المنجم … ينهار فوق الشياطين!
اختبأ الشياطين خلف إحدى الأشجار الضخمة، يرقبون هذا الهجوم الناري، وكانت السيارة مضاءةً، تكشف أمامهم حركة العصابة. قال «عثمان»: يجب أن نصل إلى سيارتنا. ردَّ «قيس»: من المؤكد أنهم عندها الآن. وأضاف «أحمد»: لا أظن. لقد خبَّأتها خلف شجرة تُخفيها عن أعينهم. بجوار أنها لم تكن في طريقهم.
دارَ الشياطين دورةً واسعة. كانوا يتحركون كالأشباح في سرعة مذهلة، وعندما أصبحوا في اتجاه السيارة أخذوا طريقهم إليها، وتسلَّلوا في هدوء، ولم يكن هناك أحد. أخرج «فهد» نظارته المكبرة، ثم رصد سيارتهم. كانت السيارة خاليةً، قال: إنها فرصةٌ، حتى نتخلص منهم. سوف أزحف إليها، لأنسفها.
ركب الشياطين السيارة، بينما أسرع «فهد» إلى سيارة العصابة. وعندما وصل إليها، كان الشياطين يقتربون بسيارتهم في هدوءٍ، وعلى ضوء سيارة العصابة. أخرج «فهد» شحنةً ناسفة، ثم لصقها في بطن السيارة، وأسرع في اتجاه الشياطين ركب السيارة التي انطلقَت في سرعة. وعندما ابتعدوا بما يكفي، أخرج جهازًا صغيرًا من جيبه، ثم ضغط على أحد أزراره، فدوَّى انفجارٌ رهيب، تردَّد في جنبات الغابة، وسمع صداه في الصمت الذي يلفُّ المكان. وفي جهاز الرادار المثبت في تابلوه السيارة، شاهد الشياطين سيارة العصابة وهي مشتعلةٌ. وبأقصى سرعة، كان «قيس» يقطع القرية الصغيرة، مبتعدًا ومتجهًا إلى «ماريدال». وفي أقل من نصف ساعة، كانوا يدخلون المدينة الهادئة، التي يلفُّها النوم؛ فقد كانت الساعة بعد منتصف الليل، تخلصوا من السيارة بسرعةٍ، فقد تركوها عند النقطة «ل»، في نفس مكانها. وعندما دخلوا المقرَّ السري، أسرع «أحمد» يتصل بعميل رقم «صفر»، ويطلب التخلص من السيارة نهائيًّا. ولم تمضِ ربع ساعة، حتى كانوا يغطُّون في نومٍ عميق …
لقد كان يومًا مشحونًا بالتوتر والصراع. وهذا ما جعلهم يغرقون في النوم بسرعةٍ. في نفس الوقت، كانوا قد تأكَّدوا أن الصدام قد بدأ، وأن عليهم أن يستعدُّوا لذلك.
عندما استيقظ «أحمد» مبكرًا كعادته، فتح النوافذ فغَرِق المقرُّ في ضوء النهار. وبسرعةٍ كان الشياطين قد استعدُّوا للحركة. تحدَّث «أحمد» في التليفون إلى «فلاور» التي جاء صوتها ملهوفًا. كانت تطلب حضورهم بسرعة؛ لأنها سوف تنطلق بعد قليل، إلى حيث مستعمرة العمال الجديدة في «كمبرلي». رد «أحمد»: أين نجدك؟
قالت «فلاور»: منزل ٩٠ شارع «البحر الأزرق».
ودَّعها، ووضع السماعة، ثم قال بسرعة: يجب أن ننطلق إليها، حتى لا نكونَ موضعَ شك.
أسرعوا بالخروج، واستقلُّوا تاكسيًا. وعندما سمع السائق العنوان انطلق إليه. كانوا يشعرون بالسعادة … فالظروف في جانبهم. لم يستمرَّ الطريق طويلًا، فقد انحرف السائق شمالًا، ثم توقَّف بعد ثلاثة بيوتٍ. كان رقم ٩٠ يعلوا البيت. وعندما كانوا يغادرون التاكسي، جاءهم صوت «فلاور»: أهلًا بكم. لقد وصلتم في موعدكم. في دقائق كانت «فلاور» تقف بينهم، كانت تلبس بدلة «جينز» زرقاء، وتضع على رأسها قبعةً عريضة. قالت مبتسمةً: لقد رحل أبي منذ ساعتين، وأرسل لي هذه السيارة، حتى تُقلَّنا إلى هناك. أسرعوا إلى السيارة فأخذوا أماكنهم فيها. كانت سيارة من طراز «فورد» القوي، أخذ «عثمان» يتحدث إلى «فلاور» في نفس الوقت، الذي شرد فيه «أحمد» يفكر: إن كمبرلي هي نفسها مكان المناجم. وهي تبعد عن قرية «فال» بحوالي ثلاثين كيلو مترًا. إنها فرصة أخرى طيبة، حتى يمُّروا بجوار الفيلَّا، وليروا ما حدث. ظلَّت السيارة في تقدُّمِها بين ظلال الأشجار، حتى بدأت أكواخ القرية في الظهور كان الجميع صامتين في هذه اللحظة، إلا أن «أحمد» قطع الصمت عامدًا، وهو يسأل السائق: ما اسم هذه القرية؟
أجاب السائق: قرية «فال». حيث توجد عيادة الدكتور «هام» ذلك الرجل الطيب.
سأل «أحمد»: وهذه الأكواخ، هل هي لسكان القرية؟
أجاب السائق: لا. إنها مكانٌ للراحة عندما يمرض أحد العمال، أو يحتاج لبعض الراحة.
فَهِم «قيس» أسئلةَ «أحمد» فعلَّق قائلًا: إنها مكانٌ بديع!
قالت «فلاور»: إننا نستطيع أن نقضيَ عدة أيامٍ هنا.
ظهرت الفيلَّا البيضاء، فقال «فهد»: مبنًى رائعٌ!
فردَّ السائق: إنها عيادة الدكتور «هام».
قال «فهد» يبدو أنه رجل عظيم! أضاف السائق في سعادة: إنه أكثر من عظيم؛ فهو الذي يعالج العمال، ويسهر على راحتهم. والمستعمرة الجديدة التي تُبنَى الآن هو الذي يبنيها من أجل العمال أيضًا.
قال «أحمد»: هل تتوقف قليلًا أمام الفيلَّا. إنها بديعةٌ فعلًا!
توقَّف السائق قريبًا من الفيلَّا. لم يكن هناك شيءٌ غيرُ عاديٍّ. كان المكان هادئًا. قالت «فلاور»: هل ننزل قليلًا، أو نترك ذلك لوقتٍ آخر؟
فكر «أحمد» بسرعة: أظن أننا نستطيع أن نعود في وقتٍ آخر. انطلق السائق إلى «كمبرلي». وبعد حوالي خمس دقائق، صاحت «فلاور»: هل ترون؟ أشارَت في اتجاه الغابة. نظر الشياطين في نفس الاتجاه، كانت هناك سيارة محترقة تمامًا. علَّقت: يبدو أنها احترقَت الآن فقط. لم يُعلِّق أحدٌ من الشياطين بكلمة، واستمرَّت السيارة في طريقها. بعد قليل ظهر نهرُ «فال». نهرٌ صغير هادئ، يُكمل اللوحة الطبيعية البديعة. وعندما كانوا يمرُّون فوقه علَّق «قيس»: إنه يبدو كأنهار الأفلام!
وقال «فهد»: كأنه مرسوم بعناية!
… واستمر الطريق. بينما كان الشياطين يرصدون المكان جيدًا. ثم أخيرًا ظهرت المساكن البيضاء من بعيدٍ. فبدَت وكأنها رسمٌ بديعٌ للوحةٍ ضخمة. قالت «فلاور» بفرح: هذا هو أبي. لم يكن المهندس «فال» قد ظهر، لكنها كانت تعني أن هذه المساكن البيضاء من عمل والدها. ظلُّوا يقتربون، حتى ظهر العمال الذين يعملون في المستعمرة. وتحت مظلة متعددة الألوان، كان يجلس «فال»، يرقب حركة العمل، وما إن سَمِع صوتَ محرِّكِ السيارة حتى التفَتَ إليها. توقَّفت السيارة بالقرب منه، فنزلوا جميعًا. ذهب إليهم «فال» مرحِّبًا بهم، ثم أخذه في جولة داخل المستعمرة. وعندما عادوا، كانت تنتظرهم مفاجأة لقد كان الدكتور «هام» يجلس تحت المظلة … وكان يبدو هادئًا تمامًا … وخلفه … كان يقف رجل تبدو عليه الشراسة. كان يُسدِّد نظراتٍ حادةً إلى «فهد» الذي حاول أن ينشغل عنه. رحَّب بهم «هام»، ومدح «أحمد» ذلك العمل كثيرًا.
استأذن «فال» وانصرف للمرور داخل المستعمرة، وبقيَ الشياطين مع «هام» كان الرجل ينظر إليهم نظراتٍ ذكيةً. تبدو وكأنها تقول: «إنني أفهمكم.» لكن الشياطين كانوا يفكرون في طريقةٍ أخرى لمصادقته. قال «هام»: هل لكم في زيارة أحد المناجم؟
أجاب «أحمد» بسرعةٍ: إنها فرصةٌ طيبة، لو تحقق ذلك.
تقدَّم «هام» واصطحبهم في سيارته «الجيب» إلا أنه قال، قبل أن يصعدوا إلى السيارة: أظن أن على الآنسة «فلاور» أن تبقى؛ فالمناجم صعبةٌ من الداخل. ورغم أن «فلاور» أبدَت رغبتَها في مصاحبة الشياطين، إلا أن كلمات «هام» كانت قاطعةً بما يكفي لأن تتراجع.
انطلقت السيارة «الجيب» في اتجاه «كمبرلي» حيث المناجم، ولم تكن تَبعُد كثيرًا. وعندما وصلوا إلى هناك، وقف أمامهم «هام»، ثم صاح مناديًا أحدَ الرجال: «روك» … عليك باصطحاب الأصدقاء إلى «عين الطاووس». إنهم يريدون مشاهدة المناجم. صمتَ لحظة ثم قال لهم: إن «عين الطاووس» هي المكان الآمن في المناجم. فهنا يتعرَّض العمال لانهيارات كثيرة، لا أريد أن تتعرضوا لها.
تقدم «روك» أمامهم، فتَبِعوه. كانوا يشعرون أن الموقف ليس طبيعيًّا، وأن هناك شيئًا ما، لكن ذلك لم يجعلهم يتراجعون … كان عليهم فقط أن يتقدموا في حذرٍ استعدادًا لأي شيءٍ … قطعوا أكثر من مائتي متر، عندما ظهرت فتحة المنجم. كانت تبدو كنصف دائرة، حتى إن «عثمان» علَّق قائلًا: هذا فم الوحش الذي سوف يأكلنا. لم يُعلِّق أحدٌ بشيء. التفَت «روك» وهو يبتسم ابتسامة غيرَ مريحةٍ، وقال: إنه مضاءٌ جيدًا من الداخل، هيَّا. تقدَّم خطوة إلى الداخل، والتقَت أعين الشياطين بسرعة، ثم تقدَّم «أحمد».
كان المنجَم يبدو مظلمًا في نهايته وإن كانت الإضاءة قوية على جانبَيه. تغيَّرت رائحة الهواء، وبدَا ثقيلًا، حتى إنهم كانوا يتنفسون بصعوبة لكنهم استمروا في تقدمهم، وقال «روك» دون أن يلتفت إليهم: أظن أننا التقينا مرة قبل الآن. كانت هذه الجملة لافتة للنظر، فتوقَّف الشياطين لحظةً سريعة، لكنهم استمروا … بدأت روائحُ كريهةٌ تَصِل إليهم، وكان الموقف ممتلئًا بالشك.
أعاد «روك» جملتَه بشكلٍ آخر: أمس كنت في عيادة الدكتور «هام» عندما … ولم يُكمل جملته، لكنه استدار، ونظر إلى «فهد» نظرةً سريعة، وأكمل مبتسمًا: هل تذكر؟ كان يُوجِّه كلمتَه إلى «فهد» الذي قال: هل تتحدَّث إليَّ؟ فاستمرَّ «روك» دون أن يتكلم … كان واضحًا أن «روك» قد رأى «فهد» أمس، عندما كان في العيادة، وأصبح من الضروري أن يتصرَّف الشياطين بسرعةٍ، فخطَا «فهد» خطواتٍ واسعةً مقتربًا من «روك» الذي شعر بخطواته فالتفت إليه وضحك ضحكةً مرعبة، دوَّت في جنبات المنجم الصامت، الموحش.
قال «فهد»: هل تقصد أننا التقينا قبل الآن؟ وما إن أكمل «فهد» جملتَه، حتى كانت قبضة «روك» قد طارت في الهواء، واصطدمت بوجه «فهد» فتراجع مصطدمًا بالشياطين، وصرخ «روك»: هل تريد أن تخدعني؟
فجأة، ظهر ما لم يكن يتوقعه الشياطين … أربعة من الرجال الأشدَّاء، خرجوا من فتحات في جوانب المنجم، كانت ملامحهم تنطق بالشر. فتحفَّز الشياطين، بعد أن اعتدل «فهد»، وأصبح واضحًا أنهم مقبلون على معركة رهيبة. ضحك الرجال الأربعة ضحكات خشنة، ترددت في جنبات المنجم، وكأنهم قد دربوا على ذلك. أخذ الشياطين يتراجعون أمامهم، حتى أصبحت ظهورهم في حائط المنجم. لم يكن الرجال يحملون أسلحة من أي نوع. وكان واضحًا أنهم يعتمدون على قوتهم العضلية، في نفس الوقت كان «روك» يقف مراقبًا، وعلى وجهه ابتسامةٌ ساخرة.
توقَّف الرجال في وضع واحد وقال «روك»: لماذا كنت في العيادة أمس؟ لم ينطق «فهد» فأكمل «روك»: إنني أعرف أنك لن تنطق بسهولة، لكنك سوف تنطق بعد قليل … وما إن انتهى من جملته حتى كان الرجال الأربعة اندفعوا بقوة في اتجاه الشياطين وبدأت المعركة.
أمسك أحدهم بذراع «أحمد» مطوِّحًا به في اتجاه «روك» الذي وقف يضحك، فاصطدم «أحمد» به، في الوقت الذي لم يكن يتوقعه. وكانت هذه فرصة «أحمد» ليتخلص من «روك». فمع اصطدامه به، لكمه لكمةً قوية فسقط على الأرض يصرخ. وقبل أن يتابعه الرجل، كان «أحمد» قد دار على الأرض دورتَين، ثم ضرب الرجلَ ضربةً مزدوجة بكلتا قدمَيه، جعلَته يدور حول نفسه، ثم يصطدم بالحائط فيسقط بلا حَراك.
في نفس الوقت كان بقية الشياطين قد اشتبكوا مع الباقين في معركة حادة … كان الرجال أقوياء بلا شكٍّ، حتى إن «أحمد» لجأ إلى مسدسه فأخرجه، وأطلق إبرة مخدرة أصابت الرجل المشتبك «بعثمان» فتوقف قليلًا ينظر إلى «أحمد» في بلاهة، ثم سقط على الأرض … وتوقَّف الرجلان الآخران، ينظران إلى ما حدث في دهشة، ثم تراجعَا في هدوء، عند نفس المكان الذي خرجَا منه … تابعهما الشياطين، لكن في لمح البصر، كان الرجلان قد اختفيَا، فأسرع الشياطين خلفهم. كان هناك باب صخري قد أغلق المكان الذي اختفيَا فيه. حاول «قيس» أن يتعامل مع الباب، إلا أنه لم يتزحزح من مكانه.
فجأةً، كأن الدنيا قد انقلبت، وكأن المنجم قد بدأ ينهار، وبدأت أتربةٌ كثيرة تصنع تيارًا كثيفًا، حتى إن الشياطين فقدوا القدرة على الرؤية، فقال «أحمد» بسرعةٍ: إنهم يسدُّون الطريق أمامنا. وجرَى في اتجاه الانهيار الذي حدث، فرأى فتحةً ضخمة في السقف تنزل منها الأتربة، التي أخذت تصنع جبلًا يسدُّ الطريق أمامهم. كان تنفسهم قد أصبح صعبًا، نتيجة التراب الذي ملأ المكان فصاح «فهد»: السبيل هو الباب.
أسرعوا في اتجاه الباب الذي اختفى فيه الرجلان، وأخرج «قيس» من جيبه شحنةً ناسفة محدودة القوة، لصقَها عند التحام الباب بجسم المنجم وتراجعوا بسرعة. ضغط «قيس» جهاز التفجير الصغير الذي يحمله، فدوَّى صوتُ الشحنة الناسفة، وبدأ الباب ينهار. ظهر ضوءٌ خافت، عرفوا أنه ضوء النهار، ولكن فجأة دوَّت رصاصة بجوار «فهد»، وعندما التفَت الشياطين إلى مصدرها، كان «روك» يضغط زناد مسدسه؛ ليُطلق طلقتَه الثانية …