المبحث الثاني: الاحتلالُ السلوقي (٢٠٠–٦٣ق.م.)

(١) أنطيوخس الثالثُ (الكبير): التسامحُ مَع اليهود

كان أنطيوخس الثالثُ (الكبير) (٢٢٣–١٨٧ق.م.) طموحًا؛ فبعد احتلالِه جنوبَ سوريا دخل في حربٍ طويلةٍ مع الرومان خسر فيها كلَّ أمجادِه، واضطَره إلى توقيع معاهدةِ صلحٍ مهينةٍ مع روما عام ١٨٨ق.م. هي معاهدةُ أباميا. ويبدو انه زار مدينة القدس، واستقبلَه اليهودُ فيها بالسرور، فعاملَهم برفق، وأطلق لهم حرية معتقدهم، وأكمَل الإصلاحاتِ التي بقيَت لازمةً في الهيكل، وأعفى اليهود من الضرائب لفترةٍ من الزمن.١

(٢) سلوقس الرابع (يوباتر): نزاعاتُ اليهودِ الداخليَّة

في عهد الملك السلوقي الرابع (١٨٧–١٧٥ق.م.) بدأت نزاعاتٌ داخليةٌ بين اليهودِ أنفسهم، وقد مهَّدَت هذه النزاعاتُ لظهور الهيلينية السلوقية في القدس بأوسعِ أشكالِها. نشب الخلافُ أوَّلًا بين رئيس الكهنة «أونياس الثالث» ورئيسِ حرسِ الهيكلِ «سمعان»، ثم اتفق سمعان مع الملك على سحب أموال الهيكل وأخذها للملك، وكاد أمينُ صندوقِ المملكة — حين حاول دخولَ الهيكلِ لينفذ هذا الموضوع — أن يُقتَلَ وعاد الملك معه دون نتيجة.٢

وترك هذا الحادثُ شرخًا في المؤسسة الدينية اليهودية استطاع السلوقيون أن ينفُذوا منها لاحقًا لتنفيذ ما يريدون أو لهلينة اليهود.

وخلال هذه الفترة أسس السامريونَ لهم هيكلًا في «جزريم» على غِرار هيكلِ «يهوا» في القُدس، ويُرجَّح أن يكونَ هذا الهيكلُ للإله «إيل»، وسيفعل مثلَ ذلك يهودُ مصر بعد حوالي عَقدَين، على يد الكاهن الأكبر أونياس الرابع، الذي فرَّ إلى مصر.

(٣) أنطيوخس الرابع: هيلينيَّةُ اليهود

كان الملكُ أنطيوخس الرابعُ (أبيفاس، الظاهر أو المتجلي) (١٧٥–١٦٤ق.م.) آخِرَ الملوكِ السلوقيينَ الأقوياء، وهو الذي بلغَت به الجرأةُ أن غزا مصر مرتَين، وأشعَل فتيل ما يُسمَّى خطأً ﺑ «الحرب السورية السادسة»، التي لم تَجْرِ بسبب سوريا الجنوبية، ولم تكن على أرضها، بل على أرض مصر. بدأ هذا الملكُ حكمَهُ بشقِّ صفوفِ كهنةِ اليهودِ في القدس، وقام ببيع منصبِ الكهنوتية ﻟ «يشوع» أخي «أونياس الثالث» رئيسِ الكهنةِ الشرعي، وكان ذلك مرهونًا لقيام يشوع بنشر الهيلينية في الدين اليهودي، فغيَّر اسمه الأول إلى «ياسون»، وأنشأ في القدس ملعبًا وميدانًا للعب والاحتفالات، فعمَّ الفسادُ عامَّة، وحتى الكهنةُ أنفُسُهم فإنهم هامُوا في أودية الرذائل لمَّا رَأَوا رئيسَهم من أئمة الإثمِ والمعصية.٣
وهكذا بدأَت الهيلينيةُ بالنفوذ داخلَ المجتمع اليهودي، ويقول ج. أ. سمث: «إن العالمَ الوثنيَّ لم يَعُد يضربُ شواطئَ يهوذا ذلك الضربَ الذي قرَع أسماعَ إشعياء، لم يعد يَلطِمه في غضبٍ وصخبٍ كما تلطِمُ أمواجُ البحرِ الهائجِ شاطئَ فلسطينَ الوَعْر، بل أخذ يداعبه الآن بموسيقى الحريةِ والمغامرةِ والثروةِ والسعادةِ الحرَّةِ التي لا حدودَ لها.»٤

ولا شكَّ أن هناك معارضةً للأساليب الهيلينية، ولكنَّ الأسَر النبيلةَ الغنية، بل وأوساطَ الكهنةِ أيضًا تغلغلَت فيها المطامعُ الدنيوية.

لكن الكاهنَ الأكبرَ «أونياس الثالث» لم يسكُت على هذا الأمر، فقام باستعادة منصبِهِ عن طريق شرائِهِ بمبلغٍ أكبرَ من المبلغ الذي قدَّمَه أخوه، وسَمَّى نفسَه اسمًا هيلينيًّا هو «منلاوس»، وقد اضطُر لبيع بعض أواني وتُحف الهيكل ليُسدِّد المبلغ لأنطيوخس الرابع. وعندما افتُضحَ أمرُه حدث شغبٌ واضطرابٌ في القدس.

وفي أثناء غزو أنطيوخس لمصر وبَدءِ الحرب السورية السادسة، قام الكاهن المخلوع ياسون (يشوع) وقاد قوةً عسكريةً تُقَدَّرُ بألف جنديٍّ، ودخل بها إلى القدس واستولى عليها، وحاصر أخاه أونياس الثالث (منلاوس) في البرج، وقتلَ الكثيرَ من اليهود أتباعِ أونياس، ولكنه لم يتمكَّن من احتلال القدس كلِّها، وهكذا عمَّت الفوضى مدينةَ القدس.

ورغم أن أنطيوخس الرابعَ كان قد حقق نصرًا كبيرًا في مصر إبَّانَ غزوتِه الأولى لها، وتَنصَّب ملكًا على مصر في منف، ثم زحف منها إلى الإسكندرية، العاصمة، لكنه عندما سمع باضطرابات القدس ترك كلَّ ما حقَّقه هناك، وعاد إلى فلسطين، وذهب مباشرة إلى المدينة، وانتقم من جميع معارضيه هناك، ونهب الهيكل، وعيَّن لحفظ المدينةِ قائدًا يونانيًّا يُدعَى «فيلبس»، وأقام واليًا على المدينة مع قوةٍ عسكرية، وانتهى بذلك عهد «أونياس» (يشوع) تمامًا. وفي عام ١٦٨ق.م. أرسل أنطيوخس الرابعُ رئيسَ الجزيةِ «أبولونيوس» إلى القدس وبقيةِ مدنِ ولايةِ يهوذا، على رأس اثنَين وعشرينَ ألفَ جنديٍّ للقضاء على اليهود نهائيًّا في المدينة. وحين وصل لها أظهر السلام في بداية الأمر، ثم انتظر يوم السبت، وحين تعطَّل اليهود عن حمل السلاح انقَض عليهم، وقتَل منهم كثيرين، ثم انقَض على المدينة وأحرقَها وأسَر مَن فيها، وبلغ عددُ القتلى والأسرى حوالي «٨٤» ألفًا، ثم بنى قلعةً عسكريةً سُمِّيَت (أكرا) اتُّخِذَت حصنًا للقوات السلوقية وللسيطرة على المدينة.

وفي هذه المرحلةِ بالذات بدأتِ الهيلينيةُ المنظمةُ لليهود، والتي قام بها أنطيوخس الرابعُ لطبع القدس بالطبع اليوناني، وأُوكلَت تلك المهمةُ إلى والٍ جديدٍ عليها هو «أثنيوس». وقد كانت مظاهرُ هيلينية القدس وما جاورها واضحةً في الإجراءات الآتية:
  • (١)
    استبدال الإله «يهوا» بالإله زيوس أوليمبوس Zeus Olympios إلَه المشتري في هيكل القدسِ الرئيسي، وإقامة مذبحٍ إغريقي (وزر الأوزار) على المذبح المقدَّس ليهوا في فناء ذلك المعبد، ونَصْب تمثالٍ للإله زيوس.
  • (٢)
    استبدال معبد «يهوا» كليًّا إلى معبد زيوس زينوس Zeus Xenios على جبل جرزيم في السامرة وإقامة تمثالٍ له.
  • (٣)

    تحريم الخِتان.

  • (٤)

    تحريم الامتناعِ عن أكلِ لحمِ الخنزير، وتقديم ذبائحِ الخنازيرِ إلى الإله زيوس.

  • (٥)

    التفتيش عن نُسَخِ «سِفرِ الشريعة» وإعدامها وإعدام مَن احتفظوا بها.

وقد استجاب الكثيرُ من اليهود لدعوة أنطيوخس الرابع، وأخذوا ينخرطون في الديانةِ الإغريقية ويتركونَ ديانتَهم اليهودية. أما الذين تمسَّكوا بديانتهم فكانوا هم «حزبَ الناموسيين» أو «القديسين» ويُسَمَّونَ «الحسديم»؛ أي «المؤمنون الأوفياء»، فقد قرَّروا أن يقفوا بوجه السلوقيين ويقودوا المقاومةَ ضدهم.

وبدأ الصراع مُركَّبًا شديدًا عنيفًا بين هذَين الفريقَين والسلوقيين، وكان من أهم نتائجه هربُ بعضِ اليهودِ إلى مناطقَ خارجَ القدس وخارجَ يهوذا، والذي أدى إلى أحداثٍ جديدةٍ كما سنرى.

١  غير موجودة في الأصل، أبو عليان، المرجع السابق، ص١٠٤.
٢  نفسه.
٣  نفسه.
٤  إلمسلي، سقوط أورشليم وأهميته العالمية، تاريخ العالم للسير جون أ. هامرتون، المجلد الثالث، الفصل التاسع والستون، ترجمة إدارة الترجمة بوزارة المعارف العمومية، القاهرة، ب. ت، ص٦٥٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥