المبحث الأول: فلسطينُ في العَصرِ الحجَريِّ القَديم
وتعتمد دراسة الإنسان الأول — والذي ظهر على وجه الأرض بهيئةٍ مقارنةٍ نوعًا، لهيئة الإنسان الحالي — على المقاربات البايولوجية مع الحيوانات الفِقرية المرافقة له في نهايات الدهر الجيولوجي الثالث وبدايات الدهر الجيولوجي الرابع.
- (١) العصرُ الحجريُّ الفَجْري (السحيق) Eolithic Age: ويبدأُ تقريبًا بعد ظهور الإنسانِ على وجه الأرض إلى حوالي نصفِ مليونِ سنةٍ من الآن (١٠٠٠٠٠٠–٥٠٠٠٠٠ق.م.)
- (٢) العصرُ الحجريُّ القديمُ Paleolithic Age: وهو العصرُ الذي تضمَّن العصورَ الجليديةَ الأربعةَ والفتراتِ غير الجليدية الثلاث التي تخلَّلَتها، وبدأ قبل حواليْ نصفِ مليونِ سنة، وظهرَت فيه ثلاثةُ أنواعٍ أساسيةٍ من الإنسان هي (المنتصِب، النياندرتال، العاقل)، ويقسِّمه العلماء إلى ثلاثة عصور (أدنى، أوسط، أعلى) (٥٠٠٠٠٠–١٩٠٠٠ق.م.)
- (٣) العصرُ الحجريُّ الوسيط Mesolithic Age: وهو العصرُ الذي شهدَ نهايةَ العصرِ الجليديِّ الرابع وبدايةَ الفترةِ غيرِ الجليديةِ الرابعة بعد أن ذاب جليدُ أوروبا. وكان الإنسانُ العاقلُ في الشرق الأدنى يمرُّ بفترةٍ من الأمطارِ الموسميةِ والمناخِ المعتدل، مما ساعدَهُ على ابتكار حضارةٍ حجريةٍ وسيطةٍ متميزة (١٩٠٠٠–٨٠٠٠ق.م.).
- (٤) العصرُ الحجريُّ الحديثُ Neolithic Age: وهو العصر الذي بدأ الإنسان فيه — في الشرق الأدنى — باكتشاف الزراعةِ المنظمة، ثم ظهورِ صناعةِ الفَخَّار (٨٠٠٠–٥٠٠٠ق.م.)
- (٥) العصرُ الحجَريُّ النُّحَاسي Chalcolithic Age: وهو العصر الذي اكتشف فيه الإنسان النُّحَاس وبدأ بتطويعه واستخدامه في حياته اليومية، وفي هذا العصر ظهرت المدنُ والمعابدُ (٥٠٠٠–٣٠٠٠ق.م.)
أوَّلًا: فلسطينُ في العَصرِ الحجَريِّ السَّحِيق (الإيوليت) (١٠٠٠٠٠٠–٥٠٠٠٠٠ قبل الآن)
إلا أن الاكتشافَ الأهمَّ — في الموقع — هو العثورُ على بقايا بشرية؛ تكونَت من أربعة أجزاءٍ من جمجمةٍ وسِنَّين، تعود للإنسان المنتصبِ القامة، ويُعَدُّ ذلك — إلى جانب البقايا البشريةِ المكتشفةِ في موقع الندوية في سوريا — من أقدم البقايا البشرية في بلاد الشام.
دلَّتِ التحرِّياتُ المختبَريةُ على أن عمرَ الموقعِ يعودُ إلى حوالي ٧٠٠٠٠٠ سنة، واقترح آخرونَ تاريخًا آخرَ يتراوحُ ما بين ١٩٠٠٠٠٠–١٤٠٠٠٠٠ سنة من الآن، استنادًا إلى دراسة الأدوات الصَّوَّانية، والبقايا الحيوانية، والطبقات الجيولوجية.
ولا بد من التذكير أن أقدمَ آثارٍ بشريةٍ حَفْرية عُثر عليها خارجَ منطقةِ الظهورِ الأوَّلِ للإنسان في تنزانيا في «أومو»، وهي موجودةٌ في هذا الجدول المُبَسَّط:
ت | البلد | مكان الحفرية | نوعها | الزمن التقريبي لها قبل الآن |
---|---|---|---|---|
١ | المغرب | جبل إرهود Jebel Irhoud | بقايا الانسان العاقل | ٣٠٠٠٠٠ |
٢ | إثيوبيا | بقايا في موقعَين Ethiopia | بقايا الإنسان العاقل | ١٩٥٠٠٠ و١٦٠٠٠٠ |
٣ | فلسطين | مساليا في جبل الكرمل Misliya Mount Carmel | فك بشري وأدوات حجرية | ١٩٤٠٠٠ و١٧٧٠٠٠ |
يدُل هذا على أن فلسطين كانت هي الأقدمَ في استقبال الإنسانِ الماهر و/أو المنتصبِ القامةِ خارجَ أفريقيا.


ثانيًا: فلسطينُ في العَصرِ الحجَريِّ القَدِيم (الباليوليت) ٥٠٠٠٠٠–١٩٠٠٠ق.م.
- (١)
الباليوليت الأدنى (٥٠٠٠٠٠–١٠٠٠٠٠ق.م.)
- (٢)
الباليوليت الأوسط (١٠٠٠٠٠–٤٠٠٠٠ق.م.)
- (٣)
الباليوليت الأعلى (٤٠٠٠٠–١٩٠٠٠ق.م.)
(١) الباليوليت الأدنى (٥٠٠٠٠٠–١٠٠٠٠٠ق.م.)
وإذا كان الباليوليت الأدنى في أوروبا قد شهد ظهورَ أربعِ ثقافاتٍ متميزةٍ فيه هي «الأبفيلية، الكلاكتونية، الآشولية، اللفلوازية» فإن الباليوليت الأدنى في فلسطين وبلاد الشام عمومًا قد شهد ظهورَ هذه الثقافاتِ جميعِها باستثناء اللفلوازية، التي ظهرَت ثقافةٌ محليةٌ موازيةٌ لها، في فلسطين، هي الثقافة التياسية.


الثقافة الآشولية أنتجَت الفئوسَ اليدويةَ من قِبل الإنسانِ المنتصبِ القامة.
صَنَع الإنسانُ المنتصبُ القامة، في فلسطين، أدواتِه الحجريةَ المكوَّنةَ من الفئوسِ اليدويةِ والمقاشطِ والسواطيرِ والمطارقِ والبلطات. وكان يستعملُها كأسلحةٍ لقتل الحيوانات أو لقطع الأشجار أو للدفاع عن النفس.
مغارة الطابون حوالي ٢٤ كيلومترًا إلى الجنوب من حيفا، تُوثِّق ٥٠٠٠٠٠ سنة من التاريخ البشريِّ. وهي مغارةٌ فريدةٌ من نوعها؛ لأنها تمثِّل، خطوةً بخطوةٍ، تاريخَ البالبوليت الأسفل وكيفيةَ تغييرِ استخدامِ النارِ في الكهف. وقد عُثر على أدواتٍ حجريةٍ رافقَت اكتشافَ النار — تعود إلى حوالي ٣٥٠٠٠٠ من الآن.
ظهرَت آثارُه في موقع العُبيدية، وعلى مقرُبةٍ من بحيرة الحولة، وفي وادي قطفة في الجنوب، وفي مغارة الطابون في جبل الكرمل، وغيرها على الساحل. وعُثر على عظام فخذٍ لإنسانِ الهومواركتوس ﻓﻲ موقع جسر بنات يعقوب. يتراوح عمرها بين ٦٠٠٠٠٠–١٠٠٠٠٠ سنة قبل الآن، وهناك بقايا أخشابٍ متحجِّرة وأدواتٍ خشبية.



ظهر اكتشافُ أشباهِ البشر (الإنسان المبكِّر)؛ في موقعٍ استيطاني قربَ نيشر الرملة، وهو الاستيطانُ البشريُّ في أوقات العصر الحجريِّ القديمِ الأوسط (حوالي ٣٠٠٠٠٠–٥٠٠٠٠ سنة قبل الآن.)
(٢) الباليوليت الأوسط (١٠٠٠٠٠–٤٠٠٠٠ق.م.)
- (١) إنسانُ النياندرتال Homo Neanderthalensis.
- (٢) الإنسانُ القديمُ الفلسطيني Paleo-anthropuspalaestiniensis.
وإذا كان إنسانُ النياندرتال الأوروبيُّ قد أنجز ثقافتَي اللفلوازية الموستيرية والموستيرية في الباليوليت الأوسط، فإن نياندرتال فلسطين أنجز نمطًا خاصًّا متطورًا من الثقافة اللفلوازية سُمِّيَت ﺑ «الثقافة الطابونية» (نسبةً إلى مغارة طابون في جبال الكَرْملِ الجنوبية الغربية). أمَّا الإنسانُ القديمُ الفلسطينيُّ فقد أنجز بامتيازٍ الثقافةَ الموستيرية في الشرق الأدنى.
وتمتاز الثقافة اللفلوازية الموستيرية بالأدوات الحجَرية المصنوعة من الشظايا المصقولة، أمَّا الثقافةُ الموستيرية فتمتازُ بالفئوسِ اليدويةِ على هيئة القلبِ وبالمِثْقاب.
إن ظهورَ الإنسانِ القديمِ الفلسطينيِّ الذي يُعرَفُ أيضًا ﺑ «الجليليِّ» — بسبب ظهورِ معظمِ آثارِه في منطقة الجليل — يُعَدُّ أمرًا مُحيرًا ونادرًا في أحداث العصرِ الحجريِّ القديم؛ فقد انفردَت فلسطينُ دون غيرها، بظهور إنسانٍ متطورٍ يشبِهُ الإنسانَ العاقلَ ويسبقُهُ زمنيًّا، وهو ما جعلَ حضارةَ فلسطين في الباليوليت الأوسطِ متميزةً جدًّا عن مثيلاتها في الشرق الأدنى وأوروبا معًا.
- (١)
مغاورُ جبالِ الجليلِ في وادي العمود (الزطية والأميرة).
- (٢)
مغاورُ جبالِ الكَرْمَل (السخول والطابون).
- (٣)
مغارة القفزة قرب الناصرة.

إن هذا يعني بوضوحٍ أن حضارةً مبكرةً ذاتَ قيمةٍ عاليةٍ ستنسجُ خيوطَها في فلسطين، وستكونُ هذه الحضارةُ البعيدةُ الزمنِ قاعدةً صُلبةً لما ستتواتر عليه العصورُ القادمةُ وصولًا إلى الحضارتَين الكبارية والنطوفية، اللتَين سيُنجزُهما الإنسانُ العاقلُ في فلسطين في العصر الوسيط.
وهكذا نجدُ أن ثَمَّةَ علاقةً وشيجةً بينَ الباليوليت الأوسطِ والعصرِ الوسيط (الميزوليت) في فلسطين أساسُها الإنسانُ العاقلُ بنوعَين؛ المبكِّر (الإنسانِ القديمِ الفلسطيني) والمتأخِّر (الإنسانِ العاقلِ الفلسطيني).
تنحَصر، بشكلٍ عام، إنجازاتُ إنسانِ الباليوليت الأوسطِ في فلسطين في قدرتِه على التكيُّف مع الطبيعةِ بشكلٍ أفضل؛ فقد ارتدى الجلود، وطوَّر الإفادةَ من النار، وهيَّأ لها المواقدَ في الكهوف، ووسَّع من استخدامها، وكان صيادًا ماهرًا؛ فقد استطاعَ إنسانُ النياندرتال دفنَ موتاه مما يعبِّر عن أوَّلِ المشاعرِ الدينيةِ التي وجَدَت صدَاها في احترام الجسدِ البشريِّ واحتمالِ ذهابِه إلى عالَمٍ آخَر مُرفَقًا بالأدوات الحجريةِ والأطعمةِ والحيواناتِ المقدسةِ عند الإنسان، فعَمَد إلى صبغ جسده بالألوان، وظهرَت معتقداتُه الروحيةُ أيضًا في دفن الجماجم بصورةٍ مستقلَّة عن أجسادها، مما يعكسُ اهتمامًا بإمكانية احتوائِها على الروح.
- (١)
أنه تطوَّر تدريجيًّا ليتحولَ نهائيًّا إلى الإنسان العاقل بسبب قُدرتِه الحضاريةِ الفائقة، وتطوُّرِه العقلي، ووضوح تطوُّرِ حضارتِه المادية، وإضافاتِه التقنيةِ على صناعة الأحجار.
- (٢)
أنه ذاب في جنس الإنسان العاقل عن طريق التزاوُج معه، والاندماج مع سُلالته.
- (٣)
أنه انقرضَ نهائيًّا بسبب انقطاع ظهوره في العصور اللاحقة.
- (٤)
أنه انتقَل إلى أوروبا، وربما تزاوَج مع إنسانِ النياندرتال المحليِّ وقضى عليه، واحتَل مكانَه.
ورغم أن هذه النظرياتِ الأربع قائمةٌ كلُّها، من حيث الاحتمال، إلا أن النظريةَ الأولى والنظريةَ الثانية هما الأرجحُ في هذه الاحتمالات.
(٣) الباليوليت الأعلى (٤٠٠٠٠–١٩٠٠٠ق.م.)
يُطلِق العلماء على الأزمة المُناخية، في الشرق الأدنى، ﺑ «أزمة الحيوان»، والتي اضطَرَّت الحيوانات غريزيًّا إلى الهجرة شمالًا باتجاه أوروبا، جارَّةً معها الإنسانَ الذي كان مرتبطًا بها وبوفرة النباتات والمياه على أرضه.


- (١)
المرحلة الانتقالية بين الباليوليت الأوسط والباليوليت الأعلى: حيث ظهرَت أدواتٌ جديدةٌ تعمل بعض المؤثِّراتِ الليفلوازية-الموستيرية، وتظهر آثارُها في مغارة الأميرة في فلسطين (قرب بحيرة طبرية).
- (٢)
مرحلة الحضارة الأحمرية: وهي باكورةُ حضارةِ الباليوليت الأعلى؛ حيث ظهرَت أدواتٌ حجريةٌ خاصَّةٌ بهذا العصر؛ مثل المكاشطِ والمخارزِ ذاتِ الجبهةِ العريضةِ والنِّصالِ الطويلة؛ والتي تُشبِه الأدوات الأورينياسية الأوروبية، وقد ظهرَت في كهف عرق الأحمر في فلسطين.
- (٣)
مرحلة الحضارة العتليتية: حيث ظهرَت النِّصالُ الصغيرةُ والأدواتُ الدقيقةُ خصوصًا في مغارة (عتليت) في فلسطين، وهي خاتمةُ الباليوليت الأعلى وتمهِّد للميزوليت.
ومن الجدير بالذكر أنَّ الباليوليتَ الأعلى الأوروبيَّ ينقسمُ إلى حضاراتٍ موازيةٍ للحضارة الفلسطينيَّة، منها «البريكَودية، الأوريناسية، السلوترية، المجدلينية»؛ حيث تقابلُ البريكَودية المرحلةَ الانتقاليةَ في فلسطين، والأورينياسية المرحلةَ الأحمريةَ في فلسطين، والسلوترية المرحلةَ العتليتيةَ في فلسطين. أما الحضارةُ المجدليةُ الأوروبية فلا يُوجَد ما يقابلها في فلسطين. ومن المعروف أن أهمَّ مُنجَزاتِ الحضارةِ المجدليةِ الأوروبيةِ هي ظهورُ لوحاتِ الكهوفِ والدُّمى الفينوسية على نطاقٍ واسع.