(١) بَطلَيموسُ الأوَّل: فَتحُ القُدسِ
والسَّبيُ البَطلَميُّ لليهود
انقسمَت الإمبراطوريةُ المقدونيةُ بعد وفاة
الإسكندر، وانعقد مؤتمر بابل بين قواد الإسكندر
كولاةٍ من قِبَلِ الأسرة المالكةِ المقدونية؛
فقد قرَّر المؤتمر أن يعهد إلى بطليموس بن
لاجوس بمصر وإلى لاومدون بسوريا … إلخ.
وصارت القدس جزءًا من أصقاع بلاد الشام
الكبيرة التي يحكمها لاومدون. وكانت حروب خلفاء
الإسكندر قد بدأَت منذ قيامِ بطليموس بسرقة
الناووس الذي يحتوي على رُفات الإسكندر، وهو في
طريقه من بابلَ إلى مقدونيا، ونقَلَه إلى منف
ثم إلى الإسكندرية … وكان هذا يعني انشقاقًا
على حكم برديكاس المركزيِّ
للإمبراطورية.
وما إن قُتِل برديكاس (وصيِّ الملكِ الجديدِ
ابنِ الإسكندر) ثم تُوفِّي أنتيباتروس حاكمُ
بلادِ الإغريقِ حتى أعلن بطليموس عن نواياهُ
الواضحةِ في احتلال جوف سوريا
Qoele
Syria الذي كان يشملُ
فلسطينَ وجنوبَ سوريا ويحدُّه شَمالًا جبل
حرمون (جبل الشيخ)، وشرقًا نهر الأردن، وغرب
البحر المتوسط ومع جوف سوريا كانت فينيقيا أيضًا.
١ …
وقد عرض بطليموس الأول (سوتر) وهو مؤسسُ
الأسرةِ البطلمية في مِصرَ على لاومدون حاكم
سوريا أن يشتريَ منه جوف سوريا، لكن لاومدون لم
يوافق على ذلك، فما كان من بطليموس الأول إلا
أنه احتلَّها عام (٣١٩–٣١٨ق.م.)
٢
قاومَت القدسُ حملةَ بطليموس التي كان يقودها
بنفسه، وأعلنَت الولاءَ للاومدون فحاصرها
بطليموس وصَعُبَت عليه، ولما علم أن سكانَها
اليهودَ يتوقفون عن أعمالهم ولا يحملون أسلحة
أيام السبت اختار ذلك اليوم وهاجم المدينة
ودكَّ بعض أسوارِها وتمكَّن من اقتحامها ثم
سيطر عليها. وقام بسبي نحو مائةِ ألفٍ من
اليهود إلى مصر، وأَثقَل من تَبَقَّى في
المدينة بالضرائب وعاملَهم بقسوة، ولكنه ما لبث
أن تراجع عن سياسته تلك.
٣
والحقيقة ان هذه الروايةَ — والتي تَمُر
سريعًا في تاريخ اليهود — لا يمكنُ أن تكون
حقيقة؛ إذ إن مائة ألف من اليهود المَسبيِّين
إلى مصر يفوق بأضعافٍ مضاعفةٍ عددَ اليهود
المسبيين إلى بابل قبلَ عدَّةِ قرون، ونحن لا
ننفي الحادثة بل ننفي عدد المسبيين، ونعتبر ذلك
من مبالغات الروايات عن المعارك
والحروب.
لقد حصل السبيُ البطلميُّ لليهود، ولكنه
تضمَّن بضعةَ آلافٍ منهم، ولكن هذا السبي كان
مؤثِّرًا في نتائجه أيضًا؛ فقد أتاح لليهود
نقلَ ديانتِهم إلى مصر وشمالِ أفريقيا، وهو أول
انتشارٍ واسعٍ وكبيرٍ لليهود خارج
يهوذا.
يذكُر المؤرخ اليهودي «يوسيفوس» أن «بطليموس
أرسل فريقًا من اليهود إلى مدينة قوريني (شحات)
ليستقرُّوا بها؛ ذلك لأنه كان مهتمًّا بتشديد
قبضته على هذه المدينة ومدن ليبيا (برقة) الأخرى».
٤
وهناك عددٌ كبيرٌ من اليهود بقُوا في مصر
وأصبحوا في الجيشِ البطلميِّ وسكَن أغلبُهم
الإسكندرية، وسرعان ما تأقلموا مع الجوِّ
الإغريقي فيها، وتركوا لغتهم الآراميةَ وتعلموا
اليونانية، وكوَّنوا لهم جاليةً كبيرةً سكنَت
الحيِّ الرابعَ المُسَمَّى «دلتا» من أحياء
الإسكندرية الخمسة.
٥
ويشير هذا إلى أن بطليموس الأول قبل أن يصبح
ملكًا على مصر؛ أي عندما كان واليًا على مصر،
غزا فلسطينَ والقدسَ وسبى اليهود، بل ونقل
بعضًا منهم إلى قوريني (برقَة) في ليبيا
«ويُفهم أيضًا من قول يوسف أن العناصر اليهودية
الأولى في برقة كانت ذات صبغةٍ عسكرية. وقياسًا
على ما حدث بمصر فيُرجَّحُ أن غالبيةَ الجندِ
اليهودِ كانوا من الأسرى الذين أتى بهم بطليموس
نتيجةَ لغزواتِه المتكررةِ لأرض فلسطين.»
٦
وهذا يعني أن اليهود انتشَروا الآن خارج
القدس على جناحَين؛ أولُهما بقِيَ في بابلَ بعد
السبي الأكبر، وثانيهما في مصر وليبيا منذ
السبي البطلمي. «ويبدو كذلك أن بعضَ اليهود في
أرض يهوذا بفلسطين — والمتمسكين بحرفية الشريعة
— لجئوا إلى برْقةَ وانضَموا إلى يهودها
إبَّانَ تلك الفترةِ التي تعرَّضوا فيها لمحنةٍ
قاسيةٍ عندما أراد أنطيوخس أن يحملَهم على التَّأَغْرُق».
٧
وفي عام ٣٠١ق.م. بعد معركة إبسوس في فريجيا
الكبرى، انحلَّت إمبراطورية الإسكندر ودخلَت في
مرحلة التفكك النهائي، ولم يعُد هناك طريقٌ
لعودتها.
وعندما قرَّر حلفاء بطليموس إعطاءَ جوف سوريا
(ومن ضمنها القدس) إلى سلوقس كان قلبُ بطليموس
يغلي لفُقدانه جوف سوريا، الذي يعتبر بالنسبة
لمصرَ منذ العصورِ الفرعونيةِ القديمةِ عمقًا
استراتيجيًّا وعسكريًّا.
«ومن أجل هذا يُعتبَرُ اتفاقُ عام ٣٠١ق.م.
السببَ المباشرَ في خلق ما يُسمَّى بالمسألة
السورية؛ لأن بطليموس يَعتبرُ نفسَه صاحبَ
الحقِّ الأوَّلِ في سوريا الجنوبية، وفعلًا عاد
واحتلَّها للمرة الرابعة عَقِبَ معركةِ إبسوس.»
٨
لكن سلوقس تمسَّك باتفاق القُوَّاد، ورأى أن
بطليموس قد فقد حقَّه في سوريا، وطالبه
بالانسحاب منها، لكنه لم يتخذ أيةَ خطوةٍ
إيجابيةٍ بسبب الصداقة التي كانت بين الملكَين،
ولكن سلوقس تمسَّك رسميًّا بسيادته على
سوريا.
وإذا كانت الدولة السلوقية قد أسَّسَت لنفسها
كِيانًا يمتدُّ من الهند إلى سوريا الشمالية،
فإن سوريا الجنوبية — ومنها فلسطين — لم تَتبَع
لأيٍّ من الدولتَين السلوقية أو البطلمية بل
ظلت معلقة، ولو أن هناك ما يشير إلى وجودٍ
بطلميٍّ واضحٍ فيها حتى مجيءِ بطليموس
الثاني.
أما القدسُ نفسها فقد وقعَت تحت كاهلٍ ثقيلٍ
من الضرائب؛ فقد رفض الكاهنُ الأعظمُ للقدسِ
دفعَ الجزيةِ التي فرضَها عليه بطليموس، فأرسل
بطليموس أحدَ عمالِه إلى القدس ليُرغمَ أهلها
على الدفع وهددهم بالطرد، فعظُم القلق في
القدس، فأوفدوا رجلًا يُدعَى «يوسف بن طوبياس»،
وكان معروفًا بذكائه، فأصبح مديرًا للمال
والجُبَاةِ في سوريا وفينيقيا، وأرفقَه بألفَي
جنديٍّ مُستَأجَرٍ لهذه الغاية، ليتمكَّن من
تحصيل الضرائب بالقوة عند اللزوم.
٩
وقعَت القدس — ومعها فلسطين — تحت حكم
بطليموس حوالي «٣٦» سنة لا نعرفُ خلالها الشيءَ
الكثيرَ عن القدس، ولكننا نُرجِّحُ أنها كانت
سنواتٍ صعبة؛ إذ يمكنُ أن يكونَ حالُ مدينةٍ
مفتوحةٍ مَسبِيَّةٍ مُثقَلَةٍ بالضرائب مترنحةٍ
بين الصراعات الدائرة في مملكة حديثة، ما زالت
قلقةً إلى حدٍّ كبير.
وفي هذه الفترة واصَل كهنة اليهود استكمال
كتابةِ أسفارِهم الباقية؛ إذ ربما كُتبَ جزءٌ
من سِفر زكريا (الإصحاحات من ٩–١٤)، وربما كان
تاريخُ كتابةِ سِفرِ إرميا هو ٣٠٦ق.م. وسِفرِ
يونان (يونس) حوالَي ٣٠٠ق.م.
١٠
(٢) بَطلَيموسُ الثاني: الحربُ السُّوريَّةُ
الأُولى
والثانيةُ
وعَودَةُ السَّبي والترجَمةُ
السَّبعونيَّة
خاض بطليموس الثاني (فيلادلفيوس؛ أي المحبُّ
لأخته) (٢٨٣–٢٤٦ق.م.) حربَين كبيرتَين في
سوريا؛ هما الحرب السورية الأولى والثانية، ضمن
مسلسل الحروبِ الستِّ التي حصلَت بين البطالمة
والسلوقيين في فلسطين.
نَشبَت الحرب السورية الأولى عام ٢٧٦ق.م. حول
جوف سوريا الجنوبية، وخرجَت قوات بطليموس
لتحتلَّ دِمشقَ لكن أنطيوخس الأول (السلوقي)
استرجعَها، فاحتفظَت مصرُ بفلسطينَ
وفينيقيا.
أما الحرب السورية الثانية فقد نشبَت عام
٢٦٢ق.م. لكنَّ مصر كانت في ظرفٍ دوليٍّ صعب؛
حيث هُزِمَت في أكثرَ من مكانٍ في آسيا الصغرى
وسواحل آسيا الغربية وبحر إيجة، وانتهت الحر ب
عام ٢٥٣ق.م. بصفقة زواجٍ سياسيٍّ تزوج فيها
أنطيوخس الثاني ابنة بطليموس الثاني «برنيكي»،
شريطة أن يدفع أنطيوخس مبلغًا كبيرًا من المال،
إلى جانب تنازل السلوقيين عن المطالبة بجوف
سوريا؛ ولذلك سُمِّيَت برنيكي بحاملة المهر
Phorno
phoros.
١١
ويبدو أن بطليموس الثاني كان متسامحًا مع
اليهود؛ فقد رفَع الحظر عن اليهود الأسرى في
مصر، وسمح لمن يريد العودة منهم إلى يهوذا أو
القدس، رغم أننا لا نملك معلوماتٍ أكيدةً
ودقيقةً عن هذا الموضوع، وترجيحُنا لعدم عودة
عددٍ كبيرٍ من اليهود إلى فلسطين؛ فقد بَقِيَ
أغلبُهم في مصر وليبيا وشكَّلوا فيها جالياتٍ
واضحة.
لكن الحدثَ الأهمَّ الذي يُذكَرُ في عهد
بطليموس الثاني هو «الترجمة السَّبعونيَّة»
لبعض أسفار التوراة إلى اللغة اليونانية
Septuagint،
وتروي كتب الأخبار القديمة قصصًا أسطورية حول
هذه الترجمة علينا تحليلُها وتمحيصُها علميًّا؛
منها أن بطليموس الثاني استقدم إلى الإسكندرية
«٧٢» عالِمًا من يهود فلسطين، وكلفهم بأن يقوم
كل واحدٍ منهم على انفراد بترجمة التوراة إلى
اليونانية، وبعد «٧٢» يومًا فرغوا جميعًا من
الترجمة، ولمَّا قورنَت التراجمُ المختلفةُ
وُجدَ أنها مطابقةٌ بعضها لبعض، مما يعني أن
ترجمةَ الكتابِ المقدسِ قد تمَّت بوحيٍ من
الإله حتى لا تختلف كلماتُه عند الترجمة.
١٢
ويرى وليم وود تورب تارن أن هذه القصةَ ما هي
إلا حديثُ خرافة، وأن هذه الترجمةَ امتدت
لفترةٍ طويلة من الزمن حيث تمَّ نقلُ الأسفار
الخمسة الأولى؛ وهي التوراة في القرن الثالث
قبل الميلاد، وتُرجم إشعياء وإرمياء بين
(١٧٠–١٣٢ق.م.) ونُقلَ سِفرُ الأنبياءِ وسِفرُ
المزاميرِ بصورةٍ عامَّةٍ حوالي «١٣٢»ق.م. على
حين أن الكتاب الأخير — وهو سِفرُ الجامعة — لم
يُترجَم إلا حوالي «١٠٠» ميلادية.
١٣
ويرى تارن أيضًا أن يهود الإسكندرية قد
أصبحوا يستخدمون في الجيل الثاني اللغةَ
اليونانيةَ وفقدوا لسانَهم الأصلي، كما يرى أن
بطليموس الثاني كان صديقًا لهم بدرجةٍ جعلَت
مثلَ هذا العملِ يُنسَبُ إليه.
١٤
ولا شك
إن مشروع الترجمة الطويل قام به يهود مصريون
تَأغرَقوا في فترةٍ مبكرة؛ «لأن كثيرًا من
اليهود كانوا قد تَأغرَقوا تمامًا وأصبحَت
اليونانيةُ هي لغتَهم الوحيدة، وبعد إتمامِ
الترجمةِ نجد أن هذا الاتجاهَ يشتدُّ وتُصبِحُ
المراسيمُ الدينيةُ تؤدَّى باللغة اليونانية؛
وبالتدريج يفقد اليهود في مصر أيَّ صفةٍ
مُميِّزة لهم عن الإغريق، فاتخذوا الزيَّ
اليوناني، وتَسَمَّوا بأسماءٍ إغريقية،
وتحدَّثوا اللغة اليونانية.»
١٥ أما أوضاعُ القدسِ فيبدو أنها
نَعِمَت باستقرارٍ نسبيٍّ في ظل حكم بطليموس
الثاني ولم تَرِدنَا أخبارٌ استثنائيةٌ
عنها.
(٣) بَطلَيموسُ الثالث: الحَربُ
السُّوريَّةُ الثالثةُ وجِزيةُ القُدس
كان
بطليموسُ الثالث (يورجيتس الأول؛ أي الخيِّرُ)
(٢٤٦–٢٢١ق.م.) متزنًا ومتمتعًا بأخلاقٍ رفيعةٍ
ومحبًّا للعلم والثقافة والتنوير. وكان قد أشعل
فتيل الحرب السورية الثالثة عام ٢٤٦ق.م.
انتقامًا لمقتل أختِه (حاملة المهر) على يد
الزوجة الأولى للملك السلوقي أنطيوخس الثاني
(لاوديقا)، فقام باحتلال سوريا الشمالية
وكليكيا ثم عبَر الفرات، ووصل إلى مدينة سلوقية
على نهر دجلةَ دون مقاومةٍ تُذكَر، وأصبح
الجناحُ الغربيُّ للإمبراطورية السلوقية تابعًا
له، ولكن عاد في آخر لحظةٍ إلى مصر بسبب حدوث
مجاعةٍ فيها، ثم أعاد سلوقس الثاني سوريا
الشمالية وكليكيا، وظلت مِصرُ محتفظةً بفلسطينَ
وفينقيا.
وحاوَل سلوقس الثاني بكل الوسائل إضعافَ مصر،
فلجأ إلى التحالُف ضدَّها مع مقدونيا، وحرَّض
بعضَ المدنِ الواقعةِ تحت سيطرةِ مصر، ومنها
القدسُ، بعدم دفع الجزية لها.
فقام الكاهن الأكبر للقدس «أونياس الثاني»
بعدم دفع الجزية، فأرسل بطليموس عاملًا إلى
القدس لإرغامهم على الدفع وهددهم بالطرد،
فعظُمَ القلقُ في المدينة، ثم أوفدوا رسولًا من
ملَّتِهم إلى بطليموس استطاع أن ينالَ حظْوةً
لديه ويجعلَه يُعفِي اليهودَ من معظمِ الجزيةِ
التي كانت قد تراكمَت عليهم.
١٦
كانت القدسُ حتى ذلك الوقتِ بعيدةً عن
الهيلينية (إدخال الثقافة الهيلينية على الشعوب
الشرقية) وكانت واقعةً تحت تأثيرِ عائلتَين
رئيسيتَين متصارعتَين؛ أولاهما عائلةُ أونياس
oniads
الذين كانت بيدهم وظيفةُ رئيسِ الكهنة، وعائلةُ
طوبيا
tobiads
الذين كان مَعقِلُهم بالقرب من حشبون في عمون،
وربما كانوا من دم عموني إلى حدٍّ ما، وربما لم
يكونوا كذلك.
١٧
(٤) بَطلَيموسُ الرابع: الحَربُ
السُّوريَّةُ الرابعةُ وأوَّلُ مُحاولةٍ لهلينة
القُدس
كانت الحروبُ السوريةُ الثلاثةُ التي خاضها
البطالمةُ ضد السلوقيينَ تُعطي شعورًا
بالانطباع بأن أرضَ فلسطين لم تكن، في حقيقة
الأمر، مِلكًا لأحدهما، وكانت هناك ثلاثةُ
تياراتٍ بادية للعِيان فيما يخصُّ أرض فلسطينَ
والقدس؛ أولاهما يتملقُ الحكامَ البطالمةَ
ويندرجُ في الشروع بالهيلينية، والثاني يعمل
سرًّا مع السلوقيين، ويندرج هو الآخر
بالهيلينية، أمَّا الاتجاهُ الثالثُ فكان يدعو
للتخلُّص من البطالمة والسلوقيين معًا.
وكانت هذه التياراتُ الثلاثةُ، كلُّها، تنمو
في وقتٍ واحدٍ وباتجاهٍ واحد. كان بطليموس
الرابع (فيلوباتر؛ أي المحبُّ لأبيه)
(٢٢١–٢٠٥ق.م.) شخصًا متهورًا ضعيفَ الأخلاق
سيطرَت عليه منذ بداية حكمة عصابةٌ باخوسية
متهتكةٌ جعلَته يُطلِق على نفسه لقب «ديونسيوس
الجديد»، وقد استغل أنطيوخس الثالث ضعفَ الملكِ
البطلميِّ فشنَّ الحربَ السوريةَ الرابعة
(٢٢١–٢١٧ق.م.) ففَشل أول مرة، ثم نجح مؤقتًا،
ثم اندحر في معركة رفح التي استبسل فيها
الفلاحون المصريون، وأعادوا للبلاطِ البطلميِّ
سوريا الجنوبيةَ من سيطرةٍ سلوقيةٍ
أكيدة.
كان بطليموسُ الرابعُ يقودُ معركة رفح وفاز
بغنائمَ وفيرةٍ لم تكن في الحسبان، بينما فرَّ
أنطيوخس متجهًا إلى أنطاكيا. وقد زار بطليموسُ
الرابعُ — عام ٢١٧ق.م. عندما كان في فلسطين —
عدَّةَ مدنٍ منها القدس، ويبدو أنه زارَ
الهيكلَ وقدَّم هناك تقدمةً له، ثم أراد الدخول
إلى «قدس الأقداس»، فمنعه رئيسُ الكهنة،
فاغتاظَ من ذلك جدًّا، وأخذ يضطهد اليهود.
١٨
وهناك
مراجعُ تتحدث عن محاولة بطليموسَ الرابعِ
لهيلينية القدس والدين اليهودي، وربما حصل هذا
بعد زيارته للقدس ورجوعه غاضبًا من اليهود. رأى
بطليموسُ الرابعُ أنه يمكنُ، من ناحية، مطابقةُ
الإلهِ زيوس في صورة سابا يوس مع أصباءوت (بحكم
التقارب اللفظي بينهما)، ومن ناحيةٍ أخرى يمكنُ
مطابقةُ الإلهِ الهيلنستي «سرابيس» مع الإله
«ديونسيوس» (إلَه الخمرة والقصف) وذلك لوجود
تطابُقٍ بين ديونسيوس وأوزريس المصري أصل
سرابيس، خصوصًا أنه كان يرى أن بالإمكان تعميم
نموذجِ سرابيس الهيلنستي على اليهود وإنشاء
ديانةٍ موحَّدة تجمع «أوزريس وزيوس وديونسيوس
ويهوا»، بالإضافة ﻟ «سرابيس»، وإذا كان
البطالمة قد نجحوا قليلًا في صياغة الديانة
الهيلينية الجديدة عَبْر سرابيس وأقنعوا
المصريين بها، فإنهم، وَفقَ صياغةِ بطليموس هذا
فشلوا فشلًا ذريعًا؛ لأنهم لم يحسبوا حسابًا
لنزعةِ التوحيدِ اليهودية، وأنهم إزاءَ دينٍ
جديدٍ يختلفُ عن الأديانِ المحيطةِ به، والتي
يُمكِن تطويعُها وَفقَ رؤيةٍ إغريقية. ورغم
أننا لا نعرفُ مدى جهدِ بطليموسَ الرابعِ
لإدخال عبادةِ ديونيسيوس في يهوذا، إن كان قد
بذل أيَّ جهدٍ في هذا السبيل، ولكنه يقينًا
أثار فعلًا عداوةَ شطرٍ من رعاياه، فبذلوا كل
جهدٍ لتشويهِ ذكراهُ كما يتجلَّى ذلك في سِفر
المكابيين، ويقدِّمُ إلينا سِفر الجامعةِ صورةً
مفجعةً لدولة اليهود كما يصوِّرُها الجانب
الأرستقراطي في نهاية حكمِ ذلك الملك.
١٩
(٥) بَطلَيموسُ الخامس: الحَربُ السوريَّةُ
الخامسةُ
ونهايةُ حُكمِ البطالمة للقدسِ وفلسطين
عندما اعتلى بطليموسُ الخامسُ (أبيفانس،
المتجلِّي أو الظاهرُ) (٢٠٥–١٨٠ق.م.) عرشَ مصر
كان صبيًّا في الخامسة من عمره، وكانت عصابةُ
سوسبيوس وأجاثوكلس تعبث في القصرِ البطلمي.
وبعد زمنٍ تقدَّم رئيس حامية بلوزيوم واسمه
«تليبو ليموس»، وأعلن الثورة على القصر، ثم
أصبح وصيًّا على الملك، ثم جاء بعده
«أرستومينس» الذي بدأَت في عصره الحربُ
السوريةُ الخامسة (٢٠٢–٢٠٠ق.م.) فقد استغل
أنطيوخس الثالثُ في سوريا اضطراباتِ الحكمِ في
مصر، وصِغَرَ سِنِّ الملك البطلمي، وقام بالزحف
جنوبًا، واستولى على سوريا الجنوبيةِ وفينيقيا،
وسقطَت غزةُ في يده عام «٢٠٢»ق.م. ورغم أن
أرستومينسَ الوصيَّ حاول إنقاذَ سوريا
الجنوبيةِ إلا أنه فشل. وفي هذه الأثناء كانت
روما قد حقَّقَت نصرًا كبيرًا على قرطاج في
الحرب البونية الثانية، وأصبح مركزُها قويًّا
في البحر المتوسِّط، فأرسلت عام «٢٠٢»ق.م.
مبعوثًا رومانيًّا إلى مصر اسمُه «لبيدوس» أشيع
أنه أصبح وصيًّا رومانيًّا على بطليموس الخامس،
ولكنَّ أحدًا لم يستطعْ أن يُحرِّكَ واقعَ
الحالِ الذي فرضَه السلوقيونَ على الأرض، وهكذا
أصبحَت بلادُ الشام كلها تحتَ الحكمِ السلوقيِّ
نهائيًّا.
حصَل ذلك في عام «٢٠٠»ق.م. تمامًا … وبذلك
انتهى حكمُ البطالمة لفلسطينَ والقدس.
ولم يكن لبطليموسَ الخامسِ الذي كان عمرُه
آنذاك عشرَ سنواتٍ أيُّ دورٍ يُذكَرُ في تاريخ
القدس. إلا انه في عهده، داخل مصر، وتحديدًا في
مدينة أثريبس (محلها الحالي بنها) قام اليهود
في مِصر بالانجذابِ إلى سياسة الهيلينية
الإغريقية فجعلوا ﻟ «يهوا» مقابلًا إغريقيًّا
هو ثيوهبسستوس
Theos
Hipsistos ومعناه الربُّ
الأعلى (وهو اسمٌ استخدَمه فيما بعدُ فيلون اليهودي).
٢٠ وكان هذا الإلهُ يُعبَدُ في آسيا
الصغرى، وفي مصر، وتحديدًا في أثريبس، كرَّس
اليهودُ معبدًا له باسم «بطليموس الخامس وزوجته الملكة».
٢١
وقد ظهرَت جمعيةٌ دينيةٌ تعبُد هيباستيوس على
أنه سابازيوس الذي طابقوه مع ربِّ الجنودِ
اليهوديِّ «صباءوث» وهو لقبٌ من ألقاب «يهوا».
ومن هذه النقطةِ نعثُر على حلِّ اللغزِ الذي
كان وراء طردِ الرومانِ لليهود عام ١٣٩م؛ فقد
قام اليهودُ بإدخال عبادة سابازيوس إلى روما
(وكانوا يقصدون به أصباءوث يهوا) تحت اسمٍ
إغريقيٍّ قريبٍ منه.
إذن فقد دخل يهودُ الشتاتِ الهيلينيِّ بشكلٍ
خاص، في متاهات الدين الإغريقي، وينطبق على ما
فعلَه اليهود من المطابقة بين اسمِ المقصورةِ
المقدسِ لكاهنةٍ كلدانية وهي «سامبيثون» مع اسم
«سامبثوس»؛ أي المولودِ في السبت، وهو اسمٌ
يهوديٌّ شائعٌ في مصر … إلخ.
وهكذا أظهر الدينُ اليهوديُّ هشاشتَه
اللغويةَ والفلسفيةَ والروحيةَ أمام الثقافةِ
الإغريقية، وكان سقوطُه سهلًا تحت أيةِ سلطةٍ
دينيةٍ وافدة؛ فقد هبت رياحُ الميثولوجيا
الإغريقية عليه وبلبلَت صمودَه التوحيديَّ
المزعوم. وسنرى أن سياسة الهيلينية تلك تتضحُ
بفاعليةٍ أكبرَ داخلَ فلسطين بل وداخل القدس،
وسينتُج عنها صراعٌ كبيرٌ بين القدسِ
والسلوقيين.
لم تكن سياسةُ الهيلينية قد اتخذَت طابعًا
حادًّا من قِبَلِ البطالمة؛ ولذلك كان البيتُ
الدينيُّ الحاكمُ في القدس (يرأسه الكاهن
الأكبر أونياس) يميلُ إلى البطالمةَ، أمَّا
البيتُ السياسي (يرأسه طوبيا) فقد كان يميلُ
إلى السلوقيينَ وإلى سياسة الهيلينية التي
كانوا يلوِّحونَ بها.
مع نهاية الصراع لصالح السلوقيينَ بدأ البيتُ
السياسيُّ يشتدُّ قوة، وبدأ الانفتاح على
الهيلينية داخلَ القدسِ يزداد، وكان ذلك يحصلُ
بسبب تذمُّرِ أثرياءِ القدسِ من الضرائب
البطلميةِ الكبيرة، واضطرارِ اليهودِ إلى
الهجرة عن فلسطينَ إلى الشتات.
وفي حَومةِ ذلك الصراعِ أكمل اليهودُ كتابةَ
(سِفرِ الجامعة) حوالي عام ٢٠٠ق.م. وحمَل هذا
السِّفرَ أثرًا هيلينيًّا واضحًا، وكذلك سِفرُ
الأمثال، وكان ذلك بمثابةِ نتاجِ تفاعُلٍ بين
اليهودية والهيلينية «وربما كانت الهيلنستية
اليهوديةُ هي المرأةَ الأجنبيةَ المُلقِيَة
بكلامها التي يذكُرها سِفرُ الأمثال، ولكنَّ
بيتَها يهبطُ إلى جذور الموت، وقد اتُّهِمُوا
بإهمال الخِتان، وأنهم يتَّصفون بكل النقائصِ
الخُلُقيَّةِ التي تُنسَبُ عادةً في العهد
القديم للمارقينَ المرتدين.»
٢٢