(١) الحض على الخطاب L’INCIATION AUX DISCOURS
القرن السابع عشر: سوف يُشكِّل هذا القرن بداية لعصر القمع الخاص بمُجتمَعات تُسمَّى
بورجوازية، وقد تكون لم نتجاوزه تمامًا بعدُ. منذ هذه اللحظة، ربما أصبحَت تسمية كلمة
جنس أكثر صعوبة وأبْهَظ كلفة. كل شيء يَحدُث كما لو كان من الضروري إنزاله إلى مستوى
اللغة، من أجل مراقَبة التداول الحقِّ به عبْر الخطاب، وطرده من الأشياء المقولة وإطفاء
الكلمات التي تجعله حاضرًا حضورًا محسوسًا. ويمكنُنا القول إن هذه المُحرَّمات نفسها
قد
تخشى أن تسميه. الحياء العصري حصل على منع الكلام على الجنس، حتى دون أن يذكر اسمه،
وذلك عن طريق أصناف المنع التي تتساند فيما بينها. أنماط من الخرَس، تفرض الصمْت نتيجة
الاستمرار في ممارسة السكوت. مُراقَبة.
ولكن، إذا تناولنا القرون الثلاثة الماضية في تحوُّلاتها المتواصلة، تبدو الأشياء
مختلفة جدًّا حول الجنس، وعنه، انفجار خَطابي حقيقي، يجب أن نتفاهم. ربما حصل تطهير
صارم للمفرَدات المسموح بها؛ ربما اعتمدَت أساليب بلاغية جديدة في التَّورية
والاستعارة، فثَمَّة قواعد احتشام جديدة صَفَّت الكلمات دون أي شك: بوليس الملفوظات
ورقابة على التلفُّظ أيضًا. لقد حُدِّد بشكل أكثر صرامة أين ومتى لا يمكن الحديث عن
الجنس، أين ومتى يجوز الحديث عنه، في أية مناسبة، بين أي مُتحدِّثين، داخل أية روابط
اجتماعية. لقد أُنشئت مَناطق احتشام وذوق، إن لم يكن مناطق صمت مُطلَق. مثلًا: بين
الأبوين والأبناء، بين المُربِّين والطلاب، بين الأسياد والخدَم. وحصل في هذا المجال
بكل تأكيد تقريبًا نوع من اقتصاد تقييدي. دخل هذا الاقتصاد ضمن إطار سياسة اللغة
والحديث — العفوية في بعضها والمتفق عليها في بعضها الآخر — التي رافقَت إعادة
التوزيعات الاجتماعية في العصر الكلاسي.
بالمقابل، كانت الظاهرة عكسية تقريبًا على صعيد الخطابات ومجالاتها. فقد استمرَّت
ألوان الخطاب حول الجنس في التكاثر — خطابات نوعية، مختلفة شكلًا وموضوعًا في آن معًا
—
كان ذلك بمثابة تخمُّر خَطابي تسارَع ابتداء من القرن الثامن عشر. لا أتكلم هنا على
كثرة محتمَلة من خطابات «غير مشروعة» على خطابات عاصية، التي تسمِّي الجنس باسمه، بدافع
شتْم ألوان الحشمة الجديدة أو الاستهزاء بها. كانت رَدة الفعل على تضييق قواعد اللياقة
تقييمًا للكلام غير اللائق وتقويةً له. لكن المهم هو كثرة الخطابات حول الجنس ضمن مجال
ممارَسة السُّلطة نفسها: تحريض مؤسَّسي على الحديث عن الجنس، والحديث عنه أكثر فأكثر،
إصرار مَراتب السُّلطة على الاستماع إلى الحديث عن الجنس، إلى حديث الجنس عن الجنس
بأسلوب البيان الصريح، والتفاصيل المتراكمة.
لتناول مثلًا تطوُّر العمل الرعوي الكاثوليكي وسِر التوبة بعد انعقاد مجمَع الثلاثين
(
Concile de Trente) ترانت. فقد جرى تدريجيًّا
إخفاء عُري الأسئلة التي كانت تطرحها كرَّاسات الاعترافات في القرون الوسطى؛ وعدد كبير
من الأسئلة التي كانت لا تزال تُطرَح في القرن السابع عشر.
١ ويُتجَنَّب الدخول في تفاصيل، كان يعتبرها بعضهم من أمثال سانشيز
(
Sanchez) أو تنبوريني
(
Tamburini) ضرورية ليكون الاعتراف كاملًا: وضعية
كل من المشارِكين، المواقف المتَّخَذة، الحركات، التلامسات، لحظة اللذة بالضبط؛ أي
المسار الدقيق للفعل الجنسي حين ممارسته. فيوصى بالتحفظ مع إصرار متزايد عليه. ينبغي
التزام أكبر قسط من الحيطة حين يتصل الأمر بالخطابات ضد الطهارة: «هذه المادة تشبه
الزِّفت، فهو يترك على أيدينا بقعًا، ويوسخها دائمًا كيفما أمسكْنَا به حتى نقذف به
بعيدًا عنَّا.»
٢ فيما بعد يوصي «ألفونس دي ليغوري» الكاهن سامع الاعتراف بأن يبدأ بأسئلة
«غير مباشرة وغامضة قليلًا»
٣ تجنبًا لاحتمال الإفصاح عنه، خاصة مع الأولاد.
إنما بالإمكان تهذيب اللغة وتنقيحها، فقد استمر توسيع الاعتراف بالخطيئة، وبخطيئة
الدنس في الازدياد؛ لأن حركة «الإصلاح الكاثوليكي المضادة»
٤ جهدت في تسريع وتيرة الاعتراف السنوي في جميع البلدان الكاثوليكية، ولأنها
حاولَت أن تفرض قواعد دقيقة لفحص الضمير، إنما خصوصًا لأنها أعطَت في التوبة أهمية
متزايدة لجميع أشكال الخطيئة المتَّصلة بالجسد على حساب الخطايا الأخرى: أفكار، رغبات،
تصورات شهوانية، أهواء نفسية وجسدية، كل هذا يجب أن يدخل تفصيليًّا من الآن فصاعدًا في
لعبة الاعتراف والإرشاد الروحي. وفقًا للتوجيه الرعوي الجديد ينبغي ألا يذكر الجنس بدون
تحفُّظ، ولكن يجب تتبع مظاهره وارتباطاته ونتائجه في فروعها الأكثر دقة. كل شيء يجب أن
يُقال: خيال في حلم، صورة أبطأنَا قليلًا في طرْدها من ذهننا، تواطؤ لم نُحْسن تجنبه
بين آلية الجسد وإرضاء النفس. إنه تطوُّر مزدوَج يجعل من الجسد مصدَر جميع الخطايا
ويركِّز — ضمن إطار الفعل الجسدي — على الرغبة التي تُحدث اضطرابًا عميقًا في النفس
ويصعُب التعبير عنها. خطيئة الجسد شر يصيب الإنسان كله وتحت شكل من السرية التامة.
«افحص بعناية جميع نفسك، الذاكرة والعقل والإرادة، افحص أيضًا بدِقة جميع حواسك … افحص
أيضًا جميع أفكارك وأقوالك وأفعالك. افحص حتى أحلامك، وتساءَل، إذا كنتَ لم تمنحها رضاك
بعدَ استيقاظك من النوم. وأخيرًا لا تتصور أن هناك شيئًا صغيرًا أو خفيفًا في مادة
خطِرة ومثيرة إلى هذا الحد.»
٥ إنه إذًا، خطاب محتوم ويقظ، يجب أن يتتبَّع خط التقاء الجسد والنفس في جميع
تعاريجه. فيكشف عن أعصاب الجسد المتواصِلة تحت سطح الخطايَا. وهكذا يُلاحَق الجنس
ويُطارَد عبْر خطاب لا يترك له راحة ولا غموضًا، تحت ستار لغة يعني بتهذيبها، بحيث لا
يذكر فيها الجنس مباشرة.
لعلها المرة الأولى التي يفرض فيها هذا الإيعاز جِد الخاص بالغرب المعاصر على شكل
واجب عام. أنا لا أتحدث عن الإلزام بالاعتراف بانتهاكات قواعد الجنس كما كانت تقتضيه
التوبة التقليدية. ولكني أتحدث عن المهمة اللامحدودة تقريبًا القاضية بالقول، بأن يقول
الإنسان لنفسه، وأن يقول لشخص آخر، بقدر ما يمكن من المَرَّات، كل ما يتصل بلعبة
الملذات والأحاسيس والأفكار المتعدِّدة التي لها ثمة علاقة بالجنس عبْر النفس والجسد.
إن هذا المشروع في تحويل الجنس إلى «خطاب»، تكوَّن منذ زمن بعيد، في إطار التقاليد
النُّسكية والرهبانية. ولكن القرن السابع عشر صَنع منه قاعدة مفروضة على الجميع. سيقال
إنه لم يكن بالإمكان تطبيق هذه القاعدة في الواقع إلا على نخبة صغيرة جدًّا؛ فأغلبية
المؤمنين الذين لم يكونوا يتوجَّهون إلى كرسي الاعتراف، إلا في مناسبات نادرة خلال
السنة، لم تكن تطالهم مثل هذه التعليمات جِد المعقَّدة. غير أن المهم دون شكٍّ هو أن
يكون هذا الإلزام قد حُدِّد كشيء مثالي نموذجي، على الأقل، بالنسبة لكل مسيحي صالح. لقد
حصل إلزام، ليس فقط الاعتراف بالأفعال المخالِفة للشريعة بل تحويل الرغبة، كل الرغبة،
إلى خطاب إذا أمكن، لا ينبغي أن يفلت شيء من هذا التعبير، ولو أن الكلمات التي يستخدمها
يجب أن تكون مُحيَّدة بعناية. فقد فَرضَت الرعوية المسيحية كواجب أساسي مُهمَّة إدخال
كل ما له صلة بالجنس في طاحونة الكلام التي لا حدود لها.
٦ فمنع بعض كلمات، والالتزام بنظافة العبارات، وكل الرقابات الممارَسة على
المفردات قد لا تكون سوى تدابير ثانوية بالنسبة إلى هذا الإخضاع الكبير، وسوى طُرق لجعل
الإخضاع مقبولًا من الناحية الأخلاقية، ومنتجًا من الناحية التقنية.
في وُسعِنا أن نرسم خطًّا يسير بشكل مستقيم من رعوية القرن السابع عشر إلى ما كان
انعكاسها في الأدب وفي الأدب «الفضائحي». فالمُرشدون يقولون: «يجب أن نقول كل شيء، ليس
فقط الأفعال التامَّة بل اللمسات الحسية، كل النظرات غير البريئة، كل الأقوال الفاحشة
…
كل الأفكار التي راودتنا.»
٧ يعيد «ساد» توجيه الأمر بكلمات تبدو منسوخة من كتب الإرشاد الروحي:
«رواياتك بحاجة إلى أكبر التفاصيل وأوسعها. لا نستطيع أن نحكم على صلة الشهوة التي
تُخبرنا عنها بعادات الإنسان وطبائعه إلا بقدر ما لا تخفي أي ظرف. فأقل الظروف تفيد
للغاية ما ننتظره من رواياتك.»
٨ وفي نهاية القرن التاسع عشر، خضع كاتب «حياتي السرية» (
My
Secret Life) المجهول الاسم، هو أيضًا لذات التوجيه. كان دون شك،
في الظاهر على الأقل، نوعًا من الفاسق التقليدي. ولكن هذه الحياة، التي كرَّسها كلها
تقريبًا للنشاط الجنسي، عاشها مرة ثانية عبْر رواية دقيقة تفصيلية لكل مرحلة من
مراحلها، أحيانًا، يعتذر لكونه لجأ إلى هذه الطريقة مبرزًا حرصه على تربية الشباب، وهو
الذي طبع بنسخ قليلة فقط أحد عشر مجلدًا مخصَّصة لمغامراته ومُتَعه وأحاسيسه الجنسية.
خير لنا أن نصدقه حين يُسمِعنا في كتابه صوت الأمر الصافي: «أَروِي الوقائع كما حدثَت،
وبقدر ما أذكرها. هذا كل ما أستطيع أن أفعله.» «الحياة السرية يجب ألا تنطوي على أي
إغفال. ليس فيها ما يجب أن نخجل منه … لا يستطيع المرء أن يعرف الطبيعة الإنسانية أكثر
مما ينبغي.»
٩ مرارًا عديدة، قال متوحد «الحياة السرية»، ليبرِّر وصف ممارساته، إن
ممارساته الأكثر غرابة بكل تأكيد أفعال يشارك فيها آلافُ البشر على سطح الأرض. غير أن
أغرب ما في هذه الممارَسات التي تتمثل في سردها كلها، بالتفصيل، يومًا بيوم، كان مبدؤها
مغروسًا في قلب الإنسان الحديث منذ قرنين كاملين. بدلًا من أن نرى في هذا الإنسان
الفريد صورة الهارب الشجاع من النزعة الفيكتورية التي كانت تُلزِمه بالصمت، فإنني أميل
إلى أن أرى فيه الممثِّل المباشِر، وربما الساذج لإيعاز عريق جدًّا بالتحدث عن الجنس،
في حقبة كانت تسيطر عليها تعليمات مطنبة بالتزام التحفظ والحياء. فالطارئ التاريخي
سيكون بالأحرى هو أشكال الاحتشام للتطهرية و«الفيكتورية». قد تكون على أي حال انقلابًا
طارئًا وتنميقًا، وتراجعًا تكتيًّا في المسيرة الكبرى لتحويل الجنس إلى خطاب. هي أكثر
من مَلِكته،
١٠ يصلح هذا الإنكليزي المجهول الهوية، لأن يُصوِّر الشخصية المركزية لتاريخ
جنسانية حديثة بدأت تتكوَّن مقدَّمًا، إلى حد كبير، مع الرعوية المسيحية. إنَّما خلافًا
لهذه الرعوية، كان هَم الكاتب المجهول أن يزيد في مقدار الإحساسات التي كان يشعر بها
عبْر التفاصيل التي كان يُوردها عنها؛ على غرار «ساد»، كان الكاتب الإنكليزي يكتب
بالمعنى القوِي لهذا التعبير، «من أجل مُتعته فحسب». كان يمزج البراعة في كتابته وإعادة
قراءته لنصه بمشاهد إباحية، ولم تكن هذه الكتابة وإعادة القراءة سوى تكرار وامتداد
وإثارة لهذه المُشاهدة في النهاية. بعد كل ذلك فإن الرعوية المسيحية كانت هي أيضًا
تحاوِل أن تحدث آثارًا نوعية على الرَّغبة لمجرَّد تحويلها إلى خطاب بصورة كاملة
ودقيقة، وهي آثار تتجلَّى في السيطرة على النفس والتجرُّد، دون شك، إنما أيضًا هي آثار
الهداية الروحية والعودة إلى الله، هذا بالإضافة إلى الأثر الجسدي متمثِّل في الألم
المفرِح بأن يُشعِر المرءُ في جسده بنهشات الغواية، وبمحبة الله التي تُقاومها.
فالجوهري هو هنا: أن يكون الإنسان الغربي، منذ ثلاثة قرون، قد تعلَّق بمهمة قول كل شيء
حول جنسه؛ أن يكون قد أعطى الخطاب حول الجنس حجمًا أكبر وتقديرًا أكبر باستمرار، منذ
العصر الكلاسي، أن يكون الناس قد انتظروا من هذا الخطاب التحليلي المُتقَن نتائج عديدة،
تتصل بانتقال الرغبة وشدتها وتبديل وجهتها وتَغيُّرها هي بالذات. ليس فقط أنه تم توسيع
نطاق ما كان يمكن أن يقال عن الجنس وأُجبِر الناس على توسيعه باستمرار، ولكن أيضًا
وخصوصًا ربط الخطاب بالجنس وفقًا لجاهزية معقَّدة، متنوِّعة الآثار، لا يمكن أن تستنفد
في العلاقة بقانون الحظر وحسب. هل نعني بذلك رقابة على الجنس؟ لقد أُنشئ بالأحرى جهاز
لإنتاج خطابات حول الجنس، خطابات متزايدة قابلة للعمل والتأثير في اقتصادها
بالذات.
كان من الممكن أن تظل هذه التقنية مرتبطة بمصير الروحانية المسيحية، أو باقتصاد
الملذَّات الفردية، لو لم تُدعِّمها وتنشطها آليات أخرى، تختصر جوهريًّا ﺑ «الاهتمام
العام». لا نعني به فضولًا أو إحساسًا جماعيًّا، ولا ذهنية جديدة، بل آليات سُلطوية لم
يَعُد اشتغالها ممكنًا بدون الخطاب عن الجنس، وذلك — لأسباب لا بد من العودة إليها —
وقد غدَت أساسية. في القرن الثامن عشر، تَولَّد تحريض سياسي واقتصادي وتقني، على الكلام
عن الجنس. هذا الكلام لم يَتَّخِذ شكل نظرية عامة حول الجنسانية بقدر ما اتَّخذ شكْل
تحليل، ومحاسبة وتصنيف وتخصيص، تحت شكل أبحاث كَمِّية أو سببيَّة. لقد غدَا أخْذ الجنس
«في الحسبان»، وتناوله في خطاب لا يكون أخلاقيًّا فحسب بل عقلانيًّا أيضًا، غدَا ضرورة
جديدة إلى حدِّ أنها في البدء دُهشت من ذاتها، وراحت تُفتِّش لنفسها عن أعذار. كيف
يستطيع خطاب عقلاني أن يتحدَّث عن هذا؟ «نادرًا ما حدث أن ركَّز الفلاسفة نظرَهم على
هذه الأشياء التي اتَّخذت لها موقعًا بين القرف والسخرية، بحيث يجب تجنُّب النفاق
والفضيحة في آن واحد.»
١١ بعد ذلك بقرن واحد، تَعثَّر الطب أيضًا عند الكلام، وهو الذي كنا ننتظر أن
يكون أقل انذهالًا بما كان عليه أن يوضِّحه: «الظلام الذي يحيط بهذه الوقائع، الخِزي
والقَرف اللذان تثيرهما في النفس، كل ذلك أبعدَ عنها نظر المراقبِين … لقد تردَّدت
طويلًا في أن أدخل إلى دراستي هذه اللوحة المثيرة للاشمئزاز.»
١٢ المهم ليس في هذه الهواجس ولا في «الأخلاقوية» التي تُعبِّر عنها، ولا في
النفاق الذي نستطيع أن نَستشفَّه منها، بل المهم هو الاعتراف بضرورة تَجاوُز هذه
العوائق. على الجنس، يجب أن نتكلَّم، أن نتكلَّم جهارًا، وبطريقة لا تنحصر في التمييز
بين الحلال والحرام، حتى ولو شاء المتكلِّم أن يحتفظ لنفسه بهذا التمييز (تدل على ذلك
تلك التصريحات الرسمية والتمهيدية) على الجنس؛ يجب أن نتكلم كما نتكلم على شيء لا يكفي
أن نشجبه أو نقبل به … بل أن نديره، أن نُدخله أنظمة ذات منفعة، أن ننظمه لخير الجميع
الأعظم، أن نجعله يعمل في أفضل الظروف. الجنس هو شيء لا يحكم عليه فقط، هو شيء يُدار؛
فهو من اختصاص السُّلطة العامة، يستدعي إجراءات إدارية ويجب معالجته بخطابات تحليلية.
في القرن الثامن عشر، أصبح الجنس شأنًا من شئون «الشرطة». ولكن بالمعنى الكامل والقوي
الذي كان يعطى لكلمة «الشرطة» في ذلك الزمان — ليس بمعنى قمع الفوضى إنما الزيادة
المنظَّمة للقوى الجماعية والفردية: «يجب على الشرطة أن تُوطِّد وتزيد بحكمة أنظمتها
قوة الدولة الداخلية، ولما كانت هذه القوة لا تتكون فقط من الجمهورية عمومًا ومن كل
الأعضاء الذين يؤلِّفونها، إنما من مَلكات ومواهب جميع الذين يَنتمون إليها، فإنه يَنتج
عن ذلك أنه يجب على الشُّرطة أن تُعنَى عناية تامَّة بهذه الطاقات وتجعلها في خدمة
السعادة العامة. وهي لا تستطيع تحقيق هذا الهدف إلا عن طريق معرفتها لكل ما لها من هذه
الميزات المختلفة.»
١٣ شرطة الجنس: لا تعني صرامة في التحريم، إنما ضرورة تنظيم الجنس عبْر خطابات
مفيدة وعامة.
وسأورد فقط بعض الأمثلة: كان أحد المستجدات الكبيرات في تقنيات السُّلطة، في القرن
الثامن عشر، هو ظهور «السكان» كمشكلة اقتصادية وسياسية: السكان — الثروة، السكان — اليد
العاملة أو طاقة العمل، السكان — التوازن بين نُموِّهم الذاتي ونمو الموارد التي
يملكونها. لقد أدركَت الحكومات أنها لا تواجه فقط رعايا ولا حتى شعبًا، بل تواجه سكانًا
مع ظاهراتهم النوعية ومتغيراتهم الخاصة: وِلادات، أمراض، معدَّل الحياة، خِصب، حالة
صحية، وتيرة الأمراض، نوع التغذية والسكن. تتقاطع جميع هذه المتغيرات مع التقلُّبات
الخاصة بالحياة والنتائج التي تحققها المؤسَّسات: «لا تُعمَّر الدول وفق النمو الطبيعي
للتناسل، إنما بحسب صناعتها ومُنتجاتها ومؤسَّساتها المختلفة … يتكاثر الناس كما يتكاثر
إنتاج التربة وبنسبة الفوائد والموارد التي يَجنونها من أعمالهم.»
١٤ وفي قلب هذه المشكلة الاقتصادية والسياسية التي يشكلها السكان، يكمن الجنس؛
ينبغي تحليل: نسبة الولادات، سن الزواج، الولادات الشرعية واللاشرعية، إبكار وتواتر
العلاقات الجنسية، كيفية جعْلها خصبة أو عقيمة، أثر العزوبة أو النواهي، أثر الممارَسات
المرتبطة بمنع الحمل؛ أي تلك «الأسرار المشئومة» الشهيرة، التي عرف علماء الديموغرافيا،
عشية الثورة الفرنسية، أنها مألوفة أصلًا في الأرياف. كان معروفًا منذ أمد طويل أن
بلدًا ما يجب أن يكون مليئًا بالسكان إذا كان يريد أن يصبح غنيًّا وقادرًا. ولكن، للمرة
الأولى، يؤكد مجتمع بشكل مستمر، أن مستقبله وثروته مرتبطان ليس فقط بعدد مواطنيه
وفضيلتهم، ليس فقط بأنظمة زواجهم وتنظيم عائلاتهم، ولكن بالطريقة التي بها يمارِس كل
مواطن جنسه لأول مرة، فيتم الانتقال من التأسِّي المألوف على فسق الأغنياء والعازِبين
والمتحرِّرين، الذي هو بلا جدوى، إلى خطاب يُؤخَذ فيه السلوك الجنسي للسكان كموضوع
للتحليل وهدف للتدخل. هكذا، نَنتقل كليًّا من الطروحات الداعية إلى تضخيم السكان
المُتصلة بالعصر المركانتيلي إلى محاولات تنظيم أكثر دقة، وأحسن تخطيطًا، يتأرجح بين
اتجاه مشجِّع للولادات، واتجاه مضاد لذلك، وفقًا للأهداف والحاجات المُلِحة. وهكذا
تُكوَّن شبكة كاملة من الملاحَظات حول الجنس من خلال الاقتصاد السياسي السكاني؛ كما
ينشأ تحليل للتصرفات الجنسية ومسبباتها ونتائجها على الحدود المشترَكة بين الشأن
البيولوجي، والشأن الاقتصادي؛ وتظهر أيضًا تلك الحملات المنهجية التي تحاول أن تصنع من
سلوك الأزواج الجنسي سلوكًا اقتصاديًّا وسياسيًّا مخططًا له مُتخطِّية بذلك الوسائل
التقليدية، من مثل: الدروس الأخلاقية والدينية، والتدابير الضريبية. وستجد النزعات
العنصرية للقرنين التاسع عشر والعشرين في هذه الحملات بعضًا من ركائزها، فَلْتعرف
الدولة ما يجب أن تعرفه عن جنس المواطِنين وعن طريقة ممارسته، ولكن ليكن كل مواطن
قادرًا على مراقبة طريقة ممارسته للجنس، وبين الدولة والفرد، أصبح الجنس رهانًا، رهانًا
عامًّا وظَّفَته شبكة من الخطابات والمعارف والتحليلات والأوامر.
حدث الأمر نفسه بالنسبة لجنس الأطفال. يُقال مرارًا إن العصر الكلاسي أخضعه لعملية
إخفاء لم يتخلَّص منها قبل صدور كتاب «الأبحاث الثلاثة» (
Trois
Essais) لفرويد، أو ألوان القلق المفيدة التي عانى منها «هانش الصغير».
١٥ صحيح، أن «حرية» الكلام القديمة اختفَت من العلاقات بين الأطفال
والبالِغين، بين التلاميذ والأساتذة. في القرن السابع عشر، لم يكن أي مُرَبٍّ لينصح
تلميذه علنًا، كما فعل «إيرازم» (
Erasme) في حواراته
(
Dialogues)،
١٦ بانتقاء مومس مناسبة. وقهقهات الضحك الصاخبة التي كانت قد واكبت طويلًا،
وعلى ما يبدو في جميع الطبقات الاجتماعية، ممارسة الأطفال المبكرة للجنس قد انطفأت
شيئًا فشيئًا، ولكن ذلك لا يعني مجرَّد فرض للصمت، بل سيادة نظام جديد للخطاب. فلا
يُقال ما هو أقل عنه، بل بالعكس، إنما يقال بطريقة مختلفة، يقوله أناس آخَرون، انطلاقًا
من وجهات نظر مختلفة، وصولًا إلى أهداف أخرى. الخرس نفسه، الأشياء التي يمتنع المرء عن
ذكرها أو يَحرُم عليه ذكرها، الاحتشام المطلوب بين بعض المتحاورِين، تلك أمور لا تشل
الحد الأقصى للخطاب، ولا الطرف الآخر الذي يكون مفصولًا عنه بحدود صارمة، بقدر ما هي
عناصر تعمل إلى جانب الأشياء المقولة، ومعها، وبالنسبة لها، ضمن استراتيجيات شاملة. ليس
علينا أن نُحدث تقسيمًا ثنائيًّا بین ما يقال، وبين ما لا يقال. ينبغي لنا أن نحاول
تحديد الطُّرق المختلفة لما يجب ألا يُقال، يجب أن نُحدِّد كيف تُوزَّع أولئك الذين
يستطيعون أن يتكلموا، وأولئك الذين لا يستطيعون ذلك، وأن نحدد أي نوع من الخطاب مسموح
به، أو أي شكل من الكتمان مطلوب من هؤلاء، وأولئك. ليس هناك صمت واحد، بل أصناف من
الصمت، وهي تشكل جزءًا مكملًا لاستراتيجيات تدعم الخطاب وتتجاوزه.
لنأخذ مثلًا مَعاهد التعليم في القرن الثامن عشر. من الممكن عمومًا أن نخرج بانطباع
هو أن لا أحد يتحدث فيها عن الجنس، ولكن، يكفي أن نُلقي نظرة على الجاهزيات المِعمارية،
على أنظمة الانضباط المدرسية، وعلى كل التنظيم الداخلي لها: فهاجِس الجنس يلازمها كلها:
البناءون فكَّروا به وبشكل صريح. المنظمون يحسبون حسابه بطريقة مستمرة. جميع الذين
يمسكون بجزء من السُّلطة موضوعون في حالة طوارئ دائمة تثيرها بلا انقطاع الترتيبات
والاحتياطات المُتَّخَذة، ولعبة القصاصات والمسئوليات. مساحة الصف، شكل الطاولات، تنظیم
باحات الاستراحة، توزيع غرف المنامة (بحواجز أو بلا حواجز، بستائر أو بلا ستائر)،
الأنظمة المقرَّرة لمراقبة الرقاد والاستيقاظ، كل ذلك يحيل إلى حياة الأولاد الجنسية
على الوجه الأكثر إطنابًا، ما نستطيع أن نسميه خطاب المؤسَّسة الداخلي — الذي تُلزِم
به
نفسها، والذي يَسْري بين القائمين على تسييرها — يَتمفصَل، إلى حد كبير، حول حقيقة هي
أن الجنس موجود، مبكِّر، نشيط ودائم. ولكن نستطيع أن نذهب إلى أبعد من ذلك، جنس الطالب
الثانوي أصبح، في القرن الثامن عشر، مشكلة عامة، أكثر من جنس المراهِقين عمومًا.
فالأطباء يُخاطِبون مدراء المدارس والأساتذة، ويُقدِّمون أيضًا نصائحهم للعائلات.
والمُربُّون يضعون المشاريع ويخضعونها للسُّلطات. والمعلمون يَتوجَّهون إلى التلاميذ،
يزودونهم بالتوصيات، يكتبون لهم كتبًا حافلة بالإرشادات والأمثلة الأخلاقية أو الطبية.
حول الطالب الثانوي وجنسه، يتكاثر أدب للتعاليم والآراء والملاحَظات، والنصائح الطبية
والحالات العيادية، والتصاميم الإصلاحية والخطط للمؤسَّسات النموذجية. مع باسدو
(Basedow) ومع حركة «المحبة الإنسانية» الألمانية
اتَّخذ وضع الجنس المراهق في خطاب بُعدًا كبيرًا. لقد نظم سالتزمان
Saltzman مدرسة تجريبية، كان طابعها الخاص مراقبة
للجنس وتربية له مدروستين بحيث يتعين ألا تُمارَس فيها أبدًا خطيئة المراهقِين العامة.
وفي إطار هذه التدابير المتخَذة، لا ينبغي أن يكون الطفل فقط الموضوع الأبكم واللاواعي
لعناية مُتفَق عليها بين الراشدين وحْدَهم؛ فقد كان المُربُّون يَفرضون عليه خطابًا
عقلانيًّا، محدودًا، شرعيًّا وصحيحًا حول الجنس — نوعًا من التجبير (التقويم) الخطابي.
إن العيد الكبير الذي أُقيم في مدرسة: «الإنسانية المثالية»
(Philantropium) في شهر أيار/مايو ١٧٧٦م يصلح لأن
يكون نموذجًا. كان هذا العيد المناولة الاحتفالية الأولى للجنس المراهق وللخطاب
العقلاني، في شكل مختلط يجمع بين الامتحان وألعاب الزهور، وتوزيع الجوائز، ومجلس
استشاري. ولكي يثبت نجاح التربية الجنسية التي كانت تُعطَى للتلاميذ، كان «باسدو» قد
دعا إلى وليمة وجهاء ألمانيا، (كان «غوته» من القلائل الذين رفضوا الدعوة). أمام
الجمهور المتجَمِّع، يطرح أحد الأساتذة (فولكه) (Wolke)
على التلاميذ أسئلة مختارة عن أسرار الجنس، عن الولادة، والإنجاب، ثم يجعل التلاميذ
يُعلِّقون على رسوم تُمثِّل امرأة حاملًا، وزوجًا وزوجة ومهدًا. فكانت الأجوبة تأتي
واضحة بدون خجل ولا ارتباك، لم تكن أية ضحكة غير لائقة تشوش على التلاميذ إلا من قبل
جمهور راشد أقرب إلى الطفولة من الأطفال أنفسهم، بحيث كان «فولكه» يزجر الضاحكين بقسوة.
في النهاية يصفِّق الحاضرون لهؤلاء الصبيان الممتلئي الخدود، الذين يضفرون أمام الكبار،
بمعرفة حاذفة، أكاليل من الخطاب والجنس.
من الخطأ القول إن المؤسَّسة التربوية فرضَت الصمت الكثيف على جنس الأطفال
والمراهقين، بالعكس، فابتداء من القرن الثامن عشر ضاعفَت في موضوعه أشكال الخطاب. أقامت
له نقاط ارتكاز مختلفة، وضعت رموزًا للمضامِين، وأهَّلَت المتحدِّثين. فإنه بالتحدث عن
جنس الأطفال، وجعل المُربِّين والأطباء والإداريين والوالدَين يتحدثون عنه، والتحدث
إليهم عنه، وجعل الأطفال أنفسهم يتحدثون عنه، وإدخالهم في شبكة من الخطابات تتوَجَّه
إليهم حينًا، أو تتحدث عنهم حينًا آخر، تفرض عليهم معارف قانونية تارة، وتكون انطلاقًا
منهم معرفة تفوتهم طورًا، كل هذا يسمح بالربط بين تعزيز السُّلطات وتكثير الخطابات. لقد
أصبح جنس الأطفال والمراهِقين منذ القرن الثامن عشر رهانًا هامًّا، أُعِدَّت حوله أجهزة
مؤسَّساتية واستراتيجيات لا تُحصَى. من الممكن أن تكون قد سُحبت من تداول البالغين
والأطفال أنفسهم طريقة في الحديث عنه، أن تكون هذه الطريقة قد وُسِمت بأنها مباشرة،
فظة، فجة، ولكن لم يكن ذلك سوى المقابِل، وربما الشرط اللازم لتعمل خطابات أخرى عديدة،
متشابكة، منظمة تنظيمًا تراتبيًّا دقيقًا، ومُتمفصِلة جميعها بقوة حول مجموعة من روابط
سُلطوية.
في وُسعِنا أن نذكر مراكز أخرى تفعَّلت فيها النشاطات لتوليد الخطابات حول الجنس،
ابتداء من القرن الثامن عشر أو القرن التاسع عشر: الطب أولًا عبْر «أمراض الأعصاب».
الطب النفسي ثانيًا، حين راح يبحث عن أسباب الأمراض العقلية في «الإفراط»، ثم في العادة
السرية، ثم في عدم الإشباع، ثم في «التحايلات على الإنجاب»، وخصوصًا حين بدأ التحليل
النفسي يضم إلى ميدان اختصاصه مجموعة الانحرافات الجنسية. وأيضًا القضاء الجزائي
ثالثًا، الذي طالما واجَه قضايا الجنس، خصوصًا على شكل جرائم «شنيعة» ومنحرفة، لكنه
انفتح منذ منتصف القرن التاسع عشر على الاختصاص الدقيق في الاعتداءات الصغيرة،
والانتهاكات الثانوية، والانحرافات عديمة الشأن. وأخيرًا، يجب أن نشير إلى جميع أجهزة
الرقابة الاجتماعية التي نمَت في نهاية القرن الماضي، وعُنِيت بتقنية جنس الأزواج،
والوالدين، والأطفال، والمراهقين الخطرين، أو المعرَّضين للخطر، ساعية إلى الحماية،
والفصل، والتدارك، مشيرة في كل مكان إلى الأخطار، موقِظة الانتباه، داعية إلى التشخيص،
مكدِّسة التقارير، ومنظمة العلاجات اللازمة. حول الجنس، نشرَت أجهزة الرقابة الاجتماعية
الخطابات، مقوية الشعور بخطر مستمر، يُجدِّد بدوره التحريض على التحدث عن الجنس.
فى أحد أيام سنة ١٨٦٧م، قُدِّمت شكوى ضد عامل زراعي من قرية «لابكور»
(
Lapcourt)، ساذج بعض الشيء، ويُستَخْدَم حسب
الفصول عند هؤلاء أو أولئك الملاكين، يُغذَّى هنا وهناك بدافع من العطف مقابِل أسوأ
أنواع العمل، ويَسكن في الإهراءات أو الاسطبلات، على حافَّة حقل، كان هذا العامل
الزراعي قد حصل على بعض الملاطَفات والمداعَبات من فتاة صغيرة، كما فعل ذلك من قبل،
وكما رآها تفعل سابقًا وكما كان يفعل من حوله صبيان القرية. ذلك أن الأولاد كانوا
يلعبون لعبة «الحليب المُروَّب» عند تخوم الغابة أو في حفرة الطريق التي تؤدي إلى كنيسة
القديس نقولاوس. رفع أهل البنت أمْرَه إلى مختار القرية، فشكاه المختار إلى رجال
الدَّرك، واقتاده هؤلاء إلى القاضي، الذي وجده مذنبًا، فأخضعَه إلى طبيب أول ثم إلى
طبيبين اختصاصيين آخرَين، كتبَا تقريرًا في الموضوع ونشراه.
١٧ ما هو المهم في هذه القصة؟ المهم طابعها الصغير جدًّا. ذاك أن هذه الحادثة
العادية من الحياة الجنسية القروية، وهذه التلذذات الصغيرة في الدغل، قد أصبحت، ابتداء
من تاريخ مُعيَّن، موضوعًا ليس فقط لعدم تسامُح جماعي، وإنما لملاحَقة قضائية، وتدخُّل
طبي، وفحص عيادي يَقظ، ومادة تنظير مدروس. المهم هو أنه جَرى لهذا الشخص، الذي كان حتى
ذلك التاريخ ينتمي إلى حياة المجتمع الفلاحي، قياس أبعاد جُمجمته كلها، وتمَّت دراسة
عظام وجهه، ومُراقَبة تشريح جسمه لتُستَخرَج منها علامات الانحطاط الممكنة. المهم أن
يكونوا قد جعلوه يتكلم، أن يكونوا قد اسْتجوَبوه حول أفكاره وميوله وعاداته وأحاسيسه
وأحكامه، المهم أن يكونوا قد قَرَّروا في النهاية تبرئته من كل ذنب، وجعله مجرد موضوع
للطب والمعرفة، موضوع يُدفَن حتى آخر حياته في مستشفى مارينيل ويتم إطلاع أوساط العلماء
عليه بواسطة تحليل مفصَّل. في وسعنا أن نراهن أن معلم المدرسة في قرية «لابكور»، في ذلك
التاريخ، كان يُعلِّم القرويين الصغار تهذيب ألفاظهم، فلا يتحدثون عن كل هذه الأشياء
بصوت مرتفع. ولكن، كان ذلك بدون شك واحدًا من الشروط الضرورية لكي تستطيع مؤسَّسات
المعرفة والسُّلطة أن تَستر بخطابها الرسمي مسرح الحياة اليومية الصغير هذا. هَا هو
مجتمعنا — وكان ذلك طبعًا أول مجتمع في التاريخ — قد وظف جهازًا كاملًا لصوع الخطابات
والتحليل والمعرفة بشأن هذه الحركات التي لا عُمر لها، وهذا التَّمتُّع شبه العابر التي
كان يتبادله السُّذج مع الأولاد المتفتحين اليقظين.
بين الإنكليزي المتحرِّر، الذي كان يندفع إلى كتابة خصوصيات حياته السرية لذاته،
وبين
معاصره معتوه القرية الذي كان يعطي الفتيات الصغيرات بضعة دريهمات للحصول على مُتَع
كانت تمنعها عنه الفتيات الأكبر سنًّا، توجد بلا شك ثمة رابطة عميقة من طرف إلى طرف
آخر، أصبح الجنس، في كل حال، شيئًا ينبغي قوله، وقوله بشكل كامل وفق (جاهزيات) منطوقات
خطابية متنوِّعة، ولكنها كلها ملزمَة على طريقتها. الجنس يجب أن يُقال، سواء عن طريق
البَوْح الدقيق أو الاستجواب القسري، سواء أكان راقيًا أو ريفيًّا. ثَمَّة أمر كبير
مختلف الأشكال يُخضِع الإنكليزي المجهول، كما يُخضِع الفلاح اللُّوريني الذي أرادت
حكايته أن تسميه «جوي» (Jouy).
منذ القرن الثامن عشر، لم يَكُفَّ الجنس عن إثارة نوع من التهيُّج الخطابي المعمَّم.
وهذه الخطابات حول الجنس لم تتكاثر خارج إطار السُّلطة أو ضدها، ولكن هناك حيث تعمل
السُّلطة وكوسيلة من وسائل عملها.
١٨ في كل مكان، أُعدَّت طرق حض على الكلام، وفي كل مكان، أجهزة تدعو إلى
السماع والتسجيل، وإجراءات للمراقَبة والاستجواب والإيضاح. فتخرج الجنس من مخبئه وتكرهه
على أن يكون له وجود خطابي. فانطلاقًا من الآمر الفردي الذي يفرض على كل إنسان أن يصنع
من جنسه خطابًا دائمًا، وصولًا إلى الآليات المتعددة الأشكال التي هي في مجال الاقتصاد،
والتربية، والطب، والقضاء، إنما تستحثُّ خطاب الجنس وتستخرجه، وتُعِده، وتُمأْسِسه،
وبذلك نَسجت حضارتنا شبكة خطابية هائلة من الإلزامات. ربما لم يُكدِّس أي طراز مجتمعي
آخَر مثل هذه الكميات من خطابات الجنس في مثل هذه الحقبة القصيرة نسبيًّا. ربما نتحدث
عن الجنس أكثر مما نتحدث عن أي شيء آخر، نندفع بكل قُوانا نحو القيام بهذه المهمة، نقنع
أنفسنا بأننا لا نقول فيه أبدًا الكفاية، بأنَّنا خجلون وخائفون أكثر مما ينبغي،
بأنَّنا نُخفي عن أنفسنا الوضوح الساطع بفعل الجمود والانقياد، وبأن المهم يفوتنا
دائمًا، وبأنه ما زال يتعيَّن علينا المُضي في البحث عنه. قد يكون مجتمعنا أكثر
المجتمعات ثرثرة في موضوع الجنس، وأقلها صبرًا في معرفة كل شيء. لكن هذه النظرة الأولية
الخاطفة تُثبت ذلك؛ فالأمر لا يتعلق بخطاب واحد حول الجنس، بقدر ما يتعلق بعدد كبير من
الخطابات أنتجَتْها مجموعة أجهزة عاملة في مؤسسات مختلفة. كانت القرون الوسطى قد
نظَّمَت خطابًا موحَّدًا إلى حد كبير حول الشهوة الجنسية وممارَسة التوبة. وخلال القرون
الحديثة تفكَّكَت هذه الوحدة النسبية، وتبعثرت، وتعدَّدت بتفجر خطابات متمايزة، اتخذت
أشكالًا في الديموغرافيا، والبيولوجيا، والطِّب، والطِّب النفسي، وعلم النفس، والأخلاق،
والتربية، والنقد السياسي. بل أكثر من ذلك، إن الصلة المتينة التي كانت تجمع بين
اللاهوت الأخلاقي للشهوة وبين واجب الاعتراف (الخطاب النظري عن الجنس وصياغته بضمير
المتكلم) قد ارتخت وتنوَّعت، إن لم يكن قد انقطعت، فبين توضيع
(
Objectivation) الجنس في خطابات عقلانية وبين
الحركة التي عَيَّنت لكل فرد مهمة رواية حياته الجنسية الخاصة، حصلت منذ القرن الثامن
عشر مجموعة كاملة من التوترات والصراعات وجهود التوفيق ومحاولات إعادة الصياغة. لا
ينبغي إذًا أن نتحدث عن هذا النمو الخطابي بعبارات التوسُّع المتواصل، بل ينبغي أن نرى
فيه، بالأحرى، تشتتًا للمراكز التي تركن فيها هذه الخطابات، وتنويعًا لأشكالها،
وانتشارًا معقدًا للشبكة التي تربط فيما بينها. إن ما يَسِمُ قروننا الثلاثة الماضية
ليس الاهتمام المتماثل بإخفاء الجنس، ولا احتشامًا زائدًا في الكلام، بقدر ما هو
«بالأحرى» التنوع والانتشار الواسع للأجهزة التي اختُرِعت للحديث عن الجنس، ولاستثارة
الحديث عنه، وحمله على الحديث عن نفسه وللإصغاء إلى ما يُقال عنه، وتسجيله ونقله،
وإعادة توزيعه. لقد حِيكَت حول الجنس سلسلة كاملة من الحكايات المتنوعة، النوعية
والجبرية. هل يُشكِّل ذلك يا تُرى رقابة كثيفة، انطلاقًا من التحفظات الكلامية التي
فرضها العصر الكلاسي؟ إننا نرى بالأحرى في هذه الظاهرة حضًّا منظَّمًا ومتعدِّد الأشكال
على الخطابات.
سَيُردُّ على ذلك دون شك، أنه إذا كان قد لزم هذا القدر من التحريضات والآليات
الجبرية؛ فلأنه كان يسود بصورة عامة نوع من الحظر الأساسي. وحدها ضرورات محدَّدة: ظروف
اقتصادية ملحة، فوائد سياسية؛ استطاعت أن ترفع هذا الحظر، وأن تفتح بعض المنافذ إلى
الخطاب حول الجنس، ولكنها منافذ محدودة دائمًا مُقوْنَنة بعناية؛ أن نتحدث عن الجنس
بهذا القدر، وأن نَعدَّ هذا القدر من الجاهزيات المِلحاحة لحمل الناس على الكلام عليه،
إنما ضمن شروط قاسية؛ أفلا يُثبت ذلك أن الجنس موضع سرية، وأن ثَمة سعيًا لإبقائه كذلك؟
لكن ينبغي أن نتساءل بالضبط حول تلك الموضوعة المألوفة القائلة إن الجنس هو خارِج
الخطاب، وإنه من شأن إزالة عقبة واحدة وكشْف سر من الأسرار أن يفتح الطريق الذي يؤدي
إليه. أوليست هذه الموضوعة جزءًا من الأمر الذي يُستَثار به الخطاب؟ أوليس بهدف الحض
على الحديث عن الجنس وعلى استئناف الحديث عنه باستمرار، يتم التلويح به عند الحدود
الخارجية لكل خطاب راهن، وكأنه السر الذي يجب إخراجه من مَكمنه، وكأنه شيء ملزم بالصمت
المطبق، وشيء يبدو قوله في آن معًا صعبًا وضروريًّا، خطرًا وقيمًا؟ يجب ألا ننسى أن
الإرشادات الرعوية المسيحية التي جعلت من الجنس شيئًا يجب الاعتراف به بامتياز،
قدَّمَته دائمًا للناس وكأنه اللغز المثير للقلق؛ إنه ليس شيئًا يكشف عن نفسه بإصرار،
بل يختبئ في كل مكان، إنه الحضور الخادع الذي نوشك ألا نسمعه، لفرط ما يتكلم بصوت منخفض
ومتنكر غالبًا. أليس سر الجنس طبعًا هو الحقيقة الجوهرية التي تتحدَّد بالنسبة إليها
مواقع جميع التحريضات على التكلُّم عليه، سواء كانت تحاول كشفه أم تُقصيه بصورة غامضة
بالطريقة نفسها التي تتكلم فيها عليه. فالأمر يتعلق بالأحرى بموضوعة تُشكِّل جزءًا من
آلية هذه التحريضات بالذات، إنها طريقة لإضفاء شكل مُعيَّن على ضرورة التكلم عليه،
وحكاية لازمة لاقتصاد الخطاب حول الجنس، المتكاثر بلا نهاية. فما يُميِّز المجتمعات
الحديثة، ليس كونها حَكمت على الجنس بالبقاء في الظل، بل كونها محكومًا عليها بالتكلُّم
عليه دائمًا، بإبرازه على أنه هو السِّر.
(٢) الغرس المنحرف L’Implantation Perverse
ثَمَّة اعتراض ممكن: من الخطأ أن نرى في تكاثُر الخطابات مجرَّد ظاهرة كَمِّية، شيئًا
يشبه مجرَّد النمو، كما لو أن ما يُقال في الخطابات لا يستحق الاهتمام، كما لو أن مجرد
الحديث عن الجنس — هو في ذاته — أهم من أنواع الأوامر التي تفرض عليه حين نتحدث عنه.
ألا يستهدف وضع الجنس في خطاب طرد أشكال الجنسانية من الواقع؛ أي تلك التي لا تخضع
لاقتصاد الإنسان الصارم: قول «لا» للنشاطات العقيمة، إقصاء الملذات الجانبية، تقليص أو
استبعاد الممارسات التي ليس هدفها الإنجاب؟ عَبْر هذا القدر الكبير من الخطابات، أكثرَ
المعنِيُّون من الإدانات القضائية للانحرافات الصغيرة: ضَمُّوا الشذوذ الجنسي إلى المرض
العقلي، حدَّدُوا قاعدة للنمو الجنسي، من الطفولة إلى الشيخوخة، كما وصفوا بعناية
الانحرافات الممكنة، ونظَّموا مراقَبات تربوية وعلاجات طبية. وحَوْل أبسط النزوات أعاد
الأخلاقيون، إنما أيضًا وخصوصًا الأطباء، تجميع كل مفردات الاستكراه التَّشدُّقية:
١٩ أليست تلك وسائل مستخدَمة للقضاء على العديد من الملَذَّات العقيمة لمصلحة
حياة جنسية مركزة على الإنجاب؟ هذه الثرثرة التي نعتمدها في حديثنا عن الجنس منذ قرنين
أو ثلاثة، أليست موجَّهة نحو همٍّ أوَّلِي: تأمین ازدياد السكان، إنتاج قوة العمل،
تجديد شكل العلاقات الاجتماعية، وباختصار، تنظيم حياة جنسية مفيدة اقتصاديًّا ومحافظة
سياسيًّا؟
٢٠
لا أعرف بعدُ إذا كان هذا هو الهدف نهائيًّا على كل حال. ولكن على كل حال، لم يُسعَ
لبلوغه عن طريق الحد والخفض. فقد كان القرن التاسع عشر وقرننا، بالأحرى، عصر الإكثار:
انتشار ألوان الجنس، تقوية أشكالها المختلفة، غرس «انحرافات» كثيرة. لقد كان عصرُنا
باعثًا لتباينات وتنويعات جنسية.
حتى نهاية القرن الثامن عشر، هناك ثلاث شِرَع كبيرة صريحة — عدَا الضوابط المتصلة
بالعادات، وضغوط الرأي العام — كانت تحكم الممارسات الجنسية: الحق الكنسي، الرعوية
المسيحية، والقانون المدني. كانت هذه الشِّرَع تحدِّد — كل على طريقتها — التوزيع بين
المُحلَّل والمحرَّم، المسموح والممنوع. كلها كانت تتركز على العلاقات الزواجية: الواجب
الزوجي، القدرة على القيام به، كيفية تطبيقه، المتطلَبات وضروب العنف التي ترافقه،
المداعبات غير المجدية، أو غير الجائزة، التي يتعلل بها، خصوبته أو طريقة جعله عقيمًا،
فترات التماسه (أوقات الحمل والرضاعة الخطرة، زمن الصوم والقطاعة)، تواتُره أو نُدرَته.
كل هذا كان بنوع خاص مشبعًا بالأوامر والنواهي. فكان جنس الزوجين مهووسًا بالقواعد
والتوصيات. كانت العلاقة الزوجية أكثر بؤرة مشحونة بالضوابط؛ عليها كان يجري الكلام
بوجه خاص. وهي التي عليها، أكثر من أية علاقة أخرى، أن تصرح عن نفسها (في الاعتراف)
بالتفصيل. فكانت تحت المراقبة القصوى؛ إذا خالفَت الأصول، كان عليها أن تنكشف وتثبت
براءتها أمام شهود. أما «الباقي»، فقد ظل أكثر غموضًا بكثير، لنفكر في تقلُّب وضع
«اللواط» والتردد بشأنه، وفي اللامبالاة إزاء ممارسة جنسانية الأطفال.
بالإضافة إلى ذلك، لم تكن هذه الشِّرَع المختلفة تفصل بشكل واضح بين مخالَفات قواعد
الزواج والانحرافات المرتبطة بالتناسلية. كان كسر قوانين الزواج أو البحث عن مُتع شاذة
يستحق الشجب نفسه في جميع الأحوال؛ ففي لائحة الخطايا الجسيمة، المميزة فقط بأهميتها
وخطورتها، تظهر الدعارة (علاقات خارج الزواج)، الزنى، الاغتصاب، ارتكاب المحارم الجسدية
والروحية، إنما أيضًا اللواط أو «المداعبة» المتبادَلة. أما المحاكم، فكان بوسعها أن
تدين، على السواء، اللواط والخيانة الزوجية، كما الزواج بدون موافقة الوالدين ومضاجَعة
الحيوانات. فما كان يؤخذ في الاعتبار في المجالين، المدني والديني على السواء، هو
اللاشرعية العامة. لا شك أن ما هو «ضد الطبيعة» كان موسومًا بسمة خاصة من الاستفظاع،
ولكنه كان مفهومًا ومعتبرًا كشكل أقصى من أشكال «مخالفة القانون»، كان ينتهك هو أيضًا
المراسيم — المراسيم المقدَّسة کمراسيم الزواج، والتي وُضعت لإدارة نظام الأشياء وأوضاع
الناس. كانت النواهي التي تتناول الجنس، في الأساس، ذات طابع قانوني، و«الطبيعة» التي
كان يحدث أن تُسنَد إليها هذه النواهي كانت هي أيضًا نوعًا من القانون. ولقد اعتُبِر
الخُنثاويون زمنًا طويلًا مُجرِمين أو أبناء الجريمة؛ لأن حالتهم التشريحية، وجودهم
بالذات يُشوِّش القانون الذي يميز بين الذكر والأنثى، ويقضي بتزاوجهما.
ثَمة تغييران أدخلهما الانفجار الخطابي للقرنين الثامن عشر والتاسع عشر على هذا
النظام المرتكز على الزواج الشرعي؛ أولًا حركة نابذة بالنسبة إلى الزواج الأحادي بین
جنسين مختلفين. فكان من الطبيعي أن يستمر إسناده إلى حقل الممارَسات والمُتع كما لو كان
قاعدته الداخلية، ولكن الكلام على هذا الزواج الشرعي، راح يتناقص أو على أي حال يتم
باعتدال متزايد؛ تخلَّى المعنيون عن ملاحقته في أسراره وخفاياه، لم يعودوا يطالبونه
برفع تقرير يومي، فالزواج الشرعي، حين يُمارِس جِنسه النظامي الصحيح، يحق له بمزيد من
الكتمان، إنه ينزع إلى العمل كقاعدة، أكثر صرامة ربما، ولكن أكثر صمتًا. بالمقابل، فإن
ما يخضع للاستجواب هو جنسانية الأطفال والمجانِين والمجرمين، هو مُتعة الذين لا يحبون
الجنس الآخر، وهو الأحلام والهواجس والعادات الصغيرة المستهجنة، أو الأهواء الشديدة،
فقد عزا على كل هذه الأوجه للجنسانية، التي بالكاد كانت ملموحة سابقًا أن تتقدم الآن
إلى واجهة المسرح لتأخذ الكلام، وتعترف الاعتراف الصعب بما هي عليه. بالطبع، لا تَخفُّ
إدانتها أو الحكم عليها، ولكن يتم الإصغاء لها، وإذا حدث أن استُجوِبت مجددًا الجنسانية
النظامية، فإن ذلك يحصل بحركة ارتدادية انطلاقًا من هذه الجنسانيات الطرفية.
من هنا استُخلص في حقل الجنسانية بُعدٌ نوعي لما هو «ضد الطبيعة»، بالنسبة إلى
الأشكال المدانة الأخرى (والتي تَخفُّ إدانتها أكثر فأكثر)، مثل الزنى أو الاغتصاب، فقد
استقلَّت هذه الممارسات بذاتها، فالزواج من نسيبة قريبة أو ممارسة اللواط، وإغواء راهبة
أو ممارسة السادية، وخيانة الزوجة أو اغتصاب جثث الأموات، أصبحت أمورًا مختلفة اختلافًا
جوهريًّا. الميدان الذي تشمله الوصية السادسة
٢١ بدأ يتفكك. وفي المجال المدني، انحلَّت أيضًا مقولة «الفجور» الغامضة، التي
كانت طوال أكثر من قرن من الزمن أحد أسباب السجن الأكثر تكررًا، ومن هذه البقايا، نشأت
من جهة، مخالَفات التشريع الخاص (أو الأخلاق الخاصة) بالزواج والأسرة، ومن جهة أخرى،
التعديات على شرعية عمل طبيعي (وهي تعديات يمكن أن يعاقب عليها القانون). لعل ذلك أحد
أسباب شهرة دون جوان التي لم تُخمدها ثلاثة قرون من الزمن. تحت صورة المنتَهِك الكبير
لقواعد الزواج — سارق النساء، مُغوي العذارى، خِزي الأُسَر، وعار الأزواج والآباء —
تبرز شخصية أخرى، الشخصية التي يخترقها، رغمًا عنها، جنون الجنس القاتم، وراء المتحلِّل
يكمن المنحرِف. هذه الشخصية تخالف القانون عمدًا، وفي الوقت نفسه ثَمَّة شيء شبيه
بطبيعة ضالَّة يبعد هذه الشخصية عن كل طبيعة. وموتها هو اللحظة التي تتصالب فيها العودة
الفائقة للخطيئة والعقاب مع الهروب في ما هو ضد الطبيعة، فإن منظومَتِي القواعد
الكبيرتين اللتين ابتكرهما الغرب واحدة بعد الأخرى لإدارة الجنس — وهما قانون الزواج
ونظام الرغبات — قام بقلبهما معًا وجود دون جوان ما إن انبثق على حدودهما المشتركة؛
لتتركَ المحللِين النفسانيين يتساءلون لمعرفة ما إذا كان دون جوان لوطيًّا، نرجسيًّا،
أو عاجزًا جنسيًّا.
ببطء والتباس، بدأت قوانين الزواج الطبيعية وقواعد الجنسانية الملازمة لها تتوزع على
مجالين متمايزين، فقد ارتسم عالَم من الانحراف هو على خط تماس بالنسبة لعالم مخالفة
القانون أو الأخلاق، لكنه ليس مجرد مغايرة فيه. لقد وُلد شعب صغير مختلف عن المتحلِّلين
القدامى، بالرغم من بعض الصِّلات بينهما. منذ نهاية القرن الثامن عشر حتى قرننا، وأفراد
هذا الشعب يركضون في فجوات المجتمع ملاحقين، إنما ليس دائمًا من القوانين، محبوسين
غالبًا، إنما ليس دائمًا في السجون؛ ربما هم مرضى، لكنهم فاحشون، وضحايا خطرة، وفريسة
مرض غريب يحمل أيضًا اسم الرذيلة وأحيانًا اسم الجُنحة. أطفال يَقظون بإفراط، فتيات
ناضجات قبل الأوان، طلاب غامضون، خَدم ومُربُّون مُرِيبون، أزواج قُساة، أو مهووسون،
هواة انعزاليون، ومتنزهون ذوو نزوات غريبة، إنهم يترددون على المجالس التأديبية
والمؤسَّسات الإصلاحية، وإصلاحيات الأحداث، والمحاكم والمآوي، يحملون إلى الأطباء
خِزيهم وإلى القضاء أمراضهم. إنهم يُشكِّلون طائفة المنحرفين المتعذَّر إحصاؤها، التي
تُخالط الجانحين وتقترب من المجانين. لقد حملوا تباعًا، خلال القرن المنصرم، سمة
«الجنون الأخلاقي»، و«العصاب التناسلي» و«شذوذ الحس الجنسي»، و«انحطاط النوع»، و«اختلال
التوازن النفسي».
ماذا يعني ظهور جميع هذه الجنسانيات الطرفية؟ هل إن إمكان ظهورها للعيان هو دليل على
أن القاعدة تتراخَى؟ هل يدل توجيه هذا القدر من الانتباه إليها على نظام أشد صرامة، أم
على الاهتمام بممارسة رقابة دقيقة عليها؟ إن تفسير هذه الأمور بعبارات القمع يبقيها
ملتبسة. يمكن اعتبار الموقف منها تسامحًا إذا فكَّرْنا أن صرامة القوانين حول الجُنح
الجنسية خفَّت كثيرًا في القرن التاسع عشر، وأن العدالة غالبًا ما كفَّت يدها لمصلحة
الطب. لكن يمكن أن يعتبر الموقف منها أيضًا حيلة إضافية، إذا فكَّرنا في جميع سُلطات
الرقابة وآليات المراقَبة التي أنشأتها التربية أو العناية الطبية. قد يكون تدخل
الكنيسة في الجنسانية الزوجية ورفضها «التحايلات» المتصلة بالإنجاب، قد أضاعت كثيرًا
من
إلحاحها منذ مائتي عام. لكن الطب نفسه دخل بقوة في ملذات الزوجين؛ فاخترع باثولوجيا
(علم الأمراض)، عضوية، وظيفية أو عقلية قد تنشأ عن الممارَسات الجنسية «غير الكاملة».
كذلك صنف بعناية أنواع الملذات الملحقة وأدخلها في «نمو» الغريزة واضطراباتها، وشرع في
إدارتها.
ربما ليس المهم هو مستوى التسامح أو مقدار القمع، إنما شكل السُّلطة التي تُمارَس.
عندما نسمي هذا العدد الكبير من الجنسانيات المتنافرة، كما لو كنا نبتغي إبرازها، هل
نقصد بذلك اقتلاعها من الواقع؟ يبدو أن وظيفة السُّلطة التي تُمارَس في هذا المضمار
ليست وظيفة الحظر، وأن الأمر يتعلق بأربع عمليات مختلفة جدًّا عن مجرَّد
التحريم.
-
(١)
لنأخذ أولًا، الموانع القديمة التي تُحرِّم الزيجات بين الذين تربط بينهم
قرابة عصب (مهما كثر عددها وبلغ تعقُّدها)، أو إدانة الزنى بتواتره
المحتوم. ولنأخذ ثانيًا، الرقابة الحديثة التي أحبطت جنسانية الأطفال منذ
القرن التاسع عشر ولوحقت بها «عاداتهم السرية». من الواضح أنَّ آلية
السُّلطة ليست واحدة في هاتين الحالتين. ليس فقط لأن الحالة الأولى تتصل
بالقانون والعقاب، والحالة الثانية بالطب والتقويم، بل لأنَّ التكتيك
المتَّبع ليس هو ذاته. في الظاهر، وفي الحالتين، يتعلق الأمر بمهمة
استبعادية محكوم عليها دائمًا بالفشل، وملزمة دائمًا بإعادة الكَرَّة من
جديد. ولكن منع الزيجات بين ذوي قرابة العصب يسعى إلى هدفه بتنقيص مُقارِب
للشيء الذي تدينه. ومراقبة الجنسانية الطفولية تسعى إلى ذلك بنشر سُلطتها
الذاتية، والشيء الذي تُمارَس عليه هذه السُّلطة في آن واحد، تعمل هذه
المراقَبة وفق نمو مزدوج ممتد إلى ما لا نهاية. صحيح، أن المُربِّين
والأطباء حارَبوا العادة السرية عند الأطفال، كَوبَاء يراد القضاء عليه. في
الواقع، طوال هذه الحملة التي استمرَّت قرنًا من الزمن وعبَّأت العالَم
الراشد حول جنس الأطفال، كان المقصود هو الاستناد إلى هذه المُتع الرقيقة
وتكوينها كأسرار، (أي إجبارها على التَّخفِّي كي يُتاح كشفها)، والعودة إلى
مَنشئها وتتبعها من أصولها إلى نتائجها، ومُلاحَقة كل ما يحث عليها أو يسمح
بها. حيثما كانت توشك أن تظهر هذه المُتع، أقام الأطباء والمُربُّون
جاهزيات مُراقبة، ونصَبوا أفخاخًا لإجبار الأطفال على الاعتراف، وفرَضوا
خطابات مُستفيضة ذات طابع تأديبي، وحذَّروا الأهل والمُعلِّمين، وزَرعوا
فيهم الشك في أن كل الأطفال مذنبون، والخوف من أن يكونوا أنفسهم مذنِبين
إذا توانَوا عن الشك في الأطفال، وأبقَوهم متيقِّظِين لهذا الخطر المتواتر،
رسموا لهم سلوكهم وطُرق تربيتهم. في الحيِّز العائلي أُرسِيت قواعد نظام
طبي جنسي كامل. «رذيلة» الطفل ليست عدوًا بقدر ما هي ركيزة، طبعًا، يمكن أن
نتصورها بمثابة شَر تجب إزالته، ولكن الفشل المحتوم والاندفاع في مُهمة
عديمة الجدوى، يَحمِلان على الارتياب في أنَّنا ننشد بقاء الرذيلة،
واستمرارها، وتكاثرها عند حدود المرئي، وغير المرئي، بدلًا من اختفائها إلى
الأبد، طوال فترة هذه الركيزة، تتقدم السُّلطة إلى الأمام، تُضاعف محطاتها
ومنجزاتها، بينما يتوسَّع هدفها وينقسم ويتفرَّع غائصًا في الواقع كما تغوص
السُّلطة فيه. في الظاهر يبدو أن الأمر يتعلَّق بإقامة حواجز؛ وفي الواقع،
أُنشِئت حول الطفل خطوط عبور لا محدودة.
-
(٢)
هذه المُلاحقة الجديدة للجنسانيات الطرفية تُؤدِّي إلى دمج الانحرافات
وتمييز جديد للأفراد، فاللواط — لواط القانونَين المدني والكنسي القديمين —
كان نوعًا من الأفعال المحظورة، ولم يكن مُرتكِب هذه الأفعال سوى الشخص
القانوني. أمَّا لوطِيُّ القرن التاسع عشر، فقد أصبح شخصية: له ماضٍ وتاريخ
وطفولة، له مِزاج وطبْع ونمط حياة، له مورفولوجيا (هيئة) خاصة أيضًا، وبنية
تشريحية غير خفية، وله ربما فيزيولوجيا غامضة. فلا شيء مما له من كيانه كله
يمكنه أن يفر من جنسانيته. فالجنسانية حاضِرة في كل موضع منه. فهي كامنة
تحت كل تصرفاته؛ لأنها هي أساسها الماكر والفعَّال للغاية. فالجنسانية
مطبوعة دون حياء على وجهه، وعلى جسده؛ لأنها سر يفضح نفسه دائمًا.
فالجنسانية مشاركة له في جوهره كطبيعة مفردة، أكثر منه كخطيئة اعتيادية.
يجب ألَّا ننسى أن المقولة النفسانية والطبنفسية، والطبية للمثلية الجنسية
قد تكوَّنَت مُذ تم تمييزها كنوع مُعيَّن من الإحساس الجنسي، وكطريقة
مُعيَّنة لتحويل الذكر إلى أنثى، والأنثى إلى ذَكر في داخل الذات، أكثر مما
هي من أنماط العلاقات الجنسية، ويمكن اعتبار مقال وستفال
(Westphal) الشهير عام ١٨٧٠م حول:
«الإحساسات الجنسية العكسية»، بمثابة تاريخ ولادة المفهوم الجديد للمثلية
الجنسية. لقد ظهرت المثلية الجنسية كصورة من صور الجنسانية، حين فُصِلت عن
ممارَسة اللواط، ورُبِطت بنوع من الخُنثَوية الداخلية، خُنثوية النفس
الجسد. لقد كان اللوطي مُرتدًّا، أما مُشتهي المماثِل فغَدا اليوم صِنفًا
من الناس.
كم من الأصناف يُؤلِّف جميع هؤلاء المنحرفِين الصغار، الذين يُصنِّفهم الأطباء
النفسانيون في مِئات لا تُحصى ويعطونهم أسماء غريبة؛ هناك استعرائِيُّو لاسيغ (
Lasegue)،
٢٢ ومُتَيَّمو بِينه
(
Binet)، وعُشاق الحيوانات ولواطية الحيوانيات كما
سمَّاهم كرافت إبينغ (
Kraft-Ebing)، عُبَّاد الجنس
الواحد كما سماهم رولِدر (
Rohleder)،
٢٣ إن جميع أسماء البدع الجميلة هذه تُحيل إلى طبيعة قد تَنَسى نفسها بما
يكفي، لتنفلت من القانون، وقد تتذكر نفسها بما يكفي — لتخلق المزيد من الأصناف — حتی،
حيثما لم يَعُد هناك نظام. وآلية السُّلطة التي تلاحِق كل هذا التنافر لا تريد أن
تلغيه، إلا بإكسابه حقيقة تحليلية، منظورة ودائمة، فهي تغرسه في الأجساد، تُدخِله تحت
السلوكات، تصنع منه مبدأ تصنيف وفهْم، وتُكوِّنه كمبرِّر وجود، وكنظام طبيعي للفوضى.
هل
يعني ذلك إلغاء لهذه الألوف من الجنسانيات الشاذة؟ كلَّا، أبدًا. بل يعني تخصيصًا
نوعيًّا وترسيخًا موضعيًّا لكل منها. والمقصود بنشرها هو نثرها على أرض الواقع، ودمجُها
في الفرد.
-
(٣)
أكثر النواهي القديمة، يتطلب هذا النوع من السُّلطة، كي يمارس أنواعًا من
الحضور ثابتة، يقظة، وفضولية أيضًا، ويفترِض قربًا من الأشياء. إنه يعمل
بواسطة فحوصات ومراقبات مُلِحة، تتطلب تبادُل خطايات عن طريق أسئلة تنتزع
اعترافات وأسرارًا، تتجاوز الأسئلة، يستلزم اقترابًا جسديًّا ومجموعة قوية
ونشاطًا من الأحاسيس العنيفة. من هنا فإن طَبْيَنة
(
Médicalisation) الشذوذ الجنسي هي
نتيجة لهذه الأمور، وأداة لها. فغرائب الجنس تغدو خاضعة لتكنولوجيا الصحة،
وللشأن الباثولوجي، باعتبارها مندمِجة في الجسم ولكونها أصبحَت طبعًا
جوهريًّا من طباع الفرد. وبالعكس، ما إن تغدو شيئًا طبيًّا أو قابلًا
للطبنَنة، حتى يكون لزامًا علينا أن نباغتها في أعماق الجسم، أو على سطح
الجلد، أو بين دلالات السلوك، وكأنها جُرح أو اختلال وظيفي، أو عرَض من
الأعراض، وهكذا، فإن السُّلطة التي تأخذ الجنسانية على عاتقها، ترى أن من
واجبها جَس الأجساد؛ فهي تداعبها عبْر العيون، تُقوِّي مواضع فيها، تُكهرِب
بعض سطوحها، وتُضفي طابعًا دراميًّا على الفترات المضطربة. إنها تتناول
الجسد باعتباره كله جسدًا جنسيًّا. لا شك أن في ذلك زيادة للفعاليات
وامتدادًا للمجال الخاضع للمراقبة. ولكن هناك أيضًا مَحْسسة
(
Sensualisation) للسُّلطة،
٢٤ وكسب للمتعة. وهذا ما يُحدِث أثرًا مزدوجًا: تعطى السُّلطة
دفعًا نتيجة ممارستها بالذات، وثمة هياج يكافئ المراقبة التي تلاحظه،
ويحملها إلى أبعد، وتُنعش قوة الاعتراف فضول الاستجواب. أما اللذة المكتشفة
فترتَدُّ إلى السُّلطة التي تحاصرها. غير أن الكثير من الأسئلة المُلحَّة
تُفَرْدِن عند من يتعيَّن عليه الإجابة، الملذات التي يعانيها. فالنظر
يثبتها، والانتباه يعزلها وينشطها. تعمل السُّلطة كآلية استدعاء، فتجذب
وتستخرج هذه الغرائب التي تطاردها، واللذة تنعكس على السُّلطة التي
تطاردها. والسُّلطة ترسِّخ اللذة التي أطلقَتْها من عقالها. قد يكون الهدف
العام والظاهر للفحص الطبي، والتحقيق التحلينفسي، والتقرير التربوي،
والمراقَبات العائلية؛ منع الأعمال الجنسية الشاذة أو غير المثمرة في
الواقع؛ بحيث تعمل هذه الوسائل كآليات ذات دفع مزدوج: اللذة والسُّلطة. لذة
في ممارسة سُلطة تَسأل وتُراقب، وتَترصَّد، وتلاحظ بدقة، وتُفتِّش، وتجس،
وتبرز للعيان؛ ومن جهة ثانية، ثَمَّة لذة تَتوقَّد حينما يكون عليها أن
تتخلص من السُّلطة، وتهرب منها، وتخدعها وتتنكر أمامها، هناك سُلطة تسمح
للذة التي تطاردها بأن تجتاحها. وهناك في مقابِلها سُلطة تُؤكِّد ذاتها في
لذة الانكشاف والافتضاح والمقاوَمة ضدها. أسر وإغواء، مجابَهة وتعزيز
متبادل؛ فالأهل والأولاد، الراشد والمراهق، المُربي والتلاميذ، الأطباء
والمرضى، الطبيب النفساني ومريضه المصاب بالهستيريا ومنحرفوه لم ينقطعوا
كلهم عن لعب هذه اللعبة منذ القرن التاسع عشر. وكان من شأن هذه
الاستدعاءات، وضروب الهروب والتحريضات الدورية، أن تعد حول الجنس والأجساد
اللوالب الدائمة لِلذة والسُّلطة، وليس حدودًا ممنوعًا تجاوزها.
-
(٤)
من هنا كانَت جاهزيات الإشباع الجنسي هذه، تُميِّز إلى حد بعيد حيِّز
القرن التاسع عشر وطقوسه الاجتماعية. يقال مرارًا إن المجتمع العصري حاول
أن يقصر الجنسانية على الزوجين — الزوجين المتغايري الجنس — والمرتبطين
بزواج شرعي بقدر الإمكان. بوسعنا أن نقول أيضًا إنه وإن لم يخترع، فقد
هيَّأ على الأقل بعناية المجموعات ذات العناصر المتعددة والجنسانية الدوارة
وشجع تكاثرها: توزيع مواقع سُلطوية متسلسلة أو متجابهة، ملذَّات «مطاردة»،
أي في آنٍ واحد مُشتهاة وملاحَقة، جنسانيات مُجزَّأة، مسموح بها أو
مُشجَّعة، تقاربات تَظهر كطرق مُراقَبة وتعمل كآليات تعزيز، وأخيرًا
احتكاكات محثَّة. تلك هي حال الأسرة، أو بالأحرى سكان البيت، مع الأهل
والأولاد، والخدم أحيانًا. هل إن أسرة القرن التاسع عشر هي حقًّا خلية
أحادية الزواج والزوجية؟ ربما، إنما إلى حد ما. ولكن الأسرة هي أيضًا شبكة
مَلذَّات، سلطات متمفصِلة حسب نقاط متعددة، ولها علاقات قابلة للتحول.
انفصال البالغين عن الأطفال، القطبية القائمة بين غرفة الوالدين وغرفة
الأولاد (أصبحت قانونية خلال القرن حين بُوشِر ببناء مساكن شعبية)، الفصل
نِسبي بين الصبيان/البنات، التعليمات المشدَّدة المتصلة بالعناية الواجبة
بالرضَّع (الإرضاع من ثدي الأم، صحة الطفل)، الانتباه اليقظ بشأن جنسانية
الأطفال، مَخاطر العادة السرية المفترضة، الأهمية المعطاة للبلوغ، طرق
الرقابة المُقترَحة على الأهل، أشكال البحث والأسرار والمخاوِف، حضور
الخدَم الذي تُقدَّر أهميته ويُخشَى منه في آنٍ معًا؛ كل هذا يجعل من
الأسرة، حتى لو أعيدت إلى أصغر أحجامها، شبكة مُعقَّدة، مشبَّعة بجنسانيات
متعددة، مجزَّأة ومتحركة، وإنَّ حصْر هذه الأخيرة في العلاقة الزوجية، مع
احتمال إسقاط هذه العلاقة على الأولاد، على شكل رغبة مَمنوعة، لا يمكن أن
يعتبر هذه الجاهزية، بالنسبة لهذه الجنسانيات، بمثابة آلية حثٍّ ومضاعفة
أكثر منها مصدر نَهي. أما المؤسَّسات المدرسية أو مصحَّات الأمراض العقلية
والنفسية، بسكانها العديدين، وجهازها الإداري المُتدرِّج، وتنظيماتها
المكانية ونظام رقابتها، فهي تُشكِّل، إلى جانب الأسرة، طريقة أخرى في
توزيع لعبة السُّلطات والمَلذات. وهي ترسم أيضًا مناطق إشباع جنسي عالٍ
بأماكنها وطقوسها المميزة؛ كقاعة الصف، وعنبر النوم، والزيارة والاستشارة
الطبية. إن أشكال جنسانية غير زوجية، غير متغايرة الجنس وغير أُحادية
الزواج، يمكن أن تكون مستدعاة إلى هذه المؤسَّسات ومركَّزة فيها.
إن مجتمع القرن التاسع عشر «البورجوازي»، الذي لا يزال مجتمعَنا دون شك، هو مجتمع
الانحراف المفجِّر والمتفجِّر. وذلك ليس على طريقة الرياء؛ لأنه ما من شيء كان أكثر
وضوحًا وإطنابًا، وأكثر منه تبنِّيًا في المؤسَّسات والخطابات. مجتمعنا منحرِف لا لأنه
أفسح مجالًا رغمًا عنه لبُرعمة منحرفة، ولباثولوجيا مديدة للغريزة الجنسية، بل لكونه
أراد أن يرفع سدًّا قويًّا وشاملًا في وجه الجنسانية. فكان المقصود هو نوع من السُّلطة
التي جعلها المجتمع تُمارَس على الجسد وعلى الجنس. وهذه السُّلطة لم تَتخِذ شكل القانون
ولا شكل النتائج التي تنشأ عن المحظور. إنما تعمل بالعكس عبْر تخفيف الجنسانيات
الغريبة. إنها تعين حدودًا للجنسانية، بل تمدد أشكالها المختلفة بملاحقتها وفقًا لخطوط
اختراق لا محدود. السُّلطة لا تستبعد الجنسانية، بل تدخلها إلى الجسد كطريقة لتمييز
الأفراد. لا تحاول تجنبها، بل تجذب أنواعها المختلفة بواسطة لوالب حيث تتقوَّى السُّلطة
واللذة. لا تقيم السُّلطة سدًّا، بل تُعِد أماكن للإشباع الأقصى. إنها تُسبب التنافر
الجنسي وتثبته
٢٥ فالمجتمع العصري منحرف، لا بالرغم من طهريته أو كرَدَّة فعل على نفاقه؛ إنه
منحرف واقعًا ومباشرة.
واقعًا أولًا، فالجنسانيات المتعددة، تلك التي تظهر مع مراحل العمر (جنسانيات الرضيع
أو الطفل)، تلك التي تترسَّخ في الأذواق أو العادات (جنسانيات اللواطي والولع بالشيوخ،
أو الفيتشية؛ أي الولع بعضو من أعضاء الجسم أو بشيء متصل به)، الممارسات التي ترتبط
بصلات معيَّنة (علاقة الطبيب بالمريض، المُربِّي بتلميذه، الطبيب النفساني بالمجنون)،
الممارسات التي تلازم الأماكن (جنسانيات المنزل، والمدرسة، والسجن). كل هذه إنما تؤلِّف
مَلاحق بعمليات السُّلطة ذاتها. لا ينبغي أن نتصور أن جميع هذه الأشياء المسموح بها حتى
ذلك التاريخ لفتت الانتباه، ونالت وصفًا محقَّرًا عندما أُريد إعطاء دور ضابط ومنظَّم
لنمط الجنسانية الوحيد القادر على إعادة إنتاج شكل العائلة والقوة العاملة. إن هذه
التصرفات المتعددة الأشكال استُخرِجت واقعًا من أجسام الناس ومن ملذاتهم، أو بالأحرى،
تَمَّ ترسيخها فيهم، وبواسطة جاهزيات سُلطوية متعددة جرَى استدعاء هذه التصرفات
واكتشافها، وعزلها، وتعزيزها، ودمجها. إن نمو الانحرافات ليس موضوعة أخلاقية تهذيبية،
شكَّلت هاجسًا لعقول الفيكتوريين الموَسْوَسة، بل هو النتاج الواقعي لتداخل نمَط من
السُّلطة على الأجساد وملذاتها. من الممكن ألا يكون الغرب قد استطاع ابتكار ملذات
جديدة، وهو طبعًا لم يكتشف رذائل غير معروفة، لكنه حدَّد قواعد جديدة للعبة السُّلطات
والملذات؛ فقد ارتسم فيه وجه الانحرافات المجمَّد.
ومباشرة ثانيًا، إن انغراس الانحرافات هذا، المتعددة في المجتمع ليس تهكمًا من جانب
الجنسانية المنتقمة من سلطة فرضَت عليها قانونًا قمعيًّا للغاية. وهو ليس أيضًا أشكالًا
متناقضة من اللذة، مُرتَدة نحو السُّلطة لتستثمرها على شكل «لذة برسم التحمُّل».
فانغراس العادات المنحرفة هو نتيجة وأداة في آن واحد؛ فإنه عن طريق عزل الجنسانيات
الطرفية وتقويتها وتوطيد الممارسات الجنسية، تتفرع وتتكاثر العلاقات بين السُّلطة
والجنس، والسُّلطة واللذة، تَنتاب الجسد وتخترق السلوكات. ووفقًا لتقدُّم السلطات هذا،
تثبت جنسانيات متفرِّقة، مرتبطة بعمر ما، بمكان ما، بذوق ما، وبنوع من الممارَسات.
تكاثر الجنسانيات بتوسيع السُّلطة؛ ازدياد حجم السُّلطة التي تُخصِّص لها كل من هذه
الجنسانيات الموضعية نطاقَ تدخُّل معينًا. إن هذا التسلسل منذ القرن التاسع عشر خصوصًا،
تُؤمِّنه وتُبدِّله المكاسب الاقتصادية العديدة التي ارتبطت في آنٍ معًا بهذا التخفيف
التحليلي للذة، وهذا الازدياد في حجم السُّلطة التي تراقبها، وذلك بفضل تدخُّل الطب،
والطب النفساني، والدعارة، والإباحية. فاللذة والسُّلطة لا تلغيان الواحدة الأخرى، ولا
تنقلب إحداهما ضد الأخرى. إنهما تتطاردان، تتراكبان، وتنطلقان من جديد. إنهما تترابطان
بموجب آليات معقَّدة وإيجابية من الإثارة والتحريض.
ينبغي إذًا، دون شك، أن نتخلَّى عن الفرضية التي تزعم أن المجتمعات الصناعية الحديثة
بدأَت عهد قمْع متزايد للجنس. ليس فقط أننا نشهد تفجُّرًا ظاهرًا للجنسانيات الشاذة.
إنما خصوصًا — وهذه هي النقطة المهمة — فإن ثمة جاهزية مختلفة جدًّا عن القانون، حتى
ولو كانت تعتمد محليًّا على إجراءات مَنعيَّة غدَت تُؤمن بواسطة شبكة آلیات مترابطة
تكاثُر ملذات معينة، ومضاعَفة جنسانيات متنافرة. يقال إن أي مجتمع لم يكن أكثر حِشمة
من
مجتمعنا، وإن مراكز السُّلطة لم تكن قطُّ أكثر حرصًا على التظاهر بتجاهل ما تمنعه، كما
لو كانت لا تريد أي جامِع بينهما. ولكن العكس هو الذي يظهر، أقلُّه عند إلقاء نظرة
عامة؛ لم تكن مراكز السلطات أبدًا بمثل هذه الوفرة، ولم يُعرَف قط مثل هذا الاهتمام
الواضح والمفصَّل، ولا مثل هذا القدر من الاتصالات والعلامات الدائرية، ولا مثل هذا
العدد من البؤر حيث تَتوقَّد حدة الملذات وعِناد السلطات من أجل الانتشار على مدًى
أبعد.