتسامة يمكنها تقديمها.
قال يعقوب: «هذه ابنتي إلينورا، وآمل ألَّا يسبَّب وجودها أيَّ إزعاج. كان من المُفترَض أن أُرسِل برقيةً أُخبرك فيها بذلك مقدَّمًا، ولكن عليَّ أن أعترف أنها كانت مفاجأة لي أيضًا.»
قال مُنصِف بِك وهو يربِّت على مِعْصم يعقوب محاولًا تبديد مخاوفه: «لا عليك.» ثم استدار فجأة وأشار إليهما أن يتبعاه، وتابع قائلًا: «سوف تفيدنا الطفلة، وخاصَّةً إذا كانت طفلة ساحرة الجمال كابنتك.»
وهكذا تمَّ الأمر، ففور أن شُحِنت صناديق يعقوب وجَّه مُنصِف بِك بضع كلمات إلى السائق ثم رحلوا. وعلى غرار معظم العربات في إسطنبول، كانت نوافذ عربة البِك مُغطَّاة بسواتر خشبية على هيئة تَعْرِيشة. وأوضح لهم الأمر قائلًا إنه اختراع يحجب الشمس عن الركَّاب، بل أهم من ذلك فهو يمنع الناس من رؤية السيدات وهُنَّ يتجوَّلن في أنحاء المدينة. ولحُسن الحظِّ، فهو لا يمنع مَنْ بالداخل من رؤية ما بالخارج. وما إن استقرت إلينورا في المقعد المُخْمَلي الأحمر، حتى وضعت يديها في حِجْرها مُتقاطِعتَيْنِ، وحدَّقت إلى الساتر المقابِل لها، متابعةً صورًا ومشاهدَ متعاقبة للمساجد والمباني المحليَّة، والقصور الخشبية التي تُصدِر صريرًا، وأشجار الدُّلْب، وعربات نقل الخضراوات، وما يبدو أنه سِرْبها يحلِّق فوقهم مُنتصِرًا.
قال يعقوب وهو يضع ساقًا على الأخرى: «لقد تغيَّرت المدينة كثيرًا. بالطبع، فلم آتِ إلى هنا منذ عشرة أعوام تقريبًا.»
نظر البِك من وراء كَتِف ضيفَيْه، وبدا كما لو كان قد استغرق للحظة في المشاهد العابِرة.
ثم قال: «ثمة مبانٍ جديدة تظهر كلَّ يوم؛ مقاهٍ ومحلات ومدارس ومساجد وأسواق، ولكن الطابع الأساسي لا يتغيَّر. فمهما يكن مَنْ يعتلي العرش، ومهما بُنِيَت محطات سككٍ حديديَّة جديدة، ومهما تكن الدولة التي تحرس سُفُنها الحربية البوسفور، فسوف تظل إسطنبول هي إسطنبول، مِن الآن وحتى نهاية الزمان.»
قال يعقوب وهو يرفع يده اليمنى كما لو كان يقترح نخْبًا: «تعبيرٌ رائع. نخب إسطنبول.»
وسرعان ما توقَّفت العربة عند المدخل الأمامي لمنزل البِك، وأخذ فريق من السائقين يُنزِلون أمتعة يعقوب، ويفكُّون الجياد من العربة ويعيدونها إلى إسْطبلاتها. كان منزل البِك قصرًا ضخمًا باللونين الأصفر والأبيض يقع على حافة المياه، ويراقب حركة السفن العابرة برقيٍّ وهدوء، كما لو كان رجلًا عجوزًا يرتدي حُلَّة من ثلاث قطع ويُطعِم الحمائم وهو جالس على أريكة الحديقة. وبينما كان مُنصِف بِك يقود ضيفَيْه إلى الباب الأمامي، ألقى نظرة فضولية على سرب إلينورا الذي اتخذ من شجرة زَيْزَفون تتدلَّى على الممرِّ الخاص عُشًّا له.
همس والدها: «لقد تبعكِ السِّرْب. اعتقدت أنني رأيت أحدها خارج فارنا، ولكن السِّرْب بأكمله تبعكِ.»
دُهشِت إلينورا أيضًا، لا لأنها تشك في وفاء سِرْبها، ولكن لأنها مسافة طويلة ما بين كونستانتسا وإسطنبول. وكانت تتخيَّل الرحلة التي قطعها سِرْبها عبر البحر عندما دخلت غرفة الانتظار في منزل البِك حيث جذبت انتباهها الثُّريَّا البلَّوْرية الضخمة التي تتدلَّى من منتصف السقف. كانت تُصدِر مجموعةً كثيفة من الانعكاسات، وبدت كما لو كانت ستنهار في أي لحظة تحت وطْء ثِقَلها، وتتهشَّم على السلالم الرخامية أسفلها. وداخل الباب الأمامي على يمينها مباشرةً ثمة مائدة جانبية تناثرت عليها بطاقات الزيارة، وعلى يسارها تقف دِرْعٌ من دروع الحرب حارسةً دائمًا للغرفة، وبُسِطت تحت قدمَيْها سجادة ضخمة من الحرير الأحمر والأزرق والأخضر صُنِعت في هيريكي تمتد لأكثر من ثمانية أمتار من الباب الأمامي حتى أسفل الدَّرَج. كانت أروع سجادة رأتها في حياتها حقًّا، ذات حافة مُزيَّنة بالكثير من الورود تحيط بثلاثة رسومات متداخِلة تمكَّنت من أن تتبيَّن فيها تصوير سفينة نوح وجنَّة عدن وأيام الخَلْق السبعة.
قال البِك وهو يخلع نظارته الأنفيَّة ويمسحها في حافة سترته: «للأسف، فإن أجنحة النساء مُغلَقة الأبواب، فلم تعد لدينا نساء يُقمِن هنا منذ فترة. ولكن إذا لم تمانع الآنسة كوهين في الإقامة في جناح الرجال من المنزل، فإنني أنوي تخصيص غرفة تناسبها تمامًا.»
توقَّف ونظر إلى إلينورا ينتظر الحصول على الموافقة، ولمعت عيناه العسليَّتان في ضوء القمر عندما ابتسم.
قالت: «لا بأس، سأكون مَمْنونة جدًّا.»
«حسنًا، إنها مُمتنَّة. لقد حُسِم الأمر إذن. أيها السيد كَروم، من فضلك اصْطَحِب الآنسة كوهين إلى الغرفة الحمراء.»
وهنا ظهر كبير الخدم من الزاوية المخصَّصة له، واصْطَحَب إلينورا إلى الطابق العلوي وهو يمدُّ راحة يده مبسوطةً لأعلى مرتديًا قفازًا أبيض اللون.
قال وهو يمسك لها الباب: «غُرفتك أيتها الآنسة كوهين. سوف أطرُق الباب في الساعة الثامنة من أجل اصطحابك إلى مائدة العشاء.»
كانت الغرفة الحمراء كما يوحي اسمها؛ مُغطَّاةً بورق حائط أحمر اللون من نفس درجة لون الزخارف الموجودة خارج المنزل. ولتخفيف حدَّة ذلك اللون الأحمر، كانت الألواح الخشبية بالغرفة مَطليَّة باللون الأبيض العاجيِّ، بالإضافة إلى السقف والزخارف التي تزيِّن النافذتين الكبيرتين ذواتي الستة عشر لوحًا المقابلتَيْن للباب. وعلى يسار إلينورا يوجد فِراش ذو أربعة أعمدة مُغطًّى بستائر من الدانتيل، كما لو كان مِحَفَّةً إمبراطورية، وأمامها أسفل النافذتين بالضبط مقعدٌ جلديٌّ باللون البني الفاتح، وطاولة كتابة من خشب البلوط تعلوها مِحْبرة بلَّورية، وعلى يمينها مكتب ومائدة للزينة، كلٌّ منهما به أدراج تَسَع أكثر مما تتخيَّل أن تضعه داخلها. ظلَّت في المدخل فترةً طويلة تتفحَّص الغرفة وأثاثها والسجادة اللامعة ذات اللونين الأزرق والأخضر المفروشة على الأرض والتي صُنِعت في تبريز. لقد قضت أسبوعًا في بدن السفينة؛ ومِن ثمَّ كان يصعب عليها أن تتقبَّل وجود تلك الرفاهية، وأن تتقبَّل أيضًا أن تلك الغرفة التي تفوق مساحة منزلها في كونستانتسا بأكمله أصبحت لها في الوقت الراهن على الأقل.
سارت إلينورا بخطوات حذرة على حافة السجادة حتى مائدة الزينة، وقرَّبت وجهها من المرآة. راقبت أنفاسها وهي تتكوَّن وتختفي على السطح الفضي، وقطَّبت وجهها في المنطقة المحيطة بأنفها، ونفخت خدودها. ثم ابتعدت عن المرآة، ورتَّبت خُصْلة شعرٍ فوق جبينها، وأمالت رأسها إلى اليسار على نحو جذَّاب. كانت إلينورا قد شاهدت صورتها في المرآة من قبلُ لدى الخيَّاط في كونستانتسا، ولكنها لم تُتَحْ لها الفرصة قطُّ كي تفحص نفسها عن قُرْب هكذا. اتَّكأت للأمام مرة أخرى، واستندت بأنفها على سطح المرآة، بحيث لم يتسنَّ لها أن ترى سوى عينيها والنصف العلوي من وجهها. حاولت التركيز، ولكن كلَّما أمعنت النظر أصبحت الأشياء أكثر ضبابيةً. تراجعت خطوة للخلف، ومسحت أنفاسها عن الزجاج، وتأمَّلت نفسها عن بُعْد. لم يكن لديها شكٌّ في أنها جميلة، فطالما أخبرها الناس بذلك طوال حياتها، ولكنها في تلك اللحظة بدت رثَّةً قليلًا. فرغم أنها اغتسلت في الليلة السابقة وغسلت ملابسها ونامت على فراش ملائم، كان شعرها ملبَّدًا، وعيناها غائرتَيْن في مَحْجِرَيْهما، وثوبها مُهلَّهلًا لا شكل له.
اتَّجهت إلينورا إلى الجانب الآخر من الغرفة كي تفتِّش فيما يبدو أنه خزانة؛ علَّها تجد ثوبًا أنْسَب هناك. أدارت المِقْبض وفتحت الباب فتحةً ضيِّقة، فوجدت أنها خزانة بالفعل، ولكنها فارغة إلا من سترة وزوج من السراويل وطربوش يبدو أنه لصبي في مثل عمرها. مدَّت يدها كي تلمس نسيج الطربوش بينما سمعت الباب يُفتَح، فاحتبست أنفاسها في حَلْقها واستدارت ببطء حتى رأت أن الصوت صادر عن امرأة عجوز مُتغضِّنة الوجه ترتدي ثوبًا أزرق داكنًا. لم تكن المرأة غاضبة من إلينورا لاختلاسها النظر في خزانة البِك، بل إنها بدت هي نفسها خائفة قليلًا. وضعت كومةً من المناشف على أحد المقاعد بجوار الباب، ورفعت وِشاحها كي تغطِّي خُصْلة من الشعر الأبيض، ومسحت جبهتها بكُمِّها.
قالت بصوت مُنخفِض: «إلينورا، لقد وصلتِ.»
لم تدرِ إلينورا كيف تردُّ على هذا التعليق، فانتظرت المرأة كي تُكمل حديثها.
قالت وهي تعْبُر الغرفة: «أنا السيدة داماكان. عرفتُ والدكِ منذ عدة أعوام في كونستانتسا، والآن أعمل لدى البِك.»
أخذت يد إلينورا بين راحتيها وأمسكت بها لحظةً قبل أن يبدو عليها أنها تذكَّرت الغرض من وجودها في الغرفة.
«قال البِك إنك قد تحتاجين إلى تبديل ثيابك كما فعل والدك.»
فقالت إلينورا: «نعم، أعتقد ذلك.»
«ولا ضيرَ في الاستحمام أيضًا.»
ابتسمت السيدة داماكان وقادت إلينورا عبر بابٍ جانبيٍّ إلى الحمام الذي كان مفروشًا بالبلاط الأزرق والأبيض، مُغلَّفًا بالحرارة والرطوبة، يعبَق برائحة شجر البتولا. كان حوض استحمام خزفيٌّ يحتل إحدى زوايا الحمام، وفي الزاوية الأخرى قِدْر نحاسيَّة ضخمة. حكَّت الخادمة عنقها، وتَمْتمت ببضع كلمات رقيقة قبل أن تنحني وتخلع ثوب إلينورا من عند رأسها، ثم أخذت القِدْر النحاسية تحت ذراعها وانصرفت مؤكِّدة أنها ستعود بعد قليل، تاركةً إلينورا وحيدةً عاريةً في منتصف الحمام. ورغم أنها لم تكن تشعر بالبرد، فقد ارتجفت ولفَّت ذراعَيْها بإحكام حول صدرها، وحدَّقت في شبح انعكاسها في أحد القوالب الزرقاء، ثم جلست على حافة المِغْطَس وانتظرت عودة السيدة داماكان، التي عادت حاملةً لُوفةَ استحمام ووعاءً مليئًا بالماء الساخن.
قالت وهي تسكب الماء في المِغْطَس: «عندما رحلتُ عن كونستانتسا، لم تكوني قد تجاوزتِ طول ذراعي، والآن ها أنت شابة يافعة.»
نظرت إلينورا إلى نفسها واحمرَّت خجلًا، فلم يَرَها أحدٌ عاريةً منذ فترة طويلة؛ ففيما عدا الأعوام الأولى من حياتها كانت تغتسل بنفسها وتبدِّل ثيابها وهي وحيدة في غرفتها. ولكن ذلك الخجل سرعان ما تلاشى في دفء حضور السيدة داماكان. تمسَّكت إلينورا بالحافة الخزفية الباردة، ودلَّت ساقَيْها في المِغْطَس. كانت المياه أكثر سخونةً مما توقَّعتْ، ولكن بعد بضع لحظات من الشعور بالحرارة اللَّاسعة نزلت مُنزلِقةً للخلف، وبدأت تستمتع بالبخار على وجهها والرائحة الزكية لصابون زيت الزيتون والماء الساخن يتخلَّل عظامها. أخذت السيدة داماكان تفرُك جسد إلينورا بلُوفة مبلَّلة بالصابون برِقَّة في بادئ الأمر، أو تقريبًا بحذرٍ، ثم بقوَّة مُتزايِدة على ظهرها وساقَيْها وذراعَيْها ورقبتها وبطنها، وذلك بالقوة التي تُجلِي بها عاملة غَسْل الأطباق القِدْر كي تُزِيل الأرز الملتصِق بقاعها.
وبعد ذلك تدثَّرت إلينورا بمِنشفة بيضاء سميكة، وشعرت كما لو كانت طفلة رضيعة وُلِدت من جديد، وكأنَّ المشقَّة والقلق اللذين عانت منهما الأسبوع الماضي قد ذهبا بالفَرْك، ويدوران الآن في دوَّامة المصرف مع مياه الاستحمام. كانت لا تزال تشعر بالتعب وعظام فخذها بارزة كأوتاد الخيمة، ولكنها شعرت كما لو كانت شخصًا جديدًا.
«والآن، نأمُل أن يناسبكِ هذا.»
استدارت إلينورا ورأت السيدة داماكان تقف خلفها، وثوب أزرق مُخْمليٌّ جميل يتدلَّى على ذراعها. وبعد أن أعطت إلينورا مجموعةً جديدة من الملابس الداخلية، ساعدتها في ارتداء الثوب وإغلاق أزراره من عند الظهر. وبينما كانت السيدة داماكان تُغلق الكُبْشَة الأخيرة، قرع السيد كروم كبير الخدم البابَ المفتوح، ودون أن يتفوَّه بكلمة أرشد إلينورا إلى غرفة الطعام بالطابق السفلي. كان والدها والبِك قد جلسا بالفعل، ولكنهما نهضا واقفَيْن عندما دخلتْ.
قال البِك: «تَبْدِين فاتنةً.» وجذب المَقْعد المجاور له مشيرًا إليها بأن تجلس: «هذا الثوب بالفعل يناسبك تمامًا.»
شعرت إلينورا بالخجل من مجاملات البِك، فجذبت ياقة ثوبها المصنوعة من الدانتيل بعيدًا عن عنقها، ونظرت إلى والدها. كان قد ارتدى أفضل ثيابه، وارتسمت على وجهه الذي اصطفَّ فيه شاربٌ مهذَّب حديثًا ابتسامةُ فَخْر وهو يَعبُر إلى الناحية الأخرى من المائدة كي يضغط على يدها.
«تبدين جميلة يا إيلي.»
وبعد برهة خرج السيد كَروم من المطبخ يحمل ثلاث دجاجات مَشويَّة ترقد على مِهاد من الأرز بالزَّعْفران. وبطبيعة الحال، كانت إلينورا ستُولِي المزيد من الاهتمام للحوار الدائر عن العمل والمشهد السياسي في إسطنبول، ولكن لمَّا كانت تتضوَّر جوعًا فقد اقتصر اهتمامها على لحم الدجاجة الرطب المقرمِش وحبيبات الزبيب الصغيرة المنتفخة المدفونة في الأرز. ورغم ذلك فقد استمعت مصادفةً إلى جزءٍ من الحوار الذي كان والدها والبِك يناقشان فيه ظروف ابنة أخي السيدة داماكان التي ظلَّت في خدمة البِك سنوات عديدة قبل أن تتزوَّج من شاب تتاري يعمل حدَّادًا خارج سميرنا. كان الثوب الذي ترتديه إلينورا في حقيقة الأمر يخصُّ ابنة أخي السيدة داماكان منذ زمن بعيد. وبعد تناول حلوى السَّفَرْجل، ذهب الرجلان إلى المكتبة وصعدت إلينورا إلى الطابق العلوي مُرهَقةً كي تخلُد إلى النوم.
وفي الصباح التالي، بعد أن أخذوا قسطًا من الراحة وجدَّدوا نشاطهم، استقلُّوا عربة البِك إلى محطة جالاتا، وأرسلوا برقية إلى روكساندرا، ثم استقلُّوا عربةً حمراء لامعة من عربات القطار المُعلَّق صاعدِين التل حتى شارع لو جراند رو دو بيرا. وقفت إلينورا في منتصف الطريق المنحني قليلًا، وشعرت كما لو أنها قد أُلقِي بها في قلب بوخارست أو باريس، أو كأنها دخلت في إحدى صفحات «الساعة الرملية» أو أيِّ كتاب آخر على نفس القدر من الروعة. أخذت تراقب السيدات الأوروبيات الأنيقات وهُنَّ ينتشرن في الزحام، وأغمضت عينَيْها واستنشقت الرائحة العذبة للَّوز المُغلَّف بالسكر التي تنبعث من أحد الباعة أمام مقهى أوروبا.
قال البِك وكعباه يقرعان الحصى: «تعالَي أيتها الآنسة كوهين، أعتقد أنَّ الوُجْهة التي نقصدها ستلْقَى اهتمامًا شديدًا لديكِ.»
في حُلَّته الرمادية المكوَّنة من ثلاث قطع وطربوشه الصوفي الأحمر، كان مُنصِف بِك ذا هيئة لافتة للنظر. حتى السيدات الأوروبيات راقبْنَهُ باستحسان صامت وهو يقود إلينورا ويعقوب إلى الناحية الأخرى من الشارع، مارِّين ببائع خردوات وصيدلية واستديو تصوير، حتى توقَّفوا أخيرًا أمام محلٍّ مكتوب على واجهته بالذهب «مدام بواريه، خيَّاطة للسيدات». وبينما كانوا يدخلون، قُرِع جرسٌ، ونظرت السيدة الجالسة إلى الطاولة — وعلى ما يبدو أنها مدام بواريه نفسها — إليهم من خلف نظارتها الطبِّية.
قالت: «مساء الخير، هل من مساعدة يمكنني أن أُسْدِيها لكم؟»
قال البِك وهو يجلس على أريكة أمام ثلاث مرايا: «نرغب في تفصيل ثوبٍ للآنسة الصغيرة.»
أدركت إلينورا أنها هي المقصودة بالآنسة الصغيرة.
فسَعَلَ والدها في منديله قائلًا: «حقَّا يا مُنصِف، لا داعي لذلك.»
قال البِك: «ولكنني أعترض، فثمة حاجة ماسَّة لذلك.»
«إنها بحاجة إلى ملابس جديدة بالطبع، ولكنني أعتقد أنَّ هذا المحلَّ خارج حدود إمكانياتنا.»
رفعت مدام بواريه حاجِبَيْها وتخلَّلت شعرها البنيَّ الذي وَخَطه الشيبُ بأصابع يدها.
فاستمر يعقوب مخاطِبًا مدام بواريه: «يمكنني أن أؤكِّد أن منتجاتكم من الدرجة الأولى، ولكنها مجرد فتاة صغيرة، ونحن لا نرغب في إثارة المتاعب لأحد.»
ظلَّ البِك جالسًا على الأريكة ووضع ساقًا على الأخرى، ثم جذب ساعةً ذهبية من جيبه وفتحها كي يُلقِي نظرة على الوقت.
«إنني مُصِرٌّ، وحقًّا ليس في الأمر أيُّ متاعب. إننا محظوظون لأن السيدة داماكان وجدت هذا الثوب، ولكنَّ كلَّ فتاة يجب أن تمتلك على الأقل ثلاثة أثواب جميلة. أليس كذلك أيتها الآنسة كوهين؟»
أخذت إلينورا تعبث بالتموُّجات في خَصْر ثوبها. إنه محقٌّ، فلا يمكنها أن ترتدي نفس الثوب طوال الوقت الذي ستقضيه في إسطنبول، والنماذج المعروضة في واجهة المحل شديدة الجمال بالفعل. ولكنْ أكثرَ من رغبتها في ثوب جديد، كانت إلينورا ترغب بشدَّة ألَّا تُثِير استياء أيِّ شخص، لا والدها ولا البِك بالطبع.
اعترضت مدام بواريه أخيرًا: «بالطبع، فآنسة بلا ثوب جميل كالبجعة بلا ريش، ولا أعتقد أنها ستكتفي بثوب واحد أو ثوبين. والآن أيتها الآنسة كوهين، يمكنكِ أن تجلسي كي نختار القماش الذي يلائمكِ.»
فقال والدها وهو يجلس بجوارها: «حسنًا، لقد هُزِمتُ.»
خرجوا بعد مرور بعض الوقت حامِلِين رِزْمة من اللفائف الورقية البيضاء، واستقلُّوا عربة القطار المعلَّق هابطِين التل. وبالإضافة إلى ثوب مسائيٍّ حريري رسمي ذي أكمام مُنتفِخة ورباط كبير، اشترى مُنصِف بِك لإلينورا ثلاثة أثواب للاستخدام اليومي، وحذاءين ومجموعة كبيرة مما أطلقت عليه مدام بواريه أدوات الزينة الضرورية.
قال والدها وهم يتحرَّكون على جسر جالاتا: «شكرًا يا مُنصِف، يمكننا تسوية الحساب بعد أن نقوم بزيارة الحاج بكير.»
وقالت إلينورا: «نعم، شكرًا. إنني أقدِّر ذلك بالفعل.»
فقال البِك وهو يلوِّح بيده لهما في غير اكْتِراث: «عفوًا، لا شكر على واجب.»
وقُبيل مدخل البازار المصري صَعِدت العربة في زُقاق ضيِّق شديد الانحدار يكتظُّ بالأكشاك التجارية وعمَّال الشحن والتفريغ والبغال. انعطفوا يسارًا ثم يمينًا ثم يسارًا مرة أخرى، قبل أن يتوقَّفوا في أعلى طريقٍ مسدود حقير يصطفُّ على جانبَيْه تجَّارُ الذهب. ترجَّلوا ومرُّوا بصفٍّ من الرجال العُجُز الذين يحرِّكون مسابح الصلاة وهم يحتسون الشاي ويلعبون الطاولة. وفي مركز الطريق المسدود كان ثمة باب متهشِّم أخضر اللون يؤدِّي إلى مخزن أهم تجار السجاد في المدينة، وهو رجل سوري يُدعَى الحاج بكير. كانت إلينورا قد سمعت قصصًا من والدها عن الحاج بكير ومَخْزنه الكبير من السجَّاد، ولكن رؤية المخزن بعينَيْها كانت أمرًا مُختلِفًا تمامًا. كانت تلك الحجرة التي تشبه الكهف مضاءةً بمصباح غاز واحد، وأيِّ قدر من أشعة الشمس يمكنه أن يشقَّ طريقَه عبر النوافذ العلوية المُتسِخة، وكانت مكدَّسة على الجانبين بأكوام وأكوام من السجَّاد، كلٌّ منها في طول الإنسان. لا بدَّ وأن ثمة ألف سجادة على الأقل في تلك الغرفة وحدها، بالإضافة إلى المزيد في السراديب المُلحَقة بها.
«مُنصِف بِك.»
تراءى من خلف أحد الأكوام رجلٌ بَدِين، تعلو وجهَه البثور، يرتدي عباءةً ناصعة البياض وطربوشًا أخضر اللون. رفع الحاج بكير يده بالتحيَّة قبل أن يتحرَّك مُتثاقِلًا صَوْب الناحية الأخرى من الغرفة.
قال البِك وهو يسعل في قبضة يده: «أيها السيد كوهين، أودُّ أن أعرِّفك بصديقي وشريكي في العمل، الحاج الموقَّر عبد العزيز إبراهيم بكير.»
هزَّ الحاج بكير رأسه ومدَّ يده مصافِحًا يعقوب بقوَّة، ثم أشار إلى المقعد الطويل الذي يمتد بطول أحد حوائط المتجر، وضمَّ يديه وقال شيئًا للبِك. ولمَّا كان الحاج بكير لا يتحدَّث سوى العربية، فقد كان مُنصِف بِك مُضطرًّا للترجمة.
قال مُنصِف بِك: «إذا لم تمانع فإن الحاج بكير يرغب في معاينة السجاد الذي أحضرتَهُ.»
«نعم، بالطبع.»
داعب والد إلينورا أطراف شاربه وهو يراقب المشهد بلا مبالاة، بينما أخذ فتى المتجر يفتح صناديقه ويُخرِج محتوياتِها. وفي الوقت الذي استغرقه احتساءُ أكواب الشاي الصغيرة العذبة التي قدَّمها لهم الحاج بكير، كان الفتى قد أخرج كلَّ السجاد ووضعه في كَومتَيْن في اتجاه الحاج بكير. كَزَّ الحاج بكير على أسنانه، وخفض فكَّيْه، ثم رمق السجاد الذي يصطفُّ على جدران مخزنه، ثم تَنَحْنح مُشيرًا إلى الكومة الصغرى ووجَّه بضع كلمات إلى البِك الذي بُوغِت إلى حدٍّ ما وهمَّ أن يطرح سؤالًا، ولكن الحاج بكير هزَّ رأسه وكرَّر تلك الكلمات الثلاث مُشوِّحًا بيده نحو أنفه في حَسْم، كما لو كان يحاول إبعاد بعوضة عن وجهه.
قال البِك: «يقول الحاج بكير إن سجَّادك شديد الجمال، ولكنه لن يأخذ هذه المرة سوى القطع التي على يساره، وهو يعرض خمسمائة جنيهٍ في المجموعة بأكملها.»
راقبت إلينورا ردَّ فعل والدها بعناية. إن خمسمائة جنيهٍ مبلغ كبير، ولكنها أدركت من تعبير وجهه أن السجَّاد يستحق أكثر من ذلك. وفي الوقت نفسه ظنَّت أنه قد يوافق على هذا الثمن؛ فالحاج بكير لا يبدو من ذلك النوع من الرجال الذي يرغب المرء في استفزازه، فقد هبَّ غاضبًا مرتين في فتى المتجر ورفع يده كي يضربه قبل أن يتذكَّر الضيوف المجتمعين في صُحبته. حرَّكت إلينورا إحدى الحواف غير المربوطة للسجادة بطرف حذائها وهي تشاهد والدها ينهض من المقعد ويسير مُتمَهِّلًا نحو وسط الغرفة. ودون أن يُلقِي حتى مجرد نظرة على الحاج بكير، جلس القُرْفُصاء بجوار السجاد محلِّ النقاش، وأخذ يرفعها من الكومة ويضعها برفق واحدة تِلْو الأخرى كما لو كان مُزارِعًا يعتني بمحصوله. وبينما لم ينظر الحاج بكير لكلِّ قطعة إلا لمدة عشر ثوانٍ أو خمسة عشر ثانية، استغرق يعقوب وقتًا طويلًا يقلِّب الزوايا ويتشمَّم النسيج. وعندما انتهى من فحص السجاد، اعتدل واقفًا وزمَّ شفتَيْه. وحدَّق الرجلان أحدهما إلى الآخر لبرهة من الوقت قبل أن يتحدَّث يعقوب.
«لن أبيعها بأقل من تسعمائة.»
أخذ البِك يترجم الكلام، ولكنه قُوطِع في الحديث، مبديًا استياءه وعدم تصديقه، شاعِرًا بالألم والإهانة. كرَّر الحاج بكير عرضه السابق، ثم قال إنه يمكنه رفع المبلغ إلى ستمائة، وهذا هو العرض النهائي.
قال يعقوب: «ثمانمائة.»
وعندما ترجم البِك عرضه المقابل، عضَّ الحاج بكير على شفته السفلى وتَمْتَم بشيءٍ ما من بين أسنانه، فانزعج البِك.
تساءل يعقوب: «ماذا قال؟»
قال البِك: «لا شيءَ ذا أهمية، بل كان يحدِّث نفسه.»
استمرت المساوَمة لمدة ساعة تقريبًا، وظلَّ الحاج بكير يصيح ويلوِّح بذراعَيْه في الهواء بينما وقف والد إلينورا ثابتًا لا يتزحزح عن الرقم ثمانمائة.
وظلَّ يردِّد مرة تِلْو الأخرى: «تلك هي قيمتها»، بينما ظلَّ الحاج بكير يرفع السعر في نوبات مُتقطِّعة.
وأخيرًا، بينما بدا الحاج بكير على شفا الإصابة بانهيار عصبي، احمرَّ وجْهُه وأخذ يلهث في زاوية من الغرفة، عندما وصلا إلى حاجِزٍ في السعر لا يمكن تخطِّيه؛ ومن ثمَّ استسلم يعقوب.
«سبعمائة وخمسون.»
هنا خرج الحاج بكير من زاويته وصافح يعقوب، ثم بدأ يُصدر الأوامر لفتى المتجر. وقبل أن تُصبِح ثمة فرصة للتفكير مرةً أخرى، رُصَّ السجاد وتمَّ تبادُل النقود، وكانا — يعقوب والبك — في طريقهما للخارج.
وأثناء ركوب السيارة في الطريق إلى المنزل، بعد أن رفض البِك مرةً أخرى عروضه لردِّ ثمن أثواب إلينورا، سأل يعقوب عمَّا تَمْتم به الحاج بكير بصوت خفيض.
فقال البِك: «يُفضَّل ألَّا تعرف.»
فكَّر يعقوب مرارًا وهزَّ رأسه بالموافقة وهو ينظر إلى إلينورا.
وقال: «أنت على حقٍّ، ربما علينا ألَّا نعرف.»