جاهزية الجنسانية
ما هو المقصود في سلسلة الدراسات هذه؟ إدراج حكاية الحلى المفشية للأسرار في التاريخ:
إذًا، يجدر بنا التساؤل قبل كل شيء: ما هو هذا الأمر؟ ولماذا هذه المطارَدة الكبيرة لحقيقة الجنس وللحقيقة في الجنس؟
ومن أجل تحديد موقع الأبحاث المقبلة، نعرض بعض المقترحات العامة المتعلقة بالرهان، والطريقة، والميدان المطلوب اجتيازه، والتقسيمات المرحلية التي يمكننا إقرارها مؤقتًا.
(١) رهان Enjeu
لماذا هذه الأبحاث؟ إنني أعرف جيدًا أن ظلًّا من الشك قد خرق الملاحظات الإجمالية الواردة أعلاه، ويوشك الشك حقًّا أن يقضي على التحقيقات الأكثر تفصيلًا التي صمَّمتُ أن أجريها. كرَّرتُ مائة مرة أن تاريخ القرون الأخيرة في المجتمعات الغربية، قلما كشف عن دور سلطة قمعية أساسًا. لقد صممتُ أن أستبعد من خطتي مفهوم القمع، متظاهرًا بالجهل بأن ثَمَّة نقدًا تم توجيهه وبشكل أكثر جذرية طبعًا، نقدًا جرى على مستوى نظرية الرغبة. أن لا يكون الجنس «مقموعًا»، فهذا ليس في الواقع زعمًا جديدًا. منذ زمن بعيد، قال بعض المحللين النفسانيين ذلك. لقد رفضوا التسليم بالآلية البسيطة التي يتصورها المرء بطيبة خاطر، حين يجري الحديث عن القمع. وبدت لهم فكرة طاقة عاصية يقتضي إخمادها، فكرة غير ملائمة لتفسير كيفية تمفصل السُّلطة والرغبة. وهم يفترضون أنهما مرتبطتان بطريقة أكثر تعقيدًا وأصالة من تلك اللعبة التي تحصل بين طاقة وحشية، طبيعية وحية، صاعدة من أسفل دائمًا، وبين نظام آتٍ من فوق في محاولة لإعاقتها. لا مجال للتصور بأن الرغبة مقموعة، وذلك لسبب بسيط هو أن القانون المكون للرغبة والنقص، هو الذي ينشئها. فتوجد العلاقة السُّلطوية حيث توجد الرغبة: من الوهم إذن أن نُشهِّر بها في قمع قد يحصل بعد فوات الأوان. ومن التفاهة أيضًا أن ننطلق بحثًا عن رغبة خارج إطار السُّلطة.
والحال، أنني تكلَّمتُ على نحو غامض بإصرار، كما لو كان الأمر يتعلق بمعانٍ متناظرة، تارة عن القمع وطورًا عن القانون، والنهي والرقابة. تجاهلت — عن عناد أو إهمال — كل ما قد يميز مَضامِين هذه المعاني النظرية أو العملية. وأدرك جيدًا أنه يحق للبعض أن يقول لي: حين تستند بلا انقطاع إلى تقنيات سُلطوية إيجابية، تحاول أن تخرج رابحًا في الحالتين: تُربِك خصومك، بالظهور بمظهر الشخص الأضعف؛ وبمناقشة مسألة القمع وحْدَها، تريد أن تقنعهم تعسفيًّا، بأنك تخلَّصتَ من مشكلة القانون؛ ومع ذلك، فإنك تحتفظ بالنتيجة العملية الأساسية من مبدأ السُّلطة — القانون، وهي أن المرء لا يستطيع أن يَفلِت من السُّلطة، وأن السُّلطة موجودة دائمًا في الأصل، وأنها تشكِّل الشيء ذاته، الذي يحاولون مقاومتها به، فمن فكرة سُلطة — قانون، احتفظت بالنتيجة السياسية الأكثر تعقيمًا لتبقيها في تصرفك الشخصي.
إن رهان التحقيقات التي سَتَلِي هو التقدم باتجاه، يعتمد «تحليلية» للسلطة أكثر منه باتجاه «نظرية» للسلطة؛ أعني باتجاه تحديد الميدان النوعي الذي تُشكِّله العلاقات السُّلطوية، وتعيين الأدوات التي تسمح بتحليله. ويبدو لي أن هذه التحليلية لا يمكن أن تتكوَّن إلا إذا تحرَّرْنا من تصوُّر مَعيَّن للسلطة، سأسمِّيه تصورًا «قانونيًّا — خطابيًّا» وسيعرف القارئ بعد قليل سبب ذلك. هذا المفهوم هو الذي يُوجِّه موضوعة القمع، وكذلك نظرية القانون المكون للرغبة. بعبارة أخرى، إن ما يميز الواحد عن الآخر؛ أي تحليل قمع الغرائز عن تحليل قانون الرغبة، هو بكل تأكيد، طريقة إدراك طبيعة الميول الغريزية وديناميتها، وليس طريقة إدراك السُّلطة. لقد استعان التحليلان بتمثيل مشترك للسلطة، التي تقود إلى نتيجتين مُتناقضتين، حسب طريقة ممارستها، وحسب موقعها المعترَف به إزاء الرغبة: فهي تَقود، إما إلى وعد «تحرير»، إذا لم يكن للسلطة سوى تأثير خارجي على الرغبة، وأما إذا كانت مُكوِّنة للرغبة ذاتها، فإنها ستقود إلى التأكيد التالي: إنك لا تزال واقعًا في الشَّرك. لا تظنن مع ذلك أن هذا التمثيل خاص بالذين يثيرون مسألة العلاقات بين السُّلطة والجنس؛ إنه في الواقع أكثر عمومية. غالبًا ما نجده في التحليلات السياسية للسُّلطة وهو متأصِّل بلا شك في تاريخ الغرب. وهذه بعض أهم خصائصه: العلاقة السلبية: لا تقوم بين السُّلطة والجنس، إلا علاقة سلبية دائما؛ رد، وصد، ورفض، حجز ومنع، أو أيضًا إخفاء أو تقنيع. السُّلطة لا «تستطيع» شيئًا حيال الجنس والملذَّات، ما عدا أن تقول لها: لا؛ وإذا أَنتجَت شيئًا، فهي تنتج حالات من الغياب أو فجوات. فالسُّلطة تلغي عناصر مُعيَّنة، تُحدث انقطاعات، تفصل ما هو مُتَّصل، وتُعيِّن حدودًا. وآثارها تتخذ شكلًا عامًّا هو الحدُّ والنقص.
- سلطان القاعدة: السُّلطة هي جوهريًّا الشيء الذي يملي قانونه على الجنس. مما يعني أولًا، أن الجنس موضوع من قِبَل السُّلطة تحت نظام ثنائي: مشروع وغير مشروع، مباح وممنوع. ثم يعني أن السُّلطة تفرض على الجنس «نظامًا» يعمل في الوقت ذاته كنوع من المعقولية، يُفهَم الجنس انطلاقًا من علاقته بالقانون. ويعني ذلك أخيرًا أن السُّلطة تعمل بإطلاق القاعدة التالية: يتم تأثير السُّلطة على الجنس بواسطة اللغة، أو بالأحرى، بواسطة فِعْل خطاب يخلق حالة قانونية بمجرَّد النطق به. السُّلطة تتكلَّم وهذه هي القاعدة. أما شكل السُّلطة الصِّرف، فنجده في وظيفة المشترع. وتكون طريقة عملها بالنسبة إلى الجنس ذات طابع قانوني — خطابي.
- دورة النهي: لن تقترب، لن تلمس، لن تستهلك، لن تَلتَذَّ، لن تتحدث، لن تظهر للعيان. وفي أقصى الحالات، لن تكون موجودًا، إلا في الظل، وفي الخفاء. لا تُمارس السُّلطة على الجنس غير قانون المنع. هدفها هو أن يتخلَّى الجنس عن نفسه. ووسيلتها تهديد الجنس بعقاب ليس سوى إزالته من الوجود، تَخلَّ عن نفسك وإلا حُذِفتَ. لا تظهر إذا كنت لا تريد أن تختفي. لن يُحافَظ على وجودك إلا في مقابل حذفك. لا تُكرِه السُّلطة الجنس إلا بنهي يُخيِّر بين لا وجودين.
- منطق الرقابة: يُفتَرض أن يتخذ هذا المنع ثلاثة أشكال: التأكيد أن هذا ليس مسموحًا به، ومنع أن يُقال هذا، ونَفي وجود هذا، أشكال ثلاثة يصعب التوفيق بينها ظاهرًا. ولكن، هنا، يستطيع المرء أن يَتصوَّر نوعًا من المنطق التسلسلي الذي يُميِّز آليات الرقابة. إنها تربط بين اللاموجود واللامشروع والمتعذَّر التعبير عنه، بحيث يكون كل من الثلاثة أساسًا ونتيجة للآخر في آنٍ معًا: لا ينبغي أن نتحدَّث عمَّا هو ممنوع إلى أن يُلغى من الواقع، ولا يحق للاموجود بأي ظهور، حتى في نطاق الكلام الذي يُعلِن عن عدم وجوده، ما ينبغي أن نخفيه مُلغًى من الواقع كالشيء الممنوع منعًا مطلقًا. قد يكون منطق السُّلطة التي تُمارَس على الجنس هو المنطق المفارِق لقانون، يمكن التعبير عنه على الشكل التالي: أمر بِعَدم الوجود وبِعَدم الظهور، وبالصمت.
- وحدة الجاهزية: تُمارَس السُّلطة على الجنس بالطريقة نفسها على جميع المستويات. فمن أعلى إلى أسفل، في قراراتها الإجمالية، كما في تدخلاتها الجزئية الدقيقة؛ وأيًّا تكن الأجهزة أو المؤسَّسات التي تعتمد عليها، تتصرف السُّلطة بشكل مُتماثِل ومكثَّف. إنها تعمل وفقًا لأجهزة القانون والنهي والرقابة، البسيطة والمتكررة؛ فمن الدولة إلى الأسرة، من الأمير إلى الأب، من المحكمة إلى العقوبات اليومية الصغيرة، من سلطات الهيمنة الاجتماعية إلى البنى المكوِّنة للذات نفسه، نجد شكلًا واحدًا عامًّا للسُّلطة على مستويات مختلفة. هذا الشكل هو القانون مع لعبة المشروع واللامشروع، والمخالَفة والعقاب، سواء أعطينا السُّلطة شكل الأمير الذي يصوغ القانون، أو الأب الذي يمنع، أو المراقِب الذي يُسكِت، أو المعلم الذي ينطق بالقانون، فإننا في جميع الأحوال نُبسِّط السُّلطة في شكل قانوني، ونُحدِّد نتائجها كخضوع وطاعة. أمام سُلطة هي قانون، فإن الشخص المكوَّن كتابع — الذي تم «إخضاعه» — الذي يطيع. وفي مقابل التجانُس الشكلي للسلطة على امتداد هذه الهيئات، نجد شكل الخضوع العام عند الشخص الذي تُكرِهه، سواء تَعلَّق الأمر بالتابع إزاء الملك، والمواطن إزاء الدولة، والولد إزاء الأهل، والتلميذ إزاء المعلم. من جهة، سُلطة مُشرِّعة ومن جهة أخرى مأمور طائع.
إننا نجد إوَّالة السُّلطة المفترضة نفسها ضمن الموضوعة العامة القائلة إن السُّلطة تقمع الجنس، وضمن فكرة القانون المكوِّن للرغبة. وهذه الإوَّالة محدَّدة بصورة تقييدية بغرابة. أولًا: الأمر يطال سُلطة فقيرة في إمكاناتها، مُقتصِدة في طرائق عملها، رتيبة في المخططات التي تستخدمها، عاجزة في الإبداع، وكأنها محكوم عليها بأن تُكرِّر ذاتها باستمرار. ثم لأنها سُلطة لا تتمتع بالقدرة على قول «لا». ولما كانت عاجزة عن إنتاج أي شيء، وقادرة فقط على وضع حدود مُعيَّنة، فإنها جوهريًّا مضادة للطاقة، تلك هي مفارَقة فعاليتها: إنها لا تستطيع شيئًا سوى أن تمنَع مَن تُخضِعه مِن فعل أي شيء بدوره، أو أن تَدعَه يفعل ما تريده هي أخيرًا؛ لأنها سُلطة ذات نموذج قانوني أساسيًّا، مرتكز على منطوق القانون وحده وعلى عمل النهي دون سواه. إن جميع أشكال الهيمنة والإخضاع والقهر تَئُول في النهاية إلى نتيجة واحدة هي: الطاعة.
لماذا نقبل بمثل هذه السهولة بهذا المفهوم القانوني للسلطة؟ ولماذا نَقبل تاليًا بإلغاء كل ما يمكن أن يُشكِّل فعاليتها المُنتِجة، وغِناها الاستراتيجي وإيجابيتها؟ في مجتمع كمجتمعنا حيث تكثر أجهزة السُّلطة، وتكون طقوسها جِد ظاهرة للعيان ووسائلها مضمونة، في هذا المجتمع الذي كان بلا شك أكثر إبداعًا من أي مجتمع آخَر في مجال الآليات السُّلطوية الدقيقة والبارعة؛ نتساءل لماذا هذا الميل إلى عدم الاعتراف بها، إلا في شكل المنع السلبي الهزيل؟ لماذا نحصر أجهزة الهيمنة في إجراءات قانون المنع وحدها؟
في الواقع، ظل النظام الملكي مهيمنًا على تصوُّرنا للسُّلطة، بالرغم من اختلاف العصور والأهداف: ذلك أن رأس المَلك لم يُقطَع أبدًا في الفكر والتحليل السياسي. من هنا الأهمية التي لا تزال تُعطَى، في نظرية السُّلطة، لمسألة الحق والعنف، والقانون واللاشرعية، والإرادة والحرية؛ وبشكل خاصٍّ، لمسألة الدولة والسيادة (حتى ولو كانت هذه السيادة مَفحوصة، لا في شخص الملك، بل في كائن جماعي). إن التفكير في السُّلطة انطلاقًا من هذه المسائل، يعني التفكير في هذه المسائل انطلاقًا من شكل تاريخي خاص جدًّا بمجتمعاتنا هو: المَلكية القانونية، التي هي خاصة جدًّا، ومُؤقَّتة رغم كل شيء؛ لأنه، وإن بقيت أو لا تزال باقية أشكال كثيرة من هذه المَلكية، فقد اخترقَته شيئًا فشيئًا آليات سُلطوية جديدة تمامًا، وهي على الأرجح يَتعذَّر إرجاعها إلى تمثيل (تصوُّر) الحق. وكما سنرى لاحقًا، فإن هذه الإواليات السُّلطوية هي، في قِسم منها على الأقل، تلك التي اهتمَّت منذ القرن الثامن عشر بحياة الناس، ككائنات حية. وإذا صحَّ أن الشأن القانوني قد أفاد لتمثيل سُلطة مركزة أساسيًّا حول الأخذ والموت، ولو كان هذا التمثيل غير كامل طبعًا، فإنه يَتنافر تمامًا مع الأساليب السُّلطوية الجديدة، التي تعمل لا بواسطة الحق بل بواسطة التقنية، لا بواسطة القانون بل بواسطة الضبط، ولا بواسطة العقاب بل بواسطة الرقابة، والتي تُمارَس على مستويات وحسب أشكال تتجاوز الدولة وأجهزتها. منذ قرون، دخلْنا في طراز مجتمعي يَتناقَص فيه إمكان أن يرمز الشأن القانوني إلى السُّلطة، أو أن يُشكِّل نسق تمثيلها. فالمنحنى الذي نسلكه يُبعدها أكثر فأكثر عن عهد الحق، الذي كان قد بدأ يتراجع إلى الماضي، حينما بدَت الثورة الفرنسية ومعها عصر الدساتير والقوانين یُبشِّران به لمستقبل قريب.
إن هذا التمثيل القانوني لا يزال سائدًا في التحليلات المعاصرة، التي تتناول علاقات السُّلطة بالجنس، والحال، أن المشكلة ليست في أن نعرف ما إذا كانت الرغبة غريبة تمامًا عن السُّلطة، أو ما إذا كانت مسابقة القانون كما يُظَن غالبًا، أو بالعكس ما إذا كان القانون هو الذي يُكوِّن الرغبة. فالمسألة ليست هنا. سواء كانت الرغبة في هذا أو ذاك، فإنَّنا نواصل تصوُّرَها، على أي حال، بالنسبة إلى سُلطة لم تزل قانونية وخَطابية، سلطة تَجد في لفظ القانون نقطتها المركزية. إننا لا نزال مُتعلِّقين بصورة معينة عن السُّلطة — القانون، وعن السُّلطة — السيادة، رسَمَها مُنظِّرُو الحق والمؤسَّسة المَلكية.
ومن هذه الصورة يجب أن نتحرَّر؛ أي من الامتياز النظري للقانون والسيادة، إذا أردْنا أن نحلل السُّلطة ضمن لعبة مجمل أساليبها الواقعية والتاريخية. يجب أن نبني تحليلية للسلطة التي لن تتخذ الحق بعد اليوم نموذجًا لها ورمزًا.
أعترف بطيبة خاطر أن مشروع كتابة هذا التاريخ للجنسانية، أو بالأحرى إجراء هذه السلسلة من الدراسات المتصلة بالعلاقات التاريخية بين السُّلطة والخطاب حول الجنس، هو مشروع دائري، بمعنى أن الأمر يتعلق بمحاولتين تُحيل إحداهما إلى الأخرى. لنحاول أن نتخلص من تمثيل قانوني وسلبي للسلطة، وأن تَعْدِل عن التفكير فيها من زاوية القانون والمنع والحرية والسيادة. ولكن، كيف نحلل عندئذٍ ما حدث في التاريخ الراهن بصدد ذلك الشيء من حياتنا وجسدنا، الأكثر حظرًا ظاهريًّا، الذي هو الجنس؟ كيف نُفذَت السُّلطة إلى الجنس إن لم يكن عَن طرق المنع والصد؟ وبأية آليات أو تكتيكات أو جاهزيات؟ ولكن، لنسلِّم في المقابل بأن فحصًا دقيقًا للأمور يكشف لنا بأن السُّلطة في المجتمَعات الحديثة، لم تحكم الجنسانية فعلًا، من قِبَل طريق القانون والسيادة. لنفرض أن التَّحليل التاريخي قد كشف عن وجود «تكنولوجيا» حقيقية للجنس أكثر تعقيدًا بكثير، وخصوصًا أكثر إيجابية من كونه مجرد حصيلة «دفاع» وحسب عندئذ، ألا يرغمنا هذا المثل — الذي لا يمكننا أن نقلل من اعتباره متميزًا، بما أن السُّلطة تعمل هنا أكثر من أي موضع آخر، كمنع ونهي — ألا يرغمنا على أن نعتمد، بشأن السُّلطة مبادئ للتحليل غير خاضعة لنظام الحق وشكل القانون؟ المطلوب إذًا هو، في آنٍ معًا، أن نكون شبكة جديدة للتفسير التاريخي، بِتبنِّي نظرية أخرى للسُّلطة، وأن نتقدَّم شيئًا فشيئًا نحو مفهوم جديد للسلطة بمزيد من التمحيص في جملة المادة التاريخية. فالمقصود هو، في آنٍ واحد، التفكير في الجنس بدون القانون، وفي السُّلطة بدون المُلك.
(٢) المنهج Méthode
إذن، هل يجب أن نقلب القاعدة ونقول إن السياسة هي الحرب التي نُواصلها بوسائل أخرى؟ إذا كنا لا نزال نريد الحفاظ على فارِق بين الحرب والسياسة، ربما علينا أن نقول بالأحرى إن تعدُّد موازين القوى هذا يمكن أن يرمز — جزئيًّا، لا كليًّا — إما في شكل «الحرب» أو في شكل «السياسة»، إنهما استراتيجيتان مختلفتان (إنما سريعتَا الوقوع الواحدة في الأخرى) لدمج موازين القوى المذكورة، غير المتوازنة، المتنافِرة، المُتقلِّبة والمتوترة.
حين نتبع هذا الخط، نستطيع أن نطرح عددًا من الافتراضات:
إن السُّلطة ليست شيئًا يُكتسَب، يُنتَزع أو يُقسَّم، ولا شيئًا يُحتَفظ به أو يُفقَد، السُّلطة تُمارَس انطلاقًا من نقاط لا تُحصى، وفي لعبة علاقات غير متكافئة ومتحركة.
إن العلاقات السُّلطوية ليست في موقع خارجانِي بالنسبة لأنماط أخرى من العلاقات (سياقات اقتصادية، صلات معرفية، علاقات جنسية)، إنما هي مُحايثة لها؛ إنها النتائج المباشرة للتقسيمات والتَّفاوتات والاختلافات التي تحصل فيها، وهي بالتبادل، الشروط الداخلية لهذه التمايزات. ليست العلاقات السُّلطوية في مواقع بنية فوقية تلعب دور المنع أو التجديد. إنما هي تُؤدِّي، حينما تكون، دورًا منتجًا بشكل مباشر.
إن السُّلطة تأتي من تحت؛ أي إنه لا يوجد في أساس العلاقات السُّلطوية، وكقاعدة عامة، تناقص مثنوي وإجمالي بين الحاكمين والمحكومين. إلا أن هذه الثنائية تنعكس من أعلى إلى أسفل، وعلى مجموعات ضيقة أكثر فأكثر حتى تصل إلى أعماق الجسم الاجتماعي. يجب أن نفترض بالأحرى أن علاقات القُرى المتعدِّدة التي تتكون وتَفعَل فِعلها في أجهزة الإنتاج، والعائلات، والجماعات الضَّيِّقة، والمؤسَّسات، إنما تفيد كركيزة لتوليد آثار تقسيمية كبيرة تجتاز الجسم الاجتماعي كله. عندئذ، تكون هذه الآثار التقسيمية خط قوة عامًّا يخترق المجابَهات المحلية ويربط فيما بينها. وطبعًا، بالمقابل، يجري بشأنها عمليات إعادة توزيع ورصف، ومجانسات وترتيبات تسلسلية وتقريبات معينة. فالهيمنات الكبرى هي النتائج التسلطية التي تدعم وتثير باستمرار حدة هذه المجابهات.
هكذا علينا ضمن حقل علاقات القوى هذا أن نحاول تحليل آليات السُّلطة. وبذلك نستطيع التخلص من مذهب القانون — السيد الذي جذب الفكر السياسي زمنًا طويلًا. وإذا كان صحيحًا أن «ماكيافيللي» كان أحد القلائل الذين عالَجوا موضوع سلطة الأمير من زاوية علاقات القوى — وكان ذلك بلا ريب سبب «وقاحته» — فقد يَتعيَّن علينا أن نخطو خطوة إضافية ونستغني عن شخصية الأمير، ونُفسِّر آليات السُّلطة انطلاقًا من استراتيجية مُحايَثة لعلاقات القوى.
هذا ما يؤدِّي بنا، قبل كل شيء، إلى طرح أربع قواعد، لكنَّ هذه القواعد ليست ضرورات منهجية، إنها، في الأكثر، توجُّهات احتياطية.
(٢-١) قاعدة المحايثة
يجب ألا نعتبر أنه يُوجَد مجال ما من مجالات الجنسانية يرتبط حكمًا، بمعرفة علمية، مجرَّدة وحرة، غير أن مقتضيات السُّلطة الاقتصادية أو الأيديولوجية … حرَّكت بشأنه آليات المنع. إذا كانت الجنسانية قد تكوَّنَت كميدان مفتوح للمعرفة، فذلك انطلاقًا من علاقات سلطوية تأسَّست كموضوع ممكن. وإذا كانت السلطة في المقابل قد تمكَّنَت من استهداف الجنسانية؛ فذلك لأن تقنيات معرفية وإجراءات خَطابية قد أهَّلَتها لذلك. فبين التقنيات المعرفية والاستراتيجيات السُّلطوية لا توجد أية عملة خارجانية، حتى لو أن لكل منها دورها النوعي، ولو أنها مُتمفصِلة على بعضها انطلاقًا من اختلافها. سننطلق إذًا مما يمكن تسميته «المراكز المحلية» للسلطة — المعرفة. لنأخذ مثلًا العلاقات التي تقوم بين التائب والمعرِّف أو بين المؤمِن والمرشِد. هنا وتحت إشارة «الشهوة» التي يجب السيطرة عليها، فإن أشكالًا مختلفة من الخطابات — فحص الضمير، استجوابات، اعترافات، تفسیرات، مقابلات — تنقل، بما يشبه حركة ذهاب واياب متواصلة، أشكالًا من الإخضاع وترسيمات من المعرفة. كذلك شكل جسم الطفل المراقب، منذ القرن الثامن عشر بخاصة، «مركزًا» محليًّا آخر للسلطة — المعرفة، إذا كان هذا الطفل مراقَبًا ومحاطًا في مهده وسريره وغرفته بدورية من الأهل، والمرضعات، والخدم، والمربين، والأطباء، المتنبِّهين جميعًا لأقل مظهر من مظاهر حياته الجنسية.
(٢-٢) قواعد المتغيرات المتواصلة
لا ينبغي البحث عمَّن يملك السلطة في نظام الجنسانية (الرجال، الراشدون، الأهل، الأطباء)، وعمَّن هو محروم منها (النساء، المراهقون، الأطفال، المرضى …)، ولا عمَّن له الحق في المعرفة ومن يتم إبقاؤه عُنوة في حالة الجهل. يجب أن نبحث بالأحرى عن مخطَّط التغيُّرات التي تستتبعها موازين القوى من جرَّاء لعبتها بالذات. ذاك أن «توزيعات السلطة» و«امتلاكات المعرفة» لا تمثل سوى مقاطع آنية، من سياق قلب العلاقة، أو النمو المتزامن لطرفيها. فعلاقات السلطة — المعرفة ليست أشكالًا معينة من التوزيع، بل هي «قوالب تحولات». إن المجموعة المكونة في القرن التاسع عشر من: الأب، والأم، والمربِّي، والطبيب حول الطفل وجنسه، أصابتها تغيرات مستمرة وانزياحات متواصِلة، كانت إحدى نتائجها الأكثر إذهالًا انقلابًا غريبًا؛ ففي حين أثيرت مسألة جنسانية الطفل، في البداية ضمن علاقة تقوم مباشَرة بين الطبيب والأهل (بشكل نصائح، وإرشادات لمراقبة الطفل، أو أخطار تُهدِّد مستقبله). فقد غدت مسألة جنسانية الراشدِين أنفسهم مطروحة، في النهاية، ضمن علاقة الطبيب النفساني بالطفل.
(٢-٣) قاعدة التحكُّم المطلق
(٢-٤) قاعدة التعدد التَّكتي للخطابات
إن المقصود، باختصار، هو أن نَتَّجه نحو مفهوم للسلطة يستبدل امتياز القانون بمنظور الموضوعية، وامتياز المحظور بمنظور الفعالية التكتية، ويستبدل امتياز السيادة بتحليل لحقل علاقات القوى المتعدد العناصر، والمتحرك، حيث تحصل نتائج تَسلُّطية إجمالية، إنما غير مستقرة كليًّا. يجب أن نُحِل النموذج الاستراتيجي محل نموذج الحق. وذلك ليس بدافع اختيار تأمُّلي أو أفضلية نظرية؛ بل بالفعل؛ لأن إحدى السمات الجوهرية للمجتمعات الغربية هي أن علاقات القوى التي طالما وُجِدت في الحرب، في جميع أشكال الحرب، تعبيرها الأساسي، قد تركَّزت شيئًا فشيئًا في نطاق السلطة السياسية.
(٣) الميدان Domaine
لا ينبغي أن نصف الجنسانية كنَزْوة جموحة، غريبة بطبيعتها عن السُّلطة وعاصية عليها بالضرورة، وأن السُّلطة بالمقابل تستنفذ قواها في إخضاع هذه النزوة وغالبًا ما تفشل في السيطرة عليها كليًّا. تبدو الجنسانية، بالأحرى، كنقطة عبور كثيفة جدًّا للعلاقات السُّلطوية بين الرجال والنساء، بين الشباب والشيوخ، بين الأهل والأولاد، بين المُربِّين والطلاب، بين الكهنة والعلمانيين، بين الإدارة والسُّكان. في إطار العلاقات السُّلطوية، ليست الجنسانية العنصر الأكثر خفاء. إنما هي، بالأحرى، من العناصر — الوسائل — الأكثر قابلية للاستعمال، صالحة لأكبر عدد من المناوَرات، ولأن تُشكِّل مرتكَزًا وملتقًى لأكثر الاستراتيجيات تنوُّعًا.
ليست هناك استراتيجية واحدة، شاملة، صالحة للمجتمع كله، وتطبق مع ذلك بطريقة واحدة على جميع مظاهر الجنس: لقد جَرَت، مثلًا، عبْر وسائل شتى محاولة حصْر الجنس كله في وظيفته الإنجابية، وفي شكله المتغاير بين ذكر وأنثى من البالغين، وفي شرعيته الزواجية، لكن هذه المحاوَلة قصرت عن عرض الأهداف المتعددة والوسائل الكثيرة المستخدمة في السياسات الجنسية التي عُنِيت بالجنسين، وبمختلف الأعمار والطبقات الاجتماعية.
-
هسترة (Hysterisation) جسد المرأة:١٢ ثمة سياق مُثلَّت المراحل بواسطته حُلِّل أولًا جسد المرأة — وُصف وشنع كجسد مُشبَّع تمامًا بالجنسانية، بعد ذلك، تم إدخال هذا الجسد في ميدان الممارسات الطبية تحت تأثير باثولوجيا مُختصة به. وأخيرًا، جرى ربط هذا الجسد عضويًّا بالجسم الاجتماعي (ليؤمن خصبه المنظَّم)،١٣ والحيز العائلي (ليكون فيه عنصرًا أساسيًّا ووظيفيًّا) وبحياة الأطفال (لينتجها ويضمنها بمسئولية بيولوجية — أخلاقية تدوم طوال فترة التربية). إن الأم، في صورتها السلبية «كامرأة عصابية»، هي الشكل الأكثر وضوحًا لهذه الهَسْترة.
-
تَرْبَنة (Pédagogisation)١٤ جنس الطفل: تؤكد هذه النظرة أمرين؛ أولًا: أن جميع الأطفال تقريبًا يستسلمون، أو قابلون للاستسلام لنشاط جنسي؛ وثانيًا: أنه كما كان هذا النشاط الجنسي غير مناسب، «طبيعيًّا» و«مخالفًا للطبيعة» في آنٍ معًا، فإنه ينطوي على أخطار جسدية وأخلاقية، فردية وجماعية؛ لقد تم تعريف الأطفال ككائنات جنسية «تمهيدية»، هي دون الجنس، وضمنه أصلًا، وواقعة على مِقْسم خطر؛ ويتعين على الوالدين والعائلات والمُربِّين والأطباء وعلماء النفس، فيما بعد، أن يعتنوا، بشكل متواصل، بهذه البزرة الجنسية القيمة والخطرة، الخطرة والعرضة للخطر؛ تظهر هذه التربنة خصوصًا في الحرب ضد العادة السرية، التي استمرت في الغرب حوالي قرنين من الزمن.
-
جَمعَنة (Socialisation) التصرفات الإنجابية: جمعنة اقتصادية: عبْر جميع أشكال التحريض أو اللجم في شأن خصب الزوجين، بواسطة تدابير «اجتماعية» أو ضريبية؛ وجمعنة سياسية: بتحميل الأزواج المسئولية تجاه الجسم الاجتماعي برمته (الذي ينبغي تقليصه أو بالعكس توسيعه)؛ وجمعنة طبية: من خلال الخطورة المرضية التي تهدِّد الفرد والجنس البشري، والمعرفة إلى ممارسات تحديد النسل.
-
أخيرًا، الطَّبْنَنة النفسية (Psychiatrisation) للذة المنحرفة: لقد عُزِلت الغريزة الجنسية كغريزة بيولوجية ونفسية مستقلة، وأُجرِي فحص عيادي لجميع أشكال الشذوذ التي قد تصيبها، ونُسب إلى الغريزة الجنسية دور في جعل السلوك بأسره سويًّا أو مرضيًّا؛ وأخيرًا جرى البحث عن تقنية إصلاحية لمعالَجة هذه التصرفات المنحرفة والشاذة.
ما هو المقصود بهذه الاستراتيجيات؟ أهو محاربة الجنسانية؟ أم السعي للسيطرة عليها؟ أم محاولة لتحسين تنظيمها وإخفاء ما قد تَنطوِي عليه من عدم احتشام وجاذبية وعصيان؟ أم طريقة لكي يُصاغ حولها ذلك القسط من المعرفة الذي يكون مقبولًا تمامًا أو مفيدًا؟ في الواقع، إن المقصود هو بالأحرى إنتاج هذه الجنسانية بالذات. لا ينبغي أن نعتبر الجنسانية كنوع مُعيَّن من الطبيعة تُحاول السُّلطة قمعه، أو كميدان خفي تحاول المعرفة كشفه تدريجيًّا. إنها الاسم الذي يمكن أن تُطلِقه على جاهزية تاريخية. إنها لیست واقعًا سُفليًّا تُمارَس عليه تأثيرات صعبة، بل شبكة سطحية كبيرة حيث تترابط فيما بينها، وفقًا للاستراتيجيات المعرفية والسُّلطوية الكبرى، العوامل التالية: تنشيط الأجسام، تقوية الملذات، الحث على الخطاب، تكوين المعارف، وتعزيز المراقَبة والمقاومة.
إن هذا الترابط بين جهاز التحالُف الزواجي وجهاز الجنسانية في شكل العائلة يسمح بِفهم عدد من الوقائع: أن العائلة أصبحَت ابتداء من القرن الثامن عشر مكانًا إلزاميًّا للعواطف والمشاعر والحب؛ وأن العائلة هي الموضع المميَّز لتفتُّح الجنسانية؛ ولهذا السبب، تُولَد هذه الأخيرة مشمولة بنظام التحريم. من الممكن أن يكون منع ارتكاب المَحارم قاعدة ضرورية، من الناحية الوظيفية، في المجتمعات التي تَسودها أجهزة التحالُف الزواجي. أما في مجتمع كمجتمعنا، حيث العائلة. هي بؤرة الجنسانية الأكثر نشاطًا، وحيث إن متطلبات هذه الأخيرة هي التي تحافظ بالتأكيد على وجود العائلة واستمراره، فإن نظام التحريم يحتل مركزًا رئيسًا، لأسباب مختلفة تمامًا وعلى نحو مغاير تمامًا. وهو في العائلة، مطلوب ومرفوض باستمرار، موضوع وسواس وتحريض، سِر مُهاب وصلة لا بد منها. يبدو ارتكاب المحارم كشيء ممنوع بتاتًا في العائلة، بقدر ما تلعب دور جهاز التحالف الزواجي، لكنه أيضًا الشيء المطلوب باستمرار حتى تكون العائلة مركز إثارة دائمة للجنسانية. إذا كان الغرب قد اهتم كثيرًا طوال أكثر من قرن بالنهي عن المحارم، وإذا كان قد اعتبر ذلك باتفاق شبه عام إحدى الكليات الاجتماعية وأحد المعابر المحتومة إلى الثقافة، فربما لأن الغرب كان يجد فيه وسيلة لحماية نفسه، لا من رغبة في ارتكاب المحارم، بل من اتساع وانعكاسات جهاز الجنسانية الذي أنشئ والذي كانت سيِّئته، رغم حسناته الكثيرة، أنه يجهل قوانين التحالف الزواجي وأشكاله القانونية. فالتأكيد على أن كل مجتمع مهما يكن، وبالتالي مجتمعنا نحن، خاضع لقاعدة القواعد هذه، كان يضمن أن جهاز الجنسانية الذي كان قد بوشر التلاعب بنتائجه الغربية. ومنها التعزيز العاطفي للحيز العائلي لن يستطيع النجاة من نظام التحالف الزواجي الكبير والقديم. وهكذا، يَسْلم الحق حتى في الآلية السُّلطوية الجديدة؛ لأن تلك هي مفارقة هذا المجتمع الذي اخترع، منذ القرن الثامن عشر، كثيرًا من التكنولوجيات السُّلطوية البعيدة عن الحق، إنه يخشى نتائج هذه التكنولوجيات وتكاثرها، ويحاول أن يعيد ترميزها في أشكال الحق، وإذا كنَّا نسلِّم بأن المحارم الممنوعة هي عتبة كل ثقافة، فإن الجنسانية تصبح موضوعة منذ أقدم العصور تحت شعار القانون والحق. فإن الإثنولوجيا، بإعدادها المتكرِّر، منذ زمن طويل، لنظرية منع المَحارم العابرة للثقافات، قد أدَّت خدمات جُلَّى لجهاز الجنسانية الحديث، وللخطابات النظرية التي ينتجها.
في حيِّز اللعب هذا، استقر التحليل النفسي إنما بإحداثه تغييرًا كبيرًا في نظام القلق وإعادة الطمأنة. كان لا بد، في بادئ الأمر، من أن يثير الريبة والعداء؛ لأنه بمغالاته في تطبيق نصيحة شاركو، راح يتفحص جنسانية الأفراد خارج الرقابة العائلية. لقد اكتشف هذه الجنسانية ذاتها دون أن يخفيها بالنموذج العصبي؛ وأكثر من ذلك، فإن التحليل الذي أجراه لها طرحُ العائلات العائلية للمناقشة. فإذا بالتحليل النفسي الذي بدَا في طرائقه التقنية أنه يضع الاعتراف بالجنسانية خارج السيادة العائلية، قد اكتشف في قلب هذه الجنسانية بالذات أساس تكوُّنه ورمز معقوليته الذي هو قانون التحالُف الزواجي وأحكام الزواج والقرابة، ونظام المَحارم. فالضمانة بأنه سوف تُكشف هنا، في عمق جنسانية كل فرد، علاقة الأهل — الأولاد، قد سمحت بالحفاظ على الترابط بين جهاز التحالف الزواجي وجهاز الجنسانية، حينما كان كل شيء يدل على حصول السياق المُعاكس. لم يكن ثمة خطر بأن تظهر الجنسانية غريبة، بطبيعتها، عن القانون؛ فهي لم تكن تتكون إلا منه. أيها الأهل! لا تَخافوا من الإتيان بأولادكم إلى التحليل النفسي؛ فهو سيعلمهم بأنكم أنتم، في جميع الأحوال، مَن يحظى بحبهم. أيها الأولاد! لا تتذمروا كثيرًا من عدم كونكم يتامى ومن كونكم تكتشفون دائمًا في أعماق ذواتكم أمَّكم — الشيء، أو سمة الأب السامية، فبواسطتهما تتصلون بالرغبة. من هنا، كانت غزارة التحليل في المجتمعات التي كان يحتاج فيها جهاز التحالف الزواجي ونظام العائلة إلى التعزيز والتَّقوية، بعد الكثير من التحفزات. ذاك أن هذه نقطة أساسية في هذا التاريخ الطويل لجهاز الجنسانية، مع تكنولوجيا «الشهوة» في المسيحية الكلاسيكية، نشأ هذا الجهاز مستندًا إلى أنظمة التحالف الزواجي والقواعد التي تحكمها. أما اليوم، فهو يلعب دورًا معاكسًا، وهو الذي ينزع إلى دعم جهاز التحالف الزواجي القديم. فمن إرشاد الضمائر إلى التحليل النفسي، عَكَس جهازَا التحالف الزواجي والجنسانية موقعَهُما، بدورانهما الواحد حول الآخر وفقًا لسياق بطيء، مضى عليه حتى اليوم ثلاثة قرون من الزمن. في الإرشاد الرعوي المسيحي، رمَّز قانون الزواج هذه الشهوة التي كانت قيد الاكتشاف، وفرَض عليها منذ البداية بنية قانونية. ومع التحليل النفسي، كانت الجنسانية هي التي ولَّدت قواعد الزواج وجسَّدتها بجعلها مشبعة بالرغبة والشهوة.
(٤) التمرحل Périodisation
إذا أردنا أن نُركِّز تاريخ الجنسانية على آليات القمع، فإنه ينطوي على انقطاعين؛ الأول: في غضون القرن السابع عشر: نشأة النواهي الكبيرة، تثمين الجنسانية الخاصة بالبالغين وبالزواج، ضرورات الاحتشام، الهروب الإلزامي من الجسد، الإسكات وحشمة اللغة الإلزامية. الانقطاع الثاني، في القرن العشرين، كان ذلك انحرافًا للمنحنى أكثر منه انقطاعًا، وقد حصل حين بدأت آليات القمع في الارتخاء؛ فتمَّ الانتقال من الممنوعات الجنسية المُلِحَّة إلى تساهُل نسبي إزاء العلاقات السابقة للزواج أو الخارجة عن إطاره؛ خفَّ الحطُّ من قدر «المنحرفين» جنسيًّا، وجرى الحد جزئيًّا من إدانتهم قانونيًّا، وإلغاء قسم كبير من المحرَّمات التي كانت تُؤثِّر على جنسانية الأولاد. يجب أن نحاول تتبع التسلسل الزمني لهذه التصرفات: الابتكارات، تغيير الوسائل، الآثار الباقية. إنما هناك أيضًا رزنامة استخدامها، وتسلسل انتشارها، والنتائج التي تحدثها (من خضوع ومقاومة)، هذه التواريخ لا تتوافق طبعًا مع دورة القمع الكبرى التي تُحدَّد عادة بين القرن السابع عشر والقرن العشرين.
-
(١)
يرتقي التسلسل الزمني للتقنيات ذاتها إلى زمن بعيد، يجب أن نبحث عن نقطة تكوُّنها في ممارسَات سر التوبة المرتبطة بمسيحية القرون الوسطى، أو بالأحرى في السلسلة المزدوجة المؤلَّفة من الاعتراف الإلزامي، الكامل والدوري الذي فرضه المجمع اللاتراني على جميع المؤمنين، ومن طرائق التقشف والرياضة الروحية والتصوف المنتشرة بقوة كبيرة منذ القرن الرابع عشر. فالإصلاح البروتستانتي ثم الإصلاح الكاثولكي التريدنتيني٢١ يدلان على تحوُّل مهم، وعلى انفصال، في ما يمكن تسميته «التكنولوجيا التقليدية للشهوة الجنسية». لا يسعنا إنكار عمق هذا الانفصال؛ على أن ذلك لا يستبعد وجود تشابُه معيَّن بين الطرائق الكاثوليكية والبروتستانتية لفحص الضمير والإرشاد الرعوي، هنا وهناك، تترسخ، بأفكار دقيقة متنوعة، طرائقُ لتحليل «الاشتهاء» ووضعها ضمن خطاب. إنها لتقنية غنية، مرهفة، تتطوَّر منذ القرن السادس عشر عبْر تنميات نظرية طويلة، وتستقر في نهاية القرن الثامن عشر في صيغ ترمز إلى التزمُّن المعتدل لألفونس دي ليغوري (Alphonse de Liguori)، من جهة، وإلى منهج ويزلي (Wesley) التربوي، من جهة أخرى.
كان هذان التجديدان يَتمفصلان بسهولة؛ لأن نظرية «انحطاط النوع» كانت تُتيح لهما أن يُحيل كلٌّ منهما إلى الآخَر باستمرار؛ كانت تُوضِّح كيف أن وراثة مثقلة بأمراض مختلفة — عضوية، وظيفية أو نفسية لا فرق — تُنجِب في النهاية منحرِفًا جنسيًّا. (فتِّش في سلالة أحد الاستعرائيين أو اللوطيين، وستجد لهما جدًّا مفلوجًا، أو قريبًا مسلولًا، أو عمًّا مصابًا بخرف الشيخوخة). لكن هذه النظرية تفسِّر أيضًا كيف أن انحرافًا جنسيًّا يُؤدِّي كذلك إلى انقطاع الذرية — كُساح الأولاد وعُقم الأجيال القادمة. لقد شكَّلت مجموعة الانحراف — الوراثة — انحطاط النوع، النواة الصلبة لتكنولوجيات الجنس الجديدة. ولا يحسَبنَّ أحد أن الأمر كان يتعلق فقط بنظرية طبية ناقصة علميًّا وتهذيبية بإفراط. فقد كان انتشارها واسعًا وانغراسها عميقًا؛ ذاك أن الطب النفسي، والقضاء، والطب الشرعي، وأجهزة الرقابة الاجتماعية، ومراقبة الأولاد الخَطِرين أو المعرَّضِين للخطر، اشتغلَت زمنًا طويلًا وفقًا «لانحطاط النوع» ولنظام الوراثة — الانحراف. كان ثمة سلوك اجتماعي — كوَّنت عنصرية الدولة شَكلَه الساخط والمتماسك في آنٍ — أكسب تكنولوجيا الجنس هذه قوة مخيفة وأعطاها نتائج بعيدة.
لا يسعنا أن نفهم الموقف الفريد للتحليل النفسي، في نهاية القرن التاسع عشر، إذَا لم نتبين الانقطاع الذي أحدَثه بالنسبة لنظرية انحطاط النوع؛ فلقد نقَّح مشروع تكنولوجيا طبية خاصة بالغريزة الجنسية، لكنه حاوَل تحريره من ارتباطاته بالوراثة، وبالتالي من جميع النزعات العنصرية وغايات تحسين النسل. نستطيع الآن أن نعود إلى إرادة التطبيع المُفترَضة عند فرويد، كما نستطيع أن نشجب الدور الذي لَعبته مؤسَّسة التحليل النفسي منذ سنوات؛ ففي تلك الطائفة الكبيرة من تكنولوجيات الجنس التي تَرقَى إلى عهد بعيد في تاريخ الغرب المسيحي، وبين التقنيات التي شَرعتْ في طبننة الجنس إبَّان القرن التاسع عشر. كان التحليل النفسي حتى الأربعينيات من هذا القرن، التقنية التي قاوَمت بشدة النتائج السياسية والمؤسَّسِية لنظام الانحراف — الوراثة — انحطاط النوع.
نلاحظ جيدًا أن جينالوجيا (تاريخ تكوين) هذه التقنيات، مع تحوُّلاتها (وانزياحاتها) وتواصلاتها وقطيعاتها، لا تتفق مع فرضية حقبة قمعية كبرى بدأت خلال العصر الكلاسيكي وهو على وشك الانتهاء ببطء خلال القرن العشرين. لقد كان هناك بالأحرى ابتكارية متواصلة، وتكاثُر مستمر للطرائق والوسائل، مع فترتين خصبتين بشكل خاصٍّ في هذا التاريخ الغزير الإنتاج، حوالي أواسط القرن السادس عشر، مع نمو إجراءات توجيه الضمير وفحصه؛ وفي بداية القرن التاسع عشر، مع ظهور تكنولوجيات الجنس الطبية.
-
(٢)
لكن ما فعلناه حتى الآن هو فقط تحديد تواريخ ذاتها. أمَّا تاريخ انتشارها ومجالات تطبيقها فشيء آخر. إذا كَتبْنا تاريخ الجنسانية من زاوية القمع ورَبطنا هذا القمع باستخدام القوة العاملة، فلا بد من الافتراض بأن الرقابات الجنسية قد اتَّخذَت شكلًا أشد وأدق، بقدر ما كانت تتوجَّه نحو الطبقات الفقيرة؛ علينا أن نتصور أن هذه الرقابات قد سَلَكت طرق الهيمنة القصوى والاستغلال المطلق. فالإنسان البالغ، الشاب الذي لا يملك من سبل العيش غير قوته، لا بد وأن يكون الهدف الأول لعملية «إخضاع وقهر» ترمي إلى نقل الطاقات المتاحة للذة العديمة الجدوى باتجاه العمل الإلزامي. والحال، لا يبدو أن الأمور حدثت على هذا النحو، بالعكس، فقد تَكوَّنت التقنيات الأكثر دقة وطُبِّقت بادئ الأمر بكثافة في الطبقات المتميِّزة اقتصاديًّا والحاكمة سياسيًّا. فإرشاد الضمائر وفحص الذات، وكل الإعداد الطويل لخطايَا الجسد،٢٤ واكتشاف الاشتهاء المدقق، كلها أساليب بارعة قلَّما كان بالإمكان ألا تكون إلا في متناوَل مجموعات ضيقة من الناس. صحيح أن طريقة ممارَسة التوبة التي اعتمدها ألفونس دي ليغوري، والقواعد التي اقترحها ويزلي على جماعة الإصلاحيين (المعروفين باسم المَنهجِيِّين L’Méthodistes)،٢٥ قد أمَّنت لهذه الأساليب شيئًا من الانتشار الأوسع؛ ولكن ذلك تحقَّق بثمن باهظ من التبسيط. يمكننا أن نقول الشيء نفسه عن العائلة، من حيث هي سُلطة رقابة ومَركز للإشباع الجنسي؛ ففي العائلة «البورجوازية»، أو «الأرستقراطية»، أُثِيرَت لأول مرة مسألة جنسانية الأولاد والمراهقِين؛ وفيها جرَت طَبْننة الجنسانية الأنثوية؛ وهي التي كانت أول مَن نَبَّه إلى مَرضِيَّة الجنس الممكِنة، إلى إلحاحية مراقبته وإلى ضرورة ابتكار تكنولوجيا عقلانية في الإصلاح. وهذه العائلة هي التي كانت قَبْل سواها موضع الطَّبْننة النفسية (Psychiatrisation) للجنس، وهي الأولى التي دخلت في حالة تهيُّج جنسي حادٍّ، مُسبِّبة لنفسها المخاوف، مُبتكِرة الوصفات العلاجية، مُستعينة بالتقنيات العلموية، ومثيرة العديد من الخِطابات كيما تعيد تردادها على ذاتها. فقد بدأت البورجوازية تعتبر أن الجنس الخاص بها هو شيء هام، وكنز معرَّض للزوال، وسِر لا بد من معرفته. يجب ألا ننسى أن الشخصية الأولى التي زُوِّدت بجهاز الجنسانية، وأن مِن أوائل الشخصيات التي تَمَّت «جنسنتها» كانت المرأة «العاطلة عن العمل»، التي هي في مواجَهة العالَم يجب أن تظهر دائمًا كقيمة، وفي حيِّز العائلة حيث يخصص لها قسط جديد من الواجبات الزوجية والأهلية (نسبة للأولاد). وهكذا ظهرت المرأة «العصابية»، المرأة المصابة «بالأبخرة،٢٦ وهنا وَجدَت هَسْترة المرأة مرتكزها. أما المراهق الذي يُبذِّر جوهره المستقبلي في ملذات سِرية، والولد الممارِس للعادة السرية، الذي شغل الأطباء والمُربِّين كثيرًا منذ أواخر القرن الثامن عشر حتى أواخر القرن التاسع عشر، فلم يكن ابن الشعب، ولا عاملَ المستقبل الذي ينبغي أن يُلقَّن علوم الجسد؛ بل كان التلميذ الثانوي، والولد المُحاط بالعلم والمُربِّين والحاضنات، الذي لم يكن يُعرِّض للخطر طاقته الجسدية بقدر ما كان يجازف بقدراته العقلية، وبواجب أخلاقي، وبضرورة المحافَظة على خَلَف سليم لعائلته وطبقته.
وأخيرًا، في نهاية القرن التاسع عشر، حين اتَّسعَت الرقابة القضائية والطبية للانحرافات، باسم الحماية الشاملة للمجتَمع والعِرق. يمكن القول عندئذ: إن جاهزية «الجنسانية»، المُعدَّة بأشكالها الأكثر تعقيدًا وكثافة لمَصلحة الطبقات المُوسرة ومِن قبلها، قد انتشرَت حينئذ في الجسم الاجتماعي بِرمَّته. لكنها لم تَتخِذ في كل مكان الأشكال ذاتها، ولم تَستخدم في كل مكان الأدوات ذاتها (فالأدوار الخاصة بالسُّلطتين الطِّبية والقضائية لم تكن هي نفسها هنا وهناك، ولا الطريقة عينها التي عمل بها طب الجنسانية).
•••
ليس الجنس ذلك الجزء من الجسد الذي وَصمَته البورجوازية بالعار، أو أَلغَته من الوجود؛ لكي تُحوِّل إلى العمل والإنتاج أولئك الذين كانت تُسيطِر عليهم. بل الجنس ذلك العنصر من كيانها بالذات الذي أقلقها وشغلها، أكثر من أي عنصر آخر، والذي التَمس عنايتها ونالها، والذي ربَّتْه بمزيج من الخوف والفضول والتَّلذُّذ والحمية. لقد ماثَلت جسدها به، أو على الأقل، أخضَعَته له، مانحة إيَّاه سلطة خَفِية ومُطلَقة عليه. ربطَت به حياتها وموتها، بجعلها إيَّاه مسئولًا عن صحتها المستقبلية؛ استثمرت فيه مستقبلها بافتراضها أن له نتائج مُحتَّمة على خَلَفها. أخضعت له روحها بحُجة أنه يُشكِّل عنصرها الأكثر خفاء وحسمًا، لا نتصوَّرنَّ البورجوازية وقد خصَّت نفسها رمزيًّا لتُنكر على الآخَرِين الحق في أن يكون لهم جنس، وفي أن يَستعملوه حسب مشيئتهم. ينبغي بالأحرى أن نرى إليها، منذ منتصف القرن الثامن عشر، عاملة على أن تخص نفسها بجنسانية ما، فتُكوِّن لنفسها، انطلاقًا من هذه الجنسانية، جسدًا نوعيًّا، جسدًا «طبقيًّا»، له صحته ووقايته ونسْلُه وعِرقه. هذا يعني جَنسَنة ذاتية لجسدها وتجسيد الجنس في جَسدِها الخاص، وعقد زواج لُحْمي بين الجنس والجسد. لقد كانت لذلك، طبعًا، أسباب عدة.
هناك أولًا، نقْل الأساليب التي استعملتها طبقة النبلاء للتدليل على تميُّزها الطبقي والمحافَظة عليه، إنما بأشكال أخرى: ذاك أن أرستقراطية النبلاء أكَّدت هي أيضًا خصوصية جسدها وذاتيته؛ إنما كان ذلك على شكل الدم؛ أي قِدَم الأسلاف وقيمة التحالفات الزواجية؛ أما البورجوازية فلكي تَخُص نفسها بجسد مُعيَّن، تطلَّعَت بالعكس إلى خَلَفها وإلى صحة عضويتها. كان «دم» البورجوازية هو جِنسها، وليس هذا تلاعبًا بالألفاظ؛ فثَمَّة موضوعات كثيرة خاصَّة بعادات النبلاء الطبقية انتقلت إلى بورجوازية القرن التاسع عشر، إنما على شكْل وصَفات بيولوجية، طبية، أو مُختصَّة بتحسين النَّسل. لقد غدَا الاهتمام النَّسبي (الجينالوجي) اهتمامًا بالوراثة؛ وفي الزيجات أُخِذ في الحسبان، ليس فقط المستلزَمات الاقتصادية أو قواعد التَّجانُس الاجتماعي، وليس فقط الوعود بالميراث إنما أيضًا الأخطار التي قد تُهدِّد سلامة الوراثة. كانت العائلات تَحمِل وتُخفِي شعار نَسَب معكوسًا وقائمًا، تتكوَّن أقسامه الشائنة من أمراض أو عيوب الأقارب والأهل: شلل الجَد العام، نوراستينيا (نهك عصبي) الأم، سُل الأخت الصغرى، العَمَّات أو الخالات المصابات بالهستيريا أو بجنون الغرام، أبناء العم أو الخال ذَوُو العادات السَّيِّئة. غير أنه كان في هذا الاهتمام بالجسد الجنسي ما يَتجاوَز النقل البورجوازي لموضوعات النبالة بغرض تأكيد الذَّات. كان الأمر يَتعلَّق أيضًا بمشروع آخَر: مشروع إنماء غَيْر محدود لِلقوَّة والعافية والصحة والحياة. لا بد من ربط تثمين الجَسد بسياق نُمو السيطرة البورجوازية وتوطيدها. إنما ليس بسبب القيمة التجارية المُتَّخذة من قِبَل القوة العاملة، بل بسبب ما قد تمثله سياسيًّا واقتصاديًّا وتاريخيًّا «ثقافة» جسد البورجوازية، بالنسبة لحاضِرها ومستقبلها على السواء. كانت هيمنتها مُتوقِّفة على هذه الثقافة إلى حد ما؛ لم تكن المسألة مسألة اقتصادية أو أيديولوجية فحسب، بل «جسدية» أيضًا. وتشهد على ذلك المؤلَّفات المنشورة بعدد كبير جدًّا، في أواخر القرن الثامن عشر، حول صحة الجسم، وفَن إطالة العمر، وطُرق إنجاب أطفال ذوي صحة جَيِّدة، وإبقائهم على قيد الحياة أطول مُدَّة ممكنة، وحول وسائل تحسين النَّسل البشري. تُثبت هذه المؤلَّفات الترابط بين هذه العناية بالجسد والجنس، وبين «عنصرية» ما. لكن هذه «العنصرية» مختلفة جدًّا عن تلك التي أظهرَتْها طبقة النبلاء، والتي كانت مُوجَّهة نحو غايات محافظة جوهريًّا، فالعنصرية البورجوازية دينامية. إنها عنصرية النمو والتوسع، حتى ولو كانت لا تزال في مرحلة جنينية، حتى ولو كان لا بد لها من انتظار النصف الثاني من القرن التاسع عشر لِتعطي الثمرات التي نحن تَذوَّقْناها (في النهاية).
يظن البعض أن في وُسْعهم الكشف عن نوعين متناظرين من النفاق: نفاق البورجوازية الغالب، حيث تُنكر جنسانيتها الخاصة، ونفاق البروليتاريا المُحرَّضة عليه «من قِبَل البورجوازية»، بحيث ترفض بدورها جنسانيتها الخاصة بقبول الأيديولوجيا المقابلة. والحال، أن في ذلك دلالة على عدم فهْم السياق الذي بواسطته تَزوَّدت البورجوازية، في توكيد سياسي متعجرف، بجنسانية ثرثارة رَفضت البروليتاريا زمنًا طويلًا القبول بها مذ فُرِضت عليها لاحقًا بغرض الإخضاع. إذا صح أن «الجنسانية» مجموع النتائج التي يحدثها في الأجساد والتصرفات والعلاقات الاجتماعية جهاز معين مرتبط بتكنولوجيا سياسية معقدة، فلا مناص من الاعتراف بأن هذا الجهاز لا يعمل هنا وهناك بشكل تَماثُلي، وأنه بالتالي لا يُحدِث النتائج ذاتها. ينبغي العودة إذًا إلى صيغ مُستخَفٍّ بها منذ زمن طويل. يجب القول إن هناك جنسانية بورجوازية، وإنه توجد جنسانيات طبقية، أو بالأحرى، إن الجنسانية هي أصلًا وتاريخيًّا بورجوازية، وإنها تثير، في تحركاتها المتعاقبة وانتقالاتها، مفاعيل طبقية خاصة.
•••
كلمة بعد. في غضون القرن التاسع عشر، حصل إذًا تعميم لجاهزية الجنسانية انطلاقًا من مركز سيطرة مُعيَّن. وفي النهاية، تزوَّد الجسم الاجتماعي بأسْرِه «بجسد جنسي»، ولو بطريقة ووسائل مختلفة. هل يعني ذلك عمومية الجنسانية؟ هنا نلاحظ دخول عنصر تمييزي جديد، مِثلمَا واجهَت البورجوازية، في نهاية القرن الثامن عشر، دم النبلاء المُتفوِّق بجسدها الخاص وجنسانيتها القيِّمة، هكذا ستحاول، في نهاية القرن التاسع عشر، أن تعيد تحديد خصوصية جنسانيتها تجاه جنسانية الآخَرِين، وأن تستعيد جنسانيتها الخاصة بشكل تبايُني، وترسم خطًّا فاصلًا يميز جسدها ويحميه. لن يكون هذا الخط هو الذي يؤسِّس الجنسانية، إنما بالعكس الذي يلغيها؛ فالمنع هو الذي سيصنع الاختلاف، أو على الأقل الطريقة التي يمارس بها والصرامة التي يُفرَض بها. هنا يكمن منشأ نظرية القمع، التي ستشمل تدريجيًّا جهاز الجنسانية كله وتُعطيه معنى مَنعٍ معمَّمًا. إن هذه النظرية مرتبطة تاريخيًّا بانتشار جهاز الجنسانية، فمن جهة، سوف تُسوِّغ توسُّعَه التَّسلطى والجبري، بإقرار المبدأ القائل إن كل جنسانية يجب أن تخضع للقانون، وأكثر من ذلك، إنه لا جنسانية إلا بفعل القانون، ليس فقط أنه ينبغي عليكم إخضاع جنسانيتكم للقانون، إنما لن تكون لكم جنسانية ما لم تخضعوا للقانون. لكن، من جهة ثانية، سوف تُعوض نظرية القمع عن هذا الانتشار العام لجاهزية الجنسانية بتحليل لعبة النواهي التباينية حسب الطبقات الاجتماعية. فمن الخطاب الذي كان يقول في أواخر القرن الثامن عشر: «يوجد فِينَا عنصر قيِّم يجب أن نخشاه ونراعيه، وأن نُعيره كل اهتمامنا إذا كُنَّا لا نريد أن يسبب أضرارًا لا حصر لها»، تم الانتقال إلى خطاب آخر يقول: «إن جنسانيتنا، بخلاف جنسانية الآخَرِين، خاضعة لنظام قمعي شديد إلى حدِّ أنه فيه بات يكمن الخطر. فالجنس ليس فقط سرًّا مخيفًا، كما كان يُردِّد للأجيال السابقة مُرشِدو الضمائر والكُتَّاب الأخلاقيون والمُربُّون والأطباء، وليس فقط أنه ينبغي كشف حقيقته، إنما إذا كان يحمل معه هذا القدر الكبير من المَخاطر؛ فذلك لأننا أسكتناه زمنًا طويلًا جدًّا، إما بدافع شدة الاهتمام أو الإحساس المُفرط بالخطيئة، أو الرياء. فلنفسِّر ذلك كما نشاء. مذ ذاك، سوف يتوكَّد التمايز الاجتماعي لا بنوعية الجسد «الجنسية»، إنما بشدة قمعه.
هنا يدخل التحليل النفسي: في آنٍ معًا، كنظرية للانتماء الأساسي للقانون والرغبة، وكتقنية لإزالة آثار المنع حيث تجعله شِدَّته مرضيًّا. فالتحليل النفسي يمكن أن ينفصل، في بروزه التاريخي، عَن تعميم جاهزية الجنسانية وآلِيَّات التمييز الثانوية التي حدثت فيه. ومشكلة المَحارم مُعبِّرة أيضًا من هذه الناحية؛ فمن جهة، رأَيْنا أنَّ منعها فُرِض كمبدأ شمولي تمامًا يسمح بالتفكير في نظام التحالُف الزواجي، وفي نظام الجنسانية بآنٍ معًا، وعليه فإن هذا المنع يَسري، بشكل أو بآخَر، على كل مجتمَع وعلى كل فرد. ولكن، عمليًّا، تقوم مُهمة التحليل النفسي تجاه الذين يَستعينون به على إزالة آثار الكبْت الذي يمكن أن يحدثه عندهم هذا المنع؛ إنه يَسمح لهم بمفصلة ميلهم إلى المَحارم في خطاب. والحال، أنه في الحقبة نفسها، تنظَّمت حملة مطارَدة شرسة للممارَسات المنطوية على ارتكاب للمحارم، كما كانَت تحصل في الأرياف أو في الأوساط المدينية التي لم يكن يصل إليها التحليل النفسي. آنذاك، اتُّخِذت ترتيبات إدارية وقضائية حاسمة لوضع حدٍّ لهذه الممارَسات؛ فاعتُمدت سياسة لحماية الطفولة، ولوضع القاصرين «المعرَّضين للخطر» تحت الوصاية، وذلك بهدف إخراجهم من العائلات التي كان يُشتَبه بأنها تَرتكِب هذه المحارم؛ لأسباب عديدة منها: ضِيق المسكن، والقُرب المُريب، وعادة الفسق، و«البدائية» الهمجية، أو انحطاط النوع. في حين أن جهاز الجنسانية عزَّز العلاقات العاطفية والاقتراب الجسدي بين الأهل والأولاد منذ القرن الثامن عشر، وفي حين أنَّه حصل تحريض مستمر على ارتكاب المَحارم في العائلة البورجوازية، فإن نظام الجنسانية المُطبَّق على الطبقات الشعبية كان يَفرِض بالعكس منْع ممارَسات المَحارم، أو على الأقل انتقالها بشكل آخَر، حينما كان ارتكاب المحارم ملاحَقًا كسلوك من جهة، كان التحليل النفسي يجهد، من جهة أخرى، في كشْفِه كرغبة، وفي إزالة القسوة التي تَكبِتها عند الذين يعانونها. يجب ألَّا ننسى أن اكتشاف عُقدة أوديب معاصِر للتنظيم القانوني حول إسقاط الحق الأبوي (في فرنسا عبر قانوني ١٨٨٩ و١٨٩٨م). حين كان فرويد يكتشف طبيعة رغبة «دورا» ويسمح لهذه الرغبة بالتعبير عن نفسها، كان يَجْري التسلُّح في طبقات اجتماعية أخرى للقضاء على كل هذه الاتصالات المُتكرهة. من جهة، نُصِّب الأب كموضوع حب محتوم: لكنه في موضِع آخر، كان القانون يُسقِط عنه حقَّ أبوته إذا كان عاشقًا، وهكذا، لعب التحليل النفسي، كممارَسة علاجية متحفِّظة، دورًا تمييزيًّا بالنسبة إلى إجراءات أخرى، في إطار جهاز جنساني غدَا الآن معمَّمًا. فالذين فَقدوا الامتياز الحصري في الاهتمام بجنسياتهم، باتوا يَمتازُون عن الآخَرِين بأنهم يعانون أكثر من غيرهم مما يمنعهم، ويملكون الطريقة التي تسمح بإزالة الكبت.
إن تاريخ جهاز الجنسانية، كما تطور منذ العهد الكلاسيكي، قد يقوم مقام أركيولوجيا التحليل النفسي، وقد لاحظنا ذلك فعلًا، فهو يلعب في هذا الجهاز عِدَّة أدوار متزامنة: إنه آلية الجنسانية بنظام التحالُف الزواجي؛ وهو يتوكد كموقع مناوئ بالنسبة لنظرية انحطاط النوع، ويعمل كعنصر مميِّز في تكنولوجيا الجنس العامة. حوله، تتخذ ضرورة الاعتراف الكبرى التي تكوَّنَت منذ زمن بعيد معنًى جديدًا، هو معنى الأمر بإزالة الكَبْت. هكذا صارت مهمة الحقيقة مرتبطة الآن بطرح مسألة المنع.
K.Marx, Le Capital, LI, Chap. X,2, “Le capital affamé de surtravail”.