الآخرون … مصدر طيب للمعلومات!
عاد «أحمد» بسرعة إلى السيارة، وبدأ اتصالًا سريعًا برقم «صفر»، لقد كان يستطيع أن يُقدِّم بطاقتَه إلى الضابط، فينتهي كلُّ شيءٍ، لكنه رفض هذه الفكرة؛ فهو لا يريد أن يكون الشياطين تحت عينِ أحد … وردَّ رقم «صفر» برسالة، جعلَت الشياطين ينظرون في ساعاتهم، ولم تمضِ خمس دقائق، حتى كانت سيارة الشرطة تعود مرة أخرى، وبها ضابطٌ آخر، أعلى رتبةً، واقترب منهم، وهو يبتسم قائلًا: إن مهمَّتنا هي المحافظة على الطريق، وأظنُّ أنكم توافقون على ذلك. وصمَتَ لحظةً، ثم قال، وهو يمدُّ يدَه بالأوراق: أتمنَّى لكم التوفيق!
شكره «أحمد»، فانطلق «فهد» بالسيارة، وكانت الدقائقُ تمرُّ سريعةً، ووقتُ انطلاق الطائرة يقترب، لكن قبل أن تُقلع الطائرة بربع ساعة، كانت السيارة تقف أمام المطار، وبسرعةٍ قفز الشياطين إلى صالة المطار، ولم يَكَد صوتُ مذيعة المطار يصل إليهم، حتى كانوا يأخذون طريقهم إلى الصالة الداخلية، حيث كان الركاب يتَّجهون إلى الطائرة، وعندما أخذوا أماكنهم تنفَّسوا بعمقٍ، فقد جاءَهم صوتُ المذيعة الداخلية يُحيِّيهم، ويتمنَّى لهم رحلةً طيبةً … لم تمضِ دقائق، حتى كانت محركات الطائرة قد بدأَت تعمل، فترتجُّ تبعًا لذلك … لحظات، ثم انطلقت تقطع الممرات الخالية، لتأخذ طريقها إلى الفضاء.
كان الشياطين يجلسون متفرقين في الطائرة. وهذه عادتهم في السفر، فهناك قاعدة يتبعونها: «إن الآخرين مصدرٌ طيِّب للمعلومات» عندما استوَت الطائرة في مسارها وفكُّوا الأحزمة، انسابَت موسيقى هادئة، تملأ فضاء الطائرة.
كان «أحمد» يجلس في المقدمة، حيث جلس بجواره رجلٌ أبيض، يبدو متوسطَ السن، استغرق في النظر من النافذة وكأنه يُفكِّر في شيءٍ هامٍّ، في نفس الوقت كان «عثمان» يجلس في المنتصف، وقد جلس إلى جواره أفريقيٌّ أسمر، كانت تبدو الطيبةُ على ملامحه، أبيض الشعر، يلبس نظارةً سميكة، نظر إلى «عثمان» في هدوءٍ، وسأله: هل تذهب إلى أفريقيا لأول مرة؟
ابتسم «عثمان» وقال: إنني من السودان، وأسافر كثيرًا.
قال الرجل: يبدو أنك تَهوَى السفر.
أجاب «عثمان»: نعم إنها هوايتي.
الرجل: هل تنزل في الخرطوم؟
عثمان: لا يا سيدي، إنني في الطريق إلى «نيروبي»، إن لديَّ بعضَ الأبحاث الطبيعية أقوم بها على حشرة النمل الأبيض. نظر له الرجل في دهشةٍ، ثم قال: إنها أبحاثٌ طيبة؛ فالنمل الأبيض أحد آفات الزراعة هناك، أتمنَّى أن ألقاك مرة أخرى، فأَسمع منك نتائج أبحاثك.
سأله «عثمان»: هل يذهب سيدي إلى أبعد من «نيروبي»؟
الرجل: نعم، إنني أعمل في تجارة الماس.
اعتدل «عثمان» في جِلْستِه، وبدأ يستمع من الرجل الذي أخذ يتحدَّث عن الماس، وتجارته، وعرَف أنه كان في الهند، حيث تُوجد مناجمُ للمعدن الثمين، أخيرًا قال الرجل: غيرَ أننا نشكو هذه الأيام من كساد تجارتنا؛ فالحصول على الماس أصبح مسألةً شاقة.
سأل «عثمان»: هل هناك سببٌ لذلك؟
الرجل: نعم، يبدو أنَّ احتكاراتٍ جديدةً قد ظهرَت في سوق الماس، حتى إننا لا ندري ماذا نفعل، وفي الشهر القادم لدينا اجتماعٌ لتُجَّار الماس، لمناقشة موقفنا. شرد الرجل قليلًا ثم قال «لعثمان»: إن قارتنا تتعرَّض لغزواتٍ شديدةٍ، سواء في محاصيلها الزراعية، أو المعدنية، ونحن لا نستطيع أن نقف أمام هذه الغزوات مع الأسف.
عندما كان «عثمان» منهمكًا في حديثه مع الرجل، كان «فهد» في حوار آخر مع أوروبي يجلس بجواره، وكان حديثُهما يدور حول اكتشافات البترول في أفريقيا، والاحتمالات الكبيرة لظهوره بوصْف أفريقيا واحدة من أقدم قارات الدنيا.
أما «قيس» فكان يجلس بجوار سيدةٍ عجوز، أسلمَت نفسَها للنوم، فاستغرق في أفكاره، يُفكِّر في مغامرتهم الجديدة لكنه وقَفَ بعد لحظةٍ ينظر في اتجاه «عثمان»، الذي كان لا يزال منهمكًا في حديثه إلى الأفريقي تاجر الماس، كان «عثمان» يسأل: هل يبقَى سيدي في «جوهانسبرج» لفترةٍ طويلة؟
أجاب الرجل: اسمَحْ لي أن أُقدِّمَ لك نفسي إذن، إنني سعيدٌ أنْ ألقَى شابًّا له اهتماماتُك، إنني أُدْعَى «كاماي». وسوف تتحدَّد رحلتي تبعًا للعمل. إن هناك صفقةَ ماسٍ سوف أَعْقدُها، وقد يستغرق ذلك بعضَ الوقت، ورغم أن المسافة بعيدةٌ بين «نيروبي» و«جوهانسبرج»، إلا أنني أدعوك إلى زيارتي، حيث أمتلكُ فيلَّا هناك. وأخرج «كاماي» بطاقةً صغيرة، قدَّمها «لعثمان» الذي أخذها شاكرًا، وهو يقول: إنني أُدْعَى «سعيد»، وسوف يسرُّني تمامًا أن أُلبِّيَ دعوةَ سيدي.
قال «كاماي» مبتسمًا: سوف أكون في انتظارك سعيدًا.
صمتَ الاثنان، فاستغرق «كاماي» في أفكاره، بينما أخذ «عثمان» يستعيد ذلك الحوارَ الطيب الذي دارَ بينهما، وفكَّر أن يُرسلَ رسالةً إلى «أحمد»، إلا أنه لم يفعل.
مرَّ الوقتُ سريعًا، وانقطعَت الموسيقى، فقد أخذ المسافرون يتثاءَبون، كان «أحمد» مستغرقًا في أفكاره، بينما الرجل الأبيض قد غَرِق في النوم، وانتهز «عثمان» فرصةَ نومِ «كاماي» فأرسل رسالةً إلى «أحمد» … وكان «عثمان» يفكِّر في طريقةٍ يُكمل بها الرحلة، بعد أن قال «لكاماي»: إنه سوف ينزل في «نيروبي»، كانت رسالتُه «لأحمد» تدور حول الحوار الذي حدث، وتلقَّى «أحمد» الرسالة باهتمامٍ، وظلَّ يفكِّر فيها، في النهاية أرسل رسالة إلى «عثمان» قال فيها: «عندما ننزل «نيروبي»، سوف نجد طريقة.» وختم الرسالة بالقاعدة: «إن الآخرين مصدرٌ طيِّبٌ للمعلومات.»
ابتسم «عثمان» عندما تلقَّى الرسالة، ثم أغمض عينَيه، وراح في النوم، وعندما فتح عينَيه، كان «كاماي» يهزُّه برفقٍ وهو يقول: هيَّا أيها الصديق، إننا نقترب من «نيروبي».
ابتسم «عثمان» وقال: يبدو أنني كنت متعبًا، فقد غَرِقتُ في النوم. جاء صوتُ مذيعة الطائرة، يطلب ربطَ الأحزمة، فقد أوشكَت الطائرة على الهبوط.
كان مطار «نيروبي» مُضاءً وكأنه في عزِّ النهار، وعندما لامسَت عجلاتُ الطائرة أرضَ المطار، قال «كاماي»: رحلةٌ طيبةٌ!
ردَّ «عثمان»: أطيبُ ما فيها أنني استمتعتُ بلقاء سيدي.
ربَّت «كاماي» على كتفه، بينما كانت الطائرة تأخذ طريقَها مسرعةً في الممرِّ الأرضي، حتى توقَّفت وأخذ المسافرون يغادرونها في هدوء … كان النوم لا يزال يغلب معظمَهم، وعلى السُّلَّمِ التقَى الشياطين، وهم يتحدثون بلغة الأعين، كان عليهم أن يبيتوا الليلةَ في فندق المطار، حيث تُقلع الطائرة المتجهة إلى «جوهانسبرج» في الصباح.
أخذوا طريقَهم إلى السيارة التي سوف تُقلُّهم إلى الفندق، وكان «كاماي» يجلس بجوار «عثمان»، فقال: هل تبيتُ الليلة في الفندق؟ وفكَّر «عثمان» بسرعةٍ، ثم قال: نعم، حتى أُجريَ اتصالًا في الصباح مع مجموعة العمل التي سوف أبدأ معها أبحاثَنا، فنحن مجموعة من جامعات مختلفة. هزَّ «كاماي» رأسَه مبتسمًا، ولم يُعلِّق بشيءٍ.
في صالة الفندق، أخذ المسافرون يتوزَّعون على حُجُراتهم، وكان الشياطين ينزلون في حجرةٍ واحدةٍ، وعندما ضمَّتهم الحجرة، عقدوا اجتماعًا سريعًا شرح فيه «عثمان» الحديثَ الذي دار بينه وبين «كاماي»، وأخرج بطاقتَه، فقال «فهد»: إنها فرصة طيبة، فسوف يكون مصدرًا طيبًا للمعلومات. ابتسموا جميعًا، فقال «عثمان»: إن المسألة، هي كيف أُبرِّر وجودي في طائرة الصباح، بينما الرجل يعرف أنني سوف أتخلَّف في «نيروبي».
قال «قيس»: ليست مسألةً شائكةً، لقد التقيتَ بنا، ونحن أصدقاؤك، وفي طريقنا إلى «كيب تاون»، ولقد اتصلتَ أنت بمجموعة العمل التي سوف تعمل معها، فعرفتَ أنها لم تكتمل بعدُ، فقَبِلتَ دعوةَ أصدقائك لقضاء بعض الوقت على ساحل المحيط.
صمت الشياطين، فقال «عثمان»: هي فكرةٌ لا بأس بها، وإن كانت تدعو للتساؤل!
قيس: دَعْه يتساءَل، أنت في النهاية لن تضرَّه بشيءٍ.
ولم يَكَد يُكمل جملتَه، حتى قال «فهد»: إلى النوم أيها السادة، إننا نبدأ مغامرتنا بلقاءٍ طيب.
لم تمضِ لحظة، حتى كان كلٌّ منهم قد استغرق في النوم، وفي الصباح المبكر كان أول الذين استيقظوا «أحمد» الذي فتح النافذة، فغمر الضوءُ الحجرةَ، حتى إنهم جميعًا فتحوا أعينهم؛ فقد دخلَت نسماتُ الصباح الرطبة، وفي ثوانٍ، كان كلٌّ منهم قد أبدل ثيابَه، عندما دقَّ جرسُ التليفون يدعوهم إلى الإفطار، فسوف تتحرك السيارة إلى المطار في خلال نصف ساعة، ونزلوا بسرعةٍ إلى المطعم، حيث يتناولون الإفطار، وما إن دخل «عثمان» حتى كان «كاماي» في مواجهته تمامًا، ابتسم، وأخذ طريقَه إليه: صباح الخير يا سيدي!
كاماي: صباح الخير يا بُني، ماذا فعلت؟
عثمان: سوف أنطلقُ مع بعض الأصدقاء الذين قابلتُهم صدفةً إلى «كيب تاون». وأشار بيده إلى الشياطين ثم أكمل: لقد أجريتُ اتصالًا بمقرِّ مجموعة العمل، وعرفتُ أنهم لم يكتملوا بعدُ، وفي نفس الوقت قابلتُ الأصدقاء، وهم في طريقهم إلى رحلةٍ لقضاء وقتٍ على ساحل المحيط الأطلنطي، فدعوني، وقَبِلتُ الدعوة.
نظر له «كاماي» لحظة، ثم قال: هي إذن فرصة طيبة، حتى أدعوَك لقضاء بعض الوقت. وصمتَ لحظة ثم قال: أصدقاؤك من بلدك؟
عثمان: إنهم من مصر، والكويت، والسعودية.
ظهرت علاماتُ الارتياح على وجه «كاماي»، وقال: إن لي أصدقاءَ في كل بلد منهم، فإنني أورِّد الماس لبعض التجار هناك، هل تدعوهم لأتعرَّف إليهم؟
كانت فرصةً ذهبية، ليكون الأصدقاء بجوار مصدر المعلومات، فقال «عثمان» بسرعةٍ: سوف يُسعدهم ذلك، فقد حدَّثتُهم عنك.
أسرع إلى الشياطين فنقل لهم ما دار، واتجهوا جميعًا إلى حيث يجلس «كاماي»، فقدَّمهم إليه، كان الرجل رقيقًا جدًّا، حتى إن الحديث دارَ بسرعةٍ بين الجميع، ولم يقطعْه غيُر مندوب شركة الطيران: يدعو المسافرين إلى السيارة، فأسرعوا جميعًا، ولم تمضِ دقائق، حتى كانت السيارة تقطع الطريق إلى المطار الذي وصلَتْه بعد نصف ساعة. وعندما استقلوا الطائرة، كان مقعد «عثمان» بجوار «كاماي» الذي ابتسم قائلًا: يبدو أنها سوف تكون صداقةً طويلة. «عثمان»: إنه من حُسْن حظِّي يا سيدي.
أقلعَت الطائرة بعد قليلٍ، وعندما استوَت في طيرانها اقترب «أحمد» منهما، وهو يقول: أعتقدُ أنَّ من حقِّي أمام صداقةٍ وليدة، أن أجلس إلى السيد «كاماي»، فلي بعضُ الحديث معه.
ابتسم «كاماي» وهو يقول: إن ذلك يُسعدني جدًّا؛ فقد كنت في شبابي، أسعى إلى تنمية علاقاتي، إنها مكسبٌ عظيم في حياة الإنسان.
وقف «عثمان» وهو يبتسم قائلًا: إنني سوف أَفتقدُ تلك اللحظاتِ الممتعةَ التي قضيتُها مع السيد «كاماي»، إنه يُمثِّل بالنسبة لي خبرةً طويلة.
ظهرت السعادةُ على وجه «كاماي» أمام تلك الكلمات الرقيقة التي قالها «عثمان»، ثم قال: سوف نجلس في فيلَّتي طويلًا، أمام الطبيعة التي لا مثيلَ لها، إنني لم أُنجِبْ في حياتي وسوف يُسعدني أن أعتبرَكم أبناءً لي.
شكره «عثمان» ثم انصرف، بدأ حديثٌ طويل بين «كاماي» و«أحمد» عن عمَّال المناجم، والعناية بهم، وكيف يَلقَون الإجهادَ والإهمال، والكوارث التي تُصيب العاملين في تلك الأماكن الصعبة. وتحدَّث «كاماي» عن «اتحاد عمَّال المناجم» في جنوب أفريقيا، وتحدَّث عن نظم العمَّال في الهند وفي دول كثيرة من العالم، حتى انتهى حديثُه إلى ذلك اللقاء الذي حدَثَ بينه وبين طبيبٍ من «بلجيكا» مهتمٍّ بحياة عمَّال المناجم، وكيف أن هذا الطبيب يُنظِّم لهم رعايةً طبِّيةً جيدة، وكيف يُطالب لهم بمميزات يفتقر إليها كثيرٌ من عمَّال المناجم في العالم، وأخيرًا قال: إن هذا الطبيب، يصلح أن يكون رئيسًا لاتحاد عمَّال المناجم العالمي.
لفتَ نظرَ «أحمد» هذا الحديثُ عن الطبيب البلجيكي الذي يتحمَّس له «كاماي»، فسأل: هل هو يُقيم في بلده؟ قال «كاماي» في حماس: لا، لقد هجر بلده إلى جنوب أفريقيا لإيمانه برسالته. فصمت «أحمد» قليلًا، كان يشعر أنه سوف يَصِلُ إلى شيءٍ ما، ولمعَتْ في ذهنه من جديد القاعدةُ المشهورة بين الشياطين: «إن الآخرين مصدرٌ طيب للمعلومات.» سأل: هل تَلْقَاه كثيرًا؟
كاماي: كلما ذهبتُ إلى «ماريدال».
أحمد: أتمنَّى فعلًا أن ألقاه، ما دام على هذه الدرجة من الإنسانية. وصمتَ قليلًا ثم سأل: ما اسمه؟
قال «كاماي» بسرعةٍ: الدكتور «هام». إنه طبيبُ أسنان، وهو الذي يقوم على رعاية العمَّال.
صمتَ «أحمد» مرةً أخرى، كان ذهنُه يعمل بسرعةٍ لكنَّ سؤالًا تعلَّق في خاطره: هل دكتور «هام»، هو نفسه دكتور «كيد» الذي تحدَّث عنه رقم «صفر»؟