المبحث الأوَّل: العَصرُ البُرونزيُّ المُبكِّر (مَنُورَتَا الأَمُوريَّة)

يمتاز العصرُ البرونزيُّ باستعمال معدن البرونز الخليط (من النُّحاس والقَصْدير). وبهذا أصبح الإنسان يستعمل المعادن بالدرجة الأولى، ثم الفَخَّار، وتراجَع استعمالُ الأدواتِ الحجريةِ من أدوات عملٍ إلى أدوات فنٍّ وعمارة.

ظهرَت مع بداية العصرِ البرونزيِّ الكتابةُ التي تُعتبَر نقطةَ تحوُّلِ عصورِ ما قبل التاريخ إلى العصور التاريخية. وقد أصبح من الثابت أنَّ اختراعَ الكتابةِ حصَل حوالَي ٣٢٠٠ق.م. في جنوب العراق على يد السومريين، الذين طوَّروا الرموز المرسومة إلى نوعٍ من الكتابة الصورية، التي استُخدِمَت في البداية لتنظيم شئون المعابد الاقتصادية، ثم اتَّسعَ استعمالُها لتشمل كل شئون الحياة. ورافق ذلك ظهورُ المدنِ الكبيرةِ التي كانت المعابدُ الكبيرةُ تشغلُ وسطَها في الغالب.

وقد أدى نمُو المدنِ واتساعُ تخصُّصاتِها الحضريةِ في بلاد سومر ما بين (٤٠٠٠–٣٥٠٠ق.م.) إلى التأثيرِ في المحيطِ السومري، ثم الانتقالِ إلى أصقاعٍ أبعَد؛ فقد ظهرَت المدنُ المصرية، ثم ظهرَت المدنُ الشاميَّةُ ومدنُ إيرانَ والأناضول. وكانت سومر قلبَ هذه المدنِ النابضَ بنواميسِ الحضارةِ الجديدة من آدابٍ وفنونٍ وشرائعَ وديانةٍ وعُمران … إلخ.

وكان ظهورُ المدن الشامية مرافقًا لنمُو الطموحات السياسية والاقتصادية لمُدن دولِ العراقِ ومِصر الضاغطةِ على جيرانها. وهكذا وقعَت المدنُ الشاميةُ تحت ظلالِ التوسعِ والهيمنةِ العراقيةِ أولًا ثم المصرية ثانيًا. وكان هذا عاملًا أساسيًّا في بقاء نظام دولة المدينة في الشام وعدمِ ظهورِ الدولِ أو الدولةِ المركزية الكبيرة فيها.

ورغم ذلك فإن مشهدَ ظهورِ المدن — في الشام وغيرِها — لا يُلغي أبدًا وجودَ القرى والمزارعِ والحقولِ ومناطقِ الاستيطانِ الرعوية؛ فقد ظلت هذه بجوار تلك، ونشأَت عن هذا التجاورِ صراعاتٌ محليةٌ وإقليميةٌ سنتحدثُ عنها بالتفصيل.

ولعل أبرزَ ما نلمحُه في بداية العصر البرونزي؛ أي في العصر البرونزيِّ المبكِّرِ في فلسطين، هو هذا التجانسُ الإثنيُّ واللغوي، والذي يعود بجذوره الأولى إلى نهاية النيوليت وبداية الكالكوليت (الألف الخامس قبل الميلاد)؛ فقد تدفقَت على فلسطين الموجاتُ الساميةُ الأولى واستقرَّت بها، ولعل جُلَّها كان من الأموريين الذين اختلطوا بسلامٍ مع فلاحي النيوليت والكالكوليت الأصليين، ولم تظهَر النتائجُ المبدعةُ لهذا الاختلاطِ إلا في العصرِ البرونزي.

يرى ت. ل. طومسون T. L. Thompson أن نصوصَ إبلا حسمَت موضوعَ أوائلِ العصرِ البرونزيِّ على الأقل. وكان تواصلُ الثقافة المادية وأنماط الاستيطانِ طَوالَ الألفِ الثالثِ ذا أهميةٍ خاصة، ويُوحي بأن أصولَ كلِّ السكانِ لا بُدَّ أن تعود، كحدٍّ أدنى، إلى بدايات العصرِ البرونزيِّ القديمِ الثاني، وربما قبل ذلك؛ أيْ إلى العصر النُّحاسيِّ المتأخر.

وقد نفى طومسون وجودَ ثغرةٍ حضاريةٍ بين الكالكوليت (٤٥٠٠ق.م.) والبرونزيِّ (٣٥٠٠ق.م.) ربما أشارَتْ إلى ظهور غزواتٍ قام بها سكانٌ جُدُدٌ أَدَّت إلى اقتلاع مزارعي ورعاة العصرِ الحجريِّ كما كان شائعًا. ورأى أن هناك تواصُلًا ثقافيًّا مما يوحي بأحد أمرَين؛ إما أنَّ الهجراتِ الساميَّة وصلَت إلى فلسطين قبل الكالكوليت أو بعده. والراجحُ في هذا الأمرِ هو حصولُها قبل الكالكوليت.

لكننا نختلف تمامًا مع نظريات طومسون وفرونزارولي P. Fronzaroli ودياكونوف I. M. Diakonoff التي تقول إن الهجراتِ الساميَّةَ جاءت من شمال أفريقيا.١

ونرى في النظرية التي تقول إن الهجراتِ الساميَّةَ جاءَت من جزيرة العربِ ضعفًا شديدًا لعدم لياقتها الأركيولوجية. ونرى أن الساميِّينَ ظهروا في أعالي وادي الرافدَين (ميزوبوتاميا العليا) أولًا، وأنهم بسبب انشطارِهم السريعِ والتنافسِ القويِّ بينهم وبين غيرهم من الأقوام كالسومريين — على حيازة المدن والأراضي الزراعية في وادي الرافدَين — بدءُوا يتدفَّقون غربًا بأعدادٍ كبيرة، وكانت أوَّل وأقدَم وأكبر الموجاتِ الساميَّةِ هي الموجة الأمورية، التي نرى أنها وصلت إلى فلسطين خلال الألف الخامس قبل الميلاد، لكنَّ استقرارَهم التامَّ تحقَّق في شرق سوريا والأردن أكثرَ منه في غرب سوريا ولُبنانَ وفلسطين التي استقبلَت الموجةَ الكنعانيةَ لاحقًا، وهي الموجةُ التوءَمُ للموجة الأمورية.

وفي جميع الأحوال استطاع العصرُ البرونزيُّ في فلسطين أن يقدِّمَ ثقافةً أمورية/كنعانية متميزةً بدأَت بزراعة الحبوبِ والأشجارِ وتربيةِ الحيوان، وانتهت ببناء المدنِ الكبيرةِ ومن ضمنها القدس.

يقسِّم الباحثونَ العصرَ البرونزيَّ إلى ثلاثةِ أقسامٍ هي:
  • (١)

    العصر البرونزي المبكِّر (٣٣٠٠–٢٠٠٠ق.م.)

  • (٢)

    العصر البرونزي الأوسط (٢٠٠٠–١٥٥٠ق.م.)

  • (٣)

    العصر البرونزي المتأخِّر (١٥٥٠–١٢٠٠ق.م.)

العَصرُ البُرونزيُّ المُبكِّر (٣٣٠٠–٢٠٠٠ق.م.) القُدسُ الأَمُوريَّة

لا نعرفُ على وجه الدقة متى ظهَر الأموريون في التاريخ، ولا المكانَ الأوَّلَ الذي نزَحوا منه، ولكننا — أمام القرائنِ الآثاريةِ والتحليل العلمي الدقيق — نستطيع القول إن الأموريين ظهَروا في العراق القديم؛ وتحديدًا على ضفاف نهرِ الفراتِ الأوسط، وفي الصحراء العراقية السورية الأردنية الحاليَّة، وربما كان ذلك في حدود ٤٠٠٠ق.م. أو قبل ذلك بقليل. لكن الوثائق السومرية هي التي تُخبِرنا في الألف الثالث قبل الميلاد عن وجودهم كقبائل غرب الفرات، وتُسمِّيهم «مارتو» وباللغة الأكدية «أمورو»، والتي تعني «الغرب» أو «الذين يسكنون غربًا». ومن المؤكَّد أن ذلك يدُل على أنهم كانوا يسكنون غرب الفرات. وقد ثبت لنا الآن أن هذه التسميةَ لها علاقةٌ باسم الإلهِ القوميِّ للأموريينَ وهو «أمورو» الذي تطوَّرَ عن «مُر» أو «مور»، وهو إلَه الطقسِ والسماءِ معًا عند الأموريين، وكان السومريونَ يسمُّونَ جبلَ باسار (بِشْري) في بادية الشام ﺑ «مرتفعات الأموريين». وقد وُضعَت مدينةُ ماري وقلعتُها عند السومريين كمدينةٍ حدوديةٍ لصدِّ هجماتِهم، رغم أن «ماري» مشتقة من اسم «مر» أو «مار» الأموريِّ بطبيعة الحال، وهكذا أصبَحَت عليه فيما بعدُ.

كان الأموريون — الذين لا يُعرَفُ حجمُهم وتأثيرُهم — أعظمَ الموجاتِ الساميَّةِ وأقدمَها على الإطلاق. وهم — بسبب انفراطِ وتهشُّم تاريخِهم — ظهروا كأقوامٍ بدويةٍ غازيةٍ ومهاجرةٍ فقط، لكننا عندما نجمع الحقائقَ المبعثرةَ هنا وهناك، فإننا نجدُ أن جُلَّ ما كان يُسمَّى ﺑ «الساميين» يمثِّلهم الأموريون بامتياز.

وهكذا انتشَر الأموريون باتجاهاتٍ مختلفة؛ شرقًا نحوَ السهلِ الرسوبيِّ لبلاد الرافدَين، وغربًا نحو بلاد الشام، ثم نحو مِصرَ وشمالِ أفريقيا، وشمالًا لينشطرَ عنهم الآراميون، وجنوبًا على شكلِ قبائلَ بدويةٍ تجوبُ شمالَ جزيرةِ العرب.

وصلَت القبائلُ الأموريةُ إلى شمالِ بلادِ الشامِ مبكرة، وأسَّسَت مدنًا كثيرةً مثلَ إبلا وماري، ثم مدن يمخد (يمحاض) وألالاخ وكركميش وقطنا وعمورو في سوريا.

وكان انتشارُ القبائلِ الأموريةِ في جنوب بلاد الشام كبيرًا أيضًا؛ فقد دخلَت إلى فلسطين، واستوطنَت جانبَي الغَور، وأسَّسَت في فلسطينَ مُدُنًا لا نملكُ ما يُوثِّقُ أسماءَها. وكذلك في الأردن التي كان حجمُ الاستيطانِ الأموريِّ فيها أكبرَ بكثيرٍ من فلسطين. وفي نهاية العصرِ البرونزيِّ المبكرِ استطاعَت القبائلُ الأموريةُ أن تؤسِّسَ ثلاثَ ممالكَ كبيرة، وهي «شوتو العليا، شوتو السفلى، كوشان» في شمال ووسط وجنوب الأردن.

أما في فلسطين فقد أفسحَت القبائلُ الأموريةُ المجالَ لاحقًا للقبائل الكنعانيةِ التي تنتمي لهجرةٍ أموريةٍ متأخرة قليلًا، وهو ما جعل الكثافةَ الأموريةَ في الأردن أكبرَ منها في فلسطين.

هكذا إذن كان العصرُ البرونزيُّ المبكِّرُ في فلسطين عصرًا أموريًّا ظهرَت خلالَه المدنُ الفلسطينيةُ الأولى في العصور التاريخية التي نجهل أسماءَها بسبب غيابِ الكتابةِ وعدمِ ظهورِها في فلسطين في ذلك العصر، إلا أن التلالَ القديمةَ التي كانت تملأ أرضَ فلسطين كانت بلا شكٍّ مراكزَ تلك المدنِ البرونزيةِ المبكِّرة.

مع نهاية عصرِ الكالكوليت وبداية البرونزيِّ المبكِّرِ في فلسطين حصل تغيُّرٌ مُناخيٌّ كبير (في حدود ٣٥٠٠ق.م.) واستمرَّ هذا التغيُّرُ الإيجابيُّ حتى (٢٣٥٠ق.م.)؛ أي لغايةِ ما يُسَمَّى ﺑ «الفترة الرابعة من العصر البرونزيِّ المبكِّر»، وكان من مظاهر هذا التحوُّلِ ما يلي:٢
  • (١)

    زيادةُ الأمطار.

  • (٢)

    انخفاضُ درجاتِ الحرارة.

  • (٣)

    انخفاضُ مستوى البحر.

  • (٤)

    جفافُ الكثيرِ من مستنقَعاتِ الكالكوليت وتحوُّلها لحقولٍ زراعيةٍ خصبة.

  • (٥)

    دخولُ الزراعةِ إلى منطقة بيسان ووادي الأردن.

  • (٦)

    انخفاضُ بحيرةِ بيسانَ إلى المجالِ الحاليِّ لبحر الجليل (بُحيرة طبرية).

وبسبب هذه الظواهرِ نشأ مُناخٌ مثاليٌّ للزراعة، وظهرَت مستوطناتُ المعادن، وإقامة المؤسساتِ السياسية، ولكنْ مدينةٌ واحدةٌ كبيرةٌ لم تظهر في هذه الفترةِ بحيث تتمكَّن من تكوين مركزٍ لدولةٍ كبيرة أو حتى لإقليمٍ كبير، لكن هذا لم يمنَع من ظهور «الرَّفَاهِ وتعقيد الحياةِ لدى سكانِ فلسطين الزراعيينَ في ذلك الوقت؛ فالتجاراتُ المتخصِّصة والمحاصيلُ النقدية (وأهمُّها الثمارُ وتربيةُ الحيوانِ والحبوبُ أيضًا) وبضائعُ الرَّفَاهِ (وأولُها المعادن) والتجارةُ الإقليميةُ وعَبْر الإقليمية — وهي مظهرٌ هامٌّ في أيِّ زراعةٍ متوسطةٍ متقدمة — بالإضافة إلى نخبةٍ قليلةِ العدد، كهنوتية وسياسية — وربما عسكرية أيضًا — وُجِدَتْ، ويسهُل تصوُّرُ إعالتِها لنفسها ضمنَ إطارِ الاقتصادِ الداخليِّ والمجتمعِ في فلسطين. والتجارةُ الدوليةُ وُجدَت وجلَبَت بعضَ الثروةِ والنفوذ الأجنبي، ولكنَّها كانت هامشيةً بالنسبة للاقتصاد المحلي.»٣

وهكذا تكونُ المدنُ البرونزيةُ الأولى قد ظهرت بطابعٍ أموري وثقافةٍ تغلبُ عليها الزراعة، وتشكِّل التجارةُ هامشًا. والسؤالُ الذي يجب أن نسألَه هنا: وماذا بشأن القدس؟ هل ظهرَت مدينةٌ أمورية على أرضها أم بقيَت مستوطنةَ نيوليتية أو كالكوليتية، أم ماذا؟

وسيأتينا الجواب أولًا من الأركيولوجيا (الحفريات الآثارية).

أولًا المَرجِعيَّةُ الآثاريَّة (أركيولوجيا القُدسِ في العَصرِ البُرونزيِّ المُبكِّر)

عملَت البعثاتُ الآثاريةُ التي بدأَت حفرياتِها في القدس منذ القرنِ التاسعَ عَشَرَ حتى الآن على تقديم صورةٍ جيدة عن تاريخِ القدس قبل أن تتحول إلى مدينة وبعد أن صارت مدينة، والمراحلِ التي مرَّت بها هذه المدينةُ خلالَ العصورِ التاريخيةِ كلِّها. ولعلَّ من المفيد أولًا التعرُّفَ على الطبقات الحفرية Stratification لمدينة القدس حيث قُسمَت طبقاتها الأرضية الآثارية إلى حوالي (٢١) طبقةً أساسية، كما في الجدول الآتي:٤
جدول ١: الطبقات الحفرية لمدينة القدس. المرجع: Shiloh 1993: 701
الطبقة الفترة الزمنية تاريخها ملاحظات
١ العصر الوسيط وما بعده القرن ١٤–٢٠م
٢ من العربي إلى الأيوبي القرن ٧–١٣م
3A بيزنطي القرن ٦–٧م
3B بيزنطي القرن ٤–٦م
٤ روماني متأخر القرن ١–٤م
٥ روماني مبكر من الفترة اليهودية إلى ٧٠م بقايا محطَّمة
٦ روماني مبكر من الفترة اليهودية إلى ٧٠م
7A هيلنستي (حشموني) النصف الأول من القرن الأول ق.م. لغاية ٣٧ق.م.
7B هيلنستي (حشموني) النصف الثاني من القرن الثانيق.م. لغاية ٣٧ق.م.
٨ هيلنستي مبكر القرن ٤–٢ق.م.
٩ فارسي القرن ٤–٦ق.م.
10A الحديدي الثاني القرن السادس ق.م. معظمها نُفايات حطام تعود لـ ٥٨٦ق.م.
10B الحديدي الثاني النصف الثاني من القرن السابع ق.م. يقسَّم إلى B-C ١٠ في منطقة G فقط
١١ الحديدي الثاني القرن السابع ق.م. أغلب منتصف القرن ٧ق.م.
١٢ الحديدي الثاني القرن الثامن ق.م. أغلب زمن حزقيا
١٣ الحديدي الثاني القرن التاسع ق.م.
١٤ الحديدي الثاني القرن العاشر ق.م.
١٥ الحديدي الأول القرن ١٢–١٠ق.م.
١٦ البرونزي المتأخر القرن ١٤–١٣ق.م.
١٧ البرونزي المتوسط الثاني B القرن الثامنَ عشَر ق.م.
18A البرونزي المتوسط الثاني B القرن الثامنَ عشَر ق.م.
18B البرونزي المتوسط الثاني B القرن الثامنَ عشَر ق.م.
١٩ البرونزي المبكِّر الثاني والثالث النصف الأول من الألف الثالث ق.م.
٢٠ البرونزي المبكِّر الأول القرن ٣١ق.م.
٢١ الحجَري النُّحاسي النصف الثاني من الألف الرابع ق.م.

الطبقة اﻟ «٢١»: كانت كشوفات الطبقة اﻟ «٢١» التي تعود إلى العصر الحجَري النُّحاسي (الكالكوليت) — في حدود ٤٠٠٠ق.م. — عبارةً عن مجموعةٍ من الآبار المناظرة لما كُشف عنه في أريحا وشكيم ولخيش وتل العجول (في غزة).

وقد كشف شيلوح في المنطقة B عند قدم المنحدَر الغربي عن كسرها وآثارها في التجاويف الطبيعية للصخور.
الطبقة اﻟ «٢٠»: اكتُشفَت في الطبقة اﻟ «٢٠» آثارُ المدينةِ التي تعود للعصر البرونزيِّ المبكِّر عند التقاء نقطة وادي الجوز مع وادي القدرون، والتي يُقدَّرُ زمنُها بحوالي ٣٢٠٠ق.م.٥

وهذا يعني أن مدينة القدس قد بُنيَت مع بداية العصر البرونزيِّ المبكِّر؛ أي قبلَ مجيءِ الكنعانيينَ واليبوسيينَ أو بنائِهم للمدينة كما هو شائعٌ جدًّا. وهذا يُشير إلى أن القدس الأولى كانت في العصرِ البرونزيِّ المبكِّر، وأنها على الأرجح كانت ذاتَ هُويةٍ أمورية.

figure
خارطة (٢): مواقع آثارية للمستوطنات الحجَرية الحديثة والبرونزية المبكِّرة والمتوسِّطة والمتأخِّرة في مدينة القدس. المرجع Mare 1987: 37.
وقد أظهرتِ الحفرياتُ أن عُمرانَ المدينةِ المكتشَفة يتميزُ بما يلي:٦
  • (١)

    التخطيطِ المعماريِّ الدائريِّ في شكل البيوت.

  • (٢)

    إدخالِ الشكلِ المربَّعِ في البيوت وحَفرِ الآبارِ فيها.

  • (٣)

    الاعتمادِ على الأعمدةِ الكبيرةِ وسطَ البيوت.

  • (٤)

    الشكلِ الدائريِّ للأسوار.

وقد عُثر فيما بعدُ على قواعد الأعمدة التي كانت تحملُ سقوفًا لأبنية؛ إضافةً إلى الموجودات الفَخَّارية الدالَّة على حضارة تلك الحِقبة. ودلَّت الأثرياتُ المكتشفةُ كذلك على اهتمام الإنسان بالزراعة في العصرِ البرونزيِّ المتقدم؛ حيث وُجدَت الموادُّ والأدواتُ الزراعيةُ الدالَّةُ على أن المنطقة كانت صالحة للزراعة بكل المقاييس. وقد فُوجئ العلماءُ كثيرًا بوجود هذا العصرِ في القدس في حين كانوا يعتقدونَ بعدم وجود سُلمٍ متواصلٍ من الحضارة في الطبقات الأرضية للمدينة ينتمي لتلك الفترات المتباعدة.

قام شيلوح بالحفر في منطقة E1 وعثر على بناياتٍ واسعة رسبَت في كسر الأحجار التي تعود للطبقة (٢٠)، وكانت هذه البناياتُ تعودُ للعصرِ البرونزيِّ المبكِّرِ الأوَّل والثاني، وهي تدُل على استيطانٍ دائمٍ في مدينة القدس:٧
وكذلك قام باركر Barker عام ١٩١٩م بحفر مقابرَ من العصرِ البرونزيِّ المبكرِ الأوَّل تحتَ المرتفَع، ووجَد أوانيَ فخَّاريةً مصبوغةً بالأحمر، ونشَر فنسنت L. H. Vincent نتائجَ هذه الحفريات. وقد عُثر في منطقة EBII, III على كسر فَخَّاريَّةٍ متنوعة٨
وكانت بعثة باركر قبل ذلك بين (١٩٠٩–١٩١٨م) قد وجَدَت فَخَّارًا مصبوغًا يعودُ إلى حوالي ٣٠٠٠ق.م. أسفلَ نهايةِ الحافةِ الجنوبيةِ الشرقيةِ للقدس، وكان متميزًا بعلامةٍ قُطريَّةٍ وحاويًا على خطوطٍ موجيةٍ وفتحاتٍ صليبيةٍ صغيرةٍ ذاتِ أيدٍ تُشبِه حبل العين.٩
ثم أظهر ماكلستر ودنكان Macalister and Duncan وجود كسرٍ فَخَّارِيَّةٍ ذاتِ أيدٍ على شكل حافةٍ مطويةٍ تشبه حبل العين، وذلك عام (١٩٢٣–١٩٢٥م).١٠
وأشار بعدَهم بنيامين مازار Benjamin Mazar إلى أن جبل أوفل (عند حافةِ وادي قدرون) يُشيرُ إلى أنه كان خلال الألفِ الثالثِ مأهولًا بالناس عند بَدءِ العُمران في العصورِ التاريخية، واستمرَّ هذا الوجودُ البشريُّ بالتناقُص خلال الألف الثاني.١١
لكن رحماني L. Y. Rahmani سمَّى الفترةَ الزمنيةَ ما بين (٣١٠٠–٢٩٠٠ق.م.) ﺑ «الفترة الكنعانية الأولى»، ووجَد في كهفٍ قبريٍّ عند جبل أوفل مجموعةً من الهياكل العظمية وبقايا الأطعمة، وكانت العظامُ ملطخةً باللون الأحمر (أوكر)، رمزِ القوةِ والحياة، وكانتِ الأوعيةُ مصبوغةً مثل تلك التي وُجدَت عند مصباح وجازر وأريحا (الطبقة السادسة والسابعة)، وأرى أن ذلك يدُل على استيطانٍ مبكِّر.١٢

وقد أشارت القِطعُ الخزفيةُ والألواحُ المستخرجةُ من تل مرديخ (إبلا) إلى ورود اسم «أورسليم» حوالي منتصف «العصر البرونزي» المبكر، ولكننا لا نستطيعُ أن نقرِّرَ على وجه الدقة فيما إذا كانت القدسُ تحديدًا هي المعنية بذلك.

ووجد شيلوح في المنطقة التي أسماها E1 بناءَين تمَّ إدراجُهما على أساس تحليلٍ أوليٍّ للخزف في الطبقتَين (٢١–٢٠)؛ أي حوالي النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد، وهي نهايةُ فترةِ العصرِ الحجريِّ النُّحاسيِّ وبدايةُ العصرِ البرونزيِّ المبكِّر.١٣
أما كاثلين كنيون Kathleen Kenyon فتذكُر قبرًا في جبل أوفل يحتوي على فخَّارٍ من تلك الفترة، ويرجع تاريخُه إلى القرون الأخيرة من الألف الرابع قبل الميلاد، وهي مرحلةٌ تسبقُ مرحلةَ تأسيسِ مدنِ العصرِ البرونزيِّ المبكِّر في فلسطين.١٤

ويُمكِننا من خلال كلِّ هذه الدلائلِ الآثاريةِ الحديثُ عن «مدينة القدس الأولى» التي ظهرَت في بداية العصرِ البرونزيِّ المبكِّر، والتي كانت صغيرةً جدًّا على مرتفع أوفل وقرب نبع عين جيحون … ومن المؤكَّد أن هذه المدينةَ شهدَت استيطانًا بشريًّا محددًا ونشاطًا زراعيًّا واضحًا، وأنها مارسَت طقوسَ الدفن؛ إمَّا في البيوت وإمَّا في قربها.

figure
شكل ٣٤: جرار فَخَّارية من القدس تعود للعصر البرونزي المبكِّر حوالي (٣١٠٠–٢٩٠٠ق.م.) وهي مخطَّطة بلونٍ أحمر. http://www.ancientresource.com/lots/holyland_artifacts/holyland_pottery.html

الدَّورُ الرابعُ مِنَ البُرونزيِّ المُبكِّر (٢٣٥٠–٢٠٠٠ق.م.).

إذا كانت الفتراتُ الثلاثُ الأولى من العصرِ البرونزيِّ المبكِّر قد شهدَت رَفَاهًا ونمُوًّا وازدهارًا في فلسطين بأكملها، وبُنيَت مدينةُ القدسِ لأوَّل مرَّة، فإن الفترةَ الرابعةَ منه شهدَت فجأةً جفافًا قاسيًا ارتفعَت فيه درجاتُ الحرارةِ وشَحَّتِ الأمطارُ وقصُر فصلُ الشتاءِ وطال فصلُ الصيفِ في السنة، وانخفضَت مناسيبُ المياه.

وهكذا تناقصَ سكانُ المناطقِ السَّهليَّةِ الواطئة والوديان، وقلَّ النشاطُ الزراعي وبدأ يحلُّ محلَّه تدريجيًّا نشاطُ الرعي، وازدادَت عملياتُ هجرةِ الناسِ العشوائيةِ من فِلسطين. وهناك دلائلُ آثاريةٌ تشير إلى «تحركاتٍ واسعةٍ قام بها الساميونَ الغربيونَ للابتعاد عن فلسطين؛ أي إنه فيما تمكَّن الساميونَ الغربيونَ الأساسيونَ من المحافظة على المنطقة الزراعية داخلَ سوريا وشمالَ فلسطين وشرقَ الأردن (وإن بأعدادٍ أقلَّ كثيرًا)، وبعد التلاؤم مع المُناخ الأكثرِ جفافًا، أصبحَت مناطقُ الأطرافِ الزراعيةِ مضطربةً تمامًا، مما أرغمَ مجموعاتٍ عديدةً على التحوُّل إلى اقتصادٍ شبهِ مستقر؛ يعتمد على زراعة الحبوب والرعي، وأجبَر العديد منها على عبور سُهوب شرق الأردن إلى جزيرة العرب.»١٥

وبذلك يمكنُنَا أن نفسِّر تفسيرًا أركيولوجيًّا مقنعًا وجودَ الأموريين الكثيفَ شرقَ الأردن وشمالَ الجزيرةِ العربية وقِلَّتَه لاحقًا، في فلسطين؛ حيث سيُظهِرُ العصرُ البرونزيُّ المتوسطُ كثافةً كبيرةً للكنعانيينَ في فلسطين باعتبارها منطقةً شبهَ مهجورةٍ في نهاية العصرِ البرونزيِّ المبكِّر.

وقد سقطَت حاليًّا تلك النظريةُ التي كانت شائعةً حول اجتياحِ موجاتِ البدوِ الغُزاةِ لفلسطين في تلك الفترة، وتدميرِهم الكاسحِ لمدن العصرِ البرونزيِّ المبكِّر (القديم) الرابع، تلك النظرية التي تَبنَّاها رايت G. E. Wright وكنيون K. Kenyon، والتي جاءت البحوثُ الحديثةُ لتنقُضَها تمامًا وتُبيِّنَ اختلافَ المُناخِ مع استمراريةِ الثقافةِ الزراعيةِ والرعويةِ لسكان فلسطينَ في مختلف أصقاعِها.
وكانت كنيون قد توصَّلَت من خلال حفرياتها في مقابر أريحا القديمة إلى نتيجةٍ تقول إن حضارةَ العصرِ البرونزيِّ المبكِّر انتهَت أو دُمِّرَت من قِبلِ غاراتٍ شنَّتها قبائلُ بدويةٌ ذاتُ ارتباطٍ بالأموريين.١٦

وربما كانت القدسُ قد دُمِّرَت أو هُجِرَت في هذا الوقت، وكانت كنيون قد عثَرَت في القدس على أحدَ عشرَ قبرًا تعود لهذه الفترة.

ويؤكِّدُ آثاريونَ آخرونَ أن آثارَ الدمارِ التي أظهرَتْها الحفرياتُ في المواقع (التلال) لم تكُن من فِعل هذه القبائل، وإنما قام بها المصريونَ في حملاتهم المتكرِّرة. ومهما يكنِ الأمرُ، فإنه ما إن بدأَت السلطةُ المركزيةُ في مصرَ تضعفُ — أثناء حكم الأسرة الثامنة — حتى أصبحَت هذه القبائلُ تَدُقُّ أبواب الدلتا، وفي الوقت نفسه كانت مدنٌ جديدةٌ تُبنى على أنقاضِ القديمة، مثل تلِّ بيت مرسيم إلى الجنوب الغربي من القدس.١٧

وهناك من يرى أن دمارًا مناخيًّا شاملًا عصفَ بمدن الشرق الأدنى القديمِ مع نهاية الألف الثالث وبداية الألف الثاني قبل الميلاد؛ أي في نهاية العصرِ البرونزيِّ المبكِّر؛ حيث سقطَت هذه المدنُ في ظروفٍ مُناخيةٍ بالغة التعقيد.

قام ديفر W. G. Dever — وهو تلميذ رايت — بدراسة فترة الدَّور الرابع من العصر البرونزي المبكر، وأثبَت أثناء تحليله لأشكال أواني ذلك العصر تعدُّدَ المرجعياتِ الثقافيةِ الإقليمية، وحاول شرحَ التسلسُلِ الزمنيِّ للغزوِ الأموريِّ المفترَضِ ومسارِه، فدمَج أخيرًا معظمَ البيِّناتِ الأركيولوجية عن البِنَى الاقتصاديةِ والاجتماعية، فأدَّى هذا إلى تقويض فرضيات الغزو الخارجي.١٨

وهذا يعني أن أشكال أواني البرونزيِّ المبكِّر الرابع ترتبطُ ثقافيًّا مع نظيراتها في العصرِ البرونزيِّ المبكِّرِ الأول والثاني والثالث، ولا يُوجَد نمطٌ ثقافيٌّ جديدٌ أظهره الغزاةُ المفترَضون.

كذلك أظهرَت ثقافةُ العصرِ البرونزيِّ المبكِّر استمرارًا واضحًا في الأدواتِ والبناءِ وطقوسِ الدفنِ وأنماطِ الاستيطانِ مع البرونزيِّ المبكرِ الرابع.

وبذلك سقَط نهائيًّا السيناريو القديم عن الغزوِ البدويِّ (الأموري) من السُّهوب السورية أو جزيرة العرب أو وادي الرافدَين كسببٍ للدمارِ المفاجئِ في مدن وقرى العصرِ البرونزيِّ المبكر، وتخلَّى عن مكانته للإيضاحات المُناخية والإيكولوجية للانهيارِ التدريجيِّ لحضارة العصرِ البرونزيِّ المبكِّر.١٩
وهكذا اتضحَت هويةُ الفترةِ الانتقالية، وأصبح الجميع يرى فيها حقبةً زمنية تمَّت فيها تغيُّراتٌ عديدةٌ؛ مناخيةٌ وثقافيةٌ واقتصادية، محددةٌ إقليميًّا إلى حدٍّ كبير، وحصلَت حوادثُ جعلَت المنطقةَ تعاني من ركودٍ زراعيٍّ وتلجأ إلى وسائلَ عديدةٍ ومختلفةٍ لتأمين البقاء، قام بها سكانُ فلسطين. كثيرون ماتوا، وكثيرون استمرُّوا، وكثيرون غيَّروا النمَطَ الاقتصاديَّ لحياتهم، وكثيرونَ عاشوا في فقرٍ مدقع؛ لأنهم فقدوا الكثيرَ من قُدرات أسلافهم الثقافيةِ والتكنولوجية.٢٠

يبدو أن القدس في العصرِ البرونزيِّ المبكِّر ظهر فيها استيطانٌ مبكرٌ دلَّت عليه ف التي عُثر فيها على الأواني الفَخَّارية لرعاةٍ متنقِّلين. ويرى «شيلوح» أن المبنى الصغيرَ جنوبَ النبع (المُكوَّن من غرفتَين ومقعَد بمحاذاة الجدار) ربما كان مكانًا للعبادة رغمَ عدمِ التأكُّدِ من هذا.

«كان يتعاصرُ تقريبًا مع الفَخَّارِ ذي الكسوةِ الشريطيةِ في شمال فلسطين، الفَخَّارُ الملوَّنُ الذي صُنِعَ في جنوبها، وفي هذا الفَخَّارِ نَجِدُ أنَّ حزَمًا من الخطوطِ المتوازيةِ أو المتموِّجةِ الملوَّنةِ باللون الأحمر أو البُنِّيِّ قد استُخدِمَت استخدامًا واسعًا لزخرفة كلِّ سطحِ الإناء، وغالبًا ما يكونُ سطحُ الإناءِ كُله مُغَطَّى بزخارفَ على شكلٍ شبكي. ويمثِّل هذا العصر خيرَ تمثيلٍ مجموعاتُ المقبرةِ ٣ في أوفيل (القدس)، وكهوف جازر، وجبَّانة عاي، وأريحا (٦–٧) والمدافن المبكِّرة في تل النصبة. ويبدو أنها تمثِّل في جُملتها بداياتِ بناء المدن في المناطقِ الجبلية في جنوب فلسطين. وقد استوردَت مصرُ أوانيَ من فلسطينَ يرجع تاريخها إلى هذا العصر؛ إذ وُجدَت مثلُ هذه الأواني في أبو صير الملق وفي مواقعَ أخرى.» (أولبرايت، ١٩٧١م، ٧٦).

figure
شكل ٣٥: فخَّارٌ من العصرِ البرونزيِّ المبكِّر الأول (أولبرايت، ١٩٧١م، ٧٦).

(٢) المَرجعِيَّةُ التاريخيَّة: مِصرُ وعَامُو (علاقة مِصرَ وفلسطين خلال العصرِ البرونزيِّ المبكِّر)

كانت وثائقُ مصرَ خلال العصرِ البرونزيِّ المبكِّر تُسمِّي فلسطين بأربعةِ أسماءٍ هي.٢١
  • (١)

    حريو شع: وتعني سكان الرمال.

  • (٢)

    منيتو.

  • (٣)

    أوتيو.

    وظهرت هذه الأسماء لغاية ظهور الأسرة المصرية الخامسة.

  • (٤)

    عامو: ظهر هذا الاسم منذ الأسرة السادسة، وهو ذو دلالةٍ إثنيةٍ وأصلٍ ساميٍّ وقد يشير إلى الأموريين.

ويرى ﻫ. ي. ديل ميديكو — استنادًا إلى ألواح «الملك الكبير» الأوغاريتية — أن فلسطين كانت تُسَمَّى مريام Mrym أو موريا:٢٢

وكلمة «موريا» تشير بشكلٍ واضحٍ إلى آمور أو آموريا؛ أي «بلاد الأموريين»، وهذا يتطابق مع الاستيطان المبكِّر للأموريين في فلسطين. ويُشيرُ قِدَمُ هذا الاسمِ إلى أنه كان سابقًا للاسم القديم الشائع عن فلسطين، وهو «بلاد كنعان»، الذي نرى أنه مصطلحٌ محدودُ الاستعمال، ولم يكن قديمًا جدًّا، بل إنه ظهر في نهاية العصرِ الحديديِّ ودلَّ على قومٍ محدَّدين من بلاد الشام.

ونرى أن جبل «موريا» الذي تقوم عليه بقعةُ الحَرمِ القدسيِّ الشريفِ في مدينة القدس ما زال يحتفظُ باسم فلسطينَ القديمِ ويُشير في الوقتِ نفسه إلى استيطانٍ أموريٍّ مبكِّر في القدس.

وللبحث عن علاقة مصرَ بفلسطينَ في العصرِ البرونزيِّ المبكِّر نقول إن الأسرتَين المصريتَين؛ الأولى والثانية، اللتَين أسَّسَتا الدولةَ العتيقةَ في مصر، ثم الأسر التي شكَّلَت الدولةَ القديمةَ (وهي الأسرُ الثالثةُ والرابعةُ والخامسةُ والسادسة) تطلَّعَت كلُّها إلى فلسطينَ باعتبارها عمقًا أرضيًّا لمناجم النُّحاس ومقالع الفيروز في سيناء، وذلك عن طريق حملاتٍ تِجاريةٍ أو عسكرية «وأظهرَت الحفرياتُ في جبيل «بيبلوس» — والتي كانت تهيمنُ على مناطق أشجارِ الأَرْزِ في لُبنانَ ومنذ بداية الألف الثالث قبل الميلاد — أدواتٍ نُقشَت عليها أسماءُ ملوكِ مصرَ منذ السلالةِ الثانيةِ فيما بعدُ. ويَرِد في نقشِ باليرمو الشهيرِ أنَّ سنفرو الأول، من السلالة الرابعة (القرن السادس والعشرون قبل الميلاد) أرسل أسطولًا تِجاريًّا عسكريًّا من أربعين سفينةً لجلب الأخشاب في جبيل.»٢٣
وتصل من عصر الأسرة السادسة (حوالي ٢٣٤٠ق.م.) وثيقةٌ مهمة تشيرُ إلى أن الفرعونَ بيبي الأول أمَر العسكريَّ «وني» بقيادة حملةٍ عسكرية إلى فلسطين، وتُشِير الوثيقة إلى أنه وصل إلى منطقةٍ تُسمَّى «أنف الريم» التي يُعتقَدُ أنها «جبل الكرمل» على الساحل، وانتشر جيشُه في فلسطينَ ليقضيَ على تمردِ مَن يُسمِّيهم ﺑ «سكان الرمال» وهم «حريو شع»؛ أي الأقوامُ الأمورية:
«عاد هذا الجيشُ في سلامٍ بعد أن خرَّب أرضَ ساكني الرمال.
عاد هذا الجيشُ في سلامٍ بعد أن اجتاح أرضَ ساكني السلامِ.
عاد هذا الجيشُ في سلامٍ بعد أن دمَّر محلاتِها المُسوَّرة.
عاد هذا الجيشُ في سلامٍ بعد أن قطع تينَها وكرومَها.
عاد هذا الجيشُ في سلامٍ بعد أن أشعل النار في كل بيوتهم الفاخرة.
عاد هذا الجيشُ في سلامٍ بعد أن ذبح عشراتِ الآلافِ من رجالِ جيوشهم.
عاد هذا الجيشُ في سلامٍ بعد أن حمَل معه جيوشًا كثيرةَ العددِ كالأسرى.»٢٤

وحين دخلَت مصرُ في مرحلة الضعف الأولى تعاظَم شأنُ البدوِ الآسيويينَ الذين كانوا يطرُقون أبوابَ مصرَ في جهة سيناء. وقد ترافق ذلك مع صعود الأكاديين السياسي في العراق وتكوينهم أَوَّلَ إمبراطوريةٍ كبرى في التاريخ. وكان من أثر ذلك ضغطُهُم المستمرُّ على الأموريينَ في غرب الفرات، مما اضطَر بعضَ هؤلاءِ للدخول إلى بلاد الشام وفلسطين، وربما اندفع بعضُهم من هناك إلى مصر؛ ولذلك تَرِد إشارةٌ من الأسرة العاشرة الضعيفة في «إهناسيا» تقول بطرد الآسيويين من مصر، ولكن الأموريين كانوا يبنون مدنًا جديدة في فلسطين على أنقاض المدن القديمة، مثل «تل مرسيم»، إلى الجنوب الغربي من القدس.

١  توماس طومسون، التاريخ القديم للشعب الإسرائيلي، ترجمة صالح علي سوداح، بيروت، ١٩٩٥م، ص١٢١.
٢  نفسه ص١٢١–١٢٤.
٣  نفسه ص١٢٤–١٢٥.
٤  نفسه، ص١٢٥.
٥  Yigal Shiloh, “Jerusalem, The Early Periods and the First Temple Period,” The New Encyclopedia of Archeaology Excavations in the Holy Land, volume 2, Jerusalem, 1933, p. 701.
٦  إبراهيم الفني، القدس عَبْر الحضارة والتراث منذ ستة آلاف عام، عمان، ١٩٩٧م، ص٤١.
٧  نفسه.
٨  Shiloh, op. cit.
٩  Ibid.
١٠  W. Harold Mare, The Archaeology of the Jerusalem, Michigan, 1987, p. 37.
١١  Ibid.
١٢  Benjamin Mazar, The Mountain of the Lord, New York ,1975, p. 164-165.
١٣  L. Y. Rahmani, “Ancient Jerusalem” Funerary Customs and Tombs, part two, Biblical Archaeologist 44,4(1981): 229-230.
١٤  ﻫ. ي. فرانكن، القدس في العصر البرونزي (٣٠٠٠–١٠٠٠) ق. م.، الفصل الأول من كتاب القدس في التاريخ، حرَّر الطبعة الإنجليزية وترجمها الدكتور كامل جميل العسلي، عمان، ١٩٩٢م، ص٣٥.
١٥  نفسه.
١٦  طومسون، المرجع السابق، ص١٢٨.
١٧  فرانكن، المرجع السابق، ص٣٦.
١٨  إلياس شوفاني، الموجز في تاريخ فلسطين السياسي، ط٢، بيروت، ١٩٩٨م، ص٥٧.
١٩  طومسون، المرجع السابق، ص١٣١.
٢٠  نفسه.
٢١  نفسه ص١٣٣.
٢٢  شوفاني، المرجع السابق، ص٥٦.
٢٣  ﻫ. ي. ديل ميديكو، اللآلئ (من النصوص الكنعانية) ترجمة عن كبير كهنة أوغاريت إيلي ميلكو. ترجمة وتعليق مفيد عرنوق، بيروت، ١٩٨٠م، ص٢٨.
٢٤  شوفاني، المرجع السابق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥