الفصل الثالث
علم الجنس
Scientia sexualis
أفترض أن القارئ يُسلِّم معي بالنقطتين الأوليين؛ أتصوَّر أنه يقبَل بالقول إن الخطاب
عن
الجنس تكاثَر بدل أن يندر منذ ثلاثة قرون حتى الآن؛ وإنه إذا حمَل معه بعضًا من الممنوعات
والمحرَّمات، فقد أمَّن ترسيخ وإنشاء تنافر
١ جنسي كامل. غير أن كل ذلك لم يلعب أساسيًّا، سوى دور دفاعي، حين نتحدث بهذه
الكثرة عن الجنس، حين نكتشفه مخففًا، محوجزا،
٢ ومميزًا في المكان الذي أُدرج فيه، نكون لا نسعى في الحقيقة إلا إلى إخفاء
الجنس وتمويهه: خطاب — ستار، تشتيت — تجنُّب. حتى مجيء فرويد على الأقل، فإن الخطاب حوْل
الجنس — خطاب العلماء والمُنظِّرِين — ما كفَّ أبدًا عن إخفاء ما كان يتحدث عنه. ويمكننا
اعتبار كل هذه الأشياء المقولة، وهذه الاحتياطات الدقيقة والتحليلات المُفضَّلة، إجراءات
مُعدَّة لتجنُّب ما لا يُحتمَل؛ أي تجنُّب حقيقة الجنس الخطرة جدًّا. ومجرَّد الزعم بأننا
تكلَّمْنا على الجنس من زاوية علمية حيادية ومُنزَّهة، مُعبِّر بحد ذاته. لقد كان ذلك
بالفعل عِلمًا مكونًا من تلافيات؛ لأنه إزاء العجز عن الكلام عن الجنس بذاته أو رفض ذلك،
رجع بوجه خاصٍّ إلى الشذوذ الجنسي والانحراف، وإلى الغرائب النادرة، والإلغاءات والإثارات
المَرضية. كان أيضًا علمًا خاضعًا في جوهره لأوامر أخلاق معيَّنة، كرَّر تصنيفاتها في
ظل
المعيار الطبي. وبحجة أنه يقول الحقيقة، كان يثير المخاوف في كل مكان، وينسب إلى أصغر
اضطرابات الجنسانية جذورًا خيالية من الشرور مَقدَّرًا لها أن تنعكس على أجيال لاحقة.
كذلك
أكد أن عادات الخجولين السِّرِّية والهواجس الصغيرة الأشد انعزالًا تشكِّل خطرًا على
المجتمع كله. وأخيرًا، لم يضعْ هذا العلم في خاتمة الملذات الشاذة أي شيء غير الموت؛
موت
الأفراد، موت الأجيال، موت الجنس البشري.
وبذلك، ارتبط علم الجنس بممارسة طبية مُلحَّة وغير متحفظة، ذَلِقة اللسان، في المجاهَرة
بمكروهاتها، سريعة في هَبَّتها لنجدة القانون والرأي العام، ومذلَّتُها لسُلطات النظام
تفوق
خضوعها لمتطلَّبات الحقيقة. لما كانت هذه الممارَسة الطبية في أفضل الحالات ساذجة عن
غير
قصد وفي أغلبها كاذبة، متواطئة فيما تشجبه، متعالية ومختلسة للاحتكاكات الحسية الخفيفة،
فقد
أنشأت بذاءة للحالات المرضية مُميِّزة لنهاية القرن التاسع عشر. ثمة أطباء، أمثال: «غارنيه،
وبويه، ولادوسیت، (Garnier, Pouillet Ladoucette)» كانوا
مُنظِّرِيها غير المشهورين في فرنسا، بينما كان رولينا (Rollinat) مدَّاحها، لكنها تجاوزَت هذه الملذات المشوَّشة لتطالب بسُلطات أخرى.
كانت تُنصِّب نفسها سُلطة عليا، بالنسبة، لفرض التعليمات الصحية، جامعة بين المخاوف القديمة
من المرض الزهري وموضوعات العقم (asepsie) الجديدة، وبين
الخرافات النشوئية الكبرى ومؤسَّسات الصحة العامة الحديثة. كانت تدَّعِي توفير القوة
الجسمية والطهارة الأخلاقية للجسم الاجتماعي، كانت تَعِد بإزالة المصابين بعاهات وذوي
النوع
المُنحَط والسكان الهَجِينين. وباسم ضرورة بيولوجية وتاريخية، كانت تُبرِّر النزعات
العنصرية الرسمية، الوشيكة الظهور آنذاك. كانت تؤسِّسها «كحقيقة».
حين نقارن هذه الخطابات عن الجنسانية البشرية مع ما كانت عليه في الحقيقة ذاتها
فيزيولوجيا التناسل الحيواني أو النباتي، يفاجئنا التفاوت. ففحواها الهزيل، من حيث
العقلانية الدنيا، ولا أقول من حيث الصفة العلمية، يقصيها بعيدًا عن تاريخ المعارف. إنها
تشكل منطقة مشوَّشة بغرابة، فالجنس يبدو مندرجًا طوال القرن التاسع عشر في حَقلَين
مَعرفِيَّين متميزين تمامًا: بيولوجيا للتناسل تطورت باستمرار وفقًا لمعيارية علمية عامة،
وطب للجنس خاضع لقواعد تكوُّنِية مختلفة جدًّا. لا يقوم تبادُل حقيقي بين الحقلين ولا
أي
تركيب بنيوي متبادل. قلَّما لعب الأول بالنسبة إلى الثاني غير دور الضمانة البعيدة،
والوهمية جدًّا؛ كفالة إجمالية، كان تحت ستارها يمكن إعادة كتابة الطروحات المتصلة بالعوائق
الأخلاقية والخيارات الاقتصادية والسياسية والمخاوف التقليدية بِلغة ذات نبرة علمية.
كل شيء
كان يحدث كما لو أن مقاومة أساسية كانت تتصدى لقيام خطاب عقلاني الشكل عن جنس الإنسان،
ولواحقه ونتائجه. كان هذا التفاوت دليلًا على أن المقصود من هذا النوع من الخطابات، ليس
قول
الحقيقة، بل منعها من الظهور فيها. وراء الاختلاف بين فيزيولوجيا التناسل وطب الجنسانية،
كان يجب أن نرى شيئًا آخر وأكثر مِن تقدُّم علمي غير متكافئ، أو تفاوُت في أشكال العقلنة.
ففيزيولوجيا التناسل تخضع لإرادة معرفة شاسعة، كانت ركيزة لتأسيس الخطاب العلمي في الغرب،
بينما يخضع طب الجنسانية لإرادة عدم — معرفة عنيدة.
وهذا أكيد؛ فالخطاب العلمي الذي راج حول الجنس في القرن التاسع عشر اخترقَته سرعة
تصديق
بدون أساس، وكذلك تيارات من الضلال المطلق: رفض للرؤية والسمع، إنما رفض — وهذا هو الأهم
بلا شك — يتناول الشيء الذي كان يُراد إظهاره، أو الذي كان يُطلب بإلحاح إيضاحه؛ لأنه
لا
يمكن أن يكون هناك تجاهُل إلا على أساس علاقة جوهرية بالحقيقة. الهروب منها، سد الطريق
إليها، وإخفاؤها، كلها خطط موضعية تتدخل وكأنها نسخة ثانية فوقها وتعود إليها في مرتبتها
الأخيرة، لتضفي شكلًا تناقضيًّا على التماس أساسي للمعرفة. فإن رفض التعرف إلى الحقيقة
هو
أيضًا انقلاب لإرادة معرفة الحقيقة. وهنا، يمكن أن تَصلُح مستشفى شاركو كمثال على ما
نقوله؛
كانت هذه المؤسَّسة جهازًا كبيرًا للمراقَبة بفحوصه، واستجواباته، واختباراته؛ لكنها
كانت،
في الوقت نفسه، آلية حثٍّ وتحريض، بعروضها العامة، ومسرحها للنوبات الطقسية المحضَّرة
بعناية بواسطة استخدام المنشطات الكيماوية
٣ ولعبة الحوارات واللمسات ووضع الأيدي، وبوضعيات الأجسام التي يُحدِثها الأطباء
أو يلغونها بإشارة أو كلمة منهم، وبتنظيم الجهاز البشري الذي يراقب وينظِّم ويحض ويدوِّن
ويروي ويجمِّع كدسة هائلة من الملاحَظات والمِلفَّات، والحال أنه على أساس هذا الحض الدائم
على الخطاب والحقيقة، تفعل آليات التجاهل فعلها. وهكذا فإنه بإشارة من يده يوقف شاركو
جلسة
استشارة عمومية حين يشرع في الحديث بصراحة زائدة عن «الهذا»؛ (أي الجنس). كذلك يُمْحَى
من
الملفات دوريًّا كل ما قاله وكشفه المرضى عن الجنس، إنما أيضًا كل ما رآه الأطباء أنفسهم
أو
سمَّوه أو طلبوه، والذي تحذِفه الملاحظات المنشورة بصورة شبه كلية.
٤ فالمهم في هذه القصة ليس كون المعنِيِّين قد أغمضوا عيونهم وأصمُّوا آذانهم ولا
كونهم قد أخطئُوا. المهم أولًا هو أنهم بنوا حول الجنس وبشأنه جهازًا كبيرًا لإنتاج
الحقيقة، شرط إخفائها في اللحظة الأخيرة. المهم أن الجنس لم يكن فقط قضية إحساس ومتعة،
وقانونًا أو تحريمًا، بل قضية صواب وخطأ. وأن حقيقة الجنس قد أصبحت شيئًا أساسيًّا، نافعًا
أو خطرًا، قَيِّما أو مخيفًا. باختصار، المهم هو أن الجنس قد تكوَّن كرهان على الحقيقة،
يجب
ألا نستدل من ذلك إذن على أن عتبة عقلانية جديدة،
٥ كان فرويد — أو شخص آخر — قد لاحظ كشفها، بل على التكوُّن التدريجي «للعبة
الحقيقية والجنس» هذه، وكذلك على تحوُّلاتها التي أورَثَنا إياها القرن التاسع عشر، والتي
لا شيء يثبت أننا تحرَّرنا منها، حتى ولو أنَّنا عدَّلناها. فتجاهل الحقيقة، والهروب
منها،
وتجنُّبها أمور لم تكن ممكنة ولا كان بالإمكان أن يكون لها مفعولها إلا انطلاقًا من هذه
المحاوَلة الغريبة: قول حقيقة الجنس. وهي محاوَلة لا ترقى إلى القرن التاسع عشر، حتى
ولو أن
مشروع «علم» ما قد أعطاها آنذاك شكلًا فريدًا، إنها الركيزة لجميع الخطابات الزائفة،
والساذجة والماكرة، التي يبدو أن معرفة الجنس قد تاهت فيها زمنًا طويلًا.
•••
من جهة تاريخية هناك إجراءان كبيران لإنتاج حقيقة الجنس.
من جهة، المجتمعات التي خصَّت نفسها ﺑ «فن شبقي»، (ars
erotica)، وهي كثيرة: الصين، اليابان، الهنود، الرومان، والمجتمعات
العربية الإسلامية. في الفن الشبقي، تُستخرج الحقيقة من اللذة بنفسها، المُنالة كممارَسة
والمحصَّلة كتجربة. يحسب حساب اللذة لا بالنسبة إلى قانون مطلَق يحدد المسموح، والممنوع،
ولا بالاستناد إلى معيار المنفعة؛ إنما أولًا، وقبل كل شيء، بالنسبة إلى ذاتها، يجب
التعرُّف إليها كَلذَّة، وبالتالي حسب قُوَّتها وصِفَتها النوعية، ومُدتها وانعكاساتها
في
الجسد والنفس. أكثر من ذلك؛ يجب أن تُستثَمر هذه المعرفة في الممارَسة الجنسية نفسها،
فيستطيع المرء أن يطوِّرها من الداخل وأن يضاعف نتائجها. هكذا، تتكوَّن معرفة يجب أن
تظل
سرية، لا بسبب ريبة في عارٍ قد يَسِم موضوعها، إنما انطلاقًا من ضرورة إبقائها طي الكتمان
الشديد؛ لأنه بإفشائها قد تفقد فعاليتها ومزيتها، حسب التقاليد. إذًا فالصلة بالمعلِّم
الذي
يملك الأسرار شيء أساسي، فهو وحدَه القادر على إعطاء السر على الطريقة الباطنية، وبعد
تدريب
يوجه فيه مسار الطالب بمعرفة وصرامة. فلا بد لهذا الفن العظيم أن تُغيِّر آثاره مَن يقع
عليهم فعل مزاياه، بالرغم مما تفترض وصفاته من جفاف وقسوة. ومن هذه المزايا: السيطرة
المطلَقة على الجسد، مُتعة فريدة، نسيان الزمن والحدود، إكسير إطالة الحياة، استبعاد
الموت
وتهديداته.
ليس لحضارتنا فنٌّ شبَقي، كما يتراءى لنا في مقارَبة أولية على الأقل. بالمقابل،
إنها
الحضارة الوحيدة، بلا ريب، التي تمارِس «علمًا جنسيًّا». أو بالأحرى إنها الوحيدة التي
طوَّرت خلال قرون من الزمن، ومن أجْل قول حقيقة الجنس، إجراءات تُنظم أساسيًّا في شكل
من
أشكال السُّلطة — المعرفة، يتعارض بشدة مع فنِّ التلقين ومع السر الأعظم. هذا الشكل هو
الاعتراف.
٦
منذ القرون الوسطى، على الأقل، وضعت المجتمعات الغربية الاعتراف بين الطقوس الكبرى
التي
يُنتظر منها إنتاج الحقيقة: تنظيم سر التوبة سنة ١٢١٥م من قبل (مجمع لاتران)
٧ الكنسي، وما تطور عنه من تقنيات الاعتراف، وتراجُع الدعاوى الاتهامية في القضاء
الجنائي، وزوال اختبارات إثبات الجرم (قَسَم، مبارزات، أحكام دينية)، وتطور طرائق الاستجواب
والتحقيق، ومشاركة متزايدة في ملاحَقة مخالفات القانون من قبل الإدارة الملكية وذلك على
حساب إجراءات التسوية الخاصة، إنشاء محاكم التفتيش. كل ذلك ساهم في إعطاء الاعتراف دورًا
رئيسيًّا في نطاق السُّلطات المدنية والدينية، فإن تطوُّر كلمة «اعتراف» والوظيفة القانونية
التي دلَّت عليها هذه الكلمة، يحمل في ذاته دلالة خاصة؛ فقد تم الانتقال من اعتراف إنسان
بإنسان آخر، بإعطائه ضمانة تتناول وضْعه وهُويَّته وقيمته، إلى إقرار الإنسان نفسه بأفعاله
الخاصَّة أو أفكاره. وقد ظَل الفرد زمنًا طويلًا يُثبِت هويته بالاستناد إلى الآخَرين
وبإظهار صلته بالغير (أسرة، تبعية، حماية)، ثم يثبت الآخرون هويته بواسطة خطاب الحقيقة
الذي
كان قادرًا أو مكرها، على النطق به، حول ذاته. لقد اندرج الاعتراف بالحقيقة في صلب إجراءات
التفريد التي قامت بها السُّلطة.
على أي حال، أصبح الاعتراف في الغرب أَحَد التقنيات الأكثر تقديرًا لإنتاج الحقيقة،
إلى
جانب طقوس الاختبارات، وإلى جانب الضمانات التي تُعطيها سُلطة التقاليد، وإلى جانب الشهادات
وكذلك طُرق المراقَبة والبرهنة العلمية. منذ ذلك الحين، أصبحنا مجتمعًا اعترافيًّا بصفة
متخصِّصة. فقد نَشر الاعتراف، آثاره بعيدًا: القضاء والطب والتربية، في العلاقات العائلية
والعاطفية، في النظام اليومي وفي الطقوس الأكثر احتفالية. يعترف كل منَّا بجرائمه وخطاياه،
بأفكاره ورغباته، يعترف بماضيه وأحلامه وطفولته، يعترِف بأمراضه ومصائبه، يقول بأكبر
قدر من
الصحة ما يصعب قوله أكثر من سواه، يعترف كل منا علانية وعلى حِدَة لأهله ومُربِّيه، لطبيبه،
وللذين يحبهم. يعترف كل منَّا لنفسه في السَّرَّاء والضَّرَّاء بما يستحيل الاعتراف به
لأي
شخص آخر، وتؤلَّف منه كتب، نعترف أو نُجبر على الاعتراف. فحين لا يكون الاعتراف عفويًّا
أو
مفروضًا بدافع داخلي، فإنه يُنتزع بالقوة. يُستخرَج الاعتراف من النفس أو يُنتزَع من
الجسم.
منذ القرون الوسطى، يرافقه التعذيب كظله، ويُسانده حين يتهرب؛ الاعتراف والتعذيب توءَمان
أسودان
٨ تحتاج السُّلطة الأكثر دموية، كما الحنان الأعزل من السلاح، إلى الاعتراف. لقد
أصبح الإنسان في الغرب حيوانَ اعتراف.
٩
من هنا، كان طبعًا حدوث تحوُّل جوهري في الأدب، فمن متعة الرواية والإصغاء كانت مركَّزة
حول السرد البطولي أو الرائع «لاختبارات» الشجاعة أو القداسة، ثم الانتقال إلى أدب مكلَّف
بمهمة لا متناهية هي إخراج الحقيقة من أعماق الذات، من بين الكلمات، وهي حقيقة يظهرها
شكل
الاعتراف عينه بمظهر الشيء المتعذَّر مناله. ومن هنا أيضًا، ذلك النهج المختلِف في الفلسفة؛
أي البحث عن الصلة الجوهرية بالحقيقة، لا في ذاتنا وحسب، في معرفة ما منسية، أو في أثر
أصلي
معين، إنما في فحص الذات الذي يعطينا من خلال الكثير من الانطباعات العابرة، يقينيات
الشعور
الأساسية. إنَّ واجب الاعتراف مُحال الآن إلينا من عدة مواقع مختلفة، وقد غدَا مندمجًا
فِينا بعمق، بحيث إننا لم نَعُد نعتبره كفعل سُلطة تُكرِهنا عليه. بالعكس، يبدو لنا أن
الحقيقة في أعماقنا الخفية «لا تطلب» غير الظهور للعيان. وإذا لم تصل إلى مبتغاها، فهذا
يعني أن ثَمَّة ضغطًا يمنعها من ذلك، وأن عنف سلطة ما يؤثِّر عليها، وأن تبيانها لن يكون
ممكنًا إلا بنوع من التحرير. الاعتراف يحرِّر، والسُّلطة تُخرس. الحقيقة لا علاقة لها
بالسُّلطة، إنما تربطها قرابة أصلية بالحرية. هذه موضوعات تقليدية في الفلسفة ينبغي أن
يتفحَّصها «تاریخ سياسي للحقيقة»، مثبتًا أن الحقيقة ليست حرة بطبيعتها وأن الخطأ ليس
عبدًا، لكن إنتاج الحقيقة مخترَق بكامله بعلاقات سُلطوية، والاعتراف مثال على ذلك.
يجب أن يكون المرء نفسه واقعًا في فخ حيلة الاعتراف الداخلية هذه، حتى يَمنح الرقابة
وحظر
القول والتفكير دورًا أساسيًّا. يجب أن يُكوِّن عن السُّلطة تصورًا معكوسًا، حتى نصدق
أن
الحرية هي ما تُحدِّثنا عنها جميع تلك الأصوات، التي تُردد على مسامعنا منذ زمن طويل،
في
حضارتنا، الأمر العظيم بوجوب أن نقول ما نحن، وما فعلنا، ما نذكرُه وما نسيناه، ما نخفيه
وما يختفي من تلقاء ذاته، ما لا نفكر فيه وما نفكِّر في عدم التفكير فيه. لقد حقَّق الغرب
إنجازًا كبيرًا طوَّع له أجيالًا، بينما كانت أشكال أخرى من العمل تؤمِّن تكريس رأس المال،
وهذا الإنجاز هو إخضاع البشر. أقصد بذلك تكوينهم كذوات بمعناها المضاعَف (أي كذوات
وموضوعات) في آنٍ معًا. لنتصور كم بدَا مزعجًا في بداية القرن الثالث عشر الأمر الذي
أُعطِي
إلى جميع المسيحيين بأن يركعوا مرة واحدة في السنة، على الأقل، أمام الكاهن ليعترفوا
له
بجميع خطاياهم دون استثناء. ولنفكر أيضًا بذلك المُحارب المغمور الذي جاء، بعد سبعة قرون
من
الزمن، ليلتحق بالمقاوَمة الصربية في أعالي الجبال؛ فطلب منه رؤساؤه أن يَصِف حياته؛
وعندما
جلَب أوراقه الهزيلة التي خريش عليها أثناء الليل، لم يُنظَر فيها، بل طُلِب إليه فقط:
«اكتب من جديد، وقُل الحقيقة.» هل يجب أن تنسينا النواهي الكلامية الشهيرة، التي توليها
الكثير من الأهمية، نِير هذا الاعتراف العريق في القِدم؟
منذ سِر التوبة المسيحية حتى اليوم، كان الجنس يؤلِّف مادة الاعتراف المميزة. يقال
إنه
الشيء الذي يُخفَى. فماذا لو كان الجنس، بالعكس وبصورة خاصة جدًّا، هو الشيء الذي يُعترَف
به؟ وماذا لو كان واجب إخفائه جانبًا آخر من جوانب وجوب الإقرار به؟ (ينبغي إخفاؤه بشكل
أفضل وبعناية أكبر كلما كان الاعتراف به أكثر أهمية، ويتطلب طقوسًا أكثر صرامة، ويؤدي
إلى
نتائج أكثر حسمًا) وماذا لو كان الجنس، في مجتمعنا، هو ما كان موضوعًا تحت نظام الاعتراف
القوي منذ قرون عدة؟ ربما يكون وضْع الجنس في الخطاب الذي تحدَّثْنا عنه أعلاه، ونشر
وتعزيز
التنافر الجنسي (تنوُّع علاقاته وأشكاله) هما قطعتان في جاهزية واحدة. تتمفصلان فيها
بفضل
العامل المركزي لاعتراف يجبر المرء على التلفُّظ الكلامي بالمفرَدة الجنسية مَهما ذهبت
إلى
أقصى مداها. في اليونان، كانت الحقيقة والجنس يترابطان في شكل التربية بنقْل معرفة قيمة
من
جسد إلى جسد. كان الجنس بمثابة ركيزة لتلقين المعرفة. وبالنسبة إلينا، يترابط الجنس
والحقيقة في الاعتراف، بالإفصاح عن سر فردي إفصاحًا إجباريًّا وكاملًا. ولكن هذه المرة
فإن
الحقيقة هي التي تقوم مقام الركيزة للجنس ومظاهره.
فالاعتراف هو طقس الخطاب، حيث يكون الإنسان الذي يتكلَّم هو نفسه موضوع الكلام. إنه
أيضًا
طقس ينتشر ضمن إطار علاقة سلطوية؛ لأن المرء لا يعترف بدون حضور افتراضي على الأقل لشريك
ليس هو المخاطب وحسب، إنما السُّلطة التي تطلب الاعتراف، وتفرضه، وتقيِّمه، وتتدخَّل
لتحكم،
وتعاقِب، تسامح، تؤاسي، وتصالح. فالاعتراف كطقس تتثبَّت فيه الحقيقة عبْر العوائق
والمقاوَمات التي كان عليها أن تُذلِّلها حتى تبين وتتوضح، فهو أخيرًا الطقس الذي، ما
إن
يُتلفَّظ به، وبغض النظر عن نتائجه الخارجية، حتى يُنتِج عند ناطقه تغيُّرات باطنية:
إنه
يبرئه، يكفر عنه، يطهره، يريحه من ذنوبه، يُحرِّره، ويَعِده بالخلاص، طوال قرون من الزمن،
ثم تناول حقيقة الجنس، من حيث الأساس على الأقل، في هذا الشكل الخطابي، وليس في الشكل
التعليمي (لأن التربية الجنسية ستقتصر على المبادئ العامة وقواعد الحذر)، ولا في شكل
التلقين (الذي بقي في جوهره ممارسة بكماء، من شأن فعل إفقاد البراءة أو فَض البكارة وحْدَه
أن يجعلها مضحكة أو عنيفة). إنه، كما نلاحظ، شكل مختلف إلى أبعد الحدود عن ذاك الذي يحكم
«الفن الشبقي». بِفعل بنية السُّلطة الماثلة فيه، لا يمكن أن يأتي خطاب الاعتراف من فوق،
كما في «الفن الشبقي» ومن خلال إرادة المعلم السيدة، إنما هو يأتي من تحت، ككلام مطلوب
ومحتوم، يزيل بضغط إجباري سِمات النسيان أو التحفُّظ. فما يُفترَض أنه سر لا يرتبط بالثمن
المرتفع للشيء الذي عليه أن يقوله، أو بالعدد القليل للذين يستحقون الاستفادة منه، بل
هو
مرتبِط بإلفَته الغامضة ودناءته العامة. حقيقة الاعتراف لا تَضمَنها سُلطة الأستاذية
المتعالية، ولا التقليد الذي ينقله، بل الصلة الأساسية القائمة في الخطاب بين الشخص الذي
يتكلم والموضوع الذي يتكلم عنه. في المقابِل، لا تقع مرتبة الهيمنة من جهة الشخص الذي
يتكلم
(لأنه هو المكره على الحديث)، بل في جهة الشخص الذي يُصغي ويصمت، لا في جهة الشخص الذي
يعرف
ويجيب، بل في جهة الشخص الذي يستجوب والذي لا يفترض فيه أن يعرف. وخطاب الحقيقة هذا،
يُحدِث
أثره أخيرًا لا عند الذي يتلقَّاه، بل عند الذي يُنتزَع منه. إننا مع هذه الحقائق المعترف
بها، بعيدون إلى أقصى حد عن التدريبات الخبيرة على اللذة، بتقنيتها وصوفيتها
١٠ لكننا ننتمي، في المقابل، إلى مجتمع معرفة الجنس الصعبة، لا في نقل الشر، إنما
حول التصاعد البطيء لفعل البوح به.
•••
كان الاعتراف ولا يزال حتى اليوم القالب العام الذي يحكم إنتاج الخطاب الصحيح حول
الجنس،
لكنه مع ذلك، فقد كان طرأ عليه تغيير كبير؛ إذ إنه استمر لمدة طويلة مدموجًا بقوة في
ممارسة
التوبة، إنما، شيئًا فشيئًا، منذ ظهور البروتستانتية، والإصلاح المضاد،
١١ وتربية القرن الثامن عشر، وطب القرن التاسع عشر، فَقد الاعتراف تمركُزه الطقسي
والحصري، وانتشر واستُخدم في سِلسلة طويلة من العلاقات: بين الأهل والأولاد، بين التلاميذ
والمُربِّين، المرضى والأطباء النفسانيين، الجانحين والخبراء، تنوَّعَت الدوافع والنتائج
المنتظَرة من الاعتراف، وكذلك الأشكال التي يتخذها: استجوابات، استشارات، سَرد السير
الذاتية، رسائل. لقد باتت مدوَّنة، منقولة، مُجمَّعة في ملفات، منشورة ومفسَّرة. لكن
الاعتراف انفتح بوجه خاص، إن لم يكن على مجالات أخرى، فأقلُّه على طرق أخرى لاجتياز هذه
المجالات. لم يَعُد المقصود أن يقول المرء ما فعل — الفعل الجنسي — وكيف فعل ذلك، بل
أن
يسترجع في ذاته وحوله الأفكار التي رافقته، والهواجس التي صاحبته، والصور والرغبات، وألوان
ونوعية اللذة التي تسكن فيه. للمرة الأولى، دون شك، عكَف مجتمَع ما على المطالَبة بالبوح
بالملذات الفردية والإصغاء إليها.
لقد حصل إذًا انتشار لإجراءات الاعتراف، وتَموضُع متعدِّد لضغطها وإكراهها، وتوسيع
لمجالها، وهكذا تكوَّن شيئًا فشيئًا أرشيف كبير للملذات الجنسية. لقد امَّحَى هذا الأرشيف
زمنًا طويلًا بينما كان يتكوَّن. كان يمر دون أن يترك آثارًا (هكذا كان يريده الاعتراف
المسيحي) إلى أن راح يُرسِّخه الطب، والطب النفسي، وكذلك التربية. إن کامب، وسالزمن،
ثم
بخاصة، كان، وكرافت-إيبنغ، وتارديو، ومول، وهافلوك إليس، (Campe, Salzman,
Kaan, Krofft, Ebing, Tardieu, Molee, Havelock Ellis) جمعوا بعناية كل
تلك الأنشودة الفقيرة للتنافر الجنسي. وهكذا، بدأت المجتمعات الغربية في ضبط سِجِل ملذاتها
اللامحدود، جمعَتْها وصنَّفَتها، ووصفَت نواقصها اليومية كما وصفَت شواذاتها واشتداداتها.
إنها لحظة مُهمة، من السهل أن نضحك من الأطباء النفسانيين للقرن التاسع عشر، الذين كانوا
يَعتذِرون بتشدُّق عن التلفظ بما كان عليهم أن ينطقوا بها من كلمات فاستعاضوا عنها بذكر
عبارات من مثل: «التعدِّيات على الأخلاق» أو «انحرافات الغرائز التناسلية». فأنا مستعِد
بالأحرى لأُحيي جديتهم: كان عندهم حس الحدث. تلك كانت اللحظة التي دُعيت فيها الملذات
الأكثر فرادة إلى أن تصوغ حول نفسها خطاب حقيقة كان عليه أن يتمفصل، لا حول الشخص الذي
يتحدث عن الخطيئة والخلاص، عن الموت والأبدية، بل حول الشخص الذي يتحدث عن الجسد والحياة؛
أي حول خِطاب العِلم. كان ثَمَّة ما يثير ارتعاش الكلمات. كان يتكون بشيء بعيد الاحتمال:
علم — اعتراف، علم يرتكز إلى طقوس الاعتراف ومضامينه، علم يستلزم هذا الانتزاع المتعدد
والمُلِح، ويُقدِّم ذاته كموضوع تصريح، لما لا يمكن التصريح به. لقد آثار ذلك الاستنكار
طبعًا، والاشمئزاز على أي حال من الخطاب العلمي المُتمأسِس جدًّا في القرن التاسع عشر،
حين
أخذ على عاتقه كل هذا الخطاب السفلي، مما اعتُبِر مفارَقة نظرية ومنهجية أيضًا. كانت
المناقشات الطويلة حول إمكانية تكوين علم للذات، وصِحَّة الاستبطان، وبَداهة المعاش،
أو
حضور الشعور في الذات، كانت كلها تَرد بلا شك على المسألة التي كانت تُلازِم عمل خِطابات
الحقيقة في مجتمعنا: هل في وُسعِنا أن نُمفصِل إنتاج خطابات الحقيقة وفقًا للنموذج القانوني
— الديني القديم للاعتراف، وانتزاع البوح بالسر وفقًا لقاعدة الخطاب العلمي؟ لندعهم يقولون
ما يشاءون أولئك الذين يعتقدون أن حقيقة الجنس طُمِست في القرن التاسع عشر بشدة لم يسبق
لها
مثيل، عبْر آلية عرقلة مخيفة ونقص أساسي في الخطاب. نقص؟ لا، بل زيادة فائقة، وتكرار،
وخطابات أكثر من اللازم بالأحرى، لا خطابات أقل مما هو كافٍ. في كل الأحوال ثَمَّة تداخُل
بين طريقتين لإنتاج الحقيقة: إجراءات الاعتراف، والخطابية العلمية.
وبدل أن نَقوم بإحصاء الأخطاء، والسذاجات والنزعات الأخلاقية التي ملأت خطابات الحقيقة
حول الجنس في القرن التاسع عشر، فمن الأفضل أن نكشف عن الطرائق التي شغلت بها إرادة المعرفة
هذه، المتعلِّقة بالجنس والمميِّزة للغرب الحديث، طقوس الاعتراف في ترسيمات الدقة العلمية:
كيف توصَّل المعنيون إلى تكوين هذا الانتزاع الهائل والتقليدي من الاعترافات الجنسية
ضمن
أشكال علمية؟
-
(١)
بواسطة الترميز العيادي ﻟ «انتزاع الكلام»: دمج العلماء الاعتراف بالفحص
العيادي، وما يقوله الشخص عن نفسه، بعلامات وأعراض ذات رموز ممكنة الحل؛
والاستجواب، والاستمارة الوجيزة، والتنويم المغناطيسي بإحياء الذكريات،
والتداعيات الحرة، هذه كلها وسائل لإعادة إدراج الإجراء الاعترافي في إطار
ملاحظات مقبولة علميًّا.
-
(٢)
بواسطة مسلَّمة وجود سببية عامة ومنتشرة. فوجوب قول كل شيء، وإمكانية السؤال
عن كل شيء، سيجدان تبريرًا لهما في المبدأ القائل إن الجنس مُتمتِّع بقوة سببية
متعدِّدة الأشكال ولا تزول، فالحدث الأكثر خفَاء في السلوك الجنسي — عارضًا كان
أو انحرافًا، نقصانًا كان أو زيادة — قادر حسبما هو مُفترَض على إحداث النتائج
الأكثر تنوعًا طوال مراحل الحياة. ليس ثَمَّة مرض أو اضطراب جسدي لم يَتصوَّر
له القرن التاسع عشر سببًا جنسيًّا جزئيًّا على الأقل. لقد نَسج الطب في ذلك
العصر شبكة كاملة من السببية الجنسية لكل من عادات الأطفال الرديئة، وأمراض
السُّل الرئوي عند البالغين، والسَّكتات الدماغية لدى الشيوخ، والأمراض
العصبية، والتشويه الخَلْقي في النوع البشري. قد تبدو لنا هذه الشبكة خيالية؛
فالمبدأ القائل إن الجنس هو «سبب كل شيء أو أي شيء» هو المقابل النظري لشرط
تِقَني؛ أي تشغيل إجراءات اعتراف کامل، دقيق، ومستمر في إطار ممارَسة ذات طابع
علمي. إن الأخطار غير المحدودة التي يحملها الجنس معه تُبرِّر الطابع الشامل
للتحقيق الذي يتم إخضاعه له.
-
(٣)
بواسطة مبدأ الاستتار الباطني للجنسانية: إذا كان يجب انتزاع حقيقة الجنس
بواسطة تقنية الاعتراف، فليس فقط لأن قول هذه الحقيقة صعب، أو لأن موانع الحشمة
تَحُول دون ظهورها؛ ولكن لأن عمل الجنس غامض؛ ولأن طاقته وكذلك آلياته محتجبة.
ولأن قدرته العلمية سِرِّية جزئيًّا. لقد غيَّر القرن التاسع عشر موضع الاعتراف
بجعله جزءًا من مشروع خطاب علمي. فالاعتراف لم يَعُد يتناول فقط ما تريد الذات
أن تخفيه؛ ولكنه بدأ يتناول ما يخفى على الإنسان نفسه، وما لا يمكن أن يبين إلا
شيئًا فشيئًا وبعمل اعترافي يُساهِم فيه، المستجوِب والمستجوَب، كل من جانبه.
إن مبدأ الاستتار الجوهري للجنسانية يسمح بِمفصَلة الإكراه لتحقيق اعتراف صعب
على ممارَسة علمية. فلا بد من انتزاع هذا الاعتراف حتى بالقوة، ما دام أنه
يتخفَّى.
-
(٤)
بواسطة طريقة التأويل: إذا كان على المرء أن يعترف، فليس لأن مَن يعترف له
يملك سلطان العفو والمؤاساة والتوجيه، بل لأن صنع الحقيقة يجب أن يَمرَّ عبْر
هذه العلاقة، إذا أردْنا إثبات صحته علميًّا. فلا تكمُن الحقيقة في المعترِف
وحده الذي ينقلها جاهزة إلى النور، بل هي تتكون من عمل شخصين: فهي موجودة، إنما
ناقصة، تخفى على ذاتها عند من يتكلم، ولا يمكن أن تكتمل إلا عند مَن يتلقاها.
ويتعين على هذا الأخير أن يقول حقيقة هذه الحقيقة الخفية. يجب أن يقرن إفشاء
الاعتراف بحل رموز ما يُقال فيه. ومن يصغي إلى الاعتراف لن يكون فقط سيد
المغفرة، والقاضي الذي يدين أو يبرئ، بل سيكون سيد الحقيقة ووظيفته التأويلية.
بالنسبة للاعتراف لا تقوم سلطته فقط على المطالَبة به قبل أن يحصل، أو على
التقرير بشأنه بعد أن يحصل. سلطته تقوم على تكوين خطاب الحقيقة من خلال
الاعتراف وحل رموزه. عندما جعل القرن التاسع عشر من الاعتراف ليس برهانًا بل
علامة، ومن الجنس موضوعًا للتفسير، فإنه بذلك يكون قد استطاع أن يشغل إجراءات
الاعتراف في التشكيل المنتظم لخطاب علمي.
-
(٥)
بواسطة طَبنَنة نتائج الاعتراف؛ يتم الحصول على الاعتراف ونتائجه من خلال
إعادة صياغتهما «في عبارات علمية» تحت شكل عمليات علاجية. مما يعني أولًا أن
ميدان الجنس لن يوضع فقط في نطاق الخطأ والخطيئة والإفراط والمخالَفة، ولكن ضمن
نظام الحالات العادية والمَرَضية (الذي ليس سوى نقل لذلك النطاق)، للمرة
الأولى، تُحدَّد مَرضِيَّة (Morbidité) خاصة
بالجنس؛ فيظهر الجنس كميدان ذي هشاشة مَرَضية عالية: سطح لانعكاس الأمراض
الأخرى، إنما أيضًا مركَز لوصف أمراض خاصة بالغريزة والميول، والتطورات،
والملذَّات، والسلوك، وهذا يعني أيضًا أن الاعتراف سيستمد مَعناه وضرورته من
التدخلات الطبية؛ فهو مطلوب من الطبيب، ضروري للتشخيص، وفعَّال بحد ذاته في
المعالَجة. فالحقيقة تَشفي إذا قِيلت في الوقت المناسب، لمن يجب أن تقال، ومن
قِبَل الشخص الذي هو في آنٍ معًا مالكها والمسئول عنها.
لنأخذ بعض السمات التاريخية الكبرى، إن مجتمعنا، بتحطيمه تقاليد الفن الشبقي، زوَّد
نفسه
بعلم جنسي؛ وعلى الأصح، تابَع مهمة إنتاج خطابات صحيحة عن الجنس، وذلك بتكييف الإجراء
الاعترافي القديم مع قواعد الخطاب العلمي، ولو بشيء من المَشقَّة. إن العلم الجنسي المنتشر
منذ القرن التاسع عشر حافَظ بشكل تناقضي، كنواة له، على طقس الاعتراف الإلزامي والكامل
الفريد من نوعه، الذي كان أول تقنية لإنتاج حقيقة الجنس في الغرب المسيحي. منذ القرن
السادس
عشر، انفصل هذا الطقس الديني شيئًا فشيئًا عن سر التوبة، وعن طريق إرشاد النفوس وتوجيه
الضمائر — فن الفنون — هاجر نحو علم التربية، ونحو العلاقات بين البالغين، والأطفال،
ونحو
الروابط العائلية، والطب، وطب الأمراض النفسية والعقلية. على أي حال، منذ مائة وخمسين
عامًا، نشأتْ جاهزية مُعقَّدة لإنتاج خطابات حقيقية عن الجنس: جاهزية تتجاوَز التاريخ
بكثير؛ لأنها تربط فريضة الاعتراف القديمة بطرائق الإصغاء العيادي. ومن خلال هذه الجاهزية،
ظهر شيء شبيه ﺑ «الجنسانية» وكأنه حقيقة الجنس وملذاته
١٢
«الجنسانية» (La Sexualité): متضايفة مع تلك الممارَسة
الخطابية النامية ببطء، هي العلم الجنسي (Scientia
Sexualis) باللاتيني. لا تُعبِّر الخصائص الأساسية لهذه الجنسانية عن تصور
مشوَّش نوعًا ما بالإيديولوجيا، ولا عن تجاهُل تحثُّ عليه النواهي؛ إنها تتوافق مع
المتطلبات الوظيفية للخطاب الذي عليه أن ينتج حقيقته. عند نقطة التقاء تقنية اعترافية
وخطابية علمية، حيث كان لا بد من إيجاد بعض آليات التوفيق الكبرى بينهما (مثلًا: تقنية
الإصغاء، فرضية السببية، مبدأ الاستتار، قاعدة التأويل، ضرورة الطبْنَنة)، في هذه النقطة
تحدَّدت الجنسانية بكونها «في طبيعتها»: فهي ميدان مفتوح على سياقات مَرَضية، ويستدعي
بالتالي تدخلات علاجية أو تطبيعية؛ حقل من الدلالات التي ينبغي حل رموزها؛ موضع سياقات
تُخفِيها آليات نوعية؛ مركز علاقات سببية غير محددة؛ كلام غامض ينبغي في آن واحد الكشف
عنه
والإصغاء إليه، ذلك هو «اقتصاد» الخطابات، أعني تقنيتها الداخلية، ومقتضيات عملها والخطط
(التكتيكات) التي تستخدمها، والنتائج السُّلطوية التي ترتكز إليها والتي تنقلها، هذا
هو
المقصود، وليس مجموعة من التمثيلات التي تُحدِّد الخصائص الأساسية لما تقوله. إن تاريخ
الجنسانية — أي ما عمل في القرن التاسع عشر كميدان لحقيقة نوعية — يجب أن يُكتَب قبل
كل شيء
من زاوية تاريخ الخطابات.
لنقدم فرضية العمل العامة: إن المجتمع الذي نما في القرن الثامن عشر — والذي في وُسعنا
أن
نسميه كما نشاء بورجوازيًّا، رأسماليًّا، أو صناعيًّا — لم يُجابِه الجنس برفضٍ أساسي
للاعتراف به. لقد استخدم، بالعكس، جهازًا كاملًا لينتج حوله خطابات حقيقية؛ ليس فقط أنه
تحدث عنه كثيرًا، وأجْبَر كل شخص على الحديث عنه، لكنَّه شرع في صياغة حقيقته المنظمة،
كما
لو أنه كان يشتبه بوجود سر جوهري فيه، كما لو أنه كان بحاجة إلى إنتاج هذه الحقيقة، كما
لو
كان جوهريًّا بالنسبة له أن يكون الجنس مندرجًا ليس فقط في اقتصاد لِلذة، بل في نظام
معرفي
منسَّق. وهكذا، أصبح الجنس شيئًا فشيئًا موضوع الشبهة الكبيرة، والمعنى الشامل والمقلق
الذي
يجتاز، رغمًا عنَّا، تصرفاتنا وحياتنا، نقطة الضعف التي منها تنفذ إلينا مخاطر الشر،
وذلك
الجزء من الليل الذي يحمله كل منا في ذاته. الجنس هو دلالة شاملة، وسر عام، وسبب حاضر
في كل
موجود. وخوف لا ينقطع. إلى حدِّ أن ثمة سياقَين ينموان في «مسألة» الجنس هذه،
(بمعنَيَيهِما، كاستجواب وكطرح إشكالي، وكمطالبة بالاعتراف ودمج في حقل من العقلانية)،
ويُحيل أحدهما إلى الآخر باستمرار: نطلب إليه (أي الجنس) أن يقول الحقيقة (ولكن، بما
أن
السر وبما أنه يرهب من نفسه، فإننا نحتفظ لذواتنا بأن نقول، نحن، الحقيقة الموضَّحة أخيرًا
والمفكَّكة رموزها عن حقيقته)؛ ونطلب إلى الجنس أن يقول لنا حقيقتنا، أو بالأحرى، نطلب
إليه
أن يقول لنا حقيقة ذواتنا، المخفِيَّة تمامًا والتي نعتقد أننا نمتلكها كشعور مباشِر.
نقول
للجنس حقيقته بحل رموز ما يقوله لنا عنها، ويقول لنا حقيقتنا بتحرير ما يتخفَّى منها.
ومن
هذه اللعبة تَكوَّنت ببطء، منذ قرون عدة، معرفة لِلذات، معرفة لا لشكلها بقدر ما هي معرفة
لما يُجزِئها، وربما لما يحددها، إنما خصوصًا لما يجعلها تهرب من ذاتها، لقد بدا ذلك
مفاجئًا، لكنه قلما ينبغي أن يدهشنا حين نفكر بالتاريخ الطويل للاعتراف المسيحي والقضائي،
وبتحوُّلات وتبدُّلات ذلك النوع من المعرفة السُّلطة، الأساسي جدًّا في الغرب الذي هو
الاعتراف؛ فقد أخذ مشروع علم للذات يدور حول الجنس، وفقًا لدوائر ضيقة أكثر فأكثر. فالسببية
في الذات، ولا شعور الذات، وحقيقة الذات في الآخر الذي يعرف، ومعرفتها الباطنية لما لا
تعرفه هي نفسها، كل ذلك كان له أن ينتشر في خطاب الجنس. لم يحدُث ذلك بسبب خاصية طبيعية
ملتحمة بالجنس عينه، إنما تبعًا لتكتيكات سُلطة محايثة لهذا الخطاب.
•••
العلم الجنسي مقابل الفن الشبقي طبعًا، ولكن تجدر الملاحظة إلى أن الفن الشهوي
(ars erotica) لم يختفِ مع ذلك من الحضارة الغربية. كما
أنه لم يكن دائمًا غائبًا عن الحركة التي تم بواسطتها إنتاج علم الشأن الجنسي. لقد كانت
هناك مجموعة كبيرة من الأساليب الغربية من الفن الشبقي في الاعتراف المسيحي، وخصوصًا
في
توجيه الضمير وفحصه، وفي البحث عن الاتحاد الروحي ومحبة الله: فالتوجيه من قِبل المعلِّم
طوال مدة التلقين، تعزيز التجارب حتى في مكوِّنَاتها الجسدية، زيادة النتائج بواسطة الخطاب
الذي يرافقها، ظاهرات الاستحواذ والانخطاف التي حصلت بتواتر في كَثْلَكة عهد الإصلاح
المضاد، هذه كلها كانت دون ريب الآثار غير المنضبطة التي تجاوزت التقنية الشبقية الماثلة
في
هذا العلم الدقيق، علم الجسد. ولا بد من التساؤل ما إذا كان العلم الجنسي — تحت ستار
وضعيته
المحتشمة — منذ القرن التاسع عشر كفن شبقي، أقله من خلال بعض أبعاده، لعل إنتاج الحقيقة
هذا، رغم النموذج العلمي الذي أضافه، قد ضاعَف ملذاته الباطنية وقوَّاها، وربما حتى خلقها،
يقال مرارًا إننا لم نكن قادرِين على تَخيُّل ملذات جديدة. لقد ابتكرْنا، على الأقل،
لذة
أخرى: لذة في حقيقة اللذة، لذة في معرفتها، وعرضها، واكتشافها، والافتتان برؤيتها، بقولها،
وفي سحر الآخَرين وأسرهم بها، ونقلها إليهم في السر، وإظهارها عن طريق الحيلة. إنها لذة
مختصة بالخطاب الصحيح حول اللذة، لا ينبغي أن نبحث عن أهم العناصر التي تُكوِّن الفن
الشبقي
المرتبط بمعرفتنا للجنسانية، في المثال الذي وعَدَنا به الطب، مثال الجنسانية السليمة،
ولا
في الحلم الإنسانوي (Humaniste) بجنسانية كاملة ومنشرحة،
ولا خصوصًا في نشوة غنائية لحظة الرعشة القصوى والمشاعر الطِّيبة للطاقة البيولوجية؛
(فلا
يكون المقصود بذلك إلا استخدامها التطبيعي) إنما ينبغي البحث عن تلك العناصر في مضاعَفة
وتقوية الملذات المرتبطة بإنتاج الحقيقة حول الجنس. إن المؤلَّفات المتعالِمة، المكتوبة
والمقروءة، والاستشارات والفحوص، والقلق من الأضرار للإجابة عن الأسئلة والمُتع التي
يشعر
بها المرء حين تُئوَّل أجوبته، وذلك العدد الكبير من الروايات التي يسردها الإنسان لنفسه
وللآخرِين، وذلك القدر الكبير من الفضول، والعدد الوافر من الإسرارات التي يساند فضيحتها،
ولو بشيء من الارتجاف، واجب قول الحقيقة، وكثرة الأهواء السرية التي يكلف — غاليًا —
الحق
في الهمس بها لمن يحسن الإصغاء إليها، وباختصار «لذة التحليل» الهائلة (بالمعنى الأوسع
لكلمة تحليل) التي أثارها الغرب ببراعة منذ عدة قرون. كل هذا يُكوِّن الأجزاء المبعثرة
لفن
شبقي ينقله الاعتراف وعلم الجنس بشكل خفي. هل يجب الاعتقاد بأن علمنا الجنسي ليس سوى
شكل
حاذق جدًّا من أشكال الفن الشبقي؟ وأنه النسخة الغربية المنقحة لذلك التقليد الضائع في
الظاهر؟ أم يجب الافتراض بأن ليست سوى نتاجات فرعية لعلم جنسي، ومنفعة تساند جهوده
العديدة؟
على أي حال، فإن فرضية وجود سلسلة قمعية يمارسها مجتمعنا على الجنس، ولأسباب اقتصادية،
تبدو هشة جدًّا، إذا كنا نريد أن نفسر كل هذه السلسلة من التعزيزات والتقويات التي أظهرتها
جولة أفق أولية: تكاثر الخطابات، والخطابات المُدرَجة بعناية في إطار متطلبات سلطوية،
ترسيخ
التنافر الجنسي وتكوين جاهزيات قابلة، ليس فقط، لعزله بل لاستدعائه، وإثارته، وتحويله
إلى
مراكز انتباه وخطابات وملذات، إنتاج مفروض للاعتراف، والانطلاق منها لإنشاء نظام معرفي
شرعي، واقتصاد للملذات المتعدِّدة. ليس المقصود آلية ضد أو رفض سلبية، بقدر ما هو إشعال
شبكة دقيقة من الخطابات، والمعارف والملذَّات، والسُّلطات وليس المقصود حركة تُصِر على
دفع
الجنس المتوحِّش إلى منطقة مُظلِمة وصعبة البلوغ. فالمقصود هو بالعكس، سياقات تنشر هذا
الجنس على سطح الأشياء والأجساد، فتثيره وتكشف عنه، وتجعله يتحدَّث، تغرسه في الواقع،
وتأمره بقول الحقيقة: إن ذلك هو بمثابة بَريق واضح للشأن الجنسي تعكسه كثرة الخطابات
وعناد
السُّلطات ولعبة المعرفة واللذة.
هل هذا كله وهم؟ هل هذا كله انطباع متسرع من شأن النظرة الأكثر جدية أن تكتشف وراءه
ميكانية القمع الكبيرة المعروفة؟ ألا ينبغي أن نهتدي وراء هذه الومضات إلى الشريعة القائمة
التي تقول دائمًا لا؟ إن التحقيق التاريخي سيجيب — أو يجب أن يجيب — عن ذلك. وهذا التحقيق
يجب أن يتناول الأمور التالية: كيف تكوَّنَت معرفة الجنس منذ أكثر من ثلاثة قرون من الزمن؟
كيف تكاثرت الخطابات التي اتَّخذَت من الجنس موضوعًا لها؟ وما هي الأسباب التي حملتنا
على
الإفراط في تقدير الحقيقة، التي ظنت هذه الخطابات أنها أنتجَتْها؟ ربما ستتوصل هذه
التحليلات التاريخية إلى تبديد ما توحي به جولة الأفق الأولى هذه، لكن الفرضية الأصلية
التي
انطلقت منها، والتي أريد التمسك بها أطول مدة ممكنة، هي أن جاهزيات السُّلطة والمعرفة،
والحقيقة والملذات هذه، وجاهزيات القمع المختلفة هذه، ليست بالضرورة ثانوية ومتفرِّعة.
وأن
القمع ليس على الإطلاق أساسيًّا ولا رابحًا. المطلوب إذًا هو أن نحمل هذه الجاهزيات على
مَحمَل الجد، وأن نعكس وجهة التحليل: بدل أن تنطلق من قمع مسلَّم به عمومًا، ومن جهل
مُقدَّر بما نظن أننا نعرفه، يجب أن تنطلق من هذه الآليات الإيجابية التي تنتج المعرفة،
تضاعف الخطابات، تَستحِث اللذة، وتُولِّد السُّلطة. يجب أن نتتبع هذه الآليات في شروط
ظهورها وعملها، أن تعرف كيف تتوزَّع بالنسبة لها وقائع المنع أو الإخفاء المرتبطة بها.
المطلوب، باختصار، هو أن نحدد استراتيجيات السُّلطة المحايثة لإرادة المعرفة هذه، وأن
نؤسِّس بشأن حالة الجنسانية المحدَّدة «الاقتصاد السياسي» لإرادة المعرفة.