المبحث الأوَّل: العَصرُ البُرونزيُّ المُبكِّر (مَنُورَتَا الأَمُوريَّة)
يمتاز العصرُ البرونزيُّ باستعمال معدن البرونز الخليط (من النُّحاس والقَصْدير). وبهذا أصبح الإنسان يستعمل المعادن بالدرجة الأولى، ثم الفَخَّار، وتراجَع استعمالُ الأدواتِ الحجريةِ من أدوات عملٍ إلى أدوات فنٍّ وعمارة.
ظهرَت مع بداية العصرِ البرونزيِّ الكتابةُ التي تُعتبَر نقطةَ تحوُّلِ عصورِ ما قبل التاريخ إلى العصور التاريخية. وقد أصبح من الثابت أنَّ اختراعَ الكتابةِ حصَل حوالَي ٣٢٠٠ق.م. في جنوب العراق على يد السومريين، الذين طوَّروا الرموز المرسومة إلى نوعٍ من الكتابة الصورية، التي استُخدِمَت في البداية لتنظيم شئون المعابد الاقتصادية، ثم اتَّسعَ استعمالُها لتشمل كل شئون الحياة. ورافق ذلك ظهورُ المدنِ الكبيرةِ التي كانت المعابدُ الكبيرةُ تشغلُ وسطَها في الغالب.
وقد أدى نمُو المدنِ واتساعُ تخصُّصاتِها الحضريةِ في بلاد سومر ما بين (٤٠٠٠–٣٥٠٠ق.م.) إلى التأثيرِ في المحيطِ السومري، ثم الانتقالِ إلى أصقاعٍ أبعَد؛ فقد ظهرَت المدنُ المصرية، ثم ظهرَت المدنُ الشاميَّةُ ومدنُ إيرانَ والأناضول. وكانت سومر قلبَ هذه المدنِ النابضَ بنواميسِ الحضارةِ الجديدة من آدابٍ وفنونٍ وشرائعَ وديانةٍ وعُمران … إلخ.
وكان ظهورُ المدن الشامية مرافقًا لنمُو الطموحات السياسية والاقتصادية لمُدن دولِ العراقِ ومِصر الضاغطةِ على جيرانها. وهكذا وقعَت المدنُ الشاميةُ تحت ظلالِ التوسعِ والهيمنةِ العراقيةِ أولًا ثم المصرية ثانيًا. وكان هذا عاملًا أساسيًّا في بقاء نظام دولة المدينة في الشام وعدمِ ظهورِ الدولِ أو الدولةِ المركزية الكبيرة فيها.
ورغم ذلك فإن مشهدَ ظهورِ المدن — في الشام وغيرِها — لا يُلغي أبدًا وجودَ القرى والمزارعِ والحقولِ ومناطقِ الاستيطانِ الرعوية؛ فقد ظلت هذه بجوار تلك، ونشأَت عن هذا التجاورِ صراعاتٌ محليةٌ وإقليميةٌ سنتحدثُ عنها بالتفصيل.
ولعل أبرزَ ما نلمحُه في بداية العصر البرونزي؛ أي في العصر البرونزيِّ المبكِّرِ في فلسطين، هو هذا التجانسُ الإثنيُّ واللغوي، والذي يعود بجذوره الأولى إلى نهاية النيوليت وبداية الكالكوليت (الألف الخامس قبل الميلاد)؛ فقد تدفقَت على فلسطين الموجاتُ الساميةُ الأولى واستقرَّت بها، ولعل جُلَّها كان من الأموريين الذين اختلطوا بسلامٍ مع فلاحي النيوليت والكالكوليت الأصليين، ولم تظهَر النتائجُ المبدعةُ لهذا الاختلاطِ إلا في العصرِ البرونزي.
وقد نفى طومسون وجودَ ثغرةٍ حضاريةٍ بين الكالكوليت (٤٥٠٠ق.م.) والبرونزيِّ (٣٥٠٠ق.م.) ربما أشارَتْ إلى ظهور غزواتٍ قام بها سكانٌ جُدُدٌ أَدَّت إلى اقتلاع مزارعي ورعاة العصرِ الحجريِّ كما كان شائعًا. ورأى أن هناك تواصُلًا ثقافيًّا مما يوحي بأحد أمرَين؛ إما أنَّ الهجراتِ الساميَّة وصلَت إلى فلسطين قبل الكالكوليت أو بعده. والراجحُ في هذا الأمرِ هو حصولُها قبل الكالكوليت.
ونرى في النظرية التي تقول إن الهجراتِ الساميَّةَ جاءَت من جزيرة العربِ ضعفًا شديدًا لعدم لياقتها الأركيولوجية. ونرى أن الساميِّينَ ظهروا في أعالي وادي الرافدَين (ميزوبوتاميا العليا) أولًا، وأنهم بسبب انشطارِهم السريعِ والتنافسِ القويِّ بينهم وبين غيرهم من الأقوام كالسومريين — على حيازة المدن والأراضي الزراعية في وادي الرافدَين — بدءُوا يتدفَّقون غربًا بأعدادٍ كبيرة، وكانت أوَّل وأقدَم وأكبر الموجاتِ الساميَّةِ هي الموجة الأمورية، التي نرى أنها وصلت إلى فلسطين خلال الألف الخامس قبل الميلاد، لكنَّ استقرارَهم التامَّ تحقَّق في شرق سوريا والأردن أكثرَ منه في غرب سوريا ولُبنانَ وفلسطين التي استقبلَت الموجةَ الكنعانيةَ لاحقًا، وهي الموجةُ التوءَمُ للموجة الأمورية.
وفي جميع الأحوال استطاع العصرُ البرونزيُّ في فلسطين أن يقدِّمَ ثقافةً أمورية/كنعانية متميزةً بدأَت بزراعة الحبوبِ والأشجارِ وتربيةِ الحيوان، وانتهت ببناء المدنِ الكبيرةِ ومن ضمنها القدس.
- (١)
العصر البرونزي المبكِّر (٣٣٠٠–٢٠٠٠ق.م.)
- (٢)
العصر البرونزي الأوسط (٢٠٠٠–١٥٥٠ق.م.)
- (٣)
العصر البرونزي المتأخِّر (١٥٥٠–١٢٠٠ق.م.)
العَصرُ البُرونزيُّ المُبكِّر (٣٣٠٠–٢٠٠٠ق.م.) القُدسُ الأَمُوريَّة
لا نعرفُ على وجه الدقة متى ظهَر الأموريون في التاريخ، ولا المكانَ الأوَّلَ الذي نزَحوا منه، ولكننا — أمام القرائنِ الآثاريةِ والتحليل العلمي الدقيق — نستطيع القول إن الأموريين ظهَروا في العراق القديم؛ وتحديدًا على ضفاف نهرِ الفراتِ الأوسط، وفي الصحراء العراقية السورية الأردنية الحاليَّة، وربما كان ذلك في حدود ٤٠٠٠ق.م. أو قبل ذلك بقليل. لكن الوثائق السومرية هي التي تُخبِرنا في الألف الثالث قبل الميلاد عن وجودهم كقبائل غرب الفرات، وتُسمِّيهم «مارتو» وباللغة الأكدية «أمورو»، والتي تعني «الغرب» أو «الذين يسكنون غربًا». ومن المؤكَّد أن ذلك يدُل على أنهم كانوا يسكنون غرب الفرات. وقد ثبت لنا الآن أن هذه التسميةَ لها علاقةٌ باسم الإلهِ القوميِّ للأموريينَ وهو «أمورو» الذي تطوَّرَ عن «مُر» أو «مور»، وهو إلَه الطقسِ والسماءِ معًا عند الأموريين، وكان السومريونَ يسمُّونَ جبلَ باسار (بِشْري) في بادية الشام ﺑ «مرتفعات الأموريين». وقد وُضعَت مدينةُ ماري وقلعتُها عند السومريين كمدينةٍ حدوديةٍ لصدِّ هجماتِهم، رغم أن «ماري» مشتقة من اسم «مر» أو «مار» الأموريِّ بطبيعة الحال، وهكذا أصبَحَت عليه فيما بعدُ.
كان الأموريون — الذين لا يُعرَفُ حجمُهم وتأثيرُهم — أعظمَ الموجاتِ الساميَّةِ وأقدمَها على الإطلاق. وهم — بسبب انفراطِ وتهشُّم تاريخِهم — ظهروا كأقوامٍ بدويةٍ غازيةٍ ومهاجرةٍ فقط، لكننا عندما نجمع الحقائقَ المبعثرةَ هنا وهناك، فإننا نجدُ أن جُلَّ ما كان يُسمَّى ﺑ «الساميين» يمثِّلهم الأموريون بامتياز.
وهكذا انتشَر الأموريون باتجاهاتٍ مختلفة؛ شرقًا نحوَ السهلِ الرسوبيِّ لبلاد الرافدَين، وغربًا نحو بلاد الشام، ثم نحو مِصرَ وشمالِ أفريقيا، وشمالًا لينشطرَ عنهم الآراميون، وجنوبًا على شكلِ قبائلَ بدويةٍ تجوبُ شمالَ جزيرةِ العرب.
وصلَت القبائلُ الأموريةُ إلى شمالِ بلادِ الشامِ مبكرة، وأسَّسَت مدنًا كثيرةً مثلَ إبلا وماري، ثم مدن يمخد (يمحاض) وألالاخ وكركميش وقطنا وعمورو في سوريا.
وكان انتشارُ القبائلِ الأموريةِ في جنوب بلاد الشام كبيرًا أيضًا؛ فقد دخلَت إلى فلسطين، واستوطنَت جانبَي الغَور، وأسَّسَت في فلسطينَ مُدُنًا لا نملكُ ما يُوثِّقُ أسماءَها. وكذلك في الأردن التي كان حجمُ الاستيطانِ الأموريِّ فيها أكبرَ بكثيرٍ من فلسطين. وفي نهاية العصرِ البرونزيِّ المبكرِ استطاعَت القبائلُ الأموريةُ أن تؤسِّسَ ثلاثَ ممالكَ كبيرة، وهي «شوتو العليا، شوتو السفلى، كوشان» في شمال ووسط وجنوب الأردن.
أما في فلسطين فقد أفسحَت القبائلُ الأموريةُ المجالَ لاحقًا للقبائل الكنعانيةِ التي تنتمي لهجرةٍ أموريةٍ متأخرة قليلًا، وهو ما جعل الكثافةَ الأموريةَ في الأردن أكبرَ منها في فلسطين.
هكذا إذن كان العصرُ البرونزيُّ المبكِّرُ في فلسطين عصرًا أموريًّا ظهرَت خلالَه المدنُ الفلسطينيةُ الأولى في العصور التاريخية التي نجهل أسماءَها بسبب غيابِ الكتابةِ وعدمِ ظهورِها في فلسطين في ذلك العصر، إلا أن التلالَ القديمةَ التي كانت تملأ أرضَ فلسطين كانت بلا شكٍّ مراكزَ تلك المدنِ البرونزيةِ المبكِّرة.
- (١)
زيادةُ الأمطار.
- (٢)
انخفاضُ درجاتِ الحرارة.
- (٣)
انخفاضُ مستوى البحر.
- (٤)
جفافُ الكثيرِ من مستنقَعاتِ الكالكوليت وتحوُّلها لحقولٍ زراعيةٍ خصبة.
- (٥)
دخولُ الزراعةِ إلى منطقة بيسان ووادي الأردن.
- (٦)
انخفاضُ بحيرةِ بيسانَ إلى المجالِ الحاليِّ لبحر الجليل (بُحيرة طبرية).
وهكذا تكونُ المدنُ البرونزيةُ الأولى قد ظهرت بطابعٍ أموري وثقافةٍ تغلبُ عليها الزراعة، وتشكِّل التجارةُ هامشًا. والسؤالُ الذي يجب أن نسألَه هنا: وماذا بشأن القدس؟ هل ظهرَت مدينةٌ أمورية على أرضها أم بقيَت مستوطنةَ نيوليتية أو كالكوليتية، أم ماذا؟
وسيأتينا الجواب أولًا من الأركيولوجيا (الحفريات الآثارية).
أولًا المَرجِعيَّةُ الآثاريَّة (أركيولوجيا القُدسِ في العَصرِ البُرونزيِّ المُبكِّر)
الطبقة | الفترة الزمنية | تاريخها | ملاحظات |
---|---|---|---|
١ | العصر الوسيط وما بعده | القرن ١٤–٢٠م | |
٢ | من العربي إلى الأيوبي | القرن ٧–١٣م | |
3A | بيزنطي | القرن ٦–٧م | |
3B | بيزنطي | القرن ٤–٦م | |
٤ | روماني متأخر | القرن ١–٤م | |
٥ | روماني مبكر | من الفترة اليهودية إلى ٧٠م | بقايا محطَّمة |
٦ | روماني مبكر | من الفترة اليهودية إلى ٧٠م | |
7A | هيلنستي (حشموني) | النصف الأول من القرن الأول ق.م. لغاية ٣٧ق.م. | |
7B | هيلنستي (حشموني) | النصف الثاني من القرن الثانيق.م. لغاية ٣٧ق.م. | |
٨ | هيلنستي مبكر | القرن ٤–٢ق.م. | |
٩ | فارسي | القرن ٤–٦ق.م. | |
10A | الحديدي الثاني | القرن السادس ق.م. | معظمها نُفايات حطام تعود لـ ٥٨٦ق.م. |
10B | الحديدي الثاني | النصف الثاني من القرن السابع ق.م. | يقسَّم إلى B-C ١٠ في منطقة G فقط |
١١ | الحديدي الثاني | القرن السابع ق.م. | أغلب منتصف القرن ٧ق.م. |
١٢ | الحديدي الثاني | القرن الثامن ق.م. | أغلب زمن حزقيا |
١٣ | الحديدي الثاني | القرن التاسع ق.م. | |
١٤ | الحديدي الثاني | القرن العاشر ق.م. | |
١٥ | الحديدي الأول | القرن ١٢–١٠ق.م. | |
١٦ | البرونزي المتأخر | القرن ١٤–١٣ق.م. | |
١٧ | البرونزي المتوسط الثاني B | القرن الثامنَ عشَر ق.م. | |
18A | البرونزي المتوسط الثاني B | القرن الثامنَ عشَر ق.م. | |
18B | البرونزي المتوسط الثاني B | القرن الثامنَ عشَر ق.م. | |
١٩ | البرونزي المبكِّر الثاني والثالث | النصف الأول من الألف الثالث ق.م. | |
٢٠ | البرونزي المبكِّر الأول | القرن ٣١ق.م. | |
٢١ | الحجَري النُّحاسي | النصف الثاني من الألف الرابع ق.م. |
الطبقة اﻟ «٢١»: كانت كشوفات الطبقة اﻟ «٢١» التي تعود إلى العصر الحجَري النُّحاسي (الكالكوليت) — في حدود ٤٠٠٠ق.م. — عبارةً عن مجموعةٍ من الآبار المناظرة لما كُشف عنه في أريحا وشكيم ولخيش وتل العجول (في غزة).
وهذا يعني أن مدينة القدس قد بُنيَت مع بداية العصر البرونزيِّ المبكِّر؛ أي قبلَ مجيءِ الكنعانيينَ واليبوسيينَ أو بنائِهم للمدينة كما هو شائعٌ جدًّا. وهذا يُشير إلى أن القدس الأولى كانت في العصرِ البرونزيِّ المبكِّر، وأنها على الأرجح كانت ذاتَ هُويةٍ أمورية.

- (١)
التخطيطِ المعماريِّ الدائريِّ في شكل البيوت.
- (٢)
إدخالِ الشكلِ المربَّعِ في البيوت وحَفرِ الآبارِ فيها.
- (٣)
الاعتمادِ على الأعمدةِ الكبيرةِ وسطَ البيوت.
- (٤)
الشكلِ الدائريِّ للأسوار.
وقد عُثر فيما بعدُ على قواعد الأعمدة التي كانت تحملُ سقوفًا لأبنية؛ إضافةً إلى الموجودات الفَخَّارية الدالَّة على حضارة تلك الحِقبة. ودلَّت الأثرياتُ المكتشفةُ كذلك على اهتمام الإنسان بالزراعة في العصرِ البرونزيِّ المتقدم؛ حيث وُجدَت الموادُّ والأدواتُ الزراعيةُ الدالَّةُ على أن المنطقة كانت صالحة للزراعة بكل المقاييس. وقد فُوجئ العلماءُ كثيرًا بوجود هذا العصرِ في القدس في حين كانوا يعتقدونَ بعدم وجود سُلمٍ متواصلٍ من الحضارة في الطبقات الأرضية للمدينة ينتمي لتلك الفترات المتباعدة.
وقد أشارت القِطعُ الخزفيةُ والألواحُ المستخرجةُ من تل مرديخ (إبلا) إلى ورود اسم «أورسليم» حوالي منتصف «العصر البرونزي» المبكر، ولكننا لا نستطيعُ أن نقرِّرَ على وجه الدقة فيما إذا كانت القدسُ تحديدًا هي المعنية بذلك.
ويُمكِننا من خلال كلِّ هذه الدلائلِ الآثاريةِ الحديثُ عن «مدينة القدس الأولى» التي ظهرَت في بداية العصرِ البرونزيِّ المبكِّر، والتي كانت صغيرةً جدًّا على مرتفع أوفل وقرب نبع عين جيحون … ومن المؤكَّد أن هذه المدينةَ شهدَت استيطانًا بشريًّا محددًا ونشاطًا زراعيًّا واضحًا، وأنها مارسَت طقوسَ الدفن؛ إمَّا في البيوت وإمَّا في قربها.

الدَّورُ الرابعُ مِنَ البُرونزيِّ المُبكِّر (٢٣٥٠–٢٠٠٠ق.م.).
إذا كانت الفتراتُ الثلاثُ الأولى من العصرِ البرونزيِّ المبكِّر قد شهدَت رَفَاهًا ونمُوًّا وازدهارًا في فلسطين بأكملها، وبُنيَت مدينةُ القدسِ لأوَّل مرَّة، فإن الفترةَ الرابعةَ منه شهدَت فجأةً جفافًا قاسيًا ارتفعَت فيه درجاتُ الحرارةِ وشَحَّتِ الأمطارُ وقصُر فصلُ الشتاءِ وطال فصلُ الصيفِ في السنة، وانخفضَت مناسيبُ المياه.
وبذلك يمكنُنَا أن نفسِّر تفسيرًا أركيولوجيًّا مقنعًا وجودَ الأموريين الكثيفَ شرقَ الأردن وشمالَ الجزيرةِ العربية وقِلَّتَه لاحقًا، في فلسطين؛ حيث سيُظهِرُ العصرُ البرونزيُّ المتوسطُ كثافةً كبيرةً للكنعانيينَ في فلسطين باعتبارها منطقةً شبهَ مهجورةٍ في نهاية العصرِ البرونزيِّ المبكِّر.
وربما كانت القدسُ قد دُمِّرَت أو هُجِرَت في هذا الوقت، وكانت كنيون قد عثَرَت في القدس على أحدَ عشرَ قبرًا تعود لهذه الفترة.
وهناك من يرى أن دمارًا مناخيًّا شاملًا عصفَ بمدن الشرق الأدنى القديمِ مع نهاية الألف الثالث وبداية الألف الثاني قبل الميلاد؛ أي في نهاية العصرِ البرونزيِّ المبكِّر؛ حيث سقطَت هذه المدنُ في ظروفٍ مُناخيةٍ بالغة التعقيد.
وهذا يعني أن أشكال أواني البرونزيِّ المبكِّر الرابع ترتبطُ ثقافيًّا مع نظيراتها في العصرِ البرونزيِّ المبكِّرِ الأول والثاني والثالث، ولا يُوجَد نمطٌ ثقافيٌّ جديدٌ أظهره الغزاةُ المفترَضون.
كذلك أظهرَت ثقافةُ العصرِ البرونزيِّ المبكِّر استمرارًا واضحًا في الأدواتِ والبناءِ وطقوسِ الدفنِ وأنماطِ الاستيطانِ مع البرونزيِّ المبكرِ الرابع.
يبدو أن القدس في العصرِ البرونزيِّ المبكِّر ظهر فيها استيطانٌ مبكرٌ دلَّت عليه ف التي عُثر فيها على الأواني الفَخَّارية لرعاةٍ متنقِّلين. ويرى «شيلوح» أن المبنى الصغيرَ جنوبَ النبع (المُكوَّن من غرفتَين ومقعَد بمحاذاة الجدار) ربما كان مكانًا للعبادة رغمَ عدمِ التأكُّدِ من هذا.
«كان يتعاصرُ تقريبًا مع الفَخَّارِ ذي الكسوةِ الشريطيةِ في شمال فلسطين، الفَخَّارُ الملوَّنُ الذي صُنِعَ في جنوبها، وفي هذا الفَخَّارِ نَجِدُ أنَّ حزَمًا من الخطوطِ المتوازيةِ أو المتموِّجةِ الملوَّنةِ باللون الأحمر أو البُنِّيِّ قد استُخدِمَت استخدامًا واسعًا لزخرفة كلِّ سطحِ الإناء، وغالبًا ما يكونُ سطحُ الإناءِ كُله مُغَطَّى بزخارفَ على شكلٍ شبكي. ويمثِّل هذا العصر خيرَ تمثيلٍ مجموعاتُ المقبرةِ ٣ في أوفيل (القدس)، وكهوف جازر، وجبَّانة عاي، وأريحا (٦–٧) والمدافن المبكِّرة في تل النصبة. ويبدو أنها تمثِّل في جُملتها بداياتِ بناء المدن في المناطقِ الجبلية في جنوب فلسطين. وقد استوردَت مصرُ أوانيَ من فلسطينَ يرجع تاريخها إلى هذا العصر؛ إذ وُجدَت مثلُ هذه الأواني في أبو صير الملق وفي مواقعَ أخرى.» (أولبرايت، ١٩٧١م، ٧٦).

(٢) المَرجعِيَّةُ التاريخيَّة: مِصرُ وعَامُو (علاقة مِصرَ وفلسطين خلال العصرِ البرونزيِّ المبكِّر)
- (١)
حريو شع: وتعني سكان الرمال.
- (٢)
منيتو.
- (٣)
أوتيو.
وظهرت هذه الأسماء لغاية ظهور الأسرة المصرية الخامسة.
- (٤)
عامو: ظهر هذا الاسم منذ الأسرة السادسة، وهو ذو دلالةٍ إثنيةٍ وأصلٍ ساميٍّ وقد يشير إلى الأموريين.
وكلمة «موريا» تشير بشكلٍ واضحٍ إلى آمور أو آموريا؛ أي «بلاد الأموريين»، وهذا يتطابق مع الاستيطان المبكِّر للأموريين في فلسطين. ويُشيرُ قِدَمُ هذا الاسمِ إلى أنه كان سابقًا للاسم القديم الشائع عن فلسطين، وهو «بلاد كنعان»، الذي نرى أنه مصطلحٌ محدودُ الاستعمال، ولم يكن قديمًا جدًّا، بل إنه ظهر في نهاية العصرِ الحديديِّ ودلَّ على قومٍ محدَّدين من بلاد الشام.
ونرى أن جبل «موريا» الذي تقوم عليه بقعةُ الحَرمِ القدسيِّ الشريفِ في مدينة القدس ما زال يحتفظُ باسم فلسطينَ القديمِ ويُشير في الوقتِ نفسه إلى استيطانٍ أموريٍّ مبكِّر في القدس.
وحين دخلَت مصرُ في مرحلة الضعف الأولى تعاظَم شأنُ البدوِ الآسيويينَ الذين كانوا يطرُقون أبوابَ مصرَ في جهة سيناء. وقد ترافق ذلك مع صعود الأكاديين السياسي في العراق وتكوينهم أَوَّلَ إمبراطوريةٍ كبرى في التاريخ. وكان من أثر ذلك ضغطُهُم المستمرُّ على الأموريينَ في غرب الفرات، مما اضطَر بعضَ هؤلاءِ للدخول إلى بلاد الشام وفلسطين، وربما اندفع بعضُهم من هناك إلى مصر؛ ولذلك تَرِد إشارةٌ من الأسرة العاشرة الضعيفة في «إهناسيا» تقول بطرد الآسيويين من مصر، ولكن الأموريين كانوا يبنون مدنًا جديدة في فلسطين على أنقاض المدن القديمة، مثل «تل مرسيم»، إلى الجنوب الغربي من القدس.