المبحث الثاني: فلسطينُ في العَصرِ الحجَريِّ الوسيطِ والحديث
أوَّلًا: فلسطينُ في العَصرِ الحجَريِّ الوسيط (الميزوليت) ١٩٠٠٠–٨٠٠٠ق.م
ظهر اسم الباليوليت كأنه المرحلةُ الانتقاليةُ من الجمع إلى الإنتاج؛ أي من جمع الطعام إلى إنتاجه خلال الفترة بين ١٩٠٠٠–١٧٠٠٠. والتحضيرُ لفاصلٍ ميزوليتي يؤدِّي الى العصر النيوليتي. تميَّزَت هذه الفترةُ بتغييرٍ في الأحوالِ المُناخيةِ لتصبحَ قريبةً من الأحوال الجويةِ السائدةِ حاليًّا في بلاد الشام. وتناقصَت المواردُ الحيوانيةُ التي كان يصطادُها الإنسانُ؛ لهذا بحث عن مصادرَ أخرى، فجمع بذورَ الأعشابِ البرية؛ مثل القمحِ والشعير، كنوعٍ من الزراعةِ البريةِ التي اهتمَّ بحصرِها والاعتمادِ عليها، والتي أصبحَت تُكوِّنُ المصدرَ الأساسَ لغذاء الإنسان.
لكننا نرى، متفقينَ مع فئةٍ كبيرةٍ من العلماء، أن فلسطين شهدَت مرحلةً حجريةً وسيطةً متميزةً جدًّا تستحقُّ أن نتوقفَ عندها؛ فالإبيباليوليت أو الميزوليت الفلسطيني هو أساسُ ثقافةٍ كانت بمثابة ردِّ الفعلِ على الجفاف الذي ظهَر في الباليوليت الأعلى من جهة، وتقدمة مهمة لظهور النيوليت الزراعي من جهةٍ أخرى.
في هذا العصر انتهى جفاف الباليوليت الأعلى في الشرق الأدنى وفلسطين بخاصَّة، وأصبح للإنسان، كما للحيوان، المُناخُ الدافئُ الذي يُمكِن فيه أن يمارس حياته بشكلٍ صحيح. وهكذا خرج الإنسانُ من الملاجئِ والكهوفِ نحو ضفافِ الأنهار، وبنى له مساكنَ بدائيةً أدَّى تجمُّعُها إلى نشوء ما يُعرَفُ ﺑ «قرى الصيادين». وكانت تلك القفزةُ الاجتماعيةُ كفيلةً بظهور قُدراتٍ جديدةٍ للإنسان تجلَّت بوضوحٍ في الديانة، من خلال ممارسات الدفنِ والاهتمام بالمقدَّسات الحيوانية، وفي الفن من خلال ظهور النقوش والدُّمى الطينية والعظمية.
ولعل أفضلَ تقسيمٍ نلجأ إليه لتوضيحِ حضاراتِ ذلك العصرِ في فلسطين وبلادِ الشامِ عامَّةً هو تقسيمُها إلى ثقافتَين متميزتَين هما: الكبارية والنطوفية.
(١) الثقافة الكبارية
- (١) استخدام الأدواتِ الحجريةِ الدقيقة (المايكروليثية Microlithic) إضافةً إلى الأدوات الحجَرية التقليدية، وظهور الأدوات الزراعية البازلتية كالأجران والمِدَقَّاتِ والرَّحَى لاستخدامها في التخزين وجرْشِ الحبوبِ التي كانوا يقتاتونَ بها.
- (٢)
نزوحُ الإنسانِ من الكهوف إلى الوديان، وبناؤُهُ للبيوت دائريةِ الشكلِ المبنيةِ على شكل حفرةٍ ذاتِ جدرانٍ وأرضيةٍ من الطين والحجر وذاتِ سقفٍ من الجلود والأغصان؛ ففي منطقة «النقْب» على الشاطئ الجنوبي-الشرقي لبحيرة طبرية اكتُشِفَ أقدمُ بناءٍ معروفٍ في بلاد الشام حتى الآن؛ إذ يعود بناؤه إلى ١٤٠٠٠ق.م.
ومن هذه البيوت البسيطة إنشاءُ الإنسانِ الميزوليتيِّ الفلسطينيِّ ما يُعرَفُ ﺑ «قُرى الصيادين» التي أظهرَت أوَّلَ تجمُّعاتٍ كبيرةٍ للإنسان في تلك العصور، وهو ما جعلَه يطوِّر قُواه الاجتماعية والدينية والفنية.
شكل ١٣: أدوات كبارية مايكروليثية. http://www.aggsbach.de/2010/08/after-the-big-cold-kebaran-from-kebara-cave/ - (٣)
إضافةً إلى صيد الحيواناتِ البَريَّة كالحصان والإبل، ومحاولة استئناس بعضها كالكلب والماعز والماشية، اتجه الإنسان نحو صيد الأسماك، واستعمال الحبوب الزراعية كوجبةٍ في غذائه، مما جعله يجمعُها ويحفظُها في أوعيةٍ حجريةٍ وداخلَ أمكنةٍ خاصَّة.
- (٤) بعد أن كانت المرحلةُ الأولى من الثقافة الكبارية غيرَ هندسية، تطوَّرَت إلى المرحلة الثانية التي تُسمَّى الكيبارية الهندسية Kebarian Geometric حيث أصبَحَت أدواتُه الحجريةُ تأخذ أشكالًا هندسيةً واضحةً مثل المُثلثِ والمُنحرِف، وأصبَحَت لها قضبانٌ خشبيةٌ أو عظمية، واستُخدِمَت في صيد الطيورِ والأسماك. وظهرَت أدواتٌ جديدةٌ كان أهمُّها المناجلَ الصَّوَّانيةَ التي استُعمِلَت في قطع النباتاتِ وحصادِ القمحِ والشعيرِ البريَّين.١
- (٥)
تُعَدُّ الثقافةُ الكبارية أوَّلَ حضارةٍ شاميةٍ واسعةِ الانتشارِ انطلقَت من فلسطين؛ فقد شملَت بلادَ الشام كلَّها من الفُرات حتى سيناء، وجعلتها وَحْدةً حضاريةً متجانسةً أظهرَت تفوقًا ماديًّا وروحيًّا واضحًا؛ قياسًا إلى مُقابلها أو مثيلاتها في الشرق الأدنى.
(٢) الثَّقافةُ النطُوفيَّة
دُعِيَت هذه الثقافةُ بالنطوفية نسبةً إلى وادي «النطوف» شمال غربي القدس، الذي حَوَت فيه مغارةُ «شقبة» آثارَه المتميزة. وهي استمرارٌ نوعيٌّ للحضارة الكبارية؛ فقد أصبح الإنسان في وضعٍ أفضلَ من السابق بسبب اعتدال المُناخ ووفرة النباتات المساهمة في القُوت اليوميِّ للإنسان كالقمح والشعير، وانتعاشِ حياةِ الحيواناتِ اللَّبُونَةِ كالماشية والغِزْلان.

لقد انطلقَت هذه الثقافةُ من فلسطين، وتحديدًا من الجبالِ المحيطةِ بالقدس فعَمَّت غورَ الأردن أوَّلًا، ثم وصلَت إلى سواحلِ المتوسطِ وزادت رقعتُها فشَملَت بلادَ الشامِ كلَّها، ووُجِدَت آثارُها في العراق وفي حُلوانَ المصرية.
- (١)
استخدام الأدواتِ المايكروليثية الهندسية المهذَّبة بطريقةٍ خاصة ذات أشكالٍ مثلثةٍ ومربعةٍ ومنحرفةٍ وهلالية، ورءوسِ السهامِ والأدواتِ العظميةِ والمخارزِ والإبرِ والصنانيرِ وبعضِ العظامِ المُزيَّنة بإشاراتٍ ورموزٍ وصورٍ لرءوس حيوانات. وهناك أيضًا الأدواتُ الزراعيةُ كالمناخل والأجران.
شكل ١٥: ضريحٌ نطوفيٌّ قديم في أريحا تمثِّل الفجوات المستديرة على الأرض المَطليَّة بالجصِّ حُفرًا للتخزين. الجاروشة دليلُ إعداد الأغذية النباتية وعلى زراعتها في الألف التاسع ق.م. - (٢)
استَمرَّ النطوفيونَ في بناء البيوتِ والأكواخِ الكباريةِ الطابع، وظهرَت عدةُ قُرًى نطوفية في أريحا ومغارةِ الواد (وادي الفلاح) القريبةِ من السهلِ الساحليِّ في جبال الكَرْمل.
«وعند مدخل مغارة الواد اكتُشِف حفر على سطحٍ صخريٍّ منبسط يحيط به جدارٌ حجري. واستخلص الباحثون أن هذا البناء الكبير نسبيًّا استُعمل كمعبدٍ في العصر النطوفي؛ فقد وُجد في جواره ١٤ قبرًا من ذلك العصر، كما وُجد مِقبَضُ مِنجَلٍ عَظميٍّ عليه صورةُ غزال، وعُثر على مثيلٍ له في مغارة كبارة القريبة. أما في مغارة الواد فعُثر على لوحةٍ حجريةٍ نُحِتَ عليها رأسُ إنسانٍ مُبَسَّط، فضلًا على أدواتِ زينةٍ وخرزٍ وأطواقٍ وأعلاقٍ وحلقٍ مصنوعٍ من الصَّدَف وغيرِها».٢شكل ١٦: مقبرةٌ نطوفيَّة في كهف الكَرمِل. http://www.archeolog-home.com/pages/content/carmel-caves-israel-prehistoric-men-held-wakes-for-the-dead.htmlوقد عُثر في أريحا على نماذجَ من الأضرحة النطوفية، وكان بعضها يحتوي على الفَجَوات المستديرةِ على الأرض المَطْليَّة بالجَصِّ، والتي ربما كانت للتخزين. وكذلك الجاروشة التي اعتُبرَت دليلًا على إعداد الأغذيةِ النباتيةِ والقلائدِ المحاريَّة. وقد صُبغَت الهياكلُ البشريةُ باللون الأحمر (انظر شكل ١٥).
- (٣)
وهكذا تطوَّرَت القوى الفنية النطوفية، وظهرَت تماثيلُ حيوانيةٌ (الغزال والكلب) من ناحال أورون وأم الزويتية، وتماثيلُ إنسانية؛ مثل التمثال المتميِّز من موقع «عين صخري»، الذي يُسمَّى مجازًا «العاشقان»، والذي يجمع شخصَين (ربما كانا ذكرًا وأنثى) في حالة التحام وعناق وجهًا لوجه (انظر شكل ١٧).
شكل ١٧: تمثال «العاشقان» من عين صخري في فلسطين. http://www.bbc.co.uk/ahistoryoftheworld/objects/vNEwNR8rSzGPSwSn3yeJwA - (٤)
كذلك تطوَّرَت الحياةُ الروحيةُ النطوفية، وظهرَت في شكلَين أساسيَّين، هما المدافنُ والأنصابُ الميغاليثية؛ فقد ظهرَت مقابرُ كبيرةٌ بُنيَت جوارَ القرى، وتزوَّدَت بأشياءَ عديدةٍ تدُل على قداسة الحياة الأخرى. وفُصلَت الجماجمُ بعناية، ودُفنَت تحت أرضياتِ البيوت، مما يشيرُ إلى تقديسهم للموتى وللأجداد.
أما الأنصابُ فأمرٌ مُختلَفٌ عليه؛ إذ يرى بعضُ الباحثين أنها تعودُ للعصر الحجريِّ النُّحاسي، لكننا نرى أن بداية ظهورِها كانت في العصر النطُوفي؛ حيث ظهرَت الأنصابُ المفردةُ التي تُسمَّى المانهير Menhir وكذلك ظهرَت بعضُ المناضدِ الحجريةِ أو الدولمن Dolmen التي تشير إلى عبادة الأحجار الكبيرة (الميغاليثية) Megalithic.٣ والتي كانت غالبًا ما تُقرَنُ بالتضحيةِ والقرابينِ الحيوانيةِ وأماكنِ عبادةِ العَراء، وربما القبور الكبيرة. ونرى أن هذه الأنصابَ (المنتشرة في الأردن وفلسطين) كانت الجذرَ البدائيَّ لما ظهَر فيما بعدُ عند الأموريين والكنعانيين تحت اسم «هياكل العراء». (انظر شكل ١٩)شكل ١٨: دولمن في فلسطين.شكل ١٩: ميغاليث فلسطين عند أتليت يام Atlit Yam.شكل ٢٠: أدواتٌ نطوفية من كهف الواد في فلسطين. http://www.mdpi.com/2076-0752/2/2/46/htm - (٥)
اتجه الإنسانُ النطوفيُّ نحو الحيواناتِ المستأنَسةِ أكثرَ من الحيوانات البرية، وهو ما تدُل عليه بقايا الحيواناتِ المتخلفةِ عن ذلك الزمن. وهذا يشير إلى رسوخ حياةِ الاستقرارِ وهجرانِ حياةِ التَّرحالِ والصيد.
- (٦)
تُعَد النطوفيةُ ثانيَ ثقافةٍ شاميةٍ واسعةِ الانتشار، وقد انطلقَت أيضًا، مثل سابقتِها الكبارية، من فلسطين؛ فقد شملَت بلادَ الشام كلَّها منذ مطلعِ الألفِ العاشر، وامتدت آثارُها بين وادي النيل غربًا (حُلوان) وإلى نهر الفرات شرقًا، حيث انتشرَت القُرى النطوفيةُ حول نهرِ الفُراتِ في «المريبط» و«أبو هريرة»، فضلًا على عشرات المواقع في فلسطين والأردن ولبنان وسوريا.
وهناك دراساتٌ جينيةٌ حديثةٌ تشيرُ لتقارُبٍ في أصلٍ مشتركٍ بين الإيبيرو-مورين (أقدم سكان شمال افريقيا: أيبيري، موري).
ثانيًا: فلسطينُ في العَصرِ الحجَريِّ الحَديث (النيوليت) ٨٠٠٠–٥٠٠٠ق.م.
يبدأ العصرُ الحجريُّ الحديثُ (النيوليت) عندما بدأَت ملامحُ الحضارةِ النطوفيةِ بالتغيُّر والانتقالِ التدريجيِّ نحو اكتشافِ الزراعة.
كان اكتشافُ الزراعةِ أعظمَ منعطفٍ للبشرية منذ ظهورها؛ لأنه حوَّل الإنسانَ من مستهلكٍ للغذاء إلى مُنتجٍ للغذاء، وفصَلَه تدريجيًّا عن نمط العيشِ الحيواني، وعن النومِ الكسولِ في رَحِمِ الطبيعةِ والتقاطِ ثمارِها، فكأنه كان جنينًا داخلَ رحِمِها، وكأن الزراعةَ كانت بمثابة ولادتِه الحقيقية.
ولقد دار نقاشٌ واسعٌ وكبيرٌ حول مراكزِ اكتشافِ الزراعةِ في العالم وأسبقيتِها، وهو نقاشٌ يصعبُ علينا ذِكرُه هنا، لكننا بخلاصةٍ شديدةٍ نقول إنه يرتكز على أساس أن الزراعة اكتُشفَت في الألف الثامن قبل الميلاد في مركزَين أساسيَّين، هما الشرقُ الأدنى ثم الشرقُ الأقصى. فقد شَهِد الشرقُ الأدنى بمراكزه المتعددةِ أولًا هذا الاكتشاف، ثم انتقَل إلى الشرق الأقصى في الصين وتايلاند عندما زُرع الأُرز، لكنَّه ظلَّ محدودًا هناك.
المركزُ الأهمُّ هو الشرق الأدنى الذي حصَل فيه اكتشافُ الزراعةِ في عدةِ أماكنَ في وقتٍ واحدٍ تقريبًا؛ تمتدُّ في إيران (موقع تبَّة لوران) حتى شمالِ العراقِ (ملفعات وجرمو وكريم شهر) وجنوب الأناضول (شتال حيوك) نزولًا إلى «تل المريبط» على نهر الفرات في سوريا ثم إلى «أريحا» في فلسطين و«البيضا» في الأردن. وكانت الحِنطَةُ والشعيرُ أهمَّ المزروعاتِ الأولى في هذه المواقع.
ويشير هذا القوسُ (من إيرانَ إلى فلسطين) إلى منطقةِ امتدادٍ واسعةٍ كانت كلُّها مهيَّأةً لاستقبال اكتشافِ الزراعة. ولا نريدُ هنا أن نخوضَ في ذِكرِ التفاصيلِ الصغيرةِ لأسبقياتِ موقعٍ أو آخَر؛ لأن هذا خارجُ مَبْحَثنا هنا؛ فإننا نودُّ التأكيدَ على أن مواقعَ الشرقِ الأدنى هذه وغيرَها كانت بؤرةَ انتقالِ الزراعةِ شرقًا إلى الهند، وشمالًا إلى شبه جزيرة البلقان وأوروبا، وغربًا إلى مصر. وكلُّها استقبلَت هذا الاكتشافَ بعد مرورِ ألفَين أو ثلاثةِ آلافِ سنةٍ على ظهوره في الشرق الأدنى.
- (١) النيوليت الانتقالي: وهو أولُ عتبةِ الانتقالِ من الميزوليت إلى النيوليت، والذي حصل في حدود ٨٠٠٠ق.م. وتمثِّلُه بامتيازٍ مستوطنةُ «أريحا» التي عاصرَت مستوطناتٍ أخرى حصل فيها هذا الانتقال. وعلى ضوء الآثار والتنقيبات ينقسمُ النيوليتُ الانتقاليُّ في فلسطين إلى أربعِ ثقافاتٍ متزامنةٍ هي:
- (أ)
ثقافةُ أريحا: التي تمثِّلُها مستوطنةُ أريحا الزراعية.
- (ب)
الثقافة الساحلية: التي يمثِّلها موقعُ وادي الفلاح على ساحل المتوسط قرب حيفا.
- (جـ)
الثقافة الخيامية: التي يمثِّلها موقع الخيام غرب البحر الميت.
- (د)
الثقافةُ الطاحونيَّة: التي يمثِّلها موقع وادي الطاحون في جبال القدس.
وفي هذا التقسيم ما يُشير إلى أن الثقافةَ النطوفيةَ ذاتَ الاستيطانِ المتنقلِ قد أخلَت مكانَها لثلاثةِ أنواعٍ من المستوطنات الزراعية؛ ساحلية في وادي الفلاح، وجبلية في وادي الطاحون، وغورية في أريحا.
ويتفق الباحثون على أن ثقافة أريحا تمثِّلُ هذه الحضاراتِ خيرَ تمثيل «ففي تلِّ السلطان — موقعِ أريحا القريبِ من عينِ السلطان — تُوجدُ آثارٌ المدينةِ الوحيدةِ المعروفةِ حتى الآن في العالم، والتي يعود تاريخُها إلى ما قبل ٩٠٠٠ عام، وهذه المدينةُ المُسوَّرة سبقَت، ﺑ ٤٠٠٠ عام، أي استيطانٍ مدنيٍّ معروف حتى الآن؛ ولذلك فهي تُشكِّل أحْجِيةً أثرية، تُثير الكثيرَ من التساؤلات التي لم يتَّفِق الباحثون على الإجابة عنها، أو على تقديم تفسيرٍ متماسكٍ ومنطقيٍّ لازدهارِ مدينةٍ كهذه في ذلك الزمان والمكان.»٤ والحقيقةُ أن التقديرَ الحاليَّ لعمر مدينة أريحا أقلُّ من ذلك بكثير؛ فهي كمستوطنةٍ زراعيةٍ ظهرَت في حدود ٨٠٠٠ق.م. ولكنَّها كمدينةٍ ذاتِ أسوارٍ وأبراجٍ ظهرَت في حدود ٥٠٠٠ق.م. وهو زمنٌ يتوازى مع ظهور مدينة أريدو جنوب العراق. ومع ذلك فإن مدينة أريحا تُشكِّل حقًّا أعجوبةً أثريةً سواء في كونها مستوطنةً زراعيةً أو مدنيةً عامرة؛ ولذلك نودُّ أن نُثبِتَ الخصائصَ الآتيةَ حول مستوطنةِ أريحا الزراعيةِ أولًا:- (١) ينخفضُ موقعُ أريحا في تل السلطان بنحو ٢٧٥م تحت سطح البحر، ولا يزيدُ مُعدَّلُ هطولِ الأمطارِ عن … ١ملم سنويًّا، وهناك نبعُ ماءٍ مجاورٌ لها عُثر قُربَه على بقايا بناءٍ ربما كان معبدًا ينتمي للحضارة النطُوفية.٥
- (٢) يُحيطُ بمستوطنة حيفا سورٌ يعود إلى الألف السابع قبل الميلاد، ويقوم عليه برجٌ عالٍ، ويبلغ طولُ السورِ حوالَي ٧٠٠م. ويبدو لنا السورُ وهو محصَّنٌ بطريقةٍ كبيرةٍ ربما كانت لأغراضٍ دفاعية، ويُحيطُ به خندقٌ محفورٌ في الصخر عَرضُه ٣٫٢م وعُمقُه ٢٫٧٥م، ويتكوَّنُ السور من جدارٍ سُمكُه ٣م، بَقِيَت منه أجزاءٌ على ارتفاع ٥م. أما البرجُ فدائريُّ الشكل، قُطرُ قاعدتِه ١٢م، وقُطرُ قمتِه ٩م وارتفاعه ٩٫١٥م، وفي داخلِه دَرَجٌ يحتوي على ٢٢ درجة. ٦والحقيقة أن سُورَ وأبراجَ وخندقَ أريحا هي التي تشكِّل أعجوبةَ هذه المستوطنة؛ إذ كيف يتَأتَّى — لقومٍ في العصر الحجريِّ الحديث — التفكيرُ في بناء سورٍ حول مستوطنةٍ زراعية؛ وهو ما لم نألَفْه في بقية مستوطنات النيوليث الزراعيةِ في الشرق الأدنى كلِّه؟ ونرى أن وجودَ السورِ حولَ المستوطنةِ الزراعيةِ هو الذي عجَّلَ بتحويلها إلى مدينةٍ ظهرَت في نهاية النيوليث أو مع بداية الكالكوليت. رغم أن كنيون ترى أن هذا السور هو جزءٌ من المعمار النطوفي.٧
- (٣)
تبلغ مساحة المستوطنة داخل السور أكثر من ٤٠ دونمًا يتمركزُ فيها معبدٌ وخزانُ مياه، ويقدَّرُ عددُ سكانِها ﺑ «٣٠٠٠» نسَمة، وتظهر بيوتُ المستوطنة مؤلفةً من غرفتَين أو أكثر، مبنيةً من اللبن المُسَطَّحِ المُحدَّب، وجدرانُها مائلةٌ إلى الداخل، وسقوفُها مقبَّبة، وأرضياتُها من الطين المدكوك. وهناك منازلُ مستطيلةٌ ذاتُ جُدرانٍ مطليةٍ بالجَص. وقد عُثر في غُرفِ البيوتِ والمعبدِ على تماثيلَ بشريةٍ وحيوانية.
- (٤)
كُشِفَ في فترةٍ مبكرةٍ من النيوليت في أريحا عن مجموعةٍ من الجماجم البشريةِ المفصولةِ عن أجسادِها والمطليةِ بالجصِّ من الداخل والخارج، وقد ثُبِّتَت الأصدافُ على العيون. وكان منظرُها لافتًا للانتباه مما جعل العلماءَ يفكِّرون بأنها ربما تكونُ جزءًا من «عبادة الجماجم» أو «عبادة الأسلاف».
- (٥)
كشفَت «كنيون» عن بناءٍ صغيرٍ رأَت أنه يشكِّل مكانَ عبادةٍ أسمَتْه ﺑ «المُصَلَّى العائلي»، ثم كشفَت عن مكانٍ أوسعَ دعَتْه ﺑ «المزار».
ولا شك أن ظهور أريحا بهذه الطريقة في ذلك الزمن أمرٌ مُحيِّر فعلًا؛ إذ كيف تسَنَّى لسكانها بلوغُ هذه المرحلةِ من التطوُّر والنيوليث ما زال في بواكيره الأولى؟! وهل يُمكِن أن تظهر القرية والمدينة في مكانٍ واحد بهذه الطريقة؟! ثم لماذا لم يستمرَّ إشعاعُ مدينةِ أريحا الحضاريُّ في عصر المدنيَّات الأولى التي ظهرَت في العصرِ الحجَريِّ النُّحاسي (الكالكوليت)؟
هذه الأسئلة يُمكِن أن نُجيبَ عنها إذا جمَعْنا مشهدَ النيوليث كاملًا في حدود الألف السادس قبل الميلاد في الشرق الأدنى؛ حيث سنرى أن هناك ثلاثةَ مواقعَ كبرى للنيوليث شَهِدَت، دون غيرها، نوعًا من التوسُّع والتطوُّرِ الواضحَين وهي: أريحا في فلسطين، وشتال حيوك Catal Huyuk في جنوب وسط تركيا، وسامراء في أسفل شمال العراق. لكن سامراء وحدها هي التي استمرَّت حضاريًّا ومدَّت عصر الكالكوليت بمادة المدينة، وما يُسمَّى بعصر المدينة؛ ذلك لأنها كانت نتاجَ تطوُّرٍ حضاريٍّ بطيءٍ بَدءًا من جرمو في شمال العراق، واستمر بفعل الحاجة للتطوُّر الزراعي. أما أريحا فقد كانت ذاتَ طبيعةٍ تجارية، وشتال حيوك ذاتُ طبيعةٍ دينية … وهذا ما جعل تقدُّمَها إلى الأمام مشوبًا بالصعوبات؛ أي إن القفز على النشاط الزراعيِّ عطَّل التطوُّرَ التدريجيَّ البطيءَ نحوَ المدينةِ حتى لو تغيَّر المكانُ كما حصل في سامراء. - (أ)
- (٢)
النيوليت الزِّراعي: وهو الزمن الذي اكتُشفَت فيه الزراعةُ واستُعملَت بشكلٍ واسع، وتكوَّنَت مستوطناتٌ وقرًى زراعيةٌ في حدود ٧٧٠٠ق.م. وقد كانت بلادُ الشامِ في طليعةِ الأماكنِ التي ظهرَت فيها الزراعةُ مبكرًا في الشرق الأدنى القديم. ولعل مستوطنات مثل المريبط وتل الشيخ حسن وتل أسود في سوريا نماذجُ واضحةٌ على مثل هذا التطوُّر. أمَّا في فلسطين فقد تطوَّرَت مستوطناتُ نيوليت التحوُّل السابقة والحضاراتُ الزراعيةُ الأربعُ بهذا الاتجاه، وخصوصًا وادي الفلاح.
- (٣)
نيوليت ما قَبل الفَخَّار: وهي المرحلة التي استغرقَت الألفَ السابعَ قبلَ الميلاد، وقد كانَت قصيرةً في سوريا، أما في فلسطين فقد استغرقَت وقتًا أطول. ويُعتبَر موقع «أبو غوش» بالقرب من القدس الموقعَ النموذجَ لها؛ حيث استغرقَتْه الحضارةُ الطاحونية.
- (٤) النيوليت الفَخَّاري: تأخَّر ظهورُ الفَخَّار في فلسطين عن بقية بلادِ الشام، ويُرجَّحُ أنه انتقل من سوريا إلى فلسطين. وظهرَت في فلسطين ثلاثُ ثقافاتٍ فَخَّاريَّة هي:
- (أ)
الثقافة اليرموكية: ظهرَت في دلتا اليرموك، ومثلُها في فلسطين موقع (تلِّ الأُقحُوانة). وفخَّارُ هذه الحضارةِ يُشبِه الفَخَّارَ السوري، لكنَّ الحضارةَ اليرموكية أظهرَت آثارًا متميزةً وتماثيلَ مصنوعةً من الطين والحجَر لرءوس نساءٍ ودُمًى نسائيةٍ تُشير إلى الآلهة الأُم، بالإضافة إلى بعض الدُّمى الحيوانية، وجميعُها يُشير إلى علاقةٍ بالخصوبة. وفي الشكل ٢٣ نلاحظ مجموعةً كبيرةً من هذه الدُّمى والأدواتِ الصَّوَّانيَّةِ كالمقاشطِ والنِّصالِ وكسورِ الفَخَّارِ التي تشير إلى جِرارٍ مخطَّطةٍ وأنواعٍ لحُليٍّ ودُمًى بشريةٍ تمثِّل وجوهًا أو أجسادًا؛ منها ذلك الوجهُ اليرموكيُّ المتميزُ ذو العينَين المائلتَين والرأسِ الطويلِ (رقم ١)، وغيرها.
شكل ٢١: بداياتُ عصرِ الفخَّارِ مزينًا بأشكالٍ هندسيةٍ ملوَّنة. http://www.crystalinks.com/jericho.htmlشكل ٢٢: جَرَّةٌ من الثقافة اليرموكيةِ في شار هاجولان. - (ب)
الثقافةُ الساحلية: وخصوصًا في وادي رباح بالقرب من رأس العين؛ حيث تطوَّر الفَخَّارُ في هذه الحضارة، وتغيَّرَت ألوانُه وزخارفُه. ومعه تطوَّر مستوى السكَن، فاستُبدلَت البيوتُ المستديرة ببيوتٍ مستطيلةٍ ذاتِ غرفتَين أو ثلاث.
- (جـ)
الثقافةُ المَنحَطِيَّة: وتركَّزَت في منطقة المَنحَطَة في غَور بيسان (جنوب بحيرة طبرية) ومجدو وتل بلاطة وتل الفارعة وغيرها. وفيها ارتقَت صناعةُ الفَخَّارِ إلى مستوًى جيدٍ ظهَرَت فيه الزخارف.
لقد أظهر تقريرٌ لكلٍّ من «ماكاليستر ودنكان» — في حفرياتهما عند جبل أوفل في القدس — وجودَ قطعٍ فَخَّاريةٍ ذاتِ حبلٍ فَخَّارِي Cord Pattern Design تعودُ لمرحلة العصر الحجريِّ الحديث. وهو ما يُشيرُ إلى وجود سكنٍ وحضارةٍ في مدينة القدسِ في تلك المرحلة.٨ويُمكِننا إجمالًا صياغةُ مجموعةٍ من المِيزاتِ العامَّةِ التي يمتازُ بها عصرُ النيوليتِ الفلسطيني، وهي:
شكل ٢٣: مجموعة من الدُّمى والأدواتِ الصَّوَّانيةِ والفَخَّارِيةِ والطينيةِ التي تمثِّل الحضارة اليرموكية من موقع تل الأقحُوانة (شعار هاجولان) في فلسطين وهي لفترة العصر الحجري الحديث المتأخِّر الأوَّل.المرجع: إبراهيم، معاوية، الموسوعة الفلسطينية، القسم الثاني، المجلد الثاني، ١٩٩٠م، ص٤٦.
- (١)
تنحصر «الثورة النيوليتية» جوهريًّا في اكتشاف الزراعة وتحوُّل الإنسان من الاقتصاد الاستهلاكي إلى الاقتصاد الإنتاجي، فإذا كان الإنسان يعيش على صيدِ الحيواناتِ البريةِ والطيورِ والأسماكِ وجمعِ القُوتِ النباتيِّ كالثمارِ والحبوبِ والخُضار، فإنه في النيوليت بدأ يتحكَّم في غذائه، وأخذ يُنتِجُ محاصيلَه التي يريدها بصورةٍ منتظمة، كذلك تحكَّم بالحيوانات الأليفة التي دجَّنها وأخذ يستفيدُ من إنتاجها ومن لحومها. ولعل أفضلَ هذه الحيواناتِ هي الماشية، وأفضل هذه المزروعاتِ هي الحِنطةُ والشعير.
- (٢)
تحوَّلَت الحياةُ الاجتماعيةُ وتماسكَت العائلة، ثم القبيلةُ ثم المجتمعُ القَروي، ونشأَت العاداتُ والقوانينُ وظهرَت المؤسساتُ الإداريةُ والسياسية، ثم ظهرَت الحِرفُ المتخصصةُ كصناعة الأدواتِ الزراعيةِ وصناعةِ الملابسِ وصناعةِ السِّلالِ والصناعاتِ الحيوانيةِ البدائية. وأخذَت المرأةُ دورًا متميزًا في المجتمع النيوليتي، وذلك لتقارُب وظيفتها الإخصابية من الزراعة.
- (٣)
ازداد الاستقرار السكاني في القرى، وبدأ الإنسان باستخدام التبن مع الطين في بناء جدران مساكنه، وبدأ يَرصُف أرضياتِها بالحجارة، وطُليَت الجُدران، وازدادَ عددُ الغرفِ وتخصُّصاتُها.
- (٤)
تغيَّرَت الأدواتُ الحجريةُ وظهرَت أدواتُ «الحجَر المصقول»؛ حيث اتسعَ صُنعُ أدواتِ الإنسانِ الزراعيةِ منها. ومن جهةٍ أخرى طوَّر الإنسان أسلحتَه، فاستخدم النِّبالَ والأقواسَ لأول مرة، وبها سيطر أكثَر على صيد الحيوان، وظهرَت أنواعٌ جديدةٌ من المَثاقِب والمَكاشِط والسكاكين والأواني الحجرية الزراعية الجديدة، ثم أصبح «الفَخَّارُ» أهمَّ مبتكرات النيوليت وتنوَّعَت استعمالاته.
- (٥)
ظهرَت في النيوليت عبادةٌ جديدةٌ ومعتقداتٌ دينيةٌ مختلفةٌ عن سابقاتها؛ فقد تمحوَرَت هذه العبادة حول مبدأ الخِصْب بسبب ما منحَتْه الزراعة من مُعطياتٍ تتعلق بالبذار والنمو والزرع. وهكذا ظهرَت الدياناتُ الطبيعيةُ التي تنادي بالأرض كأُمٍّ كبرى؛ منها كلُّ شيءٍ ويعود لها كل شيء. وأخذَت عبادةُ الأرض تتماهى في شخصية المرأة الأمِّ التي اعتُبرَت أمًّا كبرى أيضًا تُشبِه الأرض، وأنها المُنجِبةُ للأبناء مثل الأرضِ المُنجِبةِ للزرع (ولم يكن الرجلُ يعرفُ دورَه في الإنجاب بعدُ). وهكذا ظهرَت، من اندماج الأرض بالأم، ما يُسمَّى ﺑ «الآلهة الأم» التي أصبحَت مبدأَ الإخصابِ الكونيِّ بأكمله.
وفي فلسطين زوَّدَتْنا آثارُ موقعِ المَنحطَة بتماثيلَ شبيهةٍ بالإنسان والحيوان من عصر ما قبل الفَخَّار. وكانت هذه التماثيلُ تؤكِّدُ على الأعضاء الأنثوية مع عيونٍ وأنوفٍ مُضخَّمةٍ وأجسادٍ تشبهُ الديدانَ الكبيرة (انظر شكل ٢٤).
شكل ٢٤: تماثيل الإلَهة الأم الشبيهة بالحيوان والإنسان من عصر النيوليت ما قبل الفخَّار/موقع المَنحَطَة.وظهرَت في المَنحَطَة وشعار هاجولان تماثيلُ حصويةٌ تمثِّل الأنثى والذكَر، ثم أُطلِق عليها اسمُ «الأم الرهيبة Mere terrible»؛ فقد جمعَت الإلهةُ الأمُّ في هذه التماثيل قوى الرجلِ والحيوانِ والقوى الشيطانيةَ التي تظهر في الشكل المخيف والغريب لهذه الإلهة؛ فالرأسُ يظهَر مثلَ كتلةٍ هرميةٍ أو اسطوانية، وهو مُزوَّدٌ بأنفٍ كبيرٍ مُدَلًّى وعيونٍ عرضيةٍ مائلةٍ أُفعُوانيةِ المنظر، وتتكوَّن قِطعُ الجِذعِ من أقسامٍ تتوسطه أثداءٌ بارزة. أمَّا قطعةُ الأردافِ فتظهر بارزةً واضحةً تلتصقُ بها من الأسفل قطعتا الساقين المدبَّبتَين من الأسفل (انظر شكل ٢٥).شكل ٢٥: تماثيل «الأم الرهيبة» التي تجمع بين قُوى الذكَر والأنثى والحيوان/موقع المَنحَطَة في فلسطين.شكل ٢٦: منحوتتان للإلهة الأم من شعار هاجولان.وكنا قد أشَرْنا إلى الدُّمى والتماثيلِ الصَّوَّانِيَّةِ والطينيةِ اليرموكيةِ من موقع تلِّ الأقحُوانَة (شعار هاجولان)؛ منها وجهُ إلَهٍ أو رجلٍ على طريقةِ الإلهةِ الأم، وبعض الأجسادِ الأنثويةِ وتمثيلات الوجه على الحصى.
وظهرَت مع عبادة الإلَهة الأم «عبادة الجماجم» في أريحا بشكلٍ خاصٍّ؛ فقد دُفنَت عدةُ جماجمَ مفصولةٍ عن أجسادها بعنايةٍ خاصة، وطُليَت من الخارج والداخل بالجَصِّ والطين، ومُلئَت محاجرُ العيونِ بأصدافٍ تُعطي شكلَ البُؤبُؤ، ثم طُليَ الوجهُ بلونٍ يُشبه لونَ البشرة، وحُشيَت الجمجمةُ من الداخل بالطين المدكوك. (انظر شكل ٢٧).
شكل ٢٧: جماجمُ منفصلةٌ عن أجسادها ومحشوةٌ بالطين؛ عُثر عليها في أريحا (نيوليت ما قبل الفخَّار). http://www.crystalinks.com/49ericho.htmlوهناك رأيانِ أو أكثرُ في ظهورِ جماجمَ من هذا النوعِ؛ حيث يرى «كوفان» بأنها تحملُ دليلًا على ما يمكن تسميتُه ﺑ «عبادة الجماجم» التي تجعل من الرأس مقرًّا للروح أو وعاءً للقوة المقدَّسة.٩أما «كنيون» فترى بأن هذه الجماجمَ حُفظَت كأوعيةٍ لقوةٍ مقدسةٍ غيرِ محدودة. وعلى الأرجح فإن إجلالَ أرواحِ الأفرادِ الموتى أو الأجدادِ كان الدافعَ لذلك.١٠أمَّا «فِراسُ السوَّاح» فيرى أن ظهورَ التشخيصِ في مثل هذه الجماجمِ — ومحاولةَ الإنسانِ تشكيلَ ملامحِ وجهٍ إنساني — هو بَدءُ ظهورِ فكرةِ الإله؛ حيث دخل الفكرُ الدينيُّ مرحلةَ التشخيص؛ تشخيصِ القوةِ غيرِ المُشخَّصة (سواء عن طريق تشكيل الجماجم أو تشكيل الحجر والصلصال فيما بعدُ).
وأخذ الإنسان ينظُر إلى القوة من خلال تمثيلاتٍ مشخَّصة، وشيئًا فشيئًا تحوَّلَت القوةُ إلى شخصياتٍ ذاتِ قُوة، وتكسَّر مبدأ القوة السارية إلى عددٍ من القوى، وظهرَت الآلهة.١١شكل ٢٨: المُصلَّى العائليُّ (صورة وتخطيط) حيث يظهر المسبوث والمزار. أريحا. فلسطين.ونرى أن حفظَ الجماجمِ هو نزعةٌ باليوليتية قديمةٌ من نزعات الخلود التي تركَّزَت في محاولة حفظِ الجزءِ الحيويِّ الذي تستقرُّ فيه الروح، وهو الجمجمة، ولعل حفظَها ودفنَها بعنايةٍ يُمكِّن صاحبَ هذه الجمجمةِ من العودة إلى جسده بعد الموت ومواصلةِ الحياة، وهم بذلك يسبقون، بكثير، المُعتقَدَ المصريَّ الخاصَّ بالتحنيط وحفظ الجسد لما بعد الموت.
وتُشكِّل جماجمُ أريحا النيوليتية مرحلةً متطورةً لهذا المعتقَد، بعد أن تفنَّن الإنسان في تزيين وطَلْي وحفظِ الجماجم.
ومن مظاهر الديانة الفلسطينية النيوليتية ظهورُ المُصَلَّى العائليِّ في أريحا، ولا نسميه معبدًا لبساطته وبدائيته؛ فقد كشفَت «كنيون» عنه في حفريَّاتها بأريحا، وهو مُكوَّنٌ من باحةٍ مستطيلة، يظهرُ على الجدار القصيرِ الأماميِّ لها نُصُبٌ صغيرٌ مثبَّتٌ في حَنِيَّةِ الحائط، وقد شبَّهَتْه كنيون بالنصُبِ المسمَّى «مسبوث Messeboth» لدى الساميين، ثم كشفَت في أريحا أيضًا عن مزارٍ أكثرَ تطورًا من المُصَلَّى العائلي؛ فهو يتكوَّن من مجموعة أعمدةٍ تُشرِفُ على باحة المدخل، ثم بوابةٍ إلى مدخلٍ آخَر، ثم باحةِ المزارِ التي ينتصبُ فيها عمودان مقدسان يُشبِهان المسبوث أيضًا (انظر شكل ٢٨). - (أ)
- (٥)
كان النيوليتُ الفلسطينيُّ جزءًا من النيوليت الشاميِّ ونيوليت الشرقِ الأدنى بصورةٍ عامَّةٍ رغمَ خصوصيةِ كلِّ مكان، والذي ظهر في حدود الألف الثامن قبل الميلاد. وكان نيوليت الشرق الأدنى مهدًا حضاريًّا انتشر نحوَ آسيا باتجاه الهند ونحوَ أوروبا باتجاه البلقان ونحوَ أفريقيا باتجاه مصر؛ فقد انتشر اكتشافُ الزراعةِ بهذه الاتجاهات، وانتقلَت معها محمولاتُها الحضاريةُ والدينيةُ والفنية.
ولا شك أن منطقةَ نيوليت الشرقِ الأدنى، من إيرانَ إلى تركيا إلى شمال العراق إلى بلاد الشام حتى فلسطين، كان يُشكِّل قَوسًا نابضًا بالحياة والحضارة، وهو الذي أصبح مهدَ الحضاراتِ التاريخيةِ اللاحقة.
الأقنعةُ الحجرية
مجموعةٌ نادرةٌ من الأقنعة الحجرية تعود لحوالي ٧٠٠٠ق.م. وهي أقدمُ أقنعةٍ معروفةٍ حتى الآن، وعددُها ١٢ قناعًا تعود للعصر الحجَري الحديث؛ عُثر عليها عند ما يُعرَفُ الآنَ بجبال يهوذا والقريبة من صحراء يهوذا.

أقنعةٌ كبيرةٌ لافتةٌ ثقوبها وأفواهٌ فَاغِرَةٌ من أقنعة الحجَرِ الجيريِّ تبدو كأنها جماجمُ بشرية. وربما كانت أقنعةً تمثِّل جماجمَ بشريةً لبعض الأموات، وهي أيضًا تمثِّل شكلًا من أشكال رموز الأجداد.
يفترض الخبراء أنهم جميعًا من الذكور، وأن أكبر واحدٍ منها يدُل على مظهرٍ قويٍّ وجبهتُه واسعةُ النطاق، وتَرمزُ لروح رئيسِ القبيلةِ القديمة، وأنه قد تمَّ استخدامُها في الاحتفالاتِ الاجتماعيةِ وطقوسِ الشفاءِ والسحر.