المبحث الأوَّل: القُدسُ في عهد الإسكندرِ المَقدوني (٣٣٢–٣٢٣ق.م.)

وُلد الاسكندرُ المقدوني (الإسكندرُ الثالثُ) ابن فيليبوس الثاني من زوجته أولمبياس في بيلا عام ٣٠٦ق.م. وكان لوسيماخوس أولَ من علَّمَه، ثم توَلَّى أرسطو طاليس تعليمَه منذ الثالثةَ عشرةَ من عمره عندما تولَّى حكمَ مقدونيا بعد اغتيال أبيه عام ٣٣٦ق.م. وحاولَت بعضُ مدنِ اليونانِ الوقوفَ في وجهه لكنه استولى عليها ووحَّدها تحت قيادته، وفي عام ٣٣٤ق.م. خرج الإسكندر في حملَته على الشرق وكان عمره «٢٢» عامًا. عَبَر الإسكندرُ مضيقَ الدردنيل إلى طروادةَ والتقى أوَّلَ جيوشِ الفرس عند نهر جرانيكوس حيث انتصر عليهم انتصارًا ساحقًا، واستولى على مدن آسيا الصغرى، وفي عام ٣٣٣ق.م. التقى الإسكندرُ الأكبرُ الإمبراطورَ الفارسيَّ داريوس الثالث في موقعة «إبسوس» وانتصر عليه بينما فرَّ داريوس هاربًا. وقرَّر الإسكندرُ ألَّا يتبعَ الإمبراطور المهزوم مُتَّبِعًا خُطَّةً غريبةً نوعًا ما؛ حيث استولى على الساحلِ الشرقيِّ للبحرِ المتوسطِ للسيطرة على المدن الفينيقية؛ حيث استولى على جبيل وصيدا وحاصر صور مدةَ سبعةِ أشهرٍ حتى سقطَت، ثم توجَّهَ إلى دِمشقَ وغزة، ومنها إلى مصر، ليعزلَ الأسطولَ الفارسيَّ الكبيرَ في البحر المتوسط عن الولاياتِ الفارسيةِ وبلادِ فارس، وأصبحَت مصرُ تابعةً له.

وفي عام ٣٣١ق.م. وبعد أن ثبَّت حكمه في مصر، عاد مرةً أخرى إلى آسيا لينتصرَ على داريوس في موقعة «جوجميلا»، ثم سار إلى إيرانَ ودخل برسيبوليس عاصمةَ الإمبراطوريةِ الفارسية، ثم استولى على بلاد أفغانستانَ وسمرقندَ ووصل إلى الهند في جهلوم، فرفض رجال الإسكندر التقدم أكثر من ذلك، وفي عام ٣٢٣ق.م. عاد الإسكندر إلى بابل التي اتخذ منها عاصمةً للإمبراطورية المقدونية التي كوَّنَها في عشر سنوات، لينظمَ أمورَ إمبراطوريته، ويستأنف فيما بعدُ خطَّتَه في فتح بلاد العرب، ولكنه مات فجأةً بالحُمَّى (بسبب الملاريا أو الطاعون)، وفي العام نفسه، تاركًا تلك الإمبراطوريةَ دون وريث.

وبعد صراعٍ طويلٍ بين خلفاء الإسكندرِ انقسمَت الإمبراطوريةُ المقدونيةُ إلى ثلاث ممالكٍ هي: البطلمية والسلوقية والمقدونية.

السؤال الذي يُطرَحُ هنا هو: هل دخل الإسكندرُ المقدونيُّ مدينة القدس؟ والحقيقةُ أننا لا نعثرُ في الكثير من المراجع القديمة على إجابةٍ شافية، لكن علينا التوَقُّف عند الروايةِ القديمةِ الوحيدةِ حول دخولِ الإسكندرِ المقدونيِّ إلى مدينة القدس عام ٣٣٢ق.م. التي أوردها «يوسيفوس» في كتابة عن تاريخ اليهود (الكتاب الحادي عشر، الفصل الثامن).١ وهي الرواية التي أثارت جدلًا وشكوكًا عند المؤرخين، وسنقوم بتلخيص هذه الرواية:
  • (١)

    كان الفرسُ في عهد الملك داريوس قد أقاموا حاكمًا على السامرة اسمه «سنبلاط»، وقد قام «سنبلاط» بتزويج ابنته من أحد أشراف القدس اسمُه «منسه»، وهو أخو كاهنِ اليهودِ الأعظمِ في القدس «يهوياداع بن يوناثان»، وكان هذا الزواجُ غيرَ مقبولٍ من اليهود وكاهنهم، فطلبوا من «منسه» أن يتخلَّى عن زوجته، لكنه رفض، فقامت بينهم عداوةٌ طويلة.

  • (٢)

    كان «سنبلاط» يأمُل باقتراب جيش داريوس منه لِيُقوِّيَ مركزَه ومركزَ «منسه» ويواجهَ تيارَ اليهودِ المضاد لهما. لكنَّ هزيمةَ الجيشِ الفارسيِّ على يد الإسكندرِ جعلَتْه يفكِّر بالاقتراب من الإسكندر لتحقيق مآربِه ومدِّه بالمتطوعين.

  • (٣)

    أرسل الإسكندر إلى «يهوياداع» رسالة يطلب فيها الوقوفَ إلى جانبه ومدَّه بالمتطوعين من الوقوف مع الفرس، فلم يردَّ «يهوياداع» الجوابَ إلى الإسكندر. وكانت «صور» قد سقطَت في يد الإسكندر فقرَّر أن يؤدِّبَ كاهنَها الأعظم.

  • (٤)

    قام «سنبلاط» مع سبعة آلاف من رجاله بالتوجُّه إلى الإسكندر عندما كان منهمكًا بحصار غزة فقال له: إنه وقومَه يُؤثِرونَ الدخولَ تحت رايته على البقاء في حكم داريوس، وقد حدَّثه «سنبلاط» بما كان يدور في خَلَدِه في ذلك الحين عن صهره «منسه» وعن أخيه الكاهن الأعظم، وأَكَّد له أنه من مصلحة الملك أن تكون قُوَى اليهودِ مشطورةً إلى شطرَين لكيلا يتفقوا ويتحدوا، وإلا فإنهم سيكونون مصدرَ شغبٍ وتعبٍ لملوك اليونان كما كانوا في السابق مصدرَ شغبٍ وتعبٍ لملوك آشور.

  • (٥)

    استطاع الاسكندر احتلال غزةَ بعد حصارها، فقرَّر الذهاب إلى القدس قاصدًا تدميرَها، فلما سمع اليهود باقتراب الإسكندرِ وجيشهِ من المدينة هُرِعُوا جميعُهم لاستقباله في ظاهرها ولم يبقَ أحد فيها، والتقى الإسكندر شيوخَهم وكهنتَهم على جبل سكوبس (معناه الهدف والإشراف) شمال مدينة القدس (التي كان عدد أهلها آنذاك ١٢٠ ألفًا). وراحوا يرحِّبون بقدومه طالبينَ عفوَه.

  • (٦)

    قام الكاهن يهوياداع بتقديم سفر دانيال (وهو أحد أسفار التوراة) وقد جاء فيه «أن أحد اليونان سيتغلَّب على الفرس وسَيُقوِّضُ عرشَ الأكاسرة» فأجاب الإسكندر أنه رآه في حلمه وهو يحثُّه على مهاجمة الفرس، ثم دخل الإسكندر الهيكل وقدَّم الذبائح هناك.

  • (٧)

    طلب الكاهن من جميع الكهنة أن يُسَمُّوا كلَّ مولودٍ ذكرٍ يُولَد لهم في هذه السنة باسم «إسكندر»، وأن يَدْعوا له كلما دخلوا الهيكل.

  • (٨)

    رحب الإسكندر بكلام الكاهن، وطلب منه عرض ما يريد، فقال الكاهن إنه لا يريد شيئًا سوى أن يُتاحَ له العملُ بقوانينِ أجدادِه، وألا يدفعَ الجزية في السنة السابعة، فمنحه الإسكندر ما يشاء، وطلب منه أن يتطوعَ من اليهود في جيشه، وأن يرافقوه في حروبه، فتطوع عددٌ منهم لهذه الغاية. وسأل الإسكندر رئيس الكهنة قائلًا: إنني ذاهب لمحاربة داريوس وقومِهِ الفرسِ فهل ذلك بإرادة الله أم لا فأرجع إلى بلادي، فقال له رئيس الكهنة: اذهب أيها الملكُ العظيم فإن الله معك.

    figure
    شكل ٧٢: الرحلة المتخيَّلة لدخول الإسكندر الكبير لمدينة القدس.
    figure
    شكل ٧٣: سيباستيانو كونكا: الإسكندر الأكبر في معبد القدس. Sebastiano Conca (1680–1764). Alexander the Great in the Temple of Jerusalem.
  • (٩)
    عيَّن الإسكندر رئيس الكهنة في القدس واليًا عليها إضافةً لمنصبه الديني، وسكَّ اليهود في المدينة على عهده نقوشًا كُتِبَ عليها «أورشليم المقدسة: خلاص صهيون. عصا هارون»، ورُسِمَ عليها إناءٌ على شكل كوبٍ بدون مِقبَض. وقد نُقِشَ عليها من الخلف بالعبرية شاقل إسرائيل، نصف شاقل، ربع شاقل.٢
وقد رفض معظمُ الباحثينَ تلك الرواية؛ فقد اعتبرها جورج مندنهول حكايةً خياليةً حول أحلامٍ متبادلة أسفرَت عن سماح الإسكندر للمجتمع «اليهودي» بأن يحكُمَ بمقتضى قوانينه الخاصة. وقد مُدِّد هذا ليشمل أيضًا اليهودَ القاطنينَ في أيِّ مكانٍ في إمبراطوريته.٣ ورفضَها «تشركوفر» لعدم قيامها على أساسٍ تاريخي؛ لأن سفر دانيال لم يكُن قد كُتب في عهد الإسكندر.٤

ونرى أن الرواية ركيكة مِثلها مِثل أغلبِ روايات «يوسيفوس» حول تاريخ اليهود؛ إذ لا تُبرِّر مقدمتُها الطويلةُ حول زواج ابنة سنبلاط ما قامت به السامرة من عداءٍ للقدس، أو اتفاقٍ مع الاسكندر؛ فمن المعروف أنَّ العداوةَ بين السامرة والقدسِ قديمةٌ جدًّا. وقد ضخَّم يوسيفوس وجودَ الإسكندر في الهيكلِ اليهوديِّ على غِرار ما حصَل للإسكندر في هيكل أمون سيوة في مصر، وهو ما يجعلُنا نقرِّرُ أن يوسيفوس صاغ حكايتَه عن زيارة الإسكندر للقدس وهيكلها على غِرار ما عرفَه عن زيارة الإسكندر لسيوة وهيكلها، وتُعَدُّ هذه الأخيرةُ راويةً ثابتةً من الناحية التاريخية.

ويهدف يوسيفوس إلى إخفاء القوة والهيبة والانتباه لمدينة القدس واليهود في تلك العصور، في حين أنها لم تكن سوى مدينةٍ بسيطةٍ محتلة، ولم يلفت النظرَ الدينُ الجديدُ الذي بدأ يظهر، والمُغلَق على أهل السبي الذين لم يكونوا لوحدهم سكانَ القدس.

فكيف لنا أن نتخيلَ أهميةَ هذا الدينِ وسط تلك الأحداثِ والحضاراتِ الكبرى المتلاطمة … ووسط سقوط وصعود الأباطرة والملوك الكبار. ولا نعتقد أن الإسكندر الملتهبَ الخيالِ والطموحاتِ والمشغولَ بحكم الأرضِ كلِّها، سينتبهُ لمدينةٍ صغيرةٍ ولدينٍ صغيرٍ في طَورِ النشوء، ونتذكرُ أنه انحدر مع الساحلِ الشاميِّ للبحر المتوسط، واحتل مدنَه واحدةً بعد الأخرى ليصلَ إلى مصر أولًا ثم ليفصلَ الفرسَ عن أسطولهم البحريِّ في المتوسط، فما علاقةُ القدسِ بهذه الأهداف … أما المتطوعونَ في جيشه فلا يُحتمَلُ أن تُشَكِّل القدسُ أهميةً بشريةً كبيرةً لتُمِدَّه بهم … ودليلُنا على ذلك أن التوراة بكل ما جرفَته من أحداث الأمم الأخرى، لا تتحدثُ عن شخصيةٍ لامعةٍ وكبيرةٍ مثل الإسكندرِ المقدونيِّ وغزوِه للشرق.

ويرى تارن بأنه ليس من المُستبعَد أن تكونَ هيئةُ أركانِ حربِ الإسكندر قد ظنَّت أنها دولةُ كهنةٍ من الطراز المألوف لهم بآسيا الصغرى وسورية، ولم يكن «ثيوفراستوس» يعرف عن اليهود إلا أنهم من المتفلسفةِ المتطلعينَ للنجوم، وأنهم الذين ابتدعوا التضحية البشرية.٥

ويقينًا أن القدس دخلَت تلقائيًّا ضمن الإمبراطوريةِ المقدونيةِ وانتهت من الهيمنة الفارسية، ولا نمتلكُ أيةَ معلوماتٍ أكيدةٍ عن تغيُّر وضعِها الإداريِّ والسياسيِّ على ضوء هذه الحقيقة.

١  Flavius Josephus, The Antiquities of the Jews, Translated by William Whiston, Book XI., Chap. VIII, pp. 323–325. كذلك انظر عارف العارف، المفصل في تاريخ القدس، ج١، القدس ١٩٦١، ص٣٤–٣٥. حيث ترجمت بعض مقاطع من هذه الرواية.
٢  عارف العارف، المفصل في تاريخ القدس، ج١، القدس، ١٩٦١م، ص٣٥.
٣  جورج مندنهول، القدس من ١٠٠٠–٦٣ق.م.، القدس في التاريخ، الفصل الثاني، حرَّر الطبعة الإنجليزية وترجمها الدكتور كامل جميل العسلي، عمان، ١٩٩٢م، ص٨٥.
٤  عزمي عبد محمد أبو عليان، القدس بين الاحتلال والتحرير، عمان، ١٩٩٣م، ص١٠٠، نقلًا عن سيد فراج راشد، القدس عربية إسلامية، ص٣١.
٥  وليم وود تورب تارن، الحضارة الهيلنستية، ترجمة زكي علي، القاهرة، ١٩٦٦م، ص٢٢٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥