المبحثُ الثالث: العَصرُ البُرونزيُّ المُتأخِّر (١٥٥٠–١٢٠٠ق.م.): (يوروسالم)
تغير الوضعُ تمامًا في العصر البرونزي المتأخر، وتغيَّرَت أحوال فلسطينَ والقدسِ من جميع النواحي المناخية والسياسية والإثنولوجية، وكان هذا العصرُ بمثابةِ خاتمةِ عصرٍ كاملٍ كان في طريقه إلى الزوال.
- (١) تغيُّر المُناخ: حيث أصبح مُناخ فلسطين، عمومًا، بعد القرن السادسَ عشرَ قبل الميلاد، أكثرَ جفافًا، وكان أثر ذلك واضحًا على اقتصاد فلسطينَ وحجمِ الاستيطانِ فيها. ويُمكِن أن نُوردَ مثالَين عن تحوُّلات الاقتصاد والاستيطان نتيجةً لتغيُّر المُناخ.١
- (أ)
نمطُ استثمارِ الزيتون يشير إلى أن إنتاجَ العصرِ البرونزيِّ الثاني قد تزايدَ كثيرًا، واستمرَّ كذلك طَوالَ هذه الفترةِ في الجزء الشمالي من فلسطين، مما يناقضُ بحدةٍ الانخفاضَ الظاهرَ في مستوى الإنتاج خلال العصرِ البرونزيِّ الأخير.
- (ب) أنماطُ الاستيطانِ في موقع تلال عرون Iron — حيث كان الاستيطانُ واسعَ النطاقِ خلالَ العصرِ البرونزيِّ الوسيط — تُشير إلى نقصٍ حادٍّ في المياه خلال الصيف في هذه المنطقة (مما أدَّى إلى جفاف الآبار والينابيع حتى في أفضل السنوات)، وهو ما حَالَ دون الاستيطانِ خلالَ العصرِ البرونزيِّ المتأخر، الأكثرِ جفافًا.
- (أ)
- (٢)
الاحتلال المصري: حيث رافقَ اضطرابَ المُناخِ والزراعةِ والاستيطانِ الضربةُ العسكريةُ الحاسمةُ من مِصرَ التي بدأَت، منذ بدايةِ الدولةِ الحديثةِ وطردِ الهكسوس، تمدُّ حدودها إلى فلسطينَ بأكملها، لتؤسِّسَ أوَّلَ كِيانٍ إمبراطوريٍّ لها. وكان الحيثيونَ قد احتلوا شَمالَ بلادِ الشام، وهكذا اختار المصريونَ والحيثيونَ أن يتقابلوا وجهًا لوجهٍ على أرض الشام. ومعروفةٌ تمامًا نتائجُ هذا النوعِ من صراعات الإمبراطوريات الكبيرة على أرضٍ ليست أرضَها.
وهكذا انقرضَت مدنُ الأطراف الفلسطينيةِ التي كان لها وجودٌ واضحٌ في العصر البرونزيِّ الأوسط، وانكمشَت من السهول الوسطى، وبشكلٍ عام، ظهرَت «مدن العصرِ البرونزيِّ الأخير أصغرَ حجمًا وأفقرَ ماديًّا، وفي الغالب، غيرَ مُحصَّنة، وربما كان ذلك نتيجةً للسياسة الإمبريالية المصرية، التي وَجدَت أن التعامُلَ مع دولٍ تابعةٍ غيرِ مُحصَّنة أفضلُ لها عند التعامُلِ مع ثوراتٍ معاديةٍ مُحتمَلة.»٢ - (٣) ظهورُ الأقوامِ الرعويةِ غيرِ المستقرةِ في فلسطين، وارتباطُها بمناطق السهوبِ والمرتفعاتِ الفلسطينية، ورغم أنه من الصعب التمييزُ الواضحُ والدقيقُ بين أنواع هذه الأقوامِ إلا أننا نستطيعُ أن نُصنِّفَها إلى أربعةِ أنواعٍ هي:
- (أ) عابيرو Apiru: وهو لقبٌ يُستعمَلُ لوصف مجاميعَ من قُطاعِ الطرق، ويبدو أنه يُشيرُ إلى طبقةٍ اجتماعيةٍ أو جماعاتٍ متنازعةٍ مع بعض حكامِ العصرِ البرونزيِّ الأخير، ولكنه لا يُستعمَلُ في أيِّ حالٍ للإشارة إلى أيِّ مجموعةٍ إثنيةٍ معينةٍ في فلسطين، والأحرى هو أن نصوصَ تلِّ العمارنة تشير إلى أناسٍ دُفِعُوا — بسبب الفقرِ أو كارثةٍ شخصيةٍ أخرى — إلى أطراف المجتمع، ففقَدوا وضعَهم المعتادَ وعاشوا مشرَّدينَ كمرتزقةٍ وعمالةٍ مأجورةٍ ولصوص، لم يكونوا فلاحينَ ولا رعاة، ولا هم بدوٌ ولا هم مُستقِرُّون، بل عاشوا بعيدًا عن النمط المألوف والمعايير الاجتماعية.٣
- (ب) شاسو Shasaw: وهو اسمٌ يشير إلى مجموعاتٍ ساميَّةٍ غربيةٍ عاشَت في منطقةٍ جغرافيةٍ واسعة تشملُ شرقَ الأردن وأطرافَ الصحراءِ العربية وسيناءَ وبعضَ المناطقِ الهامشيةِ في فلسطين، وهم بدوٌ ورعاةٌ مرتبطونَ بمناطقِ الأطرافِ الواسعةِ التي تُشكِّل حدود فلسطين، وربما يكونونَ قد ظهَروا بسبب الاضطرابِ الاقتصاديِّ في العصر البرونزيِّ الوسيط، وهم بالتالي سكانٌ مُقتَلَعونَ أصبحوا يجوبونَ البلاد رعيًا.
- (جـ) شوتو Sutu: ربما كان لهؤلاء ارتباطٌ إثنيٌّ كبيرٌ بالشاسو، ولكن هوية الشوتو الإثنية تتضحُ أكثرَ عند عودتنا إلى أقوام الشوتو العليا والسفلى في الأردن، والتي استوطنَت شَمالَ ووسطَ الأردن في العصرِ البرونزيِّ الأوسط، والتي كانت عمادَ منظومةِ الهكسوسِ الرعوية، كما قلنا، وربما يكونونَ في البرونزيِّ المتأخرِ بقايا هؤلاءِ الأقوامِ الذين اضطرَّتهُم الظروفُ المناخيةُ أو العسكريةُ الجديدةُ إلى التشرُّد والنكوص نحو البداوةِ.
- (د) كوشو Kushu أو كوشان Kushan: وهم سكانُ جنوبِ الأردن وفلسطينَ في المنطقة الممتدة من خليج العقبة حتى البحر الميت منذ العصرِ البرونزيِّ الأوسط، والذين ربما يكونونَ قد تدفَّقوا بفعل طردِ الهكسوس والاحتلالِ المصريِّ باتجاه العمقِ الفلسطينيِّ ومتأثرينَ بالمناخ والاقتصادِ المتغيرِ الذي طرأ في البرونزيِّ المتأخر.
ولا بُدَّ لنا من إبداء ملاحظتَين أساسيتَين تخُصُّ هذه الأقوامَ وحركتَها؛ الأولى هي أن هذه الأقوامَ تبدو لنا كأنها كانت مستقرَّةً إلى حدٍّ كبير في الأردن (شرق نهر الأردن) في العصر البرونزيِّ الأوسطِ الأوَّلِ والثاني والثالث، ولكنَّها منذُ الرابعِ ومطلعِ البرونزيِّ المتأخرِ اضطربَت وتحطَّمَت كِياناتُها السياسيةُ والاجتماعية، فاضطُرَّت إلى الهجرة والتشظِّي باتجاه فلسطين؛ بدليل أن شرقَ الأردن في العصر البرونزيِّ المتأخر شهد ظهورَ ممالكَ جديدة، هي باشان وعمون في الشمال وحشبون ومؤاب في الوسط وسعير وآدوم في الجنوب، ثم اختفت ممالكُ «باشان وحشبون وسعير» مع نهاية العصرِ البرونزيِّ المتأخر، وبرزَت «عمون ومؤاب وآدوم» في مطلع العصر الحديدي. انظر الخرائطَ (٥، ٦، ٧).
أمَّا الملاحظةُ الثانيةُ فهي أن هذه الأقوامَ ظهرَت بعد التحلُّلِ والتفسخِ السياسيِّ والإثْنِيِّ للهكسوس إبَّانَ طردِهم من مصر؛ أي إنهم الأقوامُ الناتجة من هذا التحلُّل؛ بدليل أن أغلبَهم من الأموريينَ الذين كانوا أساسَ الهكسوسِ عند دخولِهم إلى مصر.
وتلتقي الملاحظةُ الأولى مع الثانية إذا اعتبرنا تاريخَ الهكسوس دائرةً تتلاقى بدايةُ انطلاقِها مع نهايةِ إقفالِها؛ فقد كانوا من أصلٍ أموريٍّ شاميٍّ وعادوا إلى أصلهم بعد طردهم من مصر، ولكنَّهم كانوا ذوي كِياناتٍ سياسيةٍ واضحة في حين انتهَوا إلى قبائلَ بدويةٍ رعويةٍ تجوبُ جنوبَ بلادِ الشام.
- (أ)

-
(٤)
النزوحُ التدريجيُّ الذي بدأه الحوريون نحو بلاد الشام عامَّةً وفلسطينَ خاصَّةً منذ انضمامِ بعضِهم إلى الهكسوس، ولكنهم ازدادوا ترسُّخًا في فلسطينَ منذ بداية القرن الخامس عشر، ومعروفٌ أن الحوريين يشكِّلون جنسًا إِثْنِيًّا مختلفًا عن السيادة السامية على بلاد فلسطينَ؛ فهم ينتمونَ إلى الأقوام الآرية. «ورغم أنهم لم يدخلوا البلد فاتحينَ أو غُزَاة، فقد كان لهم نفوذُهم القويُّ وتأثيرُهم السائد، حتى إن المصريينَ بدءُوا يطلقونَ اسم «حورو» أو «الأرض الحورية» على أرض كنعان، وكثيرًا ما كان الحوريون يَصِلون إلى مناصب السلطة في «المدينة الدولة»، ويقيمون جنبًا إلى جنبٍ مع الأهالي، ويُعلِّمونهم لغتَهم الأكادية التي أصبحَت اللغةَ الرسميةَ للدبلوماسية، والكتابةَ الصنوبريةَ كذلك.»٤
ويبدو أن التسللَ الحوريَّ كان متواصلًا، وأن صعودَهم للمناصب العليا كان مُتأتيًا من ثقافتهم ومعرفتهم الكتابة، خصوصًا أن اللغةَ التي يستخدمونها لم تكن الحوريةَ بل الأكدية التي كانت قريبةً جدًّا من الكنعانية أو الأمورية؛ لأنها من عائلة اللغاتِ الساميَّة. وتُوضحُ ذلك ألواحُ تلِّ العمارنة التي هي عبارةٌ عن رسائلَ من أمراءِ فلسطينَ إلى ملوك مصرَ مكتوبة باللغة الأكدية وبالكتابة الصنَوبَرية (المسمارية).
وهكذا أعيدَ تشكيلُ البناءِ الإثنيِّ لفلسطينَ في العصرِ البرونزيِّ المتأخر؛ فالكنعانيونَ يمثلونَ الأكثريةَ الساحقةَ للمدن والقرى الأكثرِ استقرارًا منذ العصرِ البرونزيِّ الأوسط، ثم الحوريونَ الذين بدءُوا يحتلُّون، في المدن، المناصبَ العليا بسبب ثقافتِهم ومعرفتِهم للقراءة والكتابة، ثم البدوُ والرعاةُ المشرَّدونَ المُكوَّنون من الشاسو والشوتو والكوشو والعابيرو في الصحراء والأراضي الزراعيةِ الجافَّةِ والسهوب.
كلُّ هذه المقدمةِ لنتوغلَ في المرجعياتِ الأربعةِ الجديدةِ للعصرِ البرونزيِّ المتأخر، وهي المرجعياتُ «الآثاريةُ، التاريخيةُ، الميثولوجيةُ، الدينيةُ»
أولًا: المَرجعيَّةُ الآثاريَّة (أركيولوجيا القُدسِ في البُرونزيِّ المُتأخِّر)
(١) السُّور

غوشة ١٩٩٦: ٥٨–٥٩.
وصفَت كنيون هذا السُّورَ بأنه جدارٌ محشوٌّ بقطعٍ من الحجارة، واكتشفَت منه بقايا افترضَت أنها تُسوِّرُ كل المدينة، وتقع داخلَ سورِ العصرِ البرونزيِّ الأوسط.
(٢) الحُصُونُ والقِلَاع
هناك حِصنَان يبوسيان:
- الأول: شرقيٌّ عبارةٌ عن مَعْقِلٍ ينتصِب على جبل أوفل في منحدَره الشرقي، وعندما امتدَّ عَبْر حرفِ الجبلِ إلى الغرب تطوَّر إلى قلعةٍ حقيقية. وقد قام الكنعانيون ببناء هذا الحِصنِ الذي لا يُقهَرُ دفاعًا عن المدينة من الشرق.
- الثاني: كان على جبل صهيون، ويبدو أنه الذي أسمَتْه التوراةُ فيما بعدُ ﺑ «قلعة داود». وقد بناه الكنعانيونَ أولًا. وبوجود هذا الحِصنِ تكونُ القدس قد توسَّعَت باتجاه جبل صهيون «وقد ذكر البعض أن لفظ صهيون لم يكن يُشيرُ إلى مدينة أورشليم كلِّها، بل كان يُشير في الأصل إلى القلعة التي كانت تحمي المدينةَ من الجانب الشماليِّ الأكثرِ تعرُّضًا للغزو والاقتحام.»٧
(٣) المصَاطِب
(٤) الآثارُ المادِّيَّةُ المَنقُولَة
عُثر على كسورٍ فَخَّارِيَّةٍ من القرن الرابعَ عشرَ والثالثَ عشرَ في المدينة في مواقعَ داخلَ جدارِ السور، ووُجدَت آثارٌ كثيرةٌ في المقبرة العاليةِ التي تحدَّثْنا عنها في العصرِ البرونزيِّ الأوسطِ والمتأخر.

ثانيًا: المَرجعيَّةُ التاريخيَّة (فلسطينُ ومصرُ الإمبراطوريَّة)
- (١)
مرحلة الأسرة المصرية الثامنةَ عشْرةَ (١٥٧٠–١٣٠٤ق.م.) حيثُ بدأَت بعد منتصف القرن السادسَ عشرَ إلى نهاية القرن الرابعَ عشرَ قبل الميلاد؛ أي إنها استمرَّت زُهاءَ قرنَين ونصف. وهي المرحلة التي سادها حُكمٌ مصريٌّ مباشرٌ للقدس، وكان للحوريينَ أثَرٌ كبيرٌ فيها.
- (٢)
مرحلة الأسرة المصرية التاسعةَ عشْرةَ (١٣٠٤–١١٩٥ق.م.) حيث بدأَت مع بداية القرن الثالثَ عشرَ إلى بداية القرن الثانيَ عشرَ تقريبًا؛ أي إنها استمرَّت زُهَاء قرنٍ كامل. وهي المرحلة التي استمر فيها الحكمُ الإمبراطوريُّ المصري، وكان لليبوسيينَ والحيثيينَ الأثرُ الأكبرُ فيها. وتنتهي هذه المرحلةُ مع ظهور أقوام البحر في الشرق الأدنى في حدود ١١٩٠ق.م. حيث يبدأ عصرٌ جديد.
القُدسُ والأسرةُ المصريَّةُ الثَّامنةَ عشْرة
لا يُمكِننا قراءةُ تاريخِ فلسطينَ عمومًا، وتاريخَ القدسِ خصوصًا، في هذا الجزء من العصر البرونزيِّ المتأخر إلا من خلال تاريخِ الدولةِ المصريةِ الحديثة، التي أصبحَت إمبراطوريةً بضمِّها فلسطينَ وبعضَ أطرافِ الشام إليها.
لقد أدركَت مِصرُ أن أمانَ حدودِها الشرقية لا يكمُن في شرق الدلتا أو سيناءَ بل في فلسطين. وإذا كان أحمس، الذي قضى على الهكسوس في مدينة شاروحِن وشرَّدَهم في فلسطينَ والأردن، قد عاد سريعًا إلى مصر لينظِّمَ أمورَها الداخليةَ ويُدخِلَها في عصرٍ جديد، فإنَّ ابنَهُ أمنحتب الأول (١٥٤٦–١٥٢٦ق.م.) مدَّ نفوذَهُ السياسيَّ المباشرَ إلى جنوب فلسطينَ وبعضِ بلادِ الساحلِ الفينيقي.
أما شمال فلسطينَ وسوريا فقد كان مستقلًّا أحيانًا وواقعًا تحت نفوذِ الحوريينَ أو البابليينَ أحيانًا أخرى.
وعندما ظهَر الملك تحوتمس الثاني (١٤٩٥–١٤٩٠ق.م.) وظهرَت معه زوجته حتشبسوت انفصل النصف الشمالي من بلاد الشام عن السلطة المصرية، وتعاظم نفوذُ المملكةِ الحوريةِ الميتانية في شمال شرق بلاد الشام.
وأهملَت حتشبسوت شأنَ فلسطينَ مثلما أهملَت شئونَ بلاد الشام كلها. وكان من نتائج هذه السياسة أن قام أمراء فلسطينَ وسوريا بقيادة أميرِ قادِش بالتمرُّد على الحُكم المصري.
وما إن تولى تحوتمس الثالث (١٤٩٠–١٤٣٦) الحكم حتى جهَّز حملة لسحق هذا التمرُّد. واستطاع بعد معركة مجدو فعل ذلك واستولى على كلِّ فلسطين. وكانت حملتُه على مجدو فاتحةً لحملاتٍ أخرى، بلغ عددُها ستَّ عَشرَةَ حملةً رسخ فيها النفوذُ المصريُّ في الشام، وشعَر الحوريونَ ثم الحيثيونَ بالحاجة إلى صداقةِ مصرَ لا معاداتِها، وتراخى نفوذها في بلاد الشام.
ووجد تحوتمس الثالث بعد هذه الحروب أن الحاجة باتت ضروريةً لإنشاء حصنٍ دعاه «حصن طيبة» لتربية أمراءِ فلسطينَ والشامِ منذ طفولتِهم على الولاء لمصرَ وطريقةِ الحكمِ المصرية حتى يكونوا حكامَ المستقبل، وربما كان «عبدي حيبا» حاكم القدس في عهد أخناتون أحد هؤلاء.
وظل الحال على ما هو عليه في فلسطينَ أثناء حكم أمنحتب الثاني (١٤٣٦–١٤١١ق.م.). ثم تحوتمس الرابع (١٤١١–١٣٩٧ق.م.) الذي هادَن الميتانيين وتزوَّج منهم. وهدأ الصراعُ المصريُّ الميتانيُّ على بلاد الشام، ثم انفردَت المملكة الحورية الميتانية بالنصف الشمالي من بلاد الشام (ريتينو الشمالية)، وأحكمت مِصْرُ سيطرتَها على النصف الجنوبي من بلاد الشام (ريتينو الجنوبية).
وما إن ظهرَت الدولةُ الحيثيةُ حتى دخلَت في صراعٍ حاسمٍ مع الدولة الحورية الميتانية، وزالت الدولة الحورية الميتانية، الصديقةُ لمصر، من الوجود. وبذلك يكون الصراعُ المصريُّ الحيثيُّ قد حلَّ محلَّ الصراعِ الحوريِّ الحيثي، وكانت بلاد الشام، أيضًا، ساحتَهُ الكبرى.
عندما تولى أمنحتب الرابع (إخناتون) (١٣٧٠–١٣٤٩ق.م.) الحكمَ في مصرَ كان يحكُم فلسطينَ ولاةٌ محليونَ تَربَّوا في «حصن طيبة» على الولاء المطلَق لمصر. ولعل أبرزَ ما يمكنُ أن نتحدثَ عنه في هذا المكان هو ما عُرِفَ ﺑ «ألواح أو رسائل تل العمارنة».
أَلْواحُ تَلِّ العمَارِنة

- (١) إن هذه الأرضَ، أرضَ أوروسالم، لم يعطني إياها أبي ولا أمي، ولكن أيدي الملك القوية هي التي ثبَّتَتني في دار آبائي وأجدادي، ولم أكن أميرًا بل جنديًّا للملك وراعيًا تابعًا للملك … مُنحَت ملكية الأرضِ أوروسالم إلى الملك إلى الأبد، ولا يمكنُ أن يتركَها للأعداء.١٥
- (٢) لقد ثارت كل البلاد، فهذا الميلكو Ilimilku حاكم جازر (الواقعة غربي القدس) قد كان سببًا في فقدان كلِّ أملاكِ الملك … ليت الملك سيدي يبعث إلينا بوحداتٍ من رُماة السهام، وإذا كان هناك رماةُ سهامٍ في هذه السنة، فلسوف تبقى أرضُ الملك دون أن يمسَّها سوء، ولكن إذا لم يكن هناك رماةُ سهامٍ ضاعت أرض الملك.١٦
- (٣) لقد وضَع الملك اسمَه على أرض أورشليم إلى الآن، حتى إنني لا أستطيعُ ترك أورشليم.١٧
- (٤) إنهم (أي الأعداء) الآن يحاولونَ الاستيلاءَ على أورشليم، وإذا كانت هذه الأرضُ ملكًا للملك … هل تُترَكُ أورشليم تسقُط، ليت الملكَ يرسل لنا خمسينَ رجلًا كحاميةٍ ليقوموا بحراسة البلاد، لقد ثارت أرضُ الملكِ كلُّها.١٨
- (٥) ستضيع جميع أرض جلالتك التي ثارت عليَّ، أمَّا إقليمُ «شيري Seir» الواصلُ إلى «جنتَي كرمل Genti Kirmil» فقد شَق عصا الطاعة عليَّ، وكذلك أمراؤه. لقد كانت سُفنُ جلالَتِك الساعدَ القويَّ في بسط سلطتِك على بلاد النهرَين وقادِش. أمَّا الآن فقد احتلَّ بدوُ الخابيري بلادَ فرعون، ولم يبقَ لسيدي والٍ مطيع؛ فالكلُّ عصاه.ليحترس الملك على قطعانه وبلاده … وليُرسِل المدَد … لأنه إذا لم يصِلْ جنودُه هذه السنةَ ذهبَت ممتلكاتُ جلالةِ فرعونَ سيدي، وإذا تعسَّر إرسالُ جنودٍ هذه السنةَ فليرسِلْ جلالةُ فرعونَ ضابطًا يلازمُني للحضور أنا وأخوتي كي نموتَ مع سيدنا الملك.١٩
- (١)
انفراط إقليمِ القدسِ واستقلال مُدنه.
- (٢)
توسُّع إقليم نابلس (شكيم) في عهد حاكمه «لبعايو» وضغطه على القدس.
- (٣) ظهور طبقةِ «الخابيرو»، أو «ساجاز = قاطعو الرقاب» وهم «العابيرو»، «وهو مُصطلحٌ شاملٌ أُطلِقَ على المنبوذينَ أو العصاباتِ التي لا تنتسبُ إلى أيةِ مجموعةٍ جنسيةٍ محدَّدة، وهم يظهرونَ في النصوص المصريةِ كأسرى آسيويينَ يُستَخدَمون في المحاجر.»٢٠ ولا نعتقد أن لهؤلاءِ علاقةً بالعبريينَ كما يذهبُ إلى ذلك باحثونَ كثيرون.
وهكذا تردَّى الحالُ في جنوب فلسطين، وانهارَ الولاةُ الموالينَ لمصرَ في المدن الفلسطينية، فقُتِلُوا أو أعدِمُوا أو انضَمُّوا إلى الأعداء، وخرجَت فلسطينُ قُبيل وفاة إخناتونَ عن طاعة مصرَ تمامًا إليها، واستقلَّت ممالكُ سوريةٌ وفلسطينيةٌ وفينيقيةٌ بنفسها، وأصبحَت إمبراطوريةُ مصرَ على حافة الانهيار.
ولم يتغيَّر الأمرُ مع سمنخ كارع ثم توت عنخ آمون (١٣٤٨–١٣٣٧ق.م.) ولا مع خليفته «آي» ولا مع «حور محب» الذي عالج اضطراباتِ سوريا بمعاهدةٍ مع الملكِ الحيثيِّ مورسيل الثالث، لكنه ترك فلسطينَ مسرحًا للاضطراباتِ الأهلية.
القُدسُ والأسرةُ المصريَّةُ التاسعةَ عَشْرة
نُرجِّحُ ظهورَ اليبوسيين في القدس عند نهايةِ فترةِ حكمِ الأسرةِ الثامنةَ عشرةَ وبدايةِ حكمِ الأسرةِ التاسعةَ عشْرة. ورغم أننا لا نتفق مع الرأي الذي يربط اليبوسيين مع الحيثيين بصِلةٍ إثنية (عرقية) لكننا نُرجِّحُ ظهورَهم المُرافقَ للحيثيين.
ومن المحتمَل أنهم يُشكِّلون أشرافَ أو زعماءَ الكنعانيينَ في القدس، والذين ظهرَت قيادتُهم للحكم في القدس بعد انهيارِ حُكم «عبدي حيبا» وانفراطِ ولاءِ القدسِ لمصر.
وترى كنيون أن بناء المصاطب استغرَق وقتًا طويلًا؛ إذ بدأ العمل بها في منتصف القرنِ الرابعَ عشرَ قبل الميلاد، واكتمل في مطلع القرن الثالثَ عشَر، ولعل سبب هذه الفترةِ الطويلةِ ظهور الكوارثِ الطبيعيةِ كالزلازل، أو تآكل التربة، والحجم الكبير لجدران المصاطب، التي وصل ارتفاعُ بعضِها إلى ٣٣ قدمًا.
اليبوسيون إذن من شغَل تاريخ القدس في النصف الثاني من العصرِ البرونزيِّ المتأخر؛ فهم لم يظهَروا في العصر البرونزي الأوسط، كما تذهب معظمُ آراءِ الباحثينَ في هذا الشأن؛ ولذلك يتوجَّبُ علينا تصحيحُ هذه القضية، والقولُ إن الكنعانيين بعامةٍ هم مَن شغَل القدس في العصر البرونزي الأوسط. أما أشرافُهم من اليبوسيين فهم الذين حكَموا القدس في العصر البرونزي المتأخر وفي قرنه الأخير تحديدًا (القرن الثالثَ عشَر) وما بعده؛ فهم الذين بنَوا القدسَ الثالثة (يبوس) ووسَّعوها باتجاه جبل صهيون. ومع صعودِ الأسرةِ التاسعةَ عشرةَ في مصر — وبَدءِ الضابط «رمسيس الأول» بقيادة دَفَّةِ البلادِ بعد وفاةِ زميلِه «حور محب» — اتجهَت الأنظارُ لإعادة السيادةِ المصريةِ إلى فلسطين، لكنَّ ذلك لم يتحقَّق إلا عند تولِّي ابنِه «سيتي الأول» (١٣٠٣–١٢٩٠ق.م.) عرشَ مصر الذي قاد حملةً هزَم فيها بدوَ سَيناء، وأقام مذبحةً كبيرةً بين البدوِ الرُّحَلِ الثائرينَ من الشاسو، ثم استولى على الحصون التي كانت تمتدُّ من القنطرة حتى رفح، وكان سكان بيسان — بمؤازرةٍ من الحيثيينَ وتحالُفٍ مع الكنعانيين — قد تمرَّدوا عليه. «ولم يجد سيتي صعوبةً في دحر هذا التحالُف، على الرغم من الإزعاج الذي سَبَّبه العابيرو لمؤخرة جيشه. وفي «ينوعام» تقبَّل مراسمَ طاعةِ حُكامِ لبنان، ما عدا عمورو التي استظلَّت بحماية الحيثيين، ثم قام بحملةٍ أخرى غيرِ حاسمة، ضد قادِش وعمورو التي استظلَّت بحماية الحيثيين.
واستمر سيتي الأول في إعادة سيطرةِ مصرَ على فلسطينَ وفينيقيا وجنوب سوريا، ثم عقد معاهدة صُلحٍ مع الحيثيين.
وحين خرَق الحيثيونَ هذه المعاهدةَ دارت معركة قادِش الطاحنةِ بين رمسيس الثاني (١٢٩٠–١٢٢٣ق.م.) وتَجمُّعٍ من الإمارات المنفصلة مع الحيثيين، وكان أنِ اكتسحَ رمسيس أولًا بلادَ فلسطينَ ليصل إلى قادِش. ولم يمضِ عامانِ على معركة قادِش حتى كانت فلسطينُ نفسُها قد ثارت بأَسْرها، وامتدَّتِ الثورةُ حتى وصلَت إلى حدود مصر، فسارع رمسيسُ الثاني إلى إخمادها، ثم عقد معاهدةَ صلحٍ مع الحيثيينَ لمواجهة أعداءٍ مشتركينَ لهما، وهم شعوبُ البحر التي بدأَت بالتحرُّك نحو آسيا الصغرى وسواحل المتوسط الشامية والمصرية. وأصبحَت الأرضُ التابعةُ لمصر تُعرفُ باسم «أرض كنعان»، والتي كان أهم مراكزِها هما موقعا تلِّ القدح (تل وقاص) وحاصور.
وهذا يعني أن مصطلحَ كنعانَ ظهَر في الوثائقِ المصريةِ تحديدًا في سنة ١٢٨٠مق.م. أي قبل أن يظهر في التوراة بزمنٍ طويل.
ومصطلحُ «كنعان» أمرٌ خلافيٌّ جرى إطلاقُه لاعتباراتٍ كثيرة؛ فهو أولًا يميِّزُ بين فلاحي السهول المستقرِّينَ (كناخي) والبدوِ الرُّحَلِ حولَهم (شاسو وعابيرو وشوتو)، ثم إنه أطلِق على تجار الأرجوان (كنع) الذين هم التجارُ وليس الفلاحون أو البدو؛ فتاجر الكنعان هو الذي يتاجر بصبغة الكنعان الأرجوانية بحرًا إلى مصر والعالَم، ثم أطلِق الاسم، بسبب البحر، على المدن الشامية الساحلية، وكان قد أطلِق على المدن والقرى السهلية. وهكذا تحول المصطلحُ الجغرافيُّ التِّجاريُّ إلى مصطلحٍ إثنيٍّ ليدل على قومٍ بعينهم.
لكن مصطلح «كنعان» كان محدَّدًا ولم يكن شائعًا أو رسميًّا؛ ولذلك يبرز السؤال المهم: ماذا كان يُطلَقُ على هؤلاء الأقوامِ قبل أن تَرِدَ بعضُ الإشاراتِ عن اسمِ «كنعان» هذا؟
ثم اندثَر هذا الاسم بعد استقرارِهم في أرض الشام (التي أخذَت الاسم منهم)، وتوزَّعوا في المدن، وأخذوا أسماءَهم من أسماء هذه المدن (أوغاريت، جبيل، صور، صيدا، يبوس، … إلخ).
بل إن أصقاعَ بلادِ الشامِ كانت تُعرَفُ بأسماءٍ مختلفة؛ فمثلًا عندما جاء الملك مرنبتاح إلى العرش المصري (١٢٢٢–١٢١١ق.م.) تَوَجَّهَ، بعد ثلاثِ سنواتٍ من حكمه، لإخماد ثوراتٍ في فلسطينَ سجَّلَها لنا على لوحةٍ أصبحَت تُعرف عند الآثاريين «لوحة إسرائيل» حيث يَرِد اسمُ فلسطينَ بصيغة «حورو»، وهو الاسمُ الذي كان يُطلَق عليها سابقًا، ويَرِد لأوَّلِ مرَّةٍ في التاريخ اسمُ «إسرائيل»، وهي المرة الوحيدة التي يُذكَر فيها هذا الاسمُ على الآثار المصرية. أما ترجمةُ لوحةِ مرنبتاح هذه فهو كما يلي:
وهناك ترجمةٌ أخرى للمقطع الأخير كما يلي:
وقد أثارت كلمة «إسرائيل» في هذه اللوحةُ مُخيِّلةَ بعضَ العلماء، مثل ألستروم وإيلدمان، واللذَين رأَيا فيها تعبيرًا جغرافيًّا استُعمِل بتوازٍ متقاطعٍ مع كنعان، ليَدُل على جزءٍ كبيرٍ من فلسطينَ أو سكانِها، ويعتقدانِ أنها تقومُ في إفرايم، وأنها نواةُ إسرائيلَ التي ظهرَت في العصرِ الحديديِّ الثاني. أما ستاغر فقد قام بربط هذه اللوحةِ بتاريخٍ لاحقٍ عليها وغيرِ ممكنٍ ﻟ «أغنية دبوره» في سِفرِ القضاة … وهكذا.
تُوصَف «لوحة مرنبتاح» بأنها لوحةٌ كبيرةٌ من الجرانيت موجودةٌ في المعبدِ الجنائزيِّ لرمسيس الثاني في الضفة الغربية من طيبة، وتتضمَّنُ ما يُشبه النشيدَ الفخريَّ لانتصاراتِ الفرعونِ على أعدائه من الليبيينَ والفلسطينيين. ولا تُذكَرُ كلمةُ إسرائيلَ آثاريًّا، في جميعِ منطقةِ الشرقِ الأدنى، مرةً أخرى، إلا بعد ذلك بزمنٍ طويل، في مسلة الملك ميشع، ملكِ مؤاب، حوالَي عام (٨٤٢ق.م.)؛ حيث حارب ميشع إسرائيل. ولم تُذكَرْ إسرائيلُ خلال القرونِ الأربعةِ بين مرنبتاح وميشع رغمَ كلِّ الضجَّةِ الكبيرةِ التي تثيرُها أسفارُ العهدِ القديمِ حول مملكةِ داودَ وسليمان … إلخ، فكيف نفسِّر ذلك؟
يبدو أن الهدوء ساد العلاقاتِ وحريةَ التنقل من فلسطينَ إلى مصر، وأصبحَت قائمةً بدليل ما ورَد في يوميات ضابطٍ مصريٍّ يصف حركة قبائل الشاسو في مصر:
بل إننا نرى أن نهاية الأسرة التاسعةَ عشرةَ (التي ينتهي معها العصرُ البرونزيُّ المتأخر) تُختتَمُ بتولِّي شخصٍ سوريٍّ (شامي) اسمه «إرسو» عرشَ مصرَ بعد أن دبَّت الفوضى، وأعلن كثيرٌ من كبار حُكام الأقاليم استقلالَهم عندما اختفى الفرعونُ الشرعيُّ لمصر «رعمسيس سي بتاح»، فدبَّت الفوضى في مصر حتى تولَّى «ست نخت»، والد رعمسيس الثالث، الحُكم وأسس الأسرة العشرين.
إن ما نودُّ التأكيدَ عليه — بعد هذا العرضِ السريعِ لعلاقة مصر بفلسطين — هو ظهورُ التوترِ الشديدِ بينهما وعمليات الغزوِ الكاسحةِ التي كان يقومُ بها الجيشُ المصريُّ لشمالِ وجنوبِ بلادِ الشام، وكيف أنه كان يُسيطرُ على المدن الفلسطينية. لكن اللافت للانتباه أن القدس ظلت في مرحلةِ الأسرةِ التاسعةَ عشرةَ بعيدةً عن أحداث العنف هذه. ويبدو أن الأسرةَ اليبوسيةَ حكمَت المدينةَ بهدوءٍ وكانتِ التجارةُ هي عمل المدينة الرئيسي، وقد أمَّن حكامُ القدسِ مدينتَهم من خلال دفع الجزيةِ للمصريينَ مقابلَ السلامِ معهم؛ ولهذا السببِ تطوَّرت القدسُ اليبوسية (يبوس) كثيرًا خلال هذه الفترةِ وما بعدها؛ فقد انتعشَت الطرقُ التجاريةُ المرتبطةُ بها، وكان أهمُّها طريقَين؛ الأوَّل يربط البحرَ بالصحراء ويمرُّ بالقدس، والثاني يربط الخليلَ (حبرون) ببيت إيل ويمر بالقدس.
وكان من حُسن حظِّ القدسِ أن أغلب الهجماتِ المصريةِ كانت تمُرُّ بمحاذاة ساحلِ البحرِ المتوسط، مَارَّةً بغزةَ وعسقلونَ وجازر، ثم يتجه بعضها إلى وسط فلسطين، الذي تقع فيه أغلب المدنِ الفلسطينيةِ الثائرة. ومع ذلك فقد حسَّن اليبوسيونَ من حصن مدينة القدس، وسلكوا سلوكًا سياسيًّا رصينًا، وتجنَّبوا الحروب عن طريق إقامة الاتفاقيات والعلاقات الحسنة مع دول مدن الجوار.

شهد ذلك العصرُ تأثيرَ الحضارةِ المصريةِ على الشعوب التي سكنَت في فلسطين، رغم بقاءِ التأثيرِ الكنعانيِّ محافظًا على خصوصيتها.
قام سيتي الأول بتوطيد السلطةِ المصريةِ في فلسطينَ والشام، وقاوم الحيثيينَ الذين حَكَموا آسيا الصغرى بنجاح، وعقَد معهم معاﻫدةَ سلامٍ وعدم اعتداءٍ عليهم. وربما كانتِ القلعةُ المصريةُ في بيسانَ لم تُبنَ بعدُ، لكنَّ العثورَ على لوح سيتي الأول في بيسان، دليلٌ على الوجود المصريِّ الواسعِ في فلسطين، والذي سبَّبَ الكثيرَ من الاستقرارِ التِّجاريِّ والثقافيِّ لفلسطينَ كلِّها.
ثالثًا: الأساطيرُ والمِيثولوجيا (بَعلٌ وصُهْيون: الإِلَه وجبَلُه المُقدَّس)
ظلَّ تقديسُ الإله «شاليم» قائمًا في القدس اليبوسية باعتباره إلَهَ المدينةِ الرئيسيِّ وحاميَها، لكننا لا نعرف على وجه الدقة مكان «هيكل شاليم»، وفيما إذا جُدِّد بناؤه أم لا في العصر البرونزيِّ المتأخر!
لكننا نرى أنه ليس من الغريب عبادةُ الإلهِ بَعلٍ في المدينة؛ فقد عُبِد أبوه في العصر البرونزيِّ المبكر، ولكنَّ مجيءَ الحوريينَ ثم الحيثيينَ إضافةً إلى الكنعانيينَ اليبوسيينَ في العصرِ البرونزيِّ المتأخر- جعل من مجتمع مدينة يبوس يُفكِّرونَ بإلهٍ مشترَكٍ بينهم كانوا يتعبَّدونه قبل مجيئهم إلى المدينة، ولم يجدوا أفضلَ من الإله «بعل»؛ فهو إلَهُ الطقس عندهم جميعًا؛ ثم إنه الإلَهُ القوميُّ لكلٍّ منهم تحت أسماءٍ مختلفة، فإذا كان اسمه الصريحُ عند الكنعانيينَ هو «بعل»، فإنه كان يسمَّى عندَ الحوريين «تاهوندا»، وعند الحيثيينَ «تيشوب»، وأصبح عند الآراميين — وهم السكانُ المجاورونَ للكنعانيين — باسم «حدد». ويشترك جميعُهم في صفاتٍ متقاربةٍ لعل أهمَّها أنهم آلهةُ طقسٍ وعاصفة، وآلهةٌ قوميونَ لشعوبهم، ويظهرونَ بمظهر المحارِبين (انظر شكل ٥٩).
وكان لقبُ «بعل» الذي يعني «السيد أو الرب» هو الذي يجمعُهم، ويشيرُ إلى الحيويةِ والخصبِ والقوةِ وركوبِ السحابِ وإرسالِ البروقِ والرعودِ التي تبشِّر بنزول المطر.

كلُّ هذه الأساطيرِ كانت من صُلب عقائدِ الكنعانيين، ومنهم اليبوسيون، وهي حاضرةٌ في قلب الأساطيرِ الحيثيةِ والحورية، كذلك نجد أنها تُكمِلُ عبادة «شالم»، ولا تتعارضُ معه؛ لأن «بعل» يمثِّل دورةَ الخصب، ويمثِّل شالم دورةَ الليلِ والنهارِ ممثلةً بكوكب الزهرة، الذي هو كوكبٌ يمثِّل الخِصبَ أيضًا عن طريق الحُبِّ، كما يظهرُ بعلٌ وسالمٌ كابنَين للإله إيل.

لكنَّ النقطةَ الأهمُّ التي ظهرت مُرافِقةً لعبادة بَعلٍ في القدس تتعلقُ بجبل «صهيون»، الذي نرى أنه كان مقرَّ عبادةِ بَعل، في حين نرى أن جبل أوفل كان مقرَّ عبادةِ شالم. أمَّا جبلُ موريا فقد كان مقرَّ عبادةِ أبيهما الإلهِ إيل (إيل عليون) وعند الأموريينَ قبلهم الإله «مر» أو «داجون».
وعلينا في هذا المجال أن نتحاشى اللبْس الشائعَ والخطيرَ الذي يمثِّلُه ارتباطُ صهيونَ باليهود وإسرائيلَ وغيرِ ذلك؛ لأن «صهيون» لا علاقة له مطلقًا في بدايته بهؤلاء، الذي لم يكن لهم وجودٌ عندما أطلِقَت على الجبل هذه التسمية؛ ﻓ «صهيون» اسمٌ كنعانيٌّ أيضًا، لكنَّ اليهود — الذين ما زال على ظهورهم حوالي ألفُ سنة — سرَقوا هذا الاسم، واعتبروه جزءًا من تُراثهِم في مدينة القدس.
مثلما سرقوا هيكل شليم واعتبَروه هيكلَ سليمان وأصبح مركزَ عقيدتهم. ولا بُدَّ لنا، في هذا المجال، من توضيح أصلِ تسميةِ صهيونَ وعلاقةِ ذلك بالعهدِ القديمِ واليهود.
كان الإله بعل — وَفقَ ما ترويه نصوصُ أوغاريت — يسكنُ في قصر دائمي نُسجَت حوله أسطورةٌ معروفةٌ تقضي ببنائِه على جبلٍ يسمَّى «صفُن» أو «صفون»، وكان هذا الجبلُ هو المكان الذي يُدفَنُ فيه الإلهُ بعل، أيضًا، بعد صراعه مع «موت» كلَّ سبعِ سنوات؛ حيث تقوم زوجته «عناة» بدفنه هناك.
- (١) جبل الأقرع: وهو الأرجح، وهو جبلٌ يقع على بعد ٥٠كم شمال أوغاريت عند مصَبِّ نهرِ العاصي؛ حيث يمكنُ مشاهدةُ قمتِه منها، وهي محاطةٌ بالسُّحُب حتى في الأيام المشمسة، فلا عجب أن يتخذَ إلَهُ المطرِ والصواعقِ قِمَّتَه منزلًا له في التصوُّرات الأسطورية. وقد حافظ الجبل على قدسيته في العصور الهيلينية والرومانية؛ فقد تربَّعَ فوقه «زيوس كاسيوس»، ولعب دورَ الأولمب السوري، وحافظَ على قُدسيته في الديانة المسيحية حتى العصورِ الوسطى.٣٢
- (٢)
جبل حازي: في آسيا الصغرى، وهو جبل بعلٍ الحيثيِّ والحوريِّ (تشباك وتاهوندا) في النصوص الحيثية والحورية.
- (٣)
جبل قاسيون: في حلب، الذي نشأَت تسميتُه من أحد احتمالَين:
فهو إمَّا تحويرٌ لكلمة حازي إلى كاسيوس الرومانية ثم قاسيون. وإمَّا أنه مَزجٌ بين كلمتَي حازي وصفون فأصبح حازيفون التي أصبحَت مع الزمن كازيون، والاحتمالُ الأولُ هو الأرجح.
هذه الجبالُ الثلاثةُ كانت أشهرَ جبالِ بعلٍ في بلاد الشام وآسيا الصغرى، ولكننا قبل أن نناقشَ ذهابَ التسميةِ إلى القدس علينا معرفةُ معنى كلمة «صفن».
وللتأكُّد من هذه الملاحظة نرى أن اسمَ جبلِ صفون يَرِد في العهد القديم باسم جبل الاجتماع الذي في أقاصي الشمال.
والعَلِيُّ هنا تعبيرٌ معروفٌ عن الإله «بعل». وما دام الأمرُ كذلك فقد نقل الحوريونَ والكنعانيونَ عبادةَ بعلٍ على الجبل «الشمالي» لمدينة القدس، وربما بنُوا معبدَه هناك فصار مقرَّه ومهوَاه. والراجح أنهم أطلقوا عليه في البداية جبلَ «صفون» ثم تحوَّل هذا الاسمُ إلى «صهيون»، ربما بفعل تصويتٍ حيثيٍّ أو حوريٍّ أخذ بنظر الاعتبار دمجَ كلمةِ صفون مع كلمة حازي أو هازي، أو أن كلمة صفون تحوَّلَت مباشرةً إلى «صهيون».
ونَوَدُّ أن نشيرَ إلى أن «صفون» أو «صهيون» قد يشيرانِ مباشرةً إلى الإله بعل؛ حيث يتحول الجبلُ نفسُه إلى إلَه، أو أن بعل اكتسب أيضًا اسم هذا الجبل؛ حيث نصادفُ اسمَ «بعل صفون» الذي يُذكَرُ كثيرًا في النصوص الأوغاريتية.
ومن هنا نرى وجه الشبه الكبير بين النصوص الأوغاريتية ونصوص المزامير في العهد القديم، التي تشير إلى العبادة على جبل صهيون، في حين تمتدحُ النصوصُ الأوغاريتية «بعلًا» وانتصاراتِهِ على التنِّين البحْريِّ على جبل صهيون. وهكذا نجد أن هذه النصوصَ اعتمدَت على نصوصٍ كنعانيةٍ سابقةٍ عليها هي النصوص الأوغاريتية.
هذا المشهد يوضِّحُ لنا صعودَ عبادةِ الإله «بعل» في أورشليم، ولنحفَظ تمامًا هذه الصورةَ ولنُدرِك أنها كانت هكذا قبل بَدْءِ العصرِ الحديدي؛ لأن ذلك من شأنه أن يعطيَنا فكرةً مذهلةً عن عبادات العصرِ السابقِ للإلهِ شليم وهيكلِه.
•••
بقيَ أن نُلقِيَ الضوء على اسم أرنانا الذي هو الاسمُ الحيثيُّ لمدينة القدس، والذي ظهر في العصرِ البرونزيِّ المتأخر، والذي له خلفيةٌ ميثولوجية أيضًا؛ فهذا الاسم له علاقةٌ بإلهةِ الأرضِ الحيثية «آره»، والعهدُ القديمُ يتحدثُ عن قائدٍ حيثيٍّ اسمُه «أرنان» مع داود.
تذكُر نصوصُ المواثيقِ الحيثيةِ جبلَ صفون (حازي) إلى جانب اسمِ «ناني»، فإذا جمعنا كلمةَ الأرضِ في الحيثيةِ مع اسم هذا الجبل «ناني» يكون «أرناني» أو «أرنانا» وهو، في رأينا، مصدرُ الاشتقاق. وهذا يعزِّزُ استنتاجَنا السابقَ حول جبل صفون وصهيون؛ حيث نرى أن الحوريينَ، ومن ثَم الحيثيين، أطلقوا اسمَ الجبلَين اللذين يَرِدَانِ مع بعضهما في النصوص الحيثيةِ والمرتبطين ﺑ «بعلٍ»، وهما حازي (صفون) وناني، فتحوَّلا في القدس إلى صهيون وأرنانا؛ أي قياسًا إلى الأصل «جبل صفون» و«أرض الجبل ناني». ولأن القدسَ سُمِّيَت أرنانا؛ فلذلك نرى أن المقصودَ منها القدسُ المُقَامةُ على جبل «أوفل» المقابلِ لجبل «صهيون».
وفي هذا المقام علينا أن نتذكَّر أن التوراةَ نفسَها ذكرَت اسم حاكمٍ لمدينة القدس هو «أرونا»، وهو الذي باع بيدره لداودَ عندما دخل إليها.
و«أرونا» كلمةٌ حورية وحيثية أيضًا. وهذا جزءٌ من أساطيرِ وتهاويلِ العصرِ الحديديِّ على لسان كتَبةِ التوراة.
وقد عُثر على معبد أرنانا في نزلات وادي القدرون في القدس.
أمَّا الاسمُ الحوريُّ الآخَرُ الذي ورَد في الوثائق المصرية فهو أرضُ هبه أو هبة أو حيبا، وهبة (حيبا) إلهةٌ حورية وحيثية ظهرَت في اسم حاكم القدس «عبدي – حيبا»، ولكننا لا نملك دليلًا آثاريًّا على وجودها ضمنَ عباداتِ مدينةِ القدسِ في العصر البرونزيِّ المتأخر، أو أنها أصبحَتْ ضمنَ مجمعِ الآلهةِ اليبوسي؛ لكنَّ وجودَها في القدس أمرٌ مؤكَّد.
رابعًا: المَرجعِيَّةُ الدينيَّة: تُراثُ يبوس الديني
يتضح لنا من المرجعية الميثولوجية لمدينة القدس في العصر البرونزي المتأخر أن ثَمَّةَ ديانةً يبوسية هي التي استقرَّت في القدس، وصهَرَت في نسيجها ما يمكن أن نسمِّيَه بعبادة العصرِ البرونزيِّ في القدس، التي ظهَرَت في نهاية الألفِ الثاني قبل الميلاد.
إن هذه العبادةَ يجبُ أن تُناقَشَ بحذرٍ شديد؛ فمعروفٌ أن القدسَ أصبحَت دولةً مدنيةً في العصرِ البرونزيِّ المتأخر، واستمرَّت كذلك إلى العصرِ الحديديِّ في حدود (١٠٠٠ق.م.)؛ أيْ طيلةَ ما يقرُب من (٥٠٠ سنة)، وهذا يعني أن هناك تقاليدَ دينيةً خاصَّةً ظهرت فيها.
صحيحٌ أن أصولَ العبادةِ اليبوسية كامنٌ في الديانة الكنعانية، ولكنَّ خصوصيةَ «يبوس» ومُدَّتَها الطويلةَ من جهة، وذوبان العناصرِ الحوريةِ والحيثيةِ والمصريةِ في نسيج دياناتها من جهةٍ أخرى، أَدَّيَا — بلا شك — إلى ظهور عبادةٍ يبوسية لها بعضُ الخصوصياتِ الواضحة.
ومن أجل التقاطِ خيوطِ هذه العبادةِ سنحاولُ إعادةَ تشكيلِ صورتِها عن طريقَين معًا؛ الأوَّلُ هو أن نبحثَ فيما تيَسَّر لنا من التراثِ اليبوسيِّ ونحاول تشكيل صورتها. والثاني هو أن ننطلقَ من التوراة رجوعًا إلى العصرِ اليبوسيِّ (مع الحذَر من الأيديولوجيا الدينية التوراتية التي قد تُفسِدُ كلَّ شيء) لنتعرَّفَ إلى ماهية هذه العبادة. وسنسلكُ الطريقتَين في حوارٍ وجدلٍ وتمحيص.
- (١)
المعركة ضد فوضى المياه الهيولية الأولى (يم)، والمعركة ضدَّ الأممِ، وهي موضوعاتٌ كان بعلُ محورَها الأصلي.
- (٢)
الإله البعيد إيل، بوصفه خالقًا وقاضيًا أعلى.
- (٣)
آلهة المدينة الأخرى، مثل سالم.
أي إنه حدَّد ثلاثةَ آلهةٍ رئيسية هي «بعل وإيل وسالم». والحقيقة أن علينا هيكلةَ هذه الآلهةِ مع ما عَرَفنا من آلهة أورشليم، ووضعَها وَفْقَ النَّسَقِ الآتي:

وتستمدُّ القدسُ قداستَها الطبيعيةَ من مرتفعاتها التي تُشكِّل أماكنَ عاليةً وواضحةً يمكنُ أن تكونَ مركزًا كونيًّا، إضافةً إلى ما امتزجَت به من قداسةٍ إلهيةٍ حيث استقرَّ كلُّ إلَهٍ على جبل (سالم على أوفل، بعل على صهيون، إيل على موريا)، وسيؤثِّر هذا على التراث اللاحق لليبوسيين؛ حيث نرى القدسَ وهي تمثلُ مركزَ العالَم.
كلُّ هذا التصوُّرِ عن قدسية يبوس ومرتفعاتِها نشأَ أوَّلًا في ذهن اليبوسيين الذين ينتمون لعقيدةٍ دينيةٍ كنعانية كانت ترى في المكان المقدَّسِ المرتفعِ مركزًا للعالم، أو سُرَّةً كانت تربط الأرضَ بالسماء.
ويَحفِل سِفْرُ المزاميرِ بالكثير من الإشارات الميثولوجيةِ واللتورجيةِ العَبْرانيةِ ذاتِ الجذورِ الكنعانية، واليبوسية بشكلٍ خاصٍّ، عندما يتعلقُ الأمرُ بأورشليم والطقوسِ التي كانت تجري فيها.
وتُشبِهُ هذه الطقوسُ ما كان يحصلُ مع معبدِ الإله «بعل» وهبوط المطرِ على تمثالِ الإله بعد فتحِ طاقاتِ السماء، وهي طقوسٌ كنعانيةُ الأصل.
وبإمكاننا أن نُحصِيَ الكثيرَ من الطقوسِ الواردةِ في التراثِ العبريِّ ثم اليهوديِّ لنجدَ صلتَها المباشرةَ بالتراثِ الكنعاني.
ونرى أن المرتفعاتِ والتماثيلَ والسواريَ وحيةَ النُّحَاس، كلها، كانت رموزًا دينيةً كنعانيةً يبوسية في أورشليم.