الجميع … في عربة واحدة!
لاحظَ «كاماي» تلك اللحظةَ السريعة التي فكَّر فيها «أحمد»، فنظر له قليلًا، ثم سأل: ماذا حدث؟
أجاب «أحمد» بسرعةٍ: لقد كنتُ أفكِّر كيف أن طبيبًا من بلجيكا يهتمُّ بعمَّالنا، في نفس الوقت الذي لا نهتمُّ نحن بهم.
ابتسم «كاماي»؛ فقد كانت الإجابةُ ذكيةً بما يكفي، ثم أضاف «كاماي»: دَعْنا من هذا الآن، فإن الاستعمار يفعل الأعاجيب، من أجل قَتْل الوطنيِّين في أيِّ مكانٍ. وصمتَ لحظةً، ثم سأل: مِن أين أنت؟ فأخذ «أحمد» يُحدِّثُه عن مصر، و«كاماي» يُنصِتُ باهتمام. في النهاية قال: أتمنَّى أن أُقيمَ بعضَ الوقت في بلدكم؛ فإننا نعتبرها رمزًا لنهضة أفريقيا كلها، لقد كنت أمرُّ في كثير من رحلاتي إلى الشرق الأوسط بها، لكن ظروفي لم تسمح لي أن أبقَى فيها بعضَ الوقت.
قطع «عثمان» حديثَ الاثنين، عندما أقبل مبتسمًا وهو يقول: يبدو أنني تأخَّرتُ بعضَ الوقت، كان يجب أن آتيَ سريعًا. فعلَّق «كاماي» قائلًا: إن صديقك «رشدي» شخصيةٌ ممتازة، بجوار أنه يتمتع بعقلية جيدة.
أخذ «عثمان» مكانَه بجوار «كاماي»، فاستأذن «أحمد» منصرفًا، وكان السؤال لا يزال يدور في رأسه: هل الدكتور «هام» هو نفسه دكتور «كيد»؟ لو أن هذه حقيقة، فسوف تكون المغامرة ممتعة تمامًا.
أخذ «أحمد» طريقَه إلى كرسيِّه الذي كان يقع قريبًا من مقعد «فهد»، الذي كان قد اشتبك مع شابٍّ في حديث حول كتابٍ يبدو بينهما، ولم يتوقَّف أمام «فهد» وإن كانت أعينُهما قد التقَتْ حول معنًى يفهمانِه جيدًا، وألقَى نفسَه في مقعده، حيث كانت تجلس فتاةٌ متوسطةُ السنِّ، تنظر من زجاج النافذة، على قُطعان السُّحُب، التي تُشبه القطن، كانت السُّحُب كثيفةً تمامًا، تبدو، وكأنها أكوامٌ من القطن الأبيض، ورفعَت الفتاةُ عينَيها إليه وابتسمَت، فابتسم لها، قالت: هل أنتَ ذاهبٌ إلى «جوهانسبرج»؟
قال: نعم، وقد تمتدُّ الرحلة إلى «كيب تاون».
قالت في بساطةٍ: إنني ذاهبةٌ إلى أبي الذي يعمل في منطقة «أورنج»، حيث تقع مناجم الماس. بسرعةٍ رنَّت القاعدة المشهورة في ذهنه: «إن الآخرين مصدرٌ طيِّبٌ للمعلومات.»
فابتسم، وهو ينظر في أصابعِها وعُنُقِها ثم قال: يبدو أنكِ لا تُحبِّين الماس!
نظرَت له في تساؤل، ثم قالت: ولماذا قلتَ ذلك؟!
أجاب: لأنه لا يبدو في أصابعِك أو عُنُقِك.
صمتَت الفتاةُ قليلًا، ثم قالت: ليس بالضرورة أن أتحلَّى بالماس، ما دام أبي يعمل في منطقته.
أحمد: ماذا يعمل والدُكِ؟
الفتاة: مهندسٌ معماريٌّ، إنهم يبنون هناك مستعمرةً لعمَّال مناجم الماس.
أحمد: هذه أول مرة تذهبين إليها؟
الفتاة: نعم، غير أنَّ أبي هناك منذ شهور.
دارَت أحاديثُ طويلةٌ بينهما عن منطقة «أورنج»، والمدن القريبة، والحياة في جنوب أفريقيا، أخيرًا قالت الفتاة: هل تدعوني لقضاء رحلةٍ معكم إلى «كيب تاون»؟
أحمد: إن ذلك يُسعدُنا جدًّا، لو وافقَ والدُكِ!
الفتاة: سوف يوافق أبي بالتأكيد، فهو طبعًا مشغولٌ بالعمل طوال النهار، وسوف أُعطِّله لو بقيتُ هناك طول الوقت.
عندما صمتَا، كان «أحمد» قد عرَف أن الفتاةَ اسمها «فلاور»، وأن والدها هو المهندس «جان فال»، وهو مهندسُ المشروع، وقد اتفقَا على موعدٍ يلتقي فيه بوالدها، وانقضَى الوقتُ بشكل طيب؛ فقد خرج الشياطين من علاقاتهم داخل الطائرة برصيدٍ جيد من المعلومات، وعندما كانت الطائرة تقترب من مطار «جوهانسبرج»، كان صوتُ المذيعة يُقدِّم بعضَ المعلومات عن المدينة لركاب الطائرة، وأخذ الجميعُ ينظرون إلى المدينة التي كانت تبدو وكأنها «ماكيت» لمدينةٍ سوف تُصوَّر سينمائيًّا.
دارت الطائرةُ دورةً كاملة حولها، ثم بدأت تأخذ طريقَها إلى الممر، حتى لامسَتْ عجلاتُها الأرضَ، فشعر الركاب بذلك، وجرَت في الممرِّ بسرعةٍ، حتى توقَّفتْ في النهاية، وأخذ الركُّابُ طريقَهم إلى باب النزول، حيث كان سُلَّمُ الطائرة قد التحم بها … كانت «فلاور» تتقدَّم وخلفها «أحمد»، توقَّفت قليلًا عند بداية السُّلَّم، وهي تنظر إلى التجمُّع القليل الواقف هناك، ثم رفعت يدَها وبدأَت تُشير، وعندما نظرَت خلفها، كان «أحمد» يُراقبها، فابتسمَت قائلةً: «إنه أبي، سوف أُقدِّمك إليه.» نزل المسافرون على مَهَلٍ وأخذوا طريقَهم إلى الخارج … كان «عثمان» لا يزال يمشي بجوار «كاماي»، بينما كان «فهد» و«قيس» يمشيان معًا.
تجاوزَت «فلاور» البابَ، ثم ألقَت نفسها في حضْنِ أبيها الذي قبَّلَها في مرَح، ونظرت إلى «أحمد»، وقدَّمَته إلى أبيها الذي حيَّاه في قوة، وتقدَّموا إلى الخارج، مع كلماتٍ متناثرةٍ حول الرحلة، وعندما وقفوا عند باب الخروج في انتظار الحقائب، قال «جان فال»: أتمنَّى أن أراك مرة أخرى! ثم قدَّم له رقم التليفون، حتى يستطيعَ الاتصال به، فودَّعهما ونظر حوله يبحث عن الشياطين … كانوا يقفون حول «كاماي» الذي كان يرقُب «أحمد» مبتسمًا، واقترب منهم، وهو يقول: آسف، فقط كان يجب أن أعرف الرجل. ضحك «كاماي» في مسرح وقال: وهل عرفتَه؟
أحمد: نعم، إنه مهندس مشروع المستعمرة السكانية التي تُبنَى لعمَّال المناجم في منطقة «أورنج». قال «كاماي» في مرحٍ: لا بُدَّ أنه يتبع الدكتور «هام»، فقد حدَّثني في آخر مرة التقَينا فيها، عن المستعمرة.
وصلَت حقائب «كاماي»، فأخذوا طريقَهم إلى الخارج … قال «كاماي»: إن المواصلات جيدةٌ إلى «ماريدال»، ويقوم قطارٌ كلَّ ساعة تقريبًا من «جوهانسبرج» إلى هناك. ما رأيكم في شيءٍ من الطعام قبل السفر؟ نظر الشياطين إلى بعضهم، وقال «أحمد»: سوف يُسعِدُنا ذلك.
استقلُّوا جميعًا إحدى سيارات الأجرة، فحدَّد «كاماي» مكانًا معينًا للسائق، انطلق على أثرِه إلى هناك، قال «كاماي»: إن هذا المطعم مشهورٌ بأكلاته الشرقية، فأنتم لن تستسيغوا الطعامَ الوطني بسرعةٍ.
في المطعم، طلب الشياطين أن يأكلوا «كباب»، حتى إن «كاماي» ضَحِك وهو يُعلِّق: لقد كنتُ أعرف أنكم سوف تأكلونه. عندما انتهى الطعام، أخذوا طريقهم إلى خارجه، ووقفوا على الرصيف فقال: إن الرحلة سوف تكون طويلة بالقطار، إنها تستغرق يومًا وليلة. توقَّفَت عربة، فاستقلُّوها إلى المحطة … كانت شوارع «جوهانسبرج» تبدو وكأنها قطعةٌ من أوروبا، كانت نظيفةً تمامًا، يغلب على السائرين في شوارعها الجنسُ الأوروبي، وقلة من الوطنيِّين، حتى إن «فهد» علَّق قائلًا: يبدو أننا أخطأنا المكان.
ابتسم «كاماي» ابتسامةً سريعة، ثم ظهر الأسفُ على وجهه، وقال: نعم مع الأسف، يبدو ذلك، إن الأجانب يملكون البلد أكثر من أهلها، إن الوطنيين معظمهم في العمل الآن، في الوقت الذي يتمتع فيه البيض بنتيجة العمل.
نظر السائق خلفه، وعلَّق قائلًا: متى تنتهي هذه الحفلة الأوروبية؟ لم يُجِب أحدٌ، واستمرَّ السائق في طريقه، عند باب المحطة، توقَّفت السيارة، فغادروها، كانت لا تزال هناك خمس دقائق حتى يتحرك القطار، ظلَّ الشياطين يرقبون المحطة، كانت أوروبيةَ الطراز، تبدو عليها النظافةُ الكاملة، وقال «كاماي»: إن جنوب أفريقيا تتمتع بأكبر شبكة مواصلات للسكك الحديدية في أفريقيا كلها، فهي تُغطِّي كلَّ أقاليمها، ولا يخفى عليكم طبعًا، اهتمامُ الرجل الأوروبي بهذه الشبكة أنها في النهاية تُساعده على نقل ما يحتاجه إلى الموانئ والمطارات … إنها جزء من استغلاله لنا.
تحَّركوا إلى القطار، الذي بدأ يُرسل صفاراتِه، إنذارًا لموعد التحرك، وعندما جلسوا في أماكنهم تحرَّك القطار … كانوا يجلسون في بوفيه القطار، أما مقاعد السفر، فقد كانت حجراتِ نوم لكل اثنين، فسوف يبيتون الليلةَ في القطار، وكانت الحجرات الثلاث التي ينزلون فيها متجاورة، ولم يكن أيٌّ منهم يملك الرغبة في الحديث، ولذلك فقد كانوا يشربون الشايَ في هدوءٍ، وقد تعلقت أعينهم بالمناظر الخارجية التي كانت تُتابع بنفس سرعة القطار.
فجأةً، ظهرَت «فلاور» على باب «البوفيه»، وخلفها والدها، وغمز «كاماي» بعينَيه إلى «أحمد» وقال: ها هم أصدقاؤك هل تدعوهم؟
نظر «أحمد» في نفس الاتجاه، فرآها، ابتسمَت له، فوقف يدعوهما فاقتربَا منه، فقدَّمهما لبقية المجموعة، وعندما جلسوا، دار الحوار بين «كاماي» و«جان فال»، وظلَّ الشياطين يستمعون، كان أهمُّ ما سَمِعه الشياطين، ذلك الحديثَ عن الدكتور «هام»؛ فقد عرفوا أن «جان فال» يعمل معه، وأنه الذي يقوم بتنفيذ المستعمرة السكنية لحساب الدكتور «هام»، ولقد صاح «كاماي» فرحًا عندما ذكر «جان فال» ذلك، ونظر إلى «أحمد» قائلًا: ألم أقل لك، إنه رجل نادر!
قال «أحمد» بودٍّ شديدٍ: لقد أصبحت مشوقًا لأن أراه.
هتفَ «جان فال» بسرعة: إنه سوف يكون في المستعمرة بعد غدٍ، حتى يرى ما انتهينا منه.
قال «أحمد»: إنها إذن فرصةٌ طيبة، حتى أتعرَّف عليه … وصمت لحظةً، ثم أبدَى ملاحظةً ضحكوا عليها جميعًا: أذكر أن هناك قريةً تُسمَّى «فال»، تقع على نهر «فال»، هل السيد «جان فال» على علاقة بتلك الأماكن؟
قال المهندس المفتول العضلات: إنها مجردُ صدفةٍ، ولو كنت أدري لسألت والدي عن سبب تسميته باسم «فال»!
كان الإيقاع المنتظم للقطار يجعلهم يهتزُّون بانتظام، وقامت «فلاور» إلى النافذة تَرقُب تلك المناظر الطبيعية الساحرة التي تجري مسرعةً، وكأنها تفرُّ من شيء يُطاردها فنظر والدها إليها وقال: أخشى أن تُصابي بالملل، فالحياة هنا قاسية نوعًا ما. تذكَّر «أحمد» رغبتَها في مصاحبتهم في الرحلة، لكنه لم يُعلِّق بشيءٍ، وأكمل «جان فال» حديثَه: سوف أتركها تذهب إلى «كيب تاون» بعض الوقت، حتى لا تهربَ مني. ثم ضحك ضحكةً رقيقة.
قال «أحمد»: إنه سوف يُسعدنا أن تصحبَنا في رحلتنا، إننا نفكر في الذهاب إلى هناك.
قال «فال» في هدوءٍ: لقد حدَّثتْني عن ذلك، وسوف أكون سعيدًا، لو تكرَّمتم باصطحابها. نظر «فهد» حولَه لحظةً، ثم قام، آخذًا طريقَه إليها … حتى وقف معها، ودار حديث بينهما.
كان الآخرون يتابعون منظرَهما، وعلى وجهِ «فال» ابتسامةٌ هادئة وتحدَّث الرجلُ طويلًا عن ابنته، ودراستها، وهواياتها: وكان «أحمد» يُنصت باهتمامٍ … إن «فلاور» سوف نكون طريقًا طيبًا، للوصول إلى المناجم، دون أن يدعوَ ذلك إلى الشكِّ فيهم. وعندما شردَ بذهنِه عن الحديث الذي كان يُتابعه «عثمان» و«قيس»، كان يستعيد أوصافَ دكتور «كيد»، إنه كما قال رقم «صفر»: ذكيٌّ أصلعُ، في حدود الخمسين، مبتسمٌ دائمًا، يُجيد الرماية، ويحمل لقبًا في ألعاب الكاراتيه. إنه في النهاية شخصية تستحق الصراع.
مرَّ وقتٌ طويلٌ، قبل أن يقف «فال»، وهو يستأذن في الانصراف، بعدها بقليلٍ، أخذوا طريقهم إلى حجراتهم المتجاورة، كان «أحمد» و«قيس» ينزلان في حجرة واحدة، و«عثمان» و«فهد» في حجرة أخرى، بينما كان «كاماي» ينزل بمفرده … وقال «أحمد» وهو يخلع ثيابه: أظن أننا اختصرنا الكثير من الوقت في هذه المغامرة. أجاب «قيس»: هذا إذا كان الدكتور «هام» هو نفسه دكتور «كيد».
استلقَى كلٌّ منهما على سريره، وشردَ يفكِّر، إلا أن اهتزازَ القطار كان كفيلًا أن يدعوَ النوم إليهما، فاستغرقَا، ولم يستيقظَا إلا في صباح اليوم التالي. وعندما فتح «أحمد» عينَيه، قال: هل استيقظتَ؟
أجاب «قيس»: نعم، منذ دقائق.
ولم تمرَّ دقائق أخرى، حتى كان الشياطين يأخذون طريقَهم إلى قاعة الطعام في القطار، وهناك كان «كاماي» يجلس بمفرده، يحتسي قهوتَه في هدوء، فألقَى الشياطين تحيةَ الصباح، ثم جلسوا، وجاءهم الإفطار، فأخذوا يأكلون في هدوء … بينما كان «كاماي» يَرْقُبهم في سعادة، وانتهَوا من إفطارهم، وجلسوا صامتين، وابتسم «كاماي» وهو يقول: يبدو أنكم مشغولون بشيءٍ. أجاب «أحمد» بسرعةٍ: إننا لم نُفِقْ من النوم بعدُ. ابتسموا جميعًا لإجابته وأخذ «كاماي» يتحدَّث عن صِباه، عندما كان في سنِّهم، لكنه فجأةً، توقَّف عن الحديث، وصاح: مرحبًا، إن هذه مفاجأة لم أتوقَّعْها!
نظر الشياطين في نفس الاتجاه الذي كان يخاطبه «كاماي» لقد كانت مفاجأةً فعلًا.