المبحث الثالث: دَولةُ يَهوديَّا Ioudaia (١٦٤ق.م.–٧٠م)

(١) دَولةُ يهوديَّا المَكَابية (١٤٢–١٠٦ق.م.)

هرب بعضُ يهود القدس من الاضطهاد الديني للسلوقيين ومحاولة إدخالهم في الهيلينية دينًا وتراثًا. وكان حكم أنطيوخس ما زال في سِنِيهِ الأخيرة.

وربما كان من بين الذين هربوا إلى مدينة «مودين» رجلٌ يُدعَى «متتيا» من أسرةٍ تُدعَى أسرةَ الحشمونية Hasmonaeos أو الإشمونية، ولقبُها هذا يوحي بجذورها المرتبطة بالإله «إشمون» إلَه الطب الكنعاني، الذي كان يُعبَدُ على نطاقٍ واسعٍ في فلسطين، والذي طابقَه الإغريق مع الإله «إسكلابيوس»، ولكننا لا نعرف على وجه الدقةِ علاقةَ هذه الأسرةِ بذلك الإله.

وكان ﻟ «متتيا» خمسةُ أولاد؛ هم «يوحنا، سمعان، يهوذا، إلعازر، يوناثان»، وكان يهوذا يلقب ﺑ «مكابيوس» أو «المكابي»، ومعناه «المِطرَقة»، وهو أكثرهم هِمَّةً وقوَّة. ونرى أن أسرة الحشمونية كانت موجودةً أصلًا في مدينة «مودين»، والتي نُرجِّح أن تكون «مدين» التي كانت فيها أسرٌ يهودية، والتي كانت تعبدُ أصلًا الإله «يهوا» قبل أن يصيرَ الإلهَ الأوحدَ لأهل يهوذا. كان موقعُها في جنوب يهوذا متاخمًا للصحراء.

ودليلُنا على أن أسرة الحشمونيين كانت أصلًا في مدينة «مودين» قيام «متتيا»، أبي الأسرةِ في ذلك الوقت، بقتل رسول أنطيوخس الرابع القادم لهيلينية المدينة؛ ولذلك فرَّ من «مودين» إلى الجبال، وأعلن الثورة والعصيان ضد الحكم السلوقي، وقد هزَم حملةً عسكريةً أرسِلَت ضدَّه من القدس.

بعد وفاة «متتيا» عام ١٦٦ق.م. بدأَت مرحلةٌ جديدة؛ فقد أسَّس ابنه يهوذا المكابي دولةً جديدةً هي «دولة يهوديا» أو «دولة يهودية» التي قُدِّرَ لها البقاءُ تحت ظلِّ الانقساماتِ والاضطراباتِ السلوقيةِ والبطلميةِ والرومانيةِ مدةً تقتربُ من قرنَين ونصفٍ (١٦٤ق.م.–٧٠م)، ولطالما التبس الأمرُ كثيرًا على المؤرخينَ والباحثين، بقصدٍ وبدون قصد، وخلَطوا بين دولتَي «يهوذا Iouda ويهوديا Ioudaia» على اعتبار أن الثانيةَ استمرارٌ للأولى، وأن الفارقَ الصوتيَّ بينهما قليل. وهذا خطأٌ فادح؛ فيهوذا هي الدولةُ الإقليمية التي أخضَعَها نبوخذ نصر إلى مملكته البابلية، ودمَّر عاصمتَها القدسَ (أورشليم)، ولم تستمرَّ تحت الاحتلالِ الفارسيِّ كدولةٍ أو مملكةٍ إقليمية، بل ظلت مدينة القدس وريثةً لتلك الدولة الآفلة، واستمرَّت مدينةُ القدسِ بتبدُّلاتِها الإثنيةِ الدينيةِ المعروفةِ مع الاحتلالَين البطلميِّ والسلوقي.

ولم تكُن نشأة يهوذا على علاقة باليهود كما عرفنا. أما «يهوديا» فهي الدولة التي أنشأها يهوذا المكابيُّ في عام ١٦٤ق.م. ولا تطابقُ خارطتُها خارطةَ دولةِ يهوذا، وكانت عاصمتُها القدسَ لفتراتٍ معينةٍ فقط.

جدول ١: ينقسم تاريخ «يهوديا» إلى أربعة عهودٍ موضَّحةً في هذا الجدول: تاريخ مملكة (دولة) يهوديا وأسَرِها الحاكمة.
اسم الأسرة الملك (الحاكم) صفته الفترة الزمنية
المكابية (١) يهوذا المكابي ابن متتيا ١٦٧–١٦١ق.م.
(٢) يوناثان أخو يهوذا  ١٦١–١٤٤ق.م.
(٣) سمعان أخو يهوذا ١٤٤–١٣٥ق.م.
(٤) يوحنا (هركانوس الأول) ابن سمعان ١٣٥–١٠٦ق.م.
الحشمونية (٥) أرسطو بولوس الأول (فلهلن) ابن يوحنا ١٠٦–١٠٣ق.م.
(٦) إسكندرينيوس (حنايوس) ابن أرسطو بولوس ١٠٣–٧٦ق.م.
(٧) إسكندره (سالوم الكزاندرا) أم إسكندرينيوس ٧٦–٦٧ق.م.
(٨) أرسطو بولوس ابن اسكندره ٦٧–٦٣ق.م.
(٩) هركانوس الثاني أخو أرسطو بولوس ٦٣–٤٨ق.م.
الهيرودية (١٠) أنتباتر من أصل آدومي ٤٨–٤٣ق.م.
(١١) هيرودوس الأكبر ٤٣–٤ق.م.
(١٢) تقسيم يهوديا إلى أربعة أقسام يحكم ثلاثةً منها أبناء هيرودوس والرابع حاكمٌ روماني، وأصبحَت قيسارية هي العاصمة بدلًا من القدس. ثلاثة أبناء هيرودوس + حاكم روماني ٤ق.م.–٣٧م
(١٣) هيرودوس أغريبا، عودة يهوديا الموحَّدة وعاصمتُها القدس حفيد هيرودوس الأكبر ٣٧–٤٤م
 تقسيم يهوديا (١٤) تقسيم يهوديا إلى أقسام وعاصمتُها قيسارية، حكَم القُدسَ سبعةُ ولاة رومان. ٤٤–٧٠م
figure
شكل ٧٤: موقع وحدود مقاطعة يهوديا في العصر الهيلنستي.

(١) يهوذا المَكابي (١٦٧–١٦١ق.م.)

نذكُر — رغم تحفظِنا على المرويات الدينية اليهودية والتوراتية؛ اعتمادًا على سِفر المكابيين الأول وسِفر المكابيين الثاني، وهما كتابان غيرُ رسميَّين عند اليهود — قصةَ اضطهاد اليهود الذي بدأه الإمبراطور السلوقي أنطيوخس الرابع، الذي تولَّى العرش في ١٧٥ قبل الميلاد، وحاول أن يطبق منهجه في هيلينية بلادِ فلسطينَ كلِّها، ومنهم اليهود، فيذكُر قَسْرَهم على قبول التقاليد الهيلنستية، ثم يمضي في سَرد التمرُّد الذي اندلَع ضد السلوقيين في ١٦٧ قبل الميلاد، بقيادة كاهن يُدعَى ماتاثياس، والذي أدَّى في النهاية إلى إعادة تأسيسِ مملكةٍ يهوديةٍ مستقلةٍ تُسَمَّى «يهوديا»، ويمكن أن تكون هذه الدولةُ الصغيرةُ أولَ دولةٍ حقيقيةٍ لليهود داخلَ فلسطين، كنوعٍ من الفيدرالية أو الكونفيدرالية.

اشتُقَّ مصطلحُ «المكابي» اللاتيني واليوناني من أصولٍ آرامية «مكابة بمعنى مِطرَقة»، وهو لقب يهوذا، ثالث أبناء متاتياس الخمسة، والذي تولَّى بعد وفاة والده قيادةَ التمرُّد، ويَسرد الفصلُ السابعُ من سِفر المكابيين الثاني قصةَ قتلِهم، دون ذكر أسمائِهم؛ ولذلك لا نعتقد بعلاقتهم بيهوذا المكابي وعائلته، وهو ما يُضعِفُ المرويةَ اليهودية.

لوحةٌ جداريةٌ من القرن السادسِ أو السابعِ في كنيسة سانتا ماريا أنتيكا في المنتدى الروماني، تظهر سلومني (اسمها مؤنث سليمان، وهي والدتهم) في المنتصف مع هالة واسمُها مكتوب بجانبها، والعازارُ على اليسار، واسمه مكتوبٌ فوق رأسه، وكاتبٌ مُسِنٌّ للناموس يُدعى إليزار، والذي رفض أكل لحم الخنزير، وافترَض بعضُ آباءِ الكنيسة أنه والِدُ الإخوةِ السبعة، على الرغم من أن هذا أيضًا غيرُ مذكورٍ في السِّفرَين. لكن هذه المروية أخذَت بُعدًا مسيحيًّا لاحقًا، ورُسِمَت في هذه اللوحةِ باعتبارها جزءًا من تراثِ الاضطهاد.

ويتضح ضعفُ المرويةِ من حقيقة أن الملك السلوقي دمتيريوس جهَّز جيشًا بقيادة باخيدس Bacchides وقُتِلَ يهوذا المكابيُّ وهُزِمَت قواتُهُ سنة ١٦١ق.م.، ولم يَمُت عن طريق قتلِه مع الستةِ الآخرين، كما في المرويةِ واللوحة، وهو أمرٌ اعتَدْنَا على تزويرِه في أغلبِ المروياتِ الدينية.
figure
شكل ٧٥: موت المكابيين في تابوت بريشيا.
figure
شكل ٧٦: صورةٌ فنيةٌ للمكابيين السبعة، ومعهم أمُّهُم ومعلِّمُهم، الذين قتلَهم في عام ١٦٦ق.م. الملكُ السلوقيُّ أنطيوخس الرابعُ أبيفانس، كما تقول الرواياتُ الدينية.

أسَّس يهوذا المكابي دولة أو مملكة يهوديا (يهوديه) الإقليمية الصغيرة. وقد بدأ يهوذا ثورتَه ضد السلوقيين، بعد وفاة أبيه (متتيا)، بهجومٍ ناجح على مدينة القدس عام ١٦٤ق.م. هزَم فيه السلوقيين رغم بقاء قلعة «أكرا» بيدهم.

كان أنطيوخس الرابع منشغلًا بصد الفرثيين شرقًا، فتوجه إلى إيران، وأوكَل مهام مملكته إلى «ليسياس»، فقام هذا بحملةٍ استطلاعية في بلاد يهوذا، ورأى أن من الحكمة اتباعَ سياسةٍ معتدلة مع أهلها، فأوقَف اضطهادَ اليهود وحزب القديسين، ودعاهم للعيش جنبًا إلى جنب مع اليهود الهيلنستيين، وأعاد الهيكل إلى «يهوا»، وأعاد الكاهن «مينلاوس» زعيم اليهود المتأغرقين كاهنًا أكبر.

وفي عام ١٦٣ق.م. تُوفِّي أنطيوخس الرابع في أصفهان (جاباي)، وجاء بعده ابنه الطفل أنطيوخس الخامس، وكان وصيَّاه هما «ليسياس» و«فيليب»، فتناحرا، وهرب فيليب إلى مصر. واستغل يهوذا المكابي هذه الاضطراباتِ فقام خلال الفترة (١٦٤–١٦٢ق.م.). بهجماتٍ كثيرةٍ شرقَ الأردن وشمالَ فلسطين، ولم ينتُج عنها شيءٌ سوى القتلِ والتدميرِ الجنوني.

قام ليسياس عام ١٦٣ق.م. بمحاولة استعادةِ القدسِ من يهوذا المكابي، وفكِّ الحصارِ عن قواته السلوقية هناك، فانتصر على يهوذا عند بيت صور، وقتل أخاه إلعازر، فتراجَع يهوذا إلى القدس، وتحصَّن بها، فضرب ليسياس حصارَه حولها، وضيَّق عليها، وضربها بالمنجنيق لأيام، لكنَّ أخبارَ الاضطراباتِ التي بدأَت تحدث في العاصمة أنطاكيا جعلَته يستعجلُ الصلحَ مع المكابي، ويُطلِقُ لليهود حُريتَهم الدينيةَ شريطةَ إبقاءِ القيادةِ الكهنوتية بيدِ اليهودِ المتأغرقينَ (الهيلينيين) أو «الحزب الهيليني» وفيه استبدَل مينلاوس الذي قضى مدةً طويلةً بهذا المنصب، ونصَّب مكانه يهوديًّا هيلينيًّا آخرَ هو «الياكيم»، وكان ليسياس قد هدَم القلعة التي أقامها القديسون لمجابهة المَعقِلِ الملكيِّ للسلوقيين، وهو المكان الذي كان مأوًى للحزبِ الهيلينيِّ أثناء الاضطرابات.١
ولم يهدأ يهوذا (الذي يُناصِر حزب القديسين) أمام هذه التغيراتِ التي أحدَثها ليسياس، وما إن استلم الحكمَ السلوقيَّ دمتيريوس الأولُ واختفى تأثيرُ ليسياس، حتى قام يهوذا المكابيُّ بعزل «الياكيم»، فالتجأ الأخير إلى دمتيريوس الأول في أنطاكيا، فوجد الملكُ السلوقيُّ الفرصةَ سانحةً للتدخُّل في أمور القدس، فأرسَل قائده «بكايدس» على رأس جيشٍ كبيرٍ ومعه (الياكيم)، وكان عند أوَّلِ وصولِهم إلى القدس أن قاما بقتل ستينَ معارضًا، فوقَع الرعب بين اليهود، ثم قتَل وسجَن منهم الكثيرَ وأُعيدَ تنصيبُ «الياكيم» رئيسًا للكهنة، وأبقى معه جيشًا ليحميَه، فقام «الياكيم» باضطهاد مُعارِضيه من اليهود.٢

كان المكابيُّ يُراقِب ما يحصُل بحذَر، وما إن غادر القائدُ السلوقيُّ حتى دخل المكابيُّ إلى القدس وهدَّد الياكيم، فقام الياكيم بإخبار الملك من جديد.

وهكذا قام الملك بتجهيز حملةٍ جديدةٍ بقيادة «نكانور» عام ١٦١ق.م. وكان يهوذا المكابيُّ في القدس، فتصدَّى له، ودفعه للالتجاء إلى القلعة السلوقية، ثم وقعَت معركةٌ فاصلةٌ بينهما في مدينة «عدسة» في نواحي الرملة، فقتل «نكانور»، وقطع يهوذا رأسَه، وجاء به إلى مدينة القدس، وعلَّقه على أسوارها، وهرب «الياكيم» إلى أنطاكيا.٣
هذا ما تذكُره أخبار سِفر المكابيين في العهد القديم التي نتحفظ على تفاصيلها. وتمضي هذه الأخبارُ فتروي أن يهوذا الثائرَ ضد حكمِ الدولةِ السلوقيةِ توقَّع أن يقوم الملكُ بَردَّةِ فعلٍ عنيفةٍ ضدَّه، فما كان منه إلا الاتصال بروما وطلب حمايتها … وكانت روما تبحث عن جيوبٍ مناصرةٍ لها في كِيان المملكةِ السلوقية، فقامت بإخبار الملك السلوقي «دمتيريوس الأول» بأن اليهود موالون لها، وأنها ستُحارِبه إذا عاد إلى ضربهم، لكن روما لم تفِ بوعدها لليهود، واعتبر دمتيريوس هذا التمهيدَ تدخلًا في شئونه الداخلية، فقام بتجهيز جيشٍ جديدٍ بقيادة باخيدس Bacchides ومعه الياكيم، ودارت معركةٌ كبيرةٌ في بئروت (البيرة) شَمالَ القدسِ حيث كان المكابيُّ يتحصنُ وقُتِلَ يهوذا المكابي، وهُزِمَت قواتُه سنة ١٦١ق.م. ثم دخل باخيدس والياكيم القدسَ ونُصِّبَ الياكيمُ رئيسًا للكهنة مرةً أخرى.

(٢) يُوناثان (١٦١–١٤٤ق.م.)

تولَّى «يوناثانُ»، أخو يهوذا المكابي، أمرَ التمرُّدِ ضد السلوقيين، فقام بالعبور نحو شرق الأردن، ومن هناك قام بعملياتٍ حاولَت إرباكَ الجيشِ السلوقي.

وفي عام ١٥٨ق.م. عُقِدَت معاهدةُ صلحٍ بين يوناثان وباخيدس، تعهَّد فيها القائدُ السلوقيُّ بعدم التعرُّض لليهود وردِّ أَسْراهُم، وعاد باخيدس إلى أنطاكيا، وصار يوناثان، عمليًّا، رئيس دولة وكهنة يهوديا، وكان مقرُّه في مكماش (مخماس) شَمالَ القدس، وانتصر حزب القديسين من جديد، وقام بملاحقة الحزب الهيلينيِّ اليهودي.

وبدأَت دويلة/إمارة يهوديا تستقل شيئًا فشيئًا من الحكمِ السلوقي، خصوصًا أن المملكةَ السلوقيةَ تعرَّضَت إلى اضطراباتٍ سياسيةٍ واسعةٍ خلال تلك الفترة.

وهرب الكاهن «أونياس الرابع» من يهوديا إلى مصر، وكان كاهنًا أكبرَ قبل ياسون، وزعم بأنه ظُلِمَ بإقامة الياكيم بهذا المنصب، فمنحَه فيلومتر (بطليموس السادس)، في إقليم ليونتوبوليس، أرضًا ليقيم عليها معبدًا يهوديًّا، يكون نموذجًا صغيرًا لمعبد بيت المقدس.٤

وبدأ يوناثان باللعب على حبال السياسةِ السلوقيةِ المضطربة؛ فعندما ضَجِرَ الرومانُ من دمتيريوس الأول قامت برجام (الموالية لروما) بإرسال شخصٍ يُطالِب بعرش سوريا اسمه «الإسكندر بالاس» سرعان ما اعترفَت به روما ملِكًا، وكان الملكُ الحقيقيُّ دمتيريوس الأوَّلُ في أنطاكيا.

وأرسل الاثنان (دمتيريوس الأول وبالاس) إلى يوناثان يكسبان ودَّه في هذه المعركة الدائرةِ بينهما، فاختار يوناثان الوقوفَ إلى جانب «بالاس». وعندما انتصر «بالاس» على غريمه عام ١٥٠ق.م. صار يوناثانُ رئيسَ الكهنة في القدس بعد أن استغَل، قبل هذا الوقت، موقفَ دمتيريوس معه، وقام بدخول القدس، وتجديدِ بعضِ حصونِها ومبانيها.

كان «بالاس» ضعيفًا، وترك الأمور بيد وزيره «أمونيوس»، فقام دمتيريوس الثاني (ابن دمتيريوس الأول) بتجهيز جيشٍ كان يقوده لاسثنس بالمطالبة بعرش أبيه، وتوجَّه هذا الجيشُ إلى شمال سوريا أو «كليكيا» مع جيشٍ من مرتزقة كريت.

وبينما كان بالاس يقوم بالدفاع عن أنطاكيا ضد هذه الحملة شمالًا قام حاكمُ جوف سوريا السلوقي «أبولونيوس» بتأييد دمتيريوس الثاني، وكاد يُضيِّقُ الخناقَ على بالاس من الجنوب، لكن «يوناثان» تصدَّى له واستولى على مدن يافا وأشدود وعسقلان. وعندما علم بالاس بما أصابه يوناثان من النجاح رفعَه إلى مرتبة «قريب الملك»، وكانت أرفعَ مراتبِ الدولة، ومنَحَه مدينةَ عكير «إكرون Ekron» ملْكًا خاصًّا له.٥

ولمَّا مالت موازين القوى ضد بالاس وقام بطليموس السادس بالوقوف ضده ودَحْرِه كان يوناثان يقف إلى جانب دمتيريوس الثاني، الذي انتصر نهائيًّا على بالاس عام ١٤٧ق.م. فما كان من دمتيريوس الثاني إلا وثبته على يهوديا.

ولكن الدولةَ السلوقيةَ لم تهدأ؛ فقد قام قائدٌ من قوات بالاس بتنصيب ابن بالاس باسم «أنطيوخس السادس»، لكنه سرعان ما قُتِلَ هذا الصبيُّ في ١٤٢ق.م. وتناول بيده الصولجان وحكم تحت اسم «تريفون»، ولم يستطيع دمتيريوس الثاني أن يخلعه، وظل العرشُّ السلوقيُّ منقسمًا بينهما.

ويبدو أنَّ لَعِبَ يوناثانَ على الحبال هو الذي قاده إلى دعوةٍ من «تريفون» حيث استدرجه هذا إلى «عكا» وقتلَه هناك عام ١٤٤ق.م.، وهكذا ذهب يوناثانُ ضحيةَ نزعتِه الانتهازية.

(٣) سَمعانُ (١٤٤–١٣٥ق.م.)

استلم أخو يوناثانَ المسمَّى «سمعان» قيادةَ يهوديا، وقام ديمتريوس الثاني عام ١٤٣ق.م. بتكريسه رئيسًا للكهنة، ورئيسًا سياسيًّا في القدس، وأعفى اليهودَ من الجزية التي كانت مقرَّرةً عليهم، وسمَح لهم بالدخول في صفوف الجيشِ السلوقي، فاعتبر اليهودُ تلك السنةَ تحوُّلًا كبيرًا في حياتهم، وصار سمعان أولَ ملكٍ رسميٍّ لدويلة «يهوديا»، وبذلك أقَر لنسله الحكمَ من بعده.٦

ودخل سمعانُ القدسَ عام ١٤١ق.م. بعد أن حاصرَها، وهدم القلعة، ونزع شيئًا من الصخرة كي لا تُصبحَ أساسًا لبرجٍ جديد، ثم قوَّى أسوارَ المدينةِ خصوصًا المحيطةَ بالهيكل ليُصبِح قويًّا.

وعندما تُوِّج أنطيوخس السابع (الذي قضى على تريفون، قاتل يوناثان) منح «يهوديا» ما كان لها في بداية حكمه عام ١٣٩ق.م. لكنه بعد أن ثبَّت أركانَ حكمِه في أنطاكيا، وتزوَّج كيلوباترا ثيا (زوجة أخيه دميتريوس الثاني)، عاد وتنكَّر لاستقلال يهوديا، وجهَّز حملةً عسكريةً بقيادة قندباوس إلى القدس وما جاورَها لاحتلالها.

لكن سمعان أوكَل لولدَيه مهمة صدِّ القواتِ السلوقيةِ فتمكَّنا من ذلك، واستقرَّ سمعانُ في القدس قويًّا حتى تعرَّضَ لمؤامرة اغتيالٍ من قِبَلِ زوجِ ابنتِه، حاكمِ أريحا، سنة ١٣٥ق.م.

(٤) يُوحَنَّا (هركانوس) (١٣٥–١٠٦ق.م.)

تولَّى ابنُ سمعانَ (يوحنا) الحكمَ وهو المُلَقَّبُ ﺑ «هركانوس»، وظلَّ لفترةٍ طويلةٍ قاربَت الثلاثينَ عامًا. وفي عهده استقلَّت يهوديا عن السيادة السلوقية، وشَهِدَت حربًا بين الأحزاب الدينية.

ابتدأ عهد هركانوس بالحملةِ الثانيةِ التي جهَّزها أنطيوخس السابع إلى القدس محاولًا احتلالَها بقيادته، فضربَ الحصارَ حولها عام ١٣٣ق.م. ولكنه بعد حصارٍ طويلٍ لم يستطع اقتحامَها، فاضطُر إلى عقد صلحٍ اعترفَ فيه هركانوس بالسيادة السلوقيةِ على المدينة ودفعِ الجزيةِ لأنطيوخس، وقَبِلَ بهدم أسوارِ القدس حتى تبقى مفتوحةً أمام الجيشِ السلوقي.٧

وأراد أنطيوخس إبقاءَ قواتِه في القدس، الأمرُ الذي ينال من مركز هركانوس فيها؛ ولذلك قام هركانوس بدفع ما قيمته ٥٠٠ وزنة من الفضة لأنطيوخس ثمنًا لرحيل قواته، وتثبيت هركانوس رئيسًا للكهنةِ والسلطةِ في القدس، ففعل أنطيوخس ذلك شرط أن يكون هركانوس ومدينتُه تحت سيادتِه وتابعةً لأنطاكيا.

نفَّذ هركانوس ما كان مطلوبًا منه، وأثبت ذلك عند مشاركته إلى جانب جيش أنطيوخس ضد الفرس عام ١٢٨ق.م. عندما فتح أرضَ الجزيرة وإقليمَ بابلَ وطرد فراتيس ملك الفرثيين خارج ميديا، وبدا أنطيوخس كمن أوشك على استرداد إمبراطورية أنطيوخس الثالثِ السلوقية. لكن الأمور انقلبَت رأسًا على عقب عندما قام ملك الفرس الفرثيين بمباغتة أنطيوخس السابع في معسكره الشتوي، وهزَمه وقتلَه واستردَّ منه كلَّ فتوحاتِه، وبعث بجثمانه إلى بلاده، فشيَّعه السلوقيونَ بأعلى مظاهر التفجُّعِ والحزن، كأنهم كانوا يشعرون أن تاريخهم بدأ بالأفول بعد مقتلِ آخِرِ ملكٍ منحدرٍ من السلالة السلوقيةِ الأولى.

استغَل هركانوس ذلك الوضعَ الجديدَ وخرج على السلطة السلوقية نهائيًّا. وهكذا استقلت يهوديا منذ سنة ١٢٨ق.م. تمامًا عن الدولة السلوقية، واستمر ذلك الأمرُ حتى قضاءِ الرومانِ على السلوقيين عام ٦٣ق.م.٨

ويبدو أن هركانوس قام بتوسيع حدودِ يهوديا وتثبيتِ أركانِها؛ فقد فتح السامرة وخرَّب هيكلَ جزريم، ثم فتح أدومَ وأجبَر أهلَها على الدخول في الدين اليهوديِّ خارجًا على الأسس الوراثيةِ للدين اليهودي. وكان من المفروض أن تبدأ الأمورُ الداخليةُ ليهوديا بالازدهار، لكن العكس هو الذي حصل؛ حيث نَشبَت حربٌ دينيةٌ شرسةٌ بين فرقتَين دينيتَين أساسيتَين لليهود هما: الصدوقيون والفريسيون.

الصدوقيون Sadducces هم الفرقة القديمة التي لها علاقةٌ تاريخيةٌ مع المؤسسةِ الكهنوتيةِ الصادوقيةِ التي قامت بتنظيم اليهود كجماعةٍ دينيةٍ في زمن السبي البابلي. وكان الصدوقيونَ لا يُقِرُّونَ بعبادةٍ مشروعةٍ غيرِ العبادةِ التقليديةِ القائمةِ على الذبيحةِ في الهيكل، وهم يُصِرُّونَ على التمسُّك بحرفيةِ الشريعةِ كما هي مدونةٌ في التوراة (وهي الأسفار الخمسة الأولى المنسوبة إلى موسى من العهد القديم) .٩
وكان الصدوقيونَ يُمسِكون بزمام الكهانة اليهودية بقوة، ولا يعترفونَ برئاسةٍ يهوديةٍ مشروعةٍ غيرِ رئاسةِ الكهنة، وكانوا يتمتَّعون بدعم الطبقاتِ الثريةِ دائمًا، ومن هؤلاء الصدوقيينَ ظهر فريقٌ متشددٌ اسمُه «الربانيون» أو «الحسديم Chasidim» الذي تَرأَّسَه الكاهنُ والنبيُّ عِزرا في حدود ٤٤٤ق.م. وكان بذرةً لحزب القديسين الذين خاضوا الحرب ضد الهيلينية.
وفي القرن الثاني قبل الميلاد (أي مع الحكم السلوقي) ظهر فريقٌ جديدٌ منشقٌّ من الربانيين هم «الفريسيون Phareesis» الذين يَرِدُ أولُ ذِكرٍ صريحٍ لهم حوالي ١٢٠ق.م. ولكنَّهم ظهروا قبل ذلك بقليل. وهؤلاء الفريسيونَ هم الذين نادَوا بالحفاظ على التقاليد الشفوية، إضافةً إلى الشريعة المكتوبة، وهذا يعني أنهم نادَوا بالاعتماد على «توراةٍ غيرِ مكتوبة» إلى جانب «التوراة المكتوبة»، وهي التي أوحَى بها موسى كما يقولون، وتوارَثَها العارفونَ بالشريعة من بعده عن طريق التقليد الشفوي، وهو ما اسماه اليهود فيما بعدُ ﺑ «التلمود» الذي يتكوَّنُ من المتن (المشنا) والشرح (الجمارا).
وظهر من هذا الانشقاقِ الفريسيِّ مجموعةٌ من الطقوس والتعاليم الدينية الجديدة، منها أن الفريسيين، على عكس الصدوقيين، كانوا يُقِرُّونَ بصلاحية العبادة خارج الهيكل معتمدينَ في ذلك على «المجامع» أو «الكُنُس»؛ حيث كانت العبادةُ لا تقوم على الذبيحة، بل على قراءة الأسفار المقدَّسة وتفسيرها. ومن ذلك «الفريسيين» من الجذر الآرامي «فرش» بمعنى انعزل أو تميز؛ فهم المعتزلةُ أو المتميزون، وهؤلاء لم يكونوا كهنةً بل معلمينَ من طبقات العامة، وكانت شعبيتُهم لدى العامَّة تفوقُ الصدوقيينَ لهذا السبب. ولا بُدَّ من الإشارة إلى أن اليهودية التي استمرَّت تاريخيًّا منذ ذلك الزمن هي يهوديةُ الفريسيينَ لا يهوديةُ الصدوقيينَ التي زالت من الوجود قبل نهاية القرن الميلادي الأول.١٠

هكذا إذن نحن أمام انعطافةٍ جديدةٍ في الديانة اليهودية تُشبِه الانعطافةَ التي أحدثها «عِزرا»؛ فهي انعطافةٌ مضادَّةٌ لإرث عِزرا (رغم أن الفريسيين يعتبرون عِزرا أكبرَ معلِّمٍ يهودي)، ولكنَّ تفتيتَهم للمؤسَّسة الكهنوتية الرسمية الأرستقراطية وللمنهج الكتابي وتبنِّيهم للتعليم الحرِّ بين الناس والمنهجِ الشِّفاهي جعل منهم صناعَ ثورةٍ جديدةٍ في الدين اليهودي (الذي لم يَعُد دينًا سماويًّا كما يدَّعُون، بل دينَ كهنةٍ محافظينَ وكهنةٍ ثوَّار).

ويبدو أن عصر هركانوس شهد ذرْوةَ الصراعِ بين الطائفتَين؛ الصدوقيةِ والفريسية؛ فقد كان الصدوقيون يمثِّلون دولةَ يهوديا وطبقتَها الحاكمةَ والثريةَ، والذين أصبحوا أشدَّ تعلُّقًا بالجاه والحياة الدنيا. أما الفريسيونَ فظهروا بمظهر المؤمنينَ الأوفياءِ والوطنيينَ المتحمسينَ الذين يرفضون الجمع بين رئاسةِ الكهنةِ والمُلْكِ في يدٍ واحدة، وأخذ الصدامُ بين الفريقَين طابعَ القتلِ والتدمير.

ويبدو أن الغلَيانَ الدينيَّ الذي عاشَتْه يهوديا تلك الفترة أنتج الكثيرَ من الأدبِ الدينيِّ اليهوديِّ الذي مثَّلَته بعضُ الأسفارِ الموجودةِ في العهد القديم مثل «سِفْر الجامعة»، الذي يشكِّلُ نموذجًا للهيلينية اليهودية؛ إذ إن مؤلِّفَ هذا الكتابِ كان على ما يبدو من الطبقة الأرستقراطية التي عاشت في فلسطينَ عام ٢٠٠ق.م. ويُعتبَرُ أحدَ الكفَرةِ وأحدَ أنصارِ التهلين، وقد جاءت لغةُ هذا الكتابِ متأثرةً بالإغريقية إلى حدٍّ ما. ويشعُر المرءُ بأن زمانَهُ كان إغريقيًّا.١١

وكذلك نشمُّ رائحة الهيلينية في أسفار الأمثال والمزامير ودانيال وأيوب وغيرها من الأسفار التي حُذِفَت من العهد القديم، مثل سِفرِ الحكمةِ وسِفرِ أخنوخ ووصاية البطاركة الاثنَي عشر وغيرها، ويبلغ عددُ هذه الأسفارِ المحذوفةِ أربعةَ عشرَ سِفرًا من التوراة السبعينية التي يحذفُها، اليوم، اليهود والبروتستانت من العهد القديم.

وكان أغلب هذه الأسفارِ المحذوفةِ يدور حول فكرةِ المسيحِ المُخَلِّصِ والمنتظَر، ويبدو أن هذه الفكرةَ عادت بعد أن تولَّى المكابيون رئاسةَ السلطةِ والكهانةِ في يهوديا (وهم ليسوا من سلالة زربابل الذي كان يشكِّل أوَّلَ مسيحٍ منتظَرٍ بعد السبي، ونُسِجَت حولَه أسطورةُ أصلِه من داودَ وإسرائيل).

وقد اختلفَت التعاليمُ المتعلقةُ بالمسيا (المسيح) اختلافًا عظيمًا؛ فهناك مَن يقول إنه قدسيٌّ إلهيٌّ موجودٌ قبل خلقِ العالَم، وهناك مَن يقول إنه بشرٌ معرَّض للموت، بَيدَ أن الفكرَ كان في تغيُّرٍ دائم؛ فقد انتقل من مملكة للمسيح على الأرض مع بعث الأجساد بعد الموت إلى مملكةٍ خالدةٍ سرمدية في السموات يصحبها الخلود الروحي.١٢

ونستنتج من كل هذا أن العصرَ الهيلنستي — وخصوصًا في قسمه السلوقي — شهد على المستوى الكتابي تأليفًا جديدًا لبعض أسفار العهد القديم التي جُمِعَت مع الأسفار الأولى. بالإضافة إلى الأسفار المحذوفة الكثيرة، كما أنه شهد ولادةَ الأسفارِ الشفاهيةِ التي تُشكِّل متنَ وشرحَ ما يُسَمَّى ﺑ «التلمود».

وهذه انعطافةٌ جديدةٌ في تاريخ الأسفار اليهودية المقدسةِ الثالثة، يمكنُ أن نَعُدَّها الثالثةَ بعد انعطافةِ عِزرا الثانيةِ في العهد الفارسي، والصدوقية الأولى أثناء السبي البابلي.

وفي أواخر أيام هركانوس قام جيشُه بحصار مدينة سماريا Samaria الإغريقية، فاستغاثت هذه المدينة بأنطيوخس التاسع «كيزينكنوس Cyzincenos» فهزمَهم جيش هركانوس، فقام جيش كيزينكنوس بالاستنجاد ببطليموس التاسع (سوتر الثاني) عام ١٠٨ق.م. فأنجده بجيش، لكنَّ الهزيمةَ كانت مصيرَهُ أيضًا، وقُتِلَ أحدُ القائدَين الذين تركَهما في كيزينكنوس، أما سماريا فبعد أن اشترى اليهودُ خدمةَ الآخَرِ استولَوا على المدينة، وذبحوا أهلها، وقامت أمُّه، كيلوباترا الثالثة، بتدبير أمرٍ جعل الشعبَ يطردُهُ من الإسكندرية فارًّا إلى قبرص.١٣

وهكذا ازدادت قوة «يهوديا» وقوة اليهود في القدس، قياسًا إلى يهود مصر في الإسكندرية، الذين كانوا أداةً في يد البطالمة.

ثانيًا: الأسْرةُ الحَشمونيَّة (١٠٦–٤٨ق.م.)

(١) أرسطو بولوس الأول (١٠٦–١٠٣ق.م.)

تُوفِّي هركانوس عام ١٠٦ق.م. فتولَّى ابنه الذي حمل اسمًا إغريقيًّا هو «أرسطو بولوس» منصبَي الملكِ ورئيسِ الكهنة «واتخذَت الدولةُ اليهودية في عهده لقب الإسمونية أو الحشمية تمييزًا عمن سبقَها من المكابيين الذين لم يُسمَّوا ملوكًا.»١٤
والحقيقة أن لقب الإسمونية أو الحشمية أو الحشمونية هو اللقبُ الأصليُّ للأسرة المكابية، ويبدو أن أرسطو بولوس صاحبُ نزعةٍ هيلينيةٍ كبيرة، ولذلك لم يكتفِ باسمه الهيليني، بل لقب نفسه ﺑ «فلهلن Philhellen»؛ أي المحب للهيلينية. ولم يدُم عهده طويلًا، وكان رجلًا مسكونًا بوساوسِ الخوفِ على كرسيه؛ فقد بدأ عهدُه باغتيال أمِّه وإخوتِه، وأبقى أخًا واحدًا له هو «أنتيغونس» اعتمد عليه في البداية، ثم اعتقلَه وقتلَه فيما بعدُ.

كانت يهوديا تحتوي على عدة مدنٍ وقرًى وقصباتٍ كان يشكِّل أغلبَها العربُ والكنعانيون الذين لم يكونوا يعتنقون الديانة اليهودية، لكن أرسطو بولوس أدخل بعض سكان يهوديا في اليهودية إكراهًا، وخاصةً عربَ الجليلِ الإيطوريين.

(٢) يانايوس إسكندر (١٠٤–٧٦ق.م.)

تُوفِّي أرسطو بولوس عام ١٠٣ق.م. ولم يكن أحدٌ يشغلُ كرسيَّ الحكم، فقامت أرملة أرسطو بولوس واسمها «سالومي» أو «سالينا» بتنصيب ابنٍ آخرَ لهركانوس هو «الإسكندر يانابوس» أو «إسكندرينيوس». وكانت الأسرة الإسمونية قد بدأَت بالابتعاد عن حزب القديسيين الصدوقي، واتسع نطاقُ هذه الدولةِ بالفتوحات التي بلغَت ذُروتها في عهد يانايوس، وامتدت دولةُ يهوديا لتحاول مطابقةَ دولةِ يهوذا القديمةِ لفترةٍ مؤقتة؛ إذ حاولوا توسيعها بالاتجاه نحو المدن الساحلية، مثل عكا وصور وغزة، التي حاولوا غزوَها وضمَّها.

وعندما غزا إسكندرينيوس عكا عام ١٠٢ق.م. استنجدَت هذه المدينة ببطليموس التاسع الذي وجدها فرصةً للتدخُّل في شئون سوريا واسترداد جَوفها؛ ولذلك جمع جيشًا في قبرص وتوجه إلى عكا، لكن عكا غيَّرَت رأيَها ورفضَت استقبالَه، فاستغل يانايوس هذا الحرج الذي وقع فيه بطليموس التاسع، فقام بشراء خدمات جيشه بمبلغٍ كبير، وطلب منه أن يستوليَ على إقليم زويلوس طاغية ستراتونوبيرجوس ويُعطيَه لليهود، فقام بطليموس بالاستيلاء على شخص الطاغية، لكنه علم أن يانايوس كان يتفاوض في الوقت نفسه مع الملكة كيلوباترا الثالثة، فقام بطليموس التاسع بالزحف على الملك اليهودي وأنزل به هزيمةً فادحةً في «أسوفون»، وكانت مذبحة مروِّعة.١٥
ثم استولى بطليموسُ التاسعُ على عكا بالقوة، ولكن أُمَّهُ كيلوباترا الثالثة وقفَت بوجهه، وأوقفَت نواياه للتقدم في جوف سوريا، وكانت تريد هي أن تحتل جوف سوريا، فهرب بطليموس التاسع إلى غزة، واستولَت كيلوباترا الثالثةُ على عدة مدنٍ ساحليةٍ حتى وصلَت إلى عكا، فاستقبلَها هناك يانايوس. وكادت كيلوباترا الثالثة تستدرجُ يانايوس وتعتقله وتستولي على مملكته، لكن مستشاريها نصحوها بألا تفعل ذلك لكيلا تخسر صداقةَ اليهودِ قاطبةً، فاستمعَت إلى هذه النصيحة، وعقدَت مع يانايوس معاهدةً أعطته بها غطاءً داعمًا ليفعلَ ما يشاء في مدن جوف سوريا، ليكون وكيلَها في هذا المكان، تمهيدًا لضم جوف سوريا إلى مصر مرةً أخرى. وهكذا كسب يانايوس هذه الجولة، وقام بالاستيلاء على مدنٍ جديدةٍ مثل جدارا (أم قيس الأردنية) وعسقلان وغزةَ على الساحل، وقد أقام مجزرةً عند استيلائه على غزة، ثم عاد يانايوس إلى القدس بعد رحلةٍ حربية طويلةٍ حوَّلَت مدنَ الشاطئِ الفلسطينيِّ المزدهرةَ إلى صحراءَ بلقع.١٦

قام يانايوس بصلب ثمانمائةٍ من الفريسيين، وعمل وليمةً فاخرةً على مشهدٍ منهم وهم يعانون سكراتِ الموت، وكان هذا الاضطهاد نذيرًا بصعود قوةِ الفريسيينَ القادمة.

أمَّا على المستوى الداخلي فقد وقف يانايوس إلى جانب الصدوقيينَ ضد الفريسيين؛ فقد ثار الفريسيون ضد يانايوس؛ لأنهم اعتبروه المسئولَ عن مذبحة اليهودِ في أسوفون، وكان الصدوقيونَ يقفونَ إلى جانبه، فقام الفريسيونَ بالاستنجاد بالملكِ السلوقيِّ أنطيوخس ديمتيريوس الذي هبَّ للانتقام من يانايوس (صديق البطالمة)، وأرسلَ له حملةً عسكرية، ودارت المعركة في نابلس هُزِمَ فيها يانايوس وفرَّ إلى الجبال، ثم عاد إلى القدسِ سنةَ ٨٩ق.م. ثم تُوفِّي أثناء حصارِه لأحد الحصونِ عَبْر الأردن سنة ٧٦ق.م.

(٣) إسكندره (سالوم ألكساندرا) (٧٦–٦٧ق.م.)

تولَّت أرملةُ يانايوس (إسكندره) الحكمَ وعَيَّنَت ولدَيها في منصِبَين مهمِّين؛ هيركانوس الثاني رئيسًا للكهنة، وأرسطو بولوس الثاني قائدًا للجيش. وكانت بوادرُ الصراع بين الأخوَين تظهر بينما الصراعُ الصدوقيُّ الفريسيُّ ما زال متفجرًا، فوقفَت إسكندره إلى جانب الفريسيين.

كان مستشار هيركانوس الثاني من أصلٍ آدومي يُدعَى «أنتيباتر الآدومي» حاذقًا وذكيًّا وماكرًا، والذي جعل من هيركانوس قويًّا في وجه أرسطو بولوس الثاني، وهو من أهالي عسقلانَ ومن الآدوميينَ الذين أُجبِرُوا على الدخول في الديانة اليهودية، والذي سيُصبِح فيما بعدُ أبَ الأسرةِ الهيرودية التي حكمَت بعد الأسرةِ الحشمونية؛ لأنه كان أبا هيرودوس الأكبر مؤسسِ هذه الأسرة.

واشتدَّ الصراعُ بين الأخوَين واستنجدا بالرومان بينما كانت الدولةُ السلوقية تَعُجُّ بالصراعات وتتلقى الضرباتِ الداخلية المتتالية؛ فبعدَ هزيمةِ ومقتلِ الملكِ السلوقيِّ أنطيوخس ديونسيوس أمام الحارثِ الثالث، ملكِ الأنباط، عام ٨٦ق.م. واحتلالِ دِمشقَ من قِبَلِ الأنباط، قام الأرمنُ عام ٦٩ق.م. باكتساح سوريا كلِّها، وأنشئُوا حكومةً فيها، لكنَّ الرومانَ عزَلوا تلك الحكومةَ فدَبَّت الفوضى في سوريا كلِّها.

وكان بطالمةُ مصر يشهدونَ حكمَ بطليموس الثاني عَشَرَ (الزمَّار) الذي سلَّم زمامَ أمورِه كلِّها إلى روما. وهكذا بدأَت روما كأنها شبحٌ كبيرٌ يجوبُ آفاقَ مصرَ والشام، قبل أن ينقضَّ على الأنظمة الهيلنستية المُتهرِّئةِ فيها.

(٤) أرسطو بولوس الثاني (٦٧–٦٣ق.م.)

بعد أن تُوفِّيَت إسكندره عام ٦٧ق.م. تولى ابنُها هيركانوس الحكمَ مكانَها، ولم يسكت أرسطو بولوس فتمرَّدَ عليه، ووقعَت بينهما معركةٌ خارجَ القدسِ انهزمَ فيها هيركانوس، ولجأ إلى القدس، فحاصره أخوه فيها، ثم اتفقا على أن يكون أرسطو بولوس هو الملك، ويكونَ هركانوس رئيسًا للكهنة. وبعد زمنٍ انهار الاتفاق. وعادَت الأمورُ كما كانت، فاستنجد هركانوس بالملك الحارث، ملكِ دولةِ الأنباط، فقام الحارثُ بنجدته بحملةٍ عسكريةٍ تُقَدَّرُ بخمسينَ ألفَ مقاتلٍ سار الحارثُ على رأسها، وانتصر على أرسطو بولوس، وحاصر القدس وكان معه هركانوس، ولكنَّهما لم يتمكَّنا من احتلالها، فطال حصارُهاـ واتصلَت الحروب، وعَظُمَت الفتنُ بمحيط القدس، وغادَر الكثيرُ من اليهود إلى مصر. وكانت الدولةُ السلوقيةُ على حافةِ الانهيارِ الشاملِ عندما كان القائدُ الرومانيُّ بومبي يجوبُ شواطئَ مدنِ الساحلِ السوري، ويُخضِعُ مدنَها واحدةً بعد الأخرى. ودخل بسهولةٍ إلى سوريا، وأرسل جيشه بقيادة إسكارس نائب بومبي إلى يهوديا، وكانت المشكلةُ بين الأخوَين ما زالَتْ مستمرَّة، فقام كلٌّ منهما بِخَطبِ وُدِّه، فناصر إسكارس أرسطو بولوس بعد أن رشاه الأخير، فأمر هركانوس ومن معه بالابتعاد عن مدينة القدس.

وعاد الحارثُ بجيشه مناصرًا هيركانوس، لكن أرسطو بولوس كان قد امتلك سندًا رومانيًّا جعلَه يهزم قواتَ الأنباطِ عام ٦٤ق.م. ولكن النزاع بينهما ظل مستمرًّا.

وبينما كان بومبي يسيطر على كل سوريا في ٦٤ق.م. وكان في دِمشقَ قَدِم عليه كلٌّ من الأخوَين المتنازعَين، وقدَّما له الهدايا، ورفَعا دعواهما إليه بالمُلكِ فلم يسمح لأحدهما بذلك، بل أمرهما بالخضوع له أولًا، ثم دعاهما لحلِّ مشاكلِهما في القدس نفسها.

وتهيَّأ بومبي للذهاب إلى القدس، وقبل أن يصل إليها اعتقَد أرسطوبولوس أن بومبي قد يميل إلى أخيه هركانوس، فجهَّز جيشه واستعد لمغامرةٍ غيرِ محسوبةٍ في مقاومة بومبي، وتقدَّم إلى القدس عام ٦٣ق.م. وقضى على مقاومة أرسطو بولوس الذي سلَّم إليه المدينة، لكن الكهنةَ اليهودَ رفضوا هذا التسليمَ ولاذُوا بالهيكل وتحصَّنُوا فيه، فحاصره بومبي، وضربه بالمنجنيق، وقصفَ الأسوار، واستمرَّ الحصارُ لمدة ثلاثة أشهر.١٧

ولما عجز بومبي عن ذلك اختار يوم السبت للهجوم على اليهود، بعد أن أحدث المنجنيق ثقوبًا في الأسوار، ودخل الرومان إلى الهيكل، وقتَلوا مَن كان فيه، ونصَّب هركانوس رئيسًا للسلطة والكهنة في القدس وعلى يهوديا.

(٥) هيركانوس الثاني (٦٣–٤٨ق.م.)

قام بومبي بتنصيبه، وأشرك معه أنتيباتر، وجعل معه قائدًا على رأس الحامية الرومانية، وفرضَ على اليهود جزيةً سنوية، ثم غادر إلى روما، وأخذ معه أرسطو بولوس وأبناءه الأسرى.

وبدأَت يهوديا والقدسُ عهدًا جديدًا هو العهدُ الرومانيُّ الذي سيستمرُّ لأكثرَ من سبعةِ قرون، وهو ما سنبحثه في كتابٍ آخَر.

لكننا نَوَدُّ أن نكملَ صورةَ الأسرةِ الحشمونية مع آخرِ ملوكِها وكهنتِها الكبار، هيركانوس الثاني، الذي ظنَّ أنه سيصبحُ آمنًا تحتَ الحمايةِ الرومانية، وفي ظلِّ غيابِ أخيه أرسطو بولوس سجينًا في روما.

في عام ٥٧ق.م. استطاع أحدُ أبناءِ أرسطو بولوس — ويُدعَى «إسكندر — الهربَ من روما والعودةَ إلى القدس، وكان هركانوس ومستشارُه أنتيباتر مشغولَين في حرب القبائلِ العربيةِ إلى جانب القواتِ الرومانية. واستطاع «إسكندر» إغواءَ اليهودِ في القدس فنَصَّبوه ملِكًا عليهم، فلما عاد هيركانوس وأنتيباتر خرج عليهم إسكندر، وحاربهم وهزمهم وقتل منهم الكثير، ثم التفتَ إلى المناطق المجاورةِ لضمِّها إلى مُلكِه. وقام «جافينوس»، والي سوريا الروماني، بالتصدِّي لإسكندر وأسَره، ثم قام بإرجاع هيركانوس رئيسًا على يهوديا. وقام في الوقت نفسه بتقسيم يهوديا إلى خمسةِ أقاليمَ تحكمُ حكمًا ذاتيًّا وذاتَ سلطاتٍ قضائيةٍ وإداريةٍ وهي: القدس، أريحا، جازر، الجليل الأعلى، شرق الأردن … وكان هدفُ جافينوس هو تفتيت يهوديا سياسيًّا، وإعادةَ الصبغةِ الهيلينية التي كان المكابيون والحشمونيون قد هوَّدوها بالقوة.١٨
لكن قصة أرسطو بولوس لم تَنتهِ بعدُ فقد تمكَّنَ من الهرب مع ابنه الثاني «أنتيغونس»، وجاء إلى يهوديا، ونظما اليهود لصالحهما، ورمَّما الحصونَ واستحكما بها، لكن فابينوس عَرَف بأمرهما، وتصدَّى لهما، وأرسلَهما ثانيةً إلى روما. وكانت روما آنذاك تشهدُ الصراعَ الداميَ بين يوليوس قيصر وبومبي، فلما صار قيصرُ القنصلَ الأولَ فيها أطلق سراحَ أرسطو بولوس وابنِه، ثم جعلَهما مع قائدَين رومانيَّين في اثني عشرَ ألفًا، وأمرهم بالتوجُّه إلى القدس لاحتلالها، وكانتِ القدسُ قد وقعَت تحت نفوذ بومبي، فلما علم بومبي بذلك أرسل لأنتيباتر ليُدبِّرَ له أمرًا يخلِّصه من أرسطو بولوس، فقام هذا بإرسال مجموعةٍ من أعيان اليهود ليفاوضوه في بلاد الأرمن، ودسُّوا له السُّمَّ في شرابه فمات. وعندما انتصَر قيصر على بومبي وانفرَد بحكم روما عام ٤٩ق.م. عزَم على توطيد سيطرة الرومان في الشرق، فوصل على رأس حملةٍ عسكريةٍ إلى عسقلان، فهُرِعَ هيركانوس وأنتيباتر على رأس قواتٍ عسكرية، وانضما إليه، وسارا معه إلى مصر التي وقفَت إلى جانب بومبي، وعندما دخلوا إلى الإسكندرية وسيطر قيصر على ملكها بطليموس الثالثِ وأختِهِ كيلوباترا قام قيصرُ بتعيين أنتيباتر نائبًا له في يهوديا عام ٤٨ق.م. مع أنه أبقى هيركانوس كبيرَ الكهنةِ في ظاهر الأمر.١٩

وبتولِّي أنتيباتر الحُكمَ في القدس نكون قد وصلنا إلى بَدءِ حكمِ العائلةِ الهيرودية؛ لأن أنتيباتر (٤٨–٤٣ق.م.) هو أبو هيرودس الأكبر، الذي دشَّن مرحلةً جديدةً من مراحل دولةِ يهوديا الخاضعةِ للنفوذِ الروماني.

١  سِفر المكابيين الأول ٦: ٢٨–٦٣.
٢  نفسه ٧: ١–٣٠.
٣  نفسه ٧: ٣٠–٥٠.
٤  نصحي، المرجع السابق، ص٢٠٤.
٥  نفسه، ص٢٠٥.
٦  سفر المكابيين الأول ١٢: ٣٩–٥٣.
٧  أبو عليان، المرجع السابق، ص١١٠.
٨  نفسه، ص١١١.
٩  كمال الصليبي، البحث عن يسوع، ١٩٩٩م، ص٤٠.
١٠  نفسه، ص٤١.
١١  تارن، المرجع السابق، ص٢٤٤.
١٢  نفسه، ص٢٤٦.
١٣  نصحي، المرجع السابق، ص٢٢٩.
١٤  أبو عليان، المرجع السابق، ص١١١.
١٥  نصحي، المرجع السابق، ص٢٣٢.
١٦  نفسه، ص٢٣٣.
١٧  أبو عليان، المرجع السابق، ص١١٥.
١٨  نفسه، ص١١٦.
١٩  نفسه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥