المبحث الثاني: العَصرُ البُرونزيُّ الأوسَط (يورسَالِم الكَنعَانيَّة) (٢٠٠٠–١٥٥٠ق.م.)
بُنيَت مدينةُ القدسِ ثانيةً في العصرِ البرونزيِّ الأوسطِ على مرتفع أوفل، وقد اعتاد المؤرخونَ على تسميتها ﺑ «يبوس» أو «القدس اليبوسية»، لكننا نعتقدُ أن القدسَ اليبوسيةَ ظهرَت في العصرِ البرونزيِّ المتأخر، ونرى أن مدينةَ القدسِ — في العصر البرونزيِّ الأوسط — أنشأها عمومُ الكنعانيينَ وليس طبقتهم الأرستقراطية التي كانت تتزعمُها «قبيلة يبوس» الكنعانية؛ فقد تولَّى هؤلاءِ إعادةَ بناءِ المدينة بعد دمارها في نهاية البرونزيِّ الأوسط.
أمَّا قدسُ العصرِ البرونزيِّ الأوسط، وهي القدسُ الثانية، فنستطيع أن نُطلِقَ عليها اسم «القدس الكنعانية» وبالتحديد «أورو سالم» التي تعني «مدينة سالم»؛ أي مدينةَ الإله «سالم» الذي كان إلَه المدينةِ الحاميَ والرئيسَ لها.
وكان من تقاليدِ الكنعانيينَ الدينيةِ عبادةُ آلهةٍ كبرى تشترك في عبادتها جميعُ المدنِ الكنعانية، مثل «الإله إيل، الإله بعل، الإلهة عشيرا … إلخ». وكان لكل مدينةٍ كنعانيةٍ إلَهٌ خاصٌّ بها هو الإلَه الحامي بها، والذي تُعرَفُ به، والذي غالبًا ما تشتقُّ اسمَها منه، مثل «بيت شان التي تُسمَّى الآن بيسان؛ فهي مدينةُ الإله شان، وأريحا مدينةُ إلَهِ القمرِ يرح، وكذلك أورو سالم مدينةُ الإله سالم».
والحقيقة أنه يُمكِن أن نقول أشياءَ كثيرةً عن هذه المرحلة؛ ولذلك فضَّلْنا تقسيمَ مبحثِنا هذا إلى أربعةِ حقولٍ أو مرجعياتٍ هي المرجعيات «الأركيولوجية، التاريخية، الميثولوجية، الدينية».
أوَّلًا: المَرجعِيَّةُ الآثاريَّةُ (أركيولوجيا القُدسِ في البُرونزِيِّ الأَوسَط)
قدَّمَت لنا كنيون، عام ١٩٦١م، كشفًا أثَريًّا مهمًّا لمدينة القدس في العصرِ البرونزيِّ الأوسط؛ فقد عثَرَت على أبنيةٍ تقعُ أسفلَ السفحِ الشرقيِّ لجبل «أوفل»، في الطبقات (١٧، ١٨، ١٩) قربَ أنقاضِ مدينةِ القُدسِ الأولى.
وقد استنتجَت كنيون بعد حفرياتها في غرب قمة أوفل أن التوُّسعَ الشرقيَّ للمدينة جعل «نبع جيحون» داخلَها، في حين كان السكان قبل هذا التوسُّعِ يُضطَرون إلى الذهاب خارجَ السورِ لجلب الماء. (خارطة ٣).

(١) السُّور
كانت القدسُ الكنعانيةُ محاطةً بسورٍ من الطين والحجر من جهاتها الأربع، وكان سُمكُ هذا السورِ يبلغُ حوالي مترَين، وأمامَهُ خندقٌ بعرض أحدَ عشرَ مترًا.
وكان لهذا السور بوابةٌ تقع في الجهة الشمالية تؤدي عَبْر طرقٍ ملتويةٍ إلى «عين جيحون» الواقعةِ في الجنوب، ويدعونا هذا للتساؤل: لماذا كانت العينُ جنوبَ السورِ والبابُ شمالَ السور، في حين كانت المدينةُ بأكملها قد بُنيَت في هذا المكانِ بسبب هذه العين.
ويبدو أن السببَ في ذلك هو رغبةُ أهلِ المدينةِ في إبقاء العينِ بعيدةً عن البوابة لأغراضٍ أمنيةٍ ودفاعية .
وقد أَرَّخَتْ كنيون هذا السورَ إلى حوالي (١٨٠٠ق.م.) وكانت قد اكتشَفَت أيضًا بقايا حُطامِ القلعةِ التي بُنيَت على أرضٍ صخريةٍ صلبة تعود إلى العصر البرونزيِّ الأوسطِ الثاني — أ — (١٩٥٠–١٧٥٠ق.م.) والذي استمرَّ استعمالُه لبعض الوقت. وكان هناك قربَ عين جيحون بقايا أبراجِ السور، وهناك بوابةٌ كبيرةٌ في السور يُطلَقُ عليها اسمُ «بوابة النبع». (انظر شكل ٤٠).

بُني السورُ على ذُروةِ طبقةِ المدرجاتِ البارزةِ من الحجر حوالي ٢٥ مترًا فوق أرض المنحدَر، وهذا السور يتكوَّن من أحجارٍ كبيرة، وقد بُني كَسُورٍ عموديٍّ بسُمكِ ٢٫٥ مترًا.
(٢) المَقبرَةُ العاليَة
أما المقبرة التي تقع جنوبَ القدس (عند موقع المركزِ الرئيسيِّ للأمم المتحدة)، فربما تشير إلى خاصيَّةٍ أخرى تعود للعصرِ البرونزيِّ المتأخرِ الثاني.
وفي جبل الزيتون عُثر على هياكلَ عظميةٍ كاملةٍ في كهوف قرية «هبلة الحمد» قربَ سلوان، وعلى فخَّاريَّاتٍ وأحجارٍ ثمينة وأدواتٍ برونزية.
(٣) عين جيحون

ويبدو أن السبب الرئيسي لاختيار موقع القدس الأولى والثانية فوق منحدَر مرتفع أوفل — وليس فوق منحدَر صهيون الذي هو أكبر من منحدَر أوفل — كان بسبب عين جيحون هذه، والتي كانت مصدرَ المياهِ الرئيسيَّ لأهل القدس اليبوسيين، وكانت تبتعد نحو ٣٠٠ متر إلى الجنوبِ الشرقيِّ من مدينة القدس الأولى والثانية.
أما عينُ روجل التي كانت تُسمَّى «بئر أيوب» فهي المصدرُ الثاني للمياه في القدس بعد عين جيحون.
(٤) الصَّخرَةُ المُقدَّسة
يبدو أن الصخرةَ المقدَّسة لبيت المقدس — والتي بنى فوقها الخليفةُ الأمويُّ عبدُ الملك بن مَروانَ قُبةَ الصخرة — كانت مقدَّسةً عند الكنعانيينَ بصفةٍ عامَّة، ثم عند اليبوسيين بصفةٍ خاصَّة .
ورغم أن هذه الصخرةَ كانت خارجَ أسوارِ مدينةِ القدسِ الكنعانية، وعلى مرتفع موريا، لكنها كانت مقدسةً مثل جبل موريا نفسه.
لا يُمكِننا تأييدُ مثلِ هذه الاستنتاجاتِ لغياب الأدلةِ الكافية.
(٥) الآثارُ الماديَّةُ المَنقُولَة
- (١) الجِرارُ الأسطوانية Cylindrical Juglet: وهي جِرارٌ فَخَّاريَّةٌ عُثر على ما يُشبِهُها في فارا وغزَّة ولخيش، وتنتمي لفترة الهكسوس، واستعملَها اليبوسيون بعدهم، وقد استُعمِل بعضُها لدفن الموتى في نهاية العصرِ البرونزيِّ الوسيط، واستمرَّ ذلك إلى العصرِ البرونزيِّ المتأخر.٨شكل ٣٩: جرارٌ أسطوانيةٌ من المقبرة العالية في القدس. المرجع: Mare 1987: 49.
- (٢) الجِرارُ الصغيرةُ المصبوغةُ والأوعية Small Painted Jars Bowls: وهي حاوياتٌ فَخَّاريةٌ عُثر عليها في المقابر اليبوسية، وتشيرُ إلى العصرَينِ البرونزيِّ الوسيطِ والمتأخر، وتظهر فيها ألواحٌ عرضيةٌ بارزةٌ تشبهُ تلك التي تظهر في الجِرار المسينية. وهناك جِرارٌ ذاتُ جوانبَ مستقيمةٍ أو منحنية، وهي على العموم ذاتُ قاعدة، وقد عُثر على آلاف الجِرار التي تحمل انحناءً حادًّا على جوانبها. وهناك جِرارٌ ذاتُ فمٍ يشبهُ قرصَ البوق، وقاعدتُه مُدوَّرةٌ ومسطَّحةٌ وحلقيةٌ.٩شكل ٤٠: جِرارٌ صغيرةٌ وأوعية. المرجع: Mare 1987: 49.
- (٣) الأباريقُ Jugs: عُثر عليها في أماكنِ الدفنِ اليبوسيةِ وفي المقبرة المرتفعة، ولها عنقٌ صغير، أو بدون عنقٍ تمامًا، ولها أيدٍ تظهر إمَّا من الحافة أو الرقبة إلى الأكتاف، وهناك أباريقُ قرنفليةٌ وثنائيةُ التَّحدُّب، واكتُشفَ ما يُشبِهُها في حازور.١٠
- (٤) الجِرارُ المدبَّبة Dippers: عُثر عليها في المقبرة العالية، وبعضُها له قاعدةٌ مُدوَّرةٌ تغَطي قاعدتَه المدببة، وتُشبِهُ تلك التي وُجدَت في لخيش.
- (٥) الجِرارُ الكبيرة Large Jars: عُثر عليها في المقبرة العالية.شكل ٤١: جِرارٌ كبيرةٌ عُثر عليها في المقبرة العالية. المرجع: Mare, 1987: 50
- (٦) الأدواتُ والأوعيةُ الحَلقيَّةُ القَاعِدة Ring-Base Ware: عُثر عليها في المدافن اليبوسية، وعُثر على ما يُشابِهُها في حازور وأريحا.
- (٧) الكئوسُ والأوعيةُ القاعدية Goblets or Pedestal Vases: وُجدَت في المدافن اليبوسية.
- (٨) المصابيح Lamps: منحَتْنا المقبرةُ العاليةُ مئاتِ المصابيحِ الفَخَّاريَّة، وكان معظمُها مكسورًا، وهي من النوع الصَّحني، ووُجدَ ما يُشبِهُها في مجدو.١١
- (٩)
أدواتٌ فخَّاريَّةٌ مختلفةٌ: مثل الدوارقِ والكئوسِ والكسر الفَخَّاريَّة لأشكالٍ نسائيةٍ ولرموزٍ قضيبية، والأواني ذاتِ الأشكالِ الحيوانيةِ كالثَّور.
- (١٠) المرمرُ والزجاجُ الخزفي Alabaster and Faience Glass: وقد قام بِن دور Bin Dor بدراسة المرمر والزجاج الخزفي اليبوسي، ولاحظ أن هناك صلاتٍ تجاريةً مع مصرَ تشير إليها هذه الصناعات. وهناك فقط قطعتانِ من الزجاج، كلاهما على شكل صفحتَين معدنيتَين، وُجدَتا في المقبرة العالية. وقد عُثر في تل الدوير ولخيش ومجدو على أشياءَ مشابهةٍ تعود إلى (١٥٥٠–١٤٧٩ق.م.) وهناك خمسُ أوعيةٍ خزفيةٍ مصنوعةٍ من الرمل والطمي موجود مثلها في لخيش وأريحا. وعُثر في المقبرةِ العاليةِ على (٢٨) خرزةً مصنوعةً من عجينةٍ زجاجية، وأحيانًا من حجَر، ولها عدةُ ألوانٍ هي الأحمرُ والأبيضُ والأزرقُ والبُنيُّ والأَسوَد.١٢
- (١١) الأدواتُ المعدنية: من الأدوات المعدنية التي وُجدَت في المقبرةِ العاليةِ كان هناك ما يلي:١٣
- (أ)
٧٥ شفرة برونزية (أو نُحاسية؟).
- (ب)
حوالي ٢٤ حلقةً (شكلها الحلقي ما زال متصلًا).
- (جـ)
حوالي ٤٠ دبوسًا مسماريًّا (معظمها محفوظ في عيِّنة).
- (د)
٣ إبر.
- (أ)
- (١٢) الموادُّ العظميةُ: هناك ما يقرُب من ١٦ صفحةً عظميةً صفراء — ونادرًا ما تكون بيضاء — في المقبرة العالية، وتعود للعصر البرونزيِّ الوسيط، وهناك أربعُ عظامٍ وحجرتانِ أسماها سالار Sallar المِغزَل المسطَّح.١٤
- (١٣) الجعْرَان (الخنافس السوداء) Scarabs: عُثر على ستة جعْرانات وجُعيل Scaraboid وُجدَت في المقبرة العالية، وقد صُنِّفَت على أنها هكسوسية، ثم على سبعة جعْرَانات أخرى. وقرَّر سالار أن بعضَها يرجع لفترة ما قبل الهكسوس، وبعضُها خلالَ فترةِ الاحتلالِ المصريِّ في زمن تحتمس وما بعده.١٥
وقد وُجدَ ما يُشابِهُها في أريحا، تل بيت مرسيم، لخيش، مجدو وحاصور وتل الدوير. وكانت ظاهرةُ الجعْران — في الآثار الفلسطينية والأردنية — واضحةً في فترة الهكسوس وما بعدها. ولا شك أن هذه الجعْرانات إمَّا مصريةُ الصنعِ وإمَّا متأثرةٌ بالصناعة المصرية، وكانت الجعْراناتُ تُستخدَمُ كأختامٍ وأحيانًا كتعاويذ.
في البرونزي الوسيط ظهرَت عدة قرًى زراعية قرب القدس في الوديان المحيطة بها، ورغم قلة السكن فيها (حوالي ١٠٠٠ نسمة) لكن سور المدينة كان موجودًا، وجرى تطوير النبع وشق نفق ورن «التنين». وقد اكتسبَت المدينة أهميةً اقتصادية لكونها كانت مركزًا إقليميًّا للتوزيع، وكان سكانها مُتْرَفين، توضِّح ذلك بقايا قلائدهم والخرزات الملوَّنة لها، وتضمينات الأثاث العظمية.

المرجع: إبراهيم، معاوية، الموسوعة الفلسطينية، القسم الثاني، المجلد الثاني، ١٩٩٠م، ص١٠١.
-
(أ)
«ذُكِر أن اسم القدس «روشاليمو/Rushalimmu» كان محفورًا على قطع أوانٍ فَخَّاريَّةٍ مُكسَّرةٍ تمَّ اكتشافُها في مصر، تُعْرَفُ باسم: «نصوص اللعن»/Execration Texts.» لكن مجرَّد ذكر الاسم وحده لا يُمكِن أن يُستَخدَمَ دليلًا على أن القدس كانت مدينةً مهمَّةً حينئذ؛ لأن الاسم بحدِّ ذاتِهِ ليس بالضرورة تعريفًا لمدينة، بل يمكنُ أنه يشيرُ ببساطةٍ إلى منطقةٍ أو قبيلة. وقد استُخدِمَت هذه النصوصُ أيضًا من أجل الفهم المباشر للبنية السياسية لفلسطينَ في العصرِ البرونزيِّ الوسيطِ الثاني.
-
(ب)
لقد وضَع فنكلشتيين صورةً سريعة للخلاف بين الدول-المدن في الأراضي المنخفضة، والزعاماتِ المتعدِّدةِ الأشكالِ Polymorphous chiefdoms في مرتفعاتِ فلسطينَ الغربيةِ في العصرِ البرونزيِّ الوسيطِ الثاني (ج)، وربما حدث تطوُّر إلى كياناتٍ سياسيةٍ أكبرَ في المنطقةِ الأخيرةِ أصبحَت فيه شكيم «نابلس» والقدس مركزَين لوحدتَين أكثر» (شتاينر ٢٠٠٦: ١٥٢).
ثانيًا: المَرجعِيَّةُ التاريخية: فلسطينُ وضَعفُ مِصرَ والهكسوس
انقسَم العصر البرونزي الأوسط للقدس، ولفلسطينَ بعامَّة، إلى قسمَين أساسيَّين، شهد القسم الأول منذ (١٩٥٠–١٧٠٠ق.م.) ازدهارًا واضحًا بُنيَت فيه مدينةُ القدسِ الثانية على أنقاض مدينة القدس الأولى. أمَّا القسمُ الثاني منه فقد شَهِد تدهورًا واضحًا في حضارة فلسطين منذ (١٧٠٠–١٥٥٠ق.م.) وهي الفترةُ التي بدَت القدسُ خاليةً من السكان على أثَر دمارٍ واضح.
يُناظرُ القسمُ الأوَّلُ ظهورَ الدولةِ الوسطى القوية في مصر، ويُناظرُ القسمُ الثاني ظهورَ الهكسوس في مصر.
«كان الاقتصادُ والسلطةُ السياسيةُ لفلسطينَ في العصرِ البرونزيِّ الوسيطِ متركِّزَين في البلدات المحصَّنة التي طوَّرَت نمطًا، مع أنه غالبًا ما يُدعى دول المدن، فهو يقوم بالأحرى على حُماةٍ مهيمنين إقليميًّا، يُؤمِّنونَ الحماية. هؤلاءِ كوَّنوا نواةَ المجتمع، وأصبحوا مميزينَ لفلسطينَ منذ زمن (نصوص اللعن) على الأقل وحتى عصر العمارنة، واستمرَّت طَوالَ فترة العصر الحديدي. إن البقايا المادية الثقافية لفلسطين تعكسُ نفوذًا مصريًّا ملحوظًا في الجنوب ونفوذًا سوريًّا في الشمال. إنني أرى هذه التأثيراتِ تعكسُ هيمنةَ التجارة بمقدار ما تعكسُ كثيرًا من الهيمنة السياسيةِ أو العسكرية. بالنمط نفسه، فإن نهاية العصرِ البرونزيِّ الوسيطِ وبداية العصر البرونزي المتأخر، تشهدُ اتجاه فلسطينَ إلى قبرص وبحر إيجة في توسيع الأسواق والتجارة» (وايتلام وآخرون ٢٠٠٤: ٨٤–٨٥).
كانت فلسطينُ تُسمَّى في ذلك العصرِ عند المصريينَ باسم «رتينو»؛ غامض المعنى، ولكنَّ المعنى الحرفيَّ لاسم «روشاليموم» هو: شاليم وضع الأساس.
الاسم | أصله اللغوي | مكان ظهوره | معناه |
---|---|---|---|
أورشاليم | إبلائي | ألواح إبلا | – |
أور سالم | أكدي | ألواح أكدية | أسسها الإله سالم |
أور شالم | أكدي | ألواح أكدية | الإله الكامل، النور الكامل |
يورو شاليم | مصري | نصوص الطهارة القرن ١٩ق.م. | – |
أوشاميم | مصري | نصوص اللعنات القرن ١٨ق.م. | – |
روشاليموم | مصري | نصوص اللعنات القرن ١٨ق.م. | شاليم وضع الأساس |
أو شاليم | مصري | القرن ١٤ق.م. | – |
أور ساليمو | أموري | ؟ | مدينة سالم (الأمين) |
كيله | أكدي | رسائل تل العمارنة | – |
إيفن | ؟ | رسائل تل العمارنة | – |
راشاليم | ؟ | رسائل تل العمارنة | – |
يورساليم | ؟ | رسائل تل العمارنة | – |
يابيشي | ؟ | رسائل تل العمارنة | – |
نورمستك | أكدي | سجلات ماري | – |
شهر شلايم | أوغاريتي | ألواح أوغاريت | نور الشفق، الشفق |
وهكذا نرى أن أغلبَ أسماءِ القدسِ في العصرِ البرونزيِّ دارت حول الاسم (أورشليم) الذي أصبح اسمَها الثابت، تقريبًا، في العصرِ الحديدي.
وقد تكون الإشارةُ السابقةُ موحيةً بالاسمِ الأقدمِ الذي ظهر في العصرِ البرونزيِّ المبكرِ عند أوَّلِ بناء المدينة، وعلى ذلك يمكنُ أن نقولَ إن اسمها (منورتا). كان هذا الاسمَ الأموريَّ (وليس الآرامي) الأوَّلَ الذي كان يعني النورَ أو الضوء، وربما كان هذا يُشير إلى إلَهٍ أموريٍّ بهذا الاسم، الذي حل محلَّه فيما بعدُ ما يقابله عند الكنعانيين، وهو (شالم).
أمَّا المرحلةُ التاريخيةُ الثانيةُ في العصرِ البرونزيِّ الأوسطِ فتبدأُ مع آخِرِ ملوك الدولة الوسطى في مصر (٢٠٥٢–١٧٧٨ق.م.) من الأسرة الثانيةَ عشرةَ ومرحلة الضعف الثانية (١٧٧٨–١٦٧٥ق.م.) التي شغلَتْها الأسرتانِ الضعيفتانِ الثالثةَ عشرةَ والرابعةَ عشرةَ، ثم مرحلة الهكسوس (١٧٧٥–١٦٦٠ق.م.) التي شغلَتها الأسرتانِ الضعيفتانِ الخامسةَ عشرةَ والسادسةَ عشرة، ثم مرحلة الأسرةِ السابعةَ عشرةَ (١٦٦٠–١٥٧٠ق.م.) والتي كانت مرحلةَ الكفاح ضد الهكسوس، ثم مرحلة أوَّلِ ملوكِ الدولةِ الحديثةِ أحمس، الذي طارَد الهكسوس في فلسطين.
وبذلك تكونُ المرحلةُ الثانيةُ من العصرِ البرونزيِّ الأوسطِ مرتبطةً تمامًا بالتخلخُل السياسيِّ الذي حصل في مصر من خلال مجيءِ الملوكِ الضعفاءِ ثم الهكسوسِ ثم محاربتِهم ومطاردتِهم، وهو ما حصل عَبْر ستِّ أُسَرٍ مصريةٍ من (١٢–١٨). ويبدو أن اضطرابَ نهايةِ البرونزيِّ الأوسط لم يَجِئْ من المناخ — كما هو في نهاية البرونزيِّ المبكر — بل جاء تحديدًا من الهكسوس وهم يُحضِّرون لهجومهم على مصرَ عَبْر الأردن وفلسطين، ثم وهم يقيمون حكمًا قَلِقًا في مصرَ شَملَ فلسطين، ثم وهم يُطرَدون من مصرَ إلى فلسطين.
(١) الهُكسوسُ في الأُردُن وفلسطين
والحقيقةُ أننا أردنا من هذا الاستنتاج الوصولَ إلى فكرة أن أقوام «الشوتو» كانت موجودةً في شرق الأردن، ولكنهم سرعان ما تحوَّلوا إلى أقوامٍ غازيةٍ ضمَّت لها كلَّ من راقت له فكرةُ غزوِ مصرَ من الأقوام والقبائل البدوية المحيطة بها. وقد حصَل هذا فعلًا ونجح الغزو؛ لأنهم اختاروا وقتًا دقيقًا كانت فيه مِصرُ تتفككُ إلى ولاياتٍ مستقلَّةٍ عندما انتقلَت العاصمةُ من طيبة إلى سخا، التي حكَمها ٧٦ ملكًا خلال ١٨٤ سنة، إبَّانَ حُكمِ الأسرةِ الرابعةَ عشرة، وبذلك تهيَّأ للهكسوس تشكيل الأسرةِ الخامسةَ عشرةَ بعد هذه الفوضى.
ويقرِّبنا الاستنتاجُ السابقُ من الحقيقة التي تقول إن هجومَ الهكسوسِ كان ردَّ فعلٍ طبيعيٍّ من الأقوام الأموريةِ والبدويةِ في جنوب بلادِ الشام (الأردن وفلسطين) على مصرَ التي كانت دائمًا تُحاول السيطرةَ على هذه المنطقةِ ضمانًا لوضعِها الاقتصاديِّ الذي كان يعتمدُ عليها.
تمكَّنَ الهكسوس بعرباتهم التي تجرُّها الخيول وبأسلحتهم المعدنية وبجرأتهم من احتلال الدلتا، وبدءُوا يُشيِّدون مدنًا محصنةً بطريقةٍ جديدةٍ تعتمد على بناء سياجٍ مستطيلٍ طولُه نصفُ ميلٍ تُحِيطُ به أسوارٌ مرتفعةٌ وكثيفةٌ ومنحدرةٌ من الطين المرصوصِ القاسي. وكان السياج محاطًا بخندقٍ واسع.
(٢) إمبراطوريَّةُ الهُكسُوسِ في مصرَ وفلسطين
سقطَت الدلتا بأيدي الهكسوس واتخذوا أواريس (أفاريس) وهي «صان الحجر» في شرق الدلتا عاصمةً لهم، ثم واصلوا زحفَهم جنوبًا فاحتلوا منفَ وأقاليمَ مصرَ الوسطى حتى بلغُوا شَمالَ أسيوط، ثم احتلوا الصعيد.
وقد وردَت إشارةٌ من السلالة الخامسةَ عشرةَ الهكسوسية تفيدُ أن مَلِكَها أبوفيس هو «أمير ريتينو»؛ وريتينو هنا هو الاسمُ المصريُّ لفلسطينَ في حقبة العصرِ البرونزيِّ الأوسط.
ونرى أن هذا النفوذَ السياسيَّ والعسكريَّ جنَّد المدنَ الأموريةَ والكنعانية، وبشكلٍ خاصٍّ في الأردن وفلسطين، لتوطيد الحكم، بل، وربما، سعى إلى تهجير بعضِها إلى مِصرَ لكي يضمنَ وجودًا بشريًّا مساندًا له.
(٣) طَرْدُ الهُكْسُوسِ إِلَى فلسطين
عندما خاضت الأسرةُ السابعةَ عشرةَ كفاحَها ضدَّ الهكسوسِ كانت مصر، باستثناء طيبة، خاضعةً لهم. وأخيرًا تمكَّن أحمس من حصار عاصمتهم أواريس شرق الدلتا، وبعد أن سقطَت فَرَّ الهكسوس من مصرَ ولاحقهم أحمس إلى مدينة «شاروهين»، وهي تل الفارعة الجنوبي حاليًّا في غزة، وهناك حاصرَهم ثلاثَ سنوات. ولم تكن نيةُ مصرَ في البداية إقامةَ إمبراطوريةٍ عسكريةٍ وسياسيةٍ خارجَ مصر، لكنَّ وجود عمقٍ لها يمتدُّ إلى فلسطين (كما فعل ذلك الهكسوس) كان أمرًا عسكريًّا واستراتيجيًّا حاسمًا بعد التطوُّرات التي حصلَت … وهكذا بدأَت فكرة الإمبراطورية.
وكان أن اندفع الهكسوس في المدنِ الفلسطينيةِ الأخرى هربًا من المصريين، وكان لهذه الهزيمة أثرُها السلبيُّ على المدنِ الفلسطينية، وربما كانت القدسُ واحدةً منها.
ثالثًا: الأساطيرُ والمِيثُولوجيَا (أسطورَةُ الإلَهِ شَالِم)
عبد الكنعانيون عددًا من الآلهة على مدى تاريخِهم الطويل. وكان لهم آلهةٌ كونيونَ كبارٌ يَتولَّونَ شئونَ مظاهرِ الطبيعةِ الأساسية، ولهم آلهةٌ صغارٌ يتولَّى بعضُهم وظائفَ صغيرةً محددة، وبعضُهمُ الآخَرُ يتولَّى حمايةَ المدن.
كان الإلهُ «إيل» كبيرَ الآلهة، وهو يُقابل الإلهَ «كرونوس» عند الإغريقِ و«إيا» عند البابليينَ و«آمون رع» عند المصريين، وكان يجمعُ بينَ صفاتِ الهواءِ والماء، ويُلقَّبُ بالعديد من الألقاب؛ منها: أبُ الآلهة والبشر، خالق الخلق، المَلِك، أبو السنين … إلخ.
وقد ظهر نسلٌ كبيرٌ من الآلهة نتيجةً لزواجه أو اتصالهِ الجنسيِّ من أخواته الإلهات (عشيرة وعشتارة وريا وبعلتيس والحورية أنوبرت … إلخ)، وله عدةُ أساطيرَ تدورُ حول قوتِه وقدرتِه في شبابه، وعجزِه وضعفِه في شيخوخته.
ولعل أشهرَ وأقوى أبنائِهِ هو الإلهُ «بعل» الذي أخذ دورَه فيما بعدُ وأصبح الإله الأقوى للكنعانيين، وتمثل صفاتِ الطقسِ والخصبِ والخليقة.
ويبدو أن الإلهَ «إيل» كان قد عُبدَ مبكرًا في القدس، واكتسَب فيها اسم «إيل عليون»؛ أي «الله العلي». ولا شك أنه كان على رأس الآلهة في القدس. ويبدو أنه كان إلَهَ ملكِ القدسِ القديمِ الذي تَذكُر الرواياتُ الإخباريةُ والتوارتيةُ «ملكي صادق»، الذي قابل إبراهيم.
وكان إلَهُ مدينةِ القدسِ المحلي والحامي لها ابنَ الإلهِ إيل، وهو الإله «شالم» الذي اشتُقَّ اسمُ المدينةِ القديمِ منه «أورشالم»؛ أي «مدينة الإله شالم»، وأحيانًا «نور الإله شالم». وهو مشتق من الجذْرِ السَّاميِّ «سلم»؛ أي تسليمِ الشمسِ والغروب، وكان إلهًا في مجمع الآلهةِ الكنعاني. ووصفَه ويليام فوكسويل ألبرايت بأنه كان إلهًا للغروب والغَسَقِ في حين كانت شقيقتُه سَحَر إلهةً للشروق والسَّحَر.
ذكرَتْه ألواح أوغاريت في أسطورتها «الآلهةُ الرحيمةُ والأكثرُ جمالًا»، بأنه وشقيقَتهُ سحَر من نسل إيل؛ حيث وُلدا نتيجةَ لقاءٍ جمع بين إيل وامرأتَين على شاطئ البحر، ثم قامت «السيدة»، وهي عشيرا، باحتضانهما وتربيتهما، وكانا يأكلانِ كثيرًا، ولهما فمٌ كبير؛ شَفَتُه السفلى في الأرض والعليا في السماء.
أما صادق فنرى أنه كان اسمَ إلَهٍ آخَرَ لعله أحدُ أبناءِ الإلهِ إيل، ويدُل على وجوده في القدس اسم «ملكي صادق» الذي ذكَرناه.
أما الإلهة الرابعة التي ترجعُ عبادتُها في القدس «إلى العصرِ البرونزي» فهي «هبه» أو «حيبا» أو «هيبات». ونستدل من اسم ملك القدس «عبدي حيبا» على وجودها، وهي إلهةٌ من إبلا، ثم اشتُهرَت كإلهةٍ حورية وحيثية، وربما تكون قد تسرَّبَت إلى مجموعة آلهة مدينة القدس (انظر شكل ٤٧).


(١) الإله إيل يستقبل هدايا ملك أوغاريت (أوغاريت).
(٢) الإله بعل في العصر البرونزي (نصُب من أوغاريت).
(٣) الإله شال وشهار يرضعان من ثديَي عناة (القصر الملكي في أوغاريت).
(٤ و٥) الإلهة هبه (هيبات) وخلفها ابنها «شاروما» تتقدم بالهدايا إلى إلَه الطقس الحوري «تشوب»، وفي النقش الأخير رموز الآلهة لعل أهمها الأسد والحيوان المجنح والقرص المجنح (متحف برلين).
(١) الإلَهُ شالِم: إِلَهُ القُدسِ الرئيسي
ويصير التفسيرُ الدقيقُ لمعنى «شحر» و«شالم» هو «إلَه الغَسَق» و«إلَه الشفَق»، ويرمزُ لكلٍّ منهما بنجمةٍ هما «نجمة الصباح» و«نجمة المساء»، وهما يُشيرانِ إلى كوكب الزهرةِ الذي يسبق ظهورَ الشمسِ قبيلَ الفجر، ويتلو غيابَ الشمسِ بُعَيدَ الغروب. ونرى أن كلمة «زهرة» في العربية ما هي إلا تأنيثٌ لكلمة «زهر» أو «سهر» أو «شهر» التي تدُل على نجمة الصباحِ أو الوجهِ النهاريِّ للزهرة. ونستشفُّ من كلِّ ما سبق أن هذه الأسطورةَ هي أسطورةُ ولادةِ كوكبِ الزهرة، الذي يُنظِّم ظهورَ الشمسِ نهارًا وظهورَ الكواكبِ ليلًا، كما كان يُعتقَد سابقًا.
- (١)
دعوةُ الآلهةِ والملكِ والملكةِ لحضور الاحتفالِ في الهيكل، والمخصَّص لتحديد قوى إيل التناسُلية بعد تقدُّمه في السنِّ لتنتهيَ السنواتُ السبعُ العِجَافُ وتعود قوى الخير والخِصْب إلى الأرض.
- (٢)
طقسُ فَركِ الكُروم: حيث تُجرَى عمليةُ تهذيب الكُروم التي ترمزُ إلى الموت ثم تجديد الحياة، وهي نوعٌ من القُدَّاسِ الإلهيِّ تُجرَى فيها عمليةُ قطعِ وبَترِ شخصيةٍ إلهيةٍ تُسَمَّى «الموت والشر»، صاحبِ صَولَجانَي الحرمانِ والترَمُّل.
- (٣)
تلاوةُ نشيدٍ لولادةِ وحفظِ الآلهةِ السبعةِ الخيِّرة، الذي سيرعى فيه كلُّ إلَهٍ مدينةً في السنينَ السمانِ القادمة.
- (٤)
طقسُ طبخِ الجَدْي في لبن أمِّه، وهو طقسٌ كنعانيٌّ قديمٌ معروفٌ، ويتمُّ ذلك في حقولِ عشيرةِ الفِردَوسيَّة، زوجةِ إيل، ومعها عناة ابنتها.
- (٥)
صراعُ عناي (رحماي لاسي) مع البطل الطيب، وهو مشهدٌ يُصوِّرُ شخصيةَ عناة (ابنة إيل) وقوَّتها أمام الأبطال.
- (٦)
مشهدُ مساكنِ الآلهةِ والشعائرِ ذاتِ الأركانِ السبعة.
- (٧)
الغَيْرةُ على الأسماء الإلهيةِ لمعبوداتِ «أبناء شاروما»، وهنَّ من نسل الإله شاروما، ابنِ الآلهةِ هبه أو هيبات، التي يُرَجَّحُ عبادتُها في القدس.
- (٨)
دعاءُ الآلهةِ الطيبةِ التي ستلدُ وتَرضَعُ ثديَ عشيرة، ويقوم كبار القوم بتحضير الضحايا الطيبة للمَأدُبة.
- (٩)
مشهدُ حقولِ الفِردَوسِ (حقول عشيرة وعناة).
- (١٠)
المشهدُ الرئيسيُّ الأوَّل: مولدُ إلهَي الغَسَقِ والشَّفَقِ (شهار وشاليم)؛ حيث يظهرُ الإلهُ إيل وهو يخلُق إلهتَين على النار. أما الإلهتانِ عشيرة وعناة فيُردِّدُ الراقصونَ أمامهما نشيدًا لإكثار حليبِ الثدي. ويظهرُ ضعفُ إيل الجنسيُّ الذي يُحاوِل إزالتَه عن طريق شَيِّ طائرِ السَّلوى وأكلِه دون جدوى؛ ولذلك يقرِّر إيل أن يُجَرِّبَ الاتصالَ العاطفيَّ (وليس الجنسيَّ) مع الإلهتَين عشيرة وعناة فيُقَبِّلهُما ويعانقهُما، فتحملانِ وتلدانِ إلهَين جميلَين هما «شهار وشاليم»، وهما إلها حبٍّ وعاطفة، فيرفعُهما إيل إلى السماء ليكونا نجمَ الصباحِ والمساء (كوكب الزهرة) الذي يكون رمزًا للحُبِّ.
- (١١)
المشهدُ الرئيسيُّ الثاني: ولادةُ إلهَين طيبَين آخرَين بنفس الطريقة، ويمتازانِ بنهمهما، فيضعُهما في الصحراء ويُسمَّيان (جرزيم)؛ أي الآلهةَ القاطعةَ التي ربما كان سكنُها الصحراء.
- (١٢)
المشهدُ الرئيسيُّ الثالث: ولادةُ السابوع الإلهي ليُزيحَ إيل به جَدْبَ السنواتِ السبع، الذي يتمُّ عن طريق التقبيل والاحتضان، أو عن طريق الكلمة؛ حيث كلمة إيل هي المطر.
رئيس الآلهة يدعو سائرَ الآلهةِ للاشتراك بالاحتفال، أو الوليمة المقدَّسة، أو المائدة المقدَّسة، ويُبارِك الجمهورَ الحاضرين.
وهذا يعني أن هذا النَّصَّ يُشيرُ إلى إمكانية تنفيذه دراميًّا في شكلٍ مسرحيٍّ شرقيٍّ قديم. وقد أفادَتنا كلُّ هذه الإشاراتِ الصغيرةِ وغيرِ المباشرةِ بعد قراءةٍ تحليليةٍ مُعمَّقة في هذا النَّصِّ إلى وضع فرضيةٍ جديدةٍ حوله لعلَّنا نهتدي من خلالها إلى وصفِ حقيقةِ هذا النَّصِّ … وهي أن هذا النَّصَّ يُمثِّل نصَّ «عيد رأس السنة الكنعانية الأكبر». ونرى أن هذا العيدَ كان يُمثل في بداية رأس السنة الكنعانية، ولنقُل بشكلٍ أدقَّ السنة الأوغاريتية.
ويشبه هذا النَّصُّ في بعض أوجهِهِ نصَّ اﻟ «أكيتو» البابلي، الذي يتحدث في سيناريو شعائريٍّ محكمٍ عن الأيام الاثنَي عشرَ لعيد رأس السنة البابلية. ورغمَ الخلافاتِ الجوهريةِ بينهما، وخصوصًا ما يتعلقُ بالملك وعلاقته بالإله الذي يشكِّل أساسَ عيدِ الأكيتو، بينما يكتفي النَّصُّ الكنعانيُّ بحضور الملك والملكة والأعيان في الاحتفال دون أن يكونوا جزءًا منه. أمَّا الاستنتاجُ الثاني الذي نَوَدُّ وضعَهُ هنا فيخُصُّ الإلهَين «شهار»، و«شاليم»، فقد وجدنا أن هذَين الإلهَين المتلازمَين أدَّيَا دورًا كبيرًا في ميثولوجيات الأمم الأخرى كما سنرى. وأمَّا حضورُهما في الميثولوجية الكنعانية فما زال غامضًا ومُبتسَرًا؛ فهما يُوصَفانِ على التوالي بإلهَي الخيرِ والعطاء، وهما إلهانِ جميلانِ خيِّران. ويدُل الإلهُ شحر (سحر) على وقت السحَر أو الشفَق قبل الفجر، وأصبح يُشارُ له بنجم الصباح (الزهرة قبل طلوع الشمس). أمَّا الإلهُ شالم (سالم) فهو إلَهُ التسليمِ أو الوداع، ويدُل على النجم الذي يَطلُع قبل غروبِ الشمسِ في الغسَق، وهو «الزهرة قبل غروب الشمس»، ويُسمَّى نجمَ المساءِ أو نجمَ العِشَاء.
وكان الأموريونَ يعبدونَ إلَهين شبيهَين بهما هما «عزيز»، و«منعم»، وهما أيضًا إلها «الخير أو العز»، و«الإنعام أو العطاء»، ونجد لهما تسميةً إغريقية باسم «أزيزوس» و«مونيموس»، ويُشارُ لهما أيضًا بنجمَي الصباحِ والمساء. وكانا يُسمَّيانِ أيضًا في مدينة تدمُر ﺑ «عزو»، و«أرصو» (انظر الجدول ٤).
وقد قادَتْنا هذه الاستنتاجاتُ إلى وضع فرضيتَين مُهِمَّتَين حول الإلهَين «سحر» و«شالم» وهما:
-
أولًا: إن هذَين الإلهين هما
الجذْرُ القديمُ للإله «إيروس»؛
إلَه الحبِّ الإغريقي والإله «موت»
إلَه البيضةِ التي خرج منها
العالَمُ في الميثولوجيا
الإغريقية.
وقد حصَل هذا عندما رُفعَت مرتبةُ هذَين الإلهَين من الهامشِ الكنعانيِّ إلى القمة الإغريقية. وهكذا نجد أن الخليقةَ الإغريقيةَ تتحدث عن وجود إلهَين أوَّلَين عتيقَين؛ هما «إيريب» و«نيكس» ينفصلانِ عن السديمِ الهيوليِّ الأكبر، ويمثِّلان الظلامَ والظلمة، ولكنهما ما يلبثان أن ينفصلا فينزل إيريب ويحرِّرُ أختَه نيكس التي تتجوَّفُ فتصبحُ كرةً كبيرةً في الفلك.
ثم ينفصل نصفاها كما بيضةٍ تنشقُّ نصفَين ليخرجَ منها «إيروس» إلَهُ الحبِّ، وليرتفعَ النصفُ الأعلى، ويُشكِّل قبة الفضاءِ وينبسطَ النصفُ الأسفل ويُشكِّل سطحَ الأرض.
وهكذا تكتسبُ الأرضُ والفضاءُ واقعًا ماديًّا، ويصيرُ الحبُّ قوةَ طبيعتِهما الروحية، ويصير إيروس هو الذي يُؤمِّن تماسُكَ الكونِ الناشئ، ومن انحناءِ الفضاءِ على الأرض، وجماعِهما، بدأتِ السلالاتُ الإلهية.٣١أما الإله «موت» فيظهرُ في روايةٍ كوزموغونية أخرى؛ حيث يقومُ الإله إيروس — والذي قد يُسَمَّى بوثوس أو الرغبة — ويُخرجُ «موت»، وهو البيضة الكونية، التي تفقس وتنقسم إلى قشرة عليا هي السماء (أورانوس) ومادة سفلى هي الأرض (جيا).
ونحنُ نُرجِّح أن «إيروس» و«موت» ما هما إلا «سحر» و«سالم» الكنعانيان؛ حيث يقابل اسم «موت» الغروبَ والأفولَ والغسَق، بينما يقابل «إيروس» الظهورَ والشروقَ والرغبةَ (سحر).
-
ثانيًا: إن هذَين الإلهَين هما
الجذْرُ القديمُ للثالوثِ العربيِّ
الوثنيِّ القديم (اللات والعُزَّى
ومناة)، وهنَّ الغرانيقُ العُلى
وبناتُ اللهِ كما كانت تسمِّيهم
قريش قبل الإسلام.
وقد عرفنا أن الإله «سحر» ظهر باسم «إيزيس» و«عُزَّى». أما الإله «شالم» فيدُل على الغروب وموت الشمس واختفائها «والإلهة «مناة» في منشئها إلهة الموت والقدَر عند البابليينَ العراقيينَ وعُرفَت بنفس اسمِها العربيِّ عندهم «مناتو»، وعن البابليينَ عرفها الكنعانيونَ والآراميونَ والأنباطُ إلى أن وصلَت عبادتها إلى العرب الجاهليينَ فيما بعدُ فعرفوها بنفس الاسم أو ما يقاربه «منى»، وذُكرَت منى متوحدةً مع الإله «جاد» إلَه قبيلة جاد في العهد القديم.»٣٢
إن ربطَنا بين «سالم» و«مناة» له ما يُبرِّرُه؛ لأن كلمة سالم تعني التسليمَ والوداعَ والموت. كما أن العُزَّى ومناةَ تُشكِّلان وجهَين لعملةٍ واحدة هي «اللات»؛ فالعُزَّى إلهةُ الصباحِ ومناةُ إلَهُ الليلِ واللاتُ هي إلهةُ الزهرة؛ أي إن هذه الآلهةَ الثلاثة تُعبِّر عن إلهةٍ واحدةٍ كانت تمثِّلُها الإلهةُ «عشتار»، وهي فينوس الأكدية والبابلية والتي تُلقَّبُ ﺑ «الإلهة» عند البابليين. أما عند الكنعانيينَ فتُلقَّبُ الإلهةُ «عشيرة» زوجةُ إيل ﺑ «إيلان» أو «اللات»؛ أي الإلهة. وهكذا نجد أن هذا الثالوثَ يعبِّر عن معنيَين؛ أحدُهما شمسيٌّ تظهرُ فيه اللاتُ كإلهة للزهرة، والعُزَّى ظهورُها الصباحيُّ كنجمة للصباح، ومناةُ ظهورُها الليليُّ كنجمةٍ للعِشاء.
وهكذا تتفقُ الإيقاعاتُ الرافديَّةُ (السومرية والبابلية) للإلهة «إنانا، عشتار» مع الإيقاعات المصرية (إيزيس ونفتيس) مع الكنعانية (اللات، مناة) و(سحر، سالم) مع العربية (اللات، العُزَّى، مناة) وبذلك نكون قد أزحْنَا الغموضَ عن شخصية الإلهات العربيات الثلاث، وفتحنا لغزَ أسمائِهن وأصولِهن الكنعانيةِ القديمة. وفهمنا بدقَّةٍ شخصيةَ الإلهَين «شالم وشحر».
ولنتأملْ هذا الجدولَ الذي يُظهِرُ لنا أشكالَ شالم وشحر وتحوُّلاتِ إلهة الزهرة في أساطير الشرق الأدنى القديم:
جدول ٢: أشكال شهار وشالم.نوع الأساطير نجمة الصباح نجمة السماء اسمها مدلولها اسمها مدلولها الكنعانية شهار السَحَر (الغسق) شاليم الشَفَق الأمورية عزيز الخير (العز) منعم العطاء (النِّعم) البابلية عشتار الحب مناتو الموت والحرب المصرية إيزيس الحب والأمومة نفتيس سيدة الدار الإغريقية إيروس الحب موت البيضة الكونية الأولى التدمرية عزو النهار أرصو الأرض (العالم الأسفل) العربية العُزَّى الحب، النهار، النار مناة (منى) الموت والقدر تحوُّلاتُ إِلهَة الزهْرَة بشكلَيها النهاريِّ (نجمة الصباح) والليليِّ (نجمة المساء).
ولا شكَّ أن سؤالًا في غاية الأهمية لا بُدَّ أن يكون قد خطر في البال، وهو أنه مادام هناك مثلُ هذا التلازمِ بين شهار وشاليم على المستوى الميثولوجي، فلماذا خُصِّصَت مدينة لشاليم وحده هي أورشليم بينما بقي شهار دون مدينة؟
والجواب يكمن، في ظننا، أن مدينة «بيت ساحور» التي يمكن أن تكون «بيت شاهور» أو «بيت شهار» هي المدينةُ التوءمُ لمدينة أورشليم. ونحن نرى أن هذه المدينةَ تملك عمقًا ميثولوجيًّا قديمًا، في العصر البرونزيِّ بشكلٍ خاصٍّ، مثلما كانت تملكُه مدينةُ القدسِ في ذلك الوقت؛ فهي مدينة الإله شهار أو سحر، وربما انحرف تكوينُها القديمُ وأصبَحَت مدينةً لعبادة القمر؛ لأن «شهر) يدل على القمر أيضًا، وهي بذلك تقترب من مدينة بيت شان أو بيت سين التي هي مدينةُ عبادةِ القمرِ في أقدم الأزمان، وهو أيضًا، حال مدينة أريحا التي هي أقدمُ مدنِ فلسطينَ المخصصة لعبادة القمر؛ حيث أريحا وأريخ هو القمر وهذه هي مدينته.
ونحنُ نرى، بإصرار، أنه لا بُدَّ من وجود معبدٍ كنعانيِّ في القدس للإله «شاليم» يرجعُ إلى العصرِ البرونزيِّ تحديدًا. ورغم عدمِ وجودِ دلائلَ آثاريةٍ على ذلك إلا أن هناك إشاراتٍ في النصوص المصرية على لوحٍ فُخَّارِيٍّ تقضي بوجود معبدٍ كانت تُمارَسُ فيه العبادةُ في العصرِ المتأخر، ولكننا نؤكِّدُ وجودَ معبدٍ في مدينة القدس كانت تُمارَسُ فيه عبادةُ الإلهِ (شاليم)؛ فقد وردَت عبارة «بيت شاليم» في النصوص المصرية، وربما دلَّت على معبد شاليم.
والذي نُرجِّحُه هنا هو أن محاولةَ العثورِ على معبدِ أو هيكلِ شاليم يجبُ أن تسبقَ محاولةَ البحثِ عن هيكل سليمان، بل نذهب إلى أبعدَ من ذلك فنقول إن هيكل شاليم (سليم) هو نفسه هيكل سليمان، وأن لا وجودَ لهيكل سليمان في العصور اللاحقة (العصر الحديدي) بل إن الاسم «سليم» استمر بصيغة «سليمان» في العصر الحديدي.
تَذكُر إحدى الرسائلِ التي بعث بها حاكمُ القدسِ في العصرِ البرونزيِّ المتأخر، عبدي حيبا، إلى ملك مصر عبارة «عاصمة أرض أورسالم التي تُدعَى بيت شولماني».٣٣وهذا يُشير إلى شيئَين؛ الأوَّل أن مدينةَ القدسِ اسمُها أورسالم التي هي عاصمةٌ لأرض أو بلاد (شولماني)؛ أي بلاد الإله شالم، وربما كان بيت شولماني أو هيكل شولمان هو شالم (حيث لم تكن ما تسمِّيه التوراة ﺑ «سليمان» قد ظهر بعدُ). والثاني هو اعتقادنا أن هيكل سليمان ما هو إلا هيكلُ الإله شالم، الذي ربما ظهر في العصر البرونزيِّ الأوسط أولًا، ثم أعاد اليبوسيون — في العصر البرونزيِّ المتأخر — بناءَه وتوسيعَه، وأخذ مكانةً كبيرةً عندهم.
والمعروف أن الإله «سالم» كان في أماكنَ كثيرةٍ من أرض كنعان (فلسطين والساحل السوري) كان مرتبطًا بزوجةٍ تُدعَى سولاميث Sulamith التي أدخِلَت أيضًا في مجمع الآلهة اليبوسي.٣٤وتُحيلنا هذه الإشارةُ إلى أن سِفرَ «نشيد الأنشاد» في العهد القديم — والذي هو محاورةٌ غَزَليَّةٌ طويلة بين سليمان وشولميث — ذو أصلٍ كنعانيٍّ ثابت، وأن بطلَيه (سليمان وشولميث) ما هما إلا إلهانِ كنعانيان ويبوسيان هما شاليم وشولاميث.
فهل نجرؤُ على القول إن العبريِّين أعادوا إنتاجَ نشيدٍ دينيٍّ كنعانيٍّ شهير بين أكبرِ إلهَين في القدس، وجعلوها في صيغة ملك وحبيبته! وهل يدفعنا هذا إلى وضع علامة استفهامٍ كبيرةٍ حول حقيقة وجودِ شخصيةٍ عبريةٍ اسمها «سليمان» في بداية العصر الحديدي؟ أعتقدُ أن هذا ما سنتحدثُ فيه طويلًا في الفصل القادم.
رابعًا: الاحتِمالاتُ الدينية (إبراهيم وملكي صادق)
ورغم كلِّ الجهودِ التي بذلها الآثاريونَ والمؤرخونَ الذين حمَلوا معهم خلفياتِهم التوراتيةَ لإثبات أحداثِ الروايةِ الدينيةِ للتوراة، فإن جهودَهم كانت تتعرَّضُ لمشكلاتٍ حقيقية تجلبُ لها النقدَ القاسي.
يضع المؤرخونَ التوراتيونَ فترةَ العصرِ البرونزيِّ الأوسط زمنًا مقترحًا لوصول إبراهيمَ إلى بلاد كنعان. وترى التوراة (وهي كتابٌ دينيٌّ لا تاريخي) قصةَ رحيلِ إبراهيمَ من أور الكلدانيين إلى حَرَّانَ ثم إلى أرض كنعانَ في فلسطين، ونزوله إلى بلوطة مورة (بلاطة) بالقرب من شكيم (نابلس)، ومنها تَنقَّل وسط أرض كنعان؛ ثُمَّ ارتحلَ نحو الجنوب إلى أن استقرَّ في عودته من مصرَ إلى أرض كنعان، واستقرَّ في حبرون (أربع) التي عُرِفَت فيما بعد باسم «الخليل». أما ابن أخيه (لوط) فقد سكن شرقَ الأردن في سدوم، وعندما تَعرَّض لوط للأَسرِ والسَّبي من قِبَل «كدر لاعومر» — ملك عيلام وحلفائه — سارع إبراهيمُ على رأس غلمانِه، ومَن كان معه، وتبِعَهم فكسَرَهم واسترجع لوطًا وكلَّ الأملاكِ التي سُلبَت، وعند رجوعه خرج «ملكي صادق» ملك «شاليم» لاستقباله. ويرى بعض الباحثين أن «ملكي صادق» هو ملكُ وكاهنُ القدس في فترة من فترات العصرِ البرونزيِّ الأوسط، ويدُل اسمُه المُركَّب على وجود الإله «صادق» في شاليم، ويُوصَف بأنه كاهن «إيل عليون» أي «الله العلي»، وهو اسمٌ مُركَّب للإله إيل.
المرَّةُ الثانيةُ التي يُذكَر فيها إبراهيمُ والقدس هي قصةُ التضحيةِ بابنه على جبل الموريا؛ حيث يعتقدُ هؤلاءِ الباحثونَ أن قصةَ التضحيةِ التي تَذْكُرها التوراةُ قد حصلَت على «أرض المُوريا» وهي نفسُها جبل الموريا في القدس. وقد جاء ذكر ذلك في سِفْر التكوين:
ويتضح من ذلك، حسب الرواية الدينية التوراتية، أن قصة التضحية حصلَت على جبل المُوريا الذي صار اسمه أو اسم موضع التضحية فيه «يهوه يرأه».
ولكن توراة السامريين تذكُر هذه القصة في مكانٍ آخر وهو جبل «جرزيم» في نابلس. أما الإنجيل فيذكُر أن القصة حصلَت في موقع في سيناء وهو «سانتا كاترين». أما القرآن فقد قرن القصة بفريضة الحج حيثُ تمَّت في جبل التوبات ومع ابنِه إسماعيلَ وليس إسحاق.
وهكذا نرى هذا المدى الواسع من الاختلافات في أماكن حصول قصة التضحية بابن إبراهيم.
- (١)
ملكي صادق: الذي ذكرَتْه التوراة.
- (٢) سالم: وهو يبوس وسَّع حدود القدس، وورد اسمه في نصوص اللعنة المصرية، وقد تحدثَت نصوصُ أوغاريت أيضًا عن مولد الإله «سالم» ملك القدس.٣٨
- (٣) أدوني صادق: وقد عُرِفَت القدسُ باسمه في إحدى الفترات.٣٩
- (٤) سر حنو (شايزانو): ورد هذا الاسمُ في نصوص اللعنةِ المصرية، التي ترجع إلى عهد الملك سنوسرت الثالث (١٨٧٩–١٨٤٢ق.م.)٤٠
- (٥) ياقر عمو: أول اسمٍ تاريخي لملكٍ أموري.٤١