المبحثُ الثالث: العَصرُ البُرونزيُّ المُتأخِّر (١٥٥٠–١٢٠٠ق.م.): (يوروسالم)

تغير الوضعُ تمامًا في العصر البرونزي المتأخر، وتغيَّرَت أحوال فلسطينَ والقدسِ من جميع النواحي المناخية والسياسية والإثنولوجية، وكان هذا العصرُ بمثابةِ خاتمةِ عصرٍ كاملٍ كان في طريقه إلى الزوال.

ولعل ثمَّة عواملَ مهمةً أَدَّت دورًا في تشكيل هذا العصر كان أهمُّها ما يلي:
  • (١)
    تغيُّر المُناخ: حيث أصبح مُناخ فلسطين، عمومًا، بعد القرن السادسَ عشرَ قبل الميلاد، أكثرَ جفافًا، وكان أثر ذلك واضحًا على اقتصاد فلسطينَ وحجمِ الاستيطانِ فيها. ويُمكِن أن نُوردَ مثالَين عن تحوُّلات الاقتصاد والاستيطان نتيجةً لتغيُّر المُناخ.١
    • (أ)

      نمطُ استثمارِ الزيتون يشير إلى أن إنتاجَ العصرِ البرونزيِّ الثاني قد تزايدَ كثيرًا، واستمرَّ كذلك طَوالَ هذه الفترةِ في الجزء الشمالي من فلسطين، مما يناقضُ بحدةٍ الانخفاضَ الظاهرَ في مستوى الإنتاج خلال العصرِ البرونزيِّ الأخير.

    • (ب)
      أنماطُ الاستيطانِ في موقع تلال عرون Iron — حيث كان الاستيطانُ واسعَ النطاقِ خلالَ العصرِ البرونزيِّ الوسيط — تُشير إلى نقصٍ حادٍّ في المياه خلال الصيف في هذه المنطقة (مما أدَّى إلى جفاف الآبار والينابيع حتى في أفضل السنوات)، وهو ما حَالَ دون الاستيطانِ خلالَ العصرِ البرونزيِّ المتأخر، الأكثرِ جفافًا.
  • (٢)

    الاحتلال المصري: حيث رافقَ اضطرابَ المُناخِ والزراعةِ والاستيطانِ الضربةُ العسكريةُ الحاسمةُ من مِصرَ التي بدأَت، منذ بدايةِ الدولةِ الحديثةِ وطردِ الهكسوس، تمدُّ حدودها إلى فلسطينَ بأكملها، لتؤسِّسَ أوَّلَ كِيانٍ إمبراطوريٍّ لها. وكان الحيثيونَ قد احتلوا شَمالَ بلادِ الشام، وهكذا اختار المصريونَ والحيثيونَ أن يتقابلوا وجهًا لوجهٍ على أرض الشام. ومعروفةٌ تمامًا نتائجُ هذا النوعِ من صراعات الإمبراطوريات الكبيرة على أرضٍ ليست أرضَها.

    وهكذا انقرضَت مدنُ الأطراف الفلسطينيةِ التي كان لها وجودٌ واضحٌ في العصر البرونزيِّ الأوسط، وانكمشَت من السهول الوسطى، وبشكلٍ عام، ظهرَت «مدن العصرِ البرونزيِّ الأخير أصغرَ حجمًا وأفقرَ ماديًّا، وفي الغالب، غيرَ مُحصَّنة، وربما كان ذلك نتيجةً للسياسة الإمبريالية المصرية، التي وَجدَت أن التعامُلَ مع دولٍ تابعةٍ غيرِ مُحصَّنة أفضلُ لها عند التعامُلِ مع ثوراتٍ معاديةٍ مُحتمَلة.»٢
  • (٣)
    ظهورُ الأقوامِ الرعويةِ غيرِ المستقرةِ في فلسطين، وارتباطُها بمناطق السهوبِ والمرتفعاتِ الفلسطينية، ورغم أنه من الصعب التمييزُ الواضحُ والدقيقُ بين أنواع هذه الأقوامِ إلا أننا نستطيعُ أن نُصنِّفَها إلى أربعةِ أنواعٍ هي:
    • (أ)
      عابيرو Apiru: وهو لقبٌ يُستعمَلُ لوصف مجاميعَ من قُطاعِ الطرق، ويبدو أنه يُشيرُ إلى طبقةٍ اجتماعيةٍ أو جماعاتٍ متنازعةٍ مع بعض حكامِ العصرِ البرونزيِّ الأخير، ولكنه لا يُستعمَلُ في أيِّ حالٍ للإشارة إلى أيِّ مجموعةٍ إثنيةٍ معينةٍ في فلسطين، والأحرى هو أن نصوصَ تلِّ العمارنة تشير إلى أناسٍ دُفِعُوا — بسبب الفقرِ أو كارثةٍ شخصيةٍ أخرى — إلى أطراف المجتمع، ففقَدوا وضعَهم المعتادَ وعاشوا مشرَّدينَ كمرتزقةٍ وعمالةٍ مأجورةٍ ولصوص، لم يكونوا فلاحينَ ولا رعاة، ولا هم بدوٌ ولا هم مُستقِرُّون، بل عاشوا بعيدًا عن النمط المألوف والمعايير الاجتماعية.٣
    • (ب)
      شاسو Shasaw: وهو اسمٌ يشير إلى مجموعاتٍ ساميَّةٍ غربيةٍ عاشَت في منطقةٍ جغرافيةٍ واسعة تشملُ شرقَ الأردن وأطرافَ الصحراءِ العربية وسيناءَ وبعضَ المناطقِ الهامشيةِ في فلسطين، وهم بدوٌ ورعاةٌ مرتبطونَ بمناطقِ الأطرافِ الواسعةِ التي تُشكِّل حدود فلسطين، وربما يكونونَ قد ظهَروا بسبب الاضطرابِ الاقتصاديِّ في العصر البرونزيِّ الوسيط، وهم بالتالي سكانٌ مُقتَلَعونَ أصبحوا يجوبونَ البلاد رعيًا.
    • (جـ)
      شوتو Sutu: ربما كان لهؤلاء ارتباطٌ إثنيٌّ كبيرٌ بالشاسو، ولكن هوية الشوتو الإثنية تتضحُ أكثرَ عند عودتنا إلى أقوام الشوتو العليا والسفلى في الأردن، والتي استوطنَت شَمالَ ووسطَ الأردن في العصرِ البرونزيِّ الأوسط، والتي كانت عمادَ منظومةِ الهكسوسِ الرعوية، كما قلنا، وربما يكونونَ في البرونزيِّ المتأخرِ بقايا هؤلاءِ الأقوامِ الذين اضطرَّتهُم الظروفُ المناخيةُ أو العسكريةُ الجديدةُ إلى التشرُّد والنكوص نحو البداوةِ.
    • (د)
      كوشو Kushu أو كوشان Kushan: وهم سكانُ جنوبِ الأردن وفلسطينَ في المنطقة الممتدة من خليج العقبة حتى البحر الميت منذ العصرِ البرونزيِّ الأوسط، والذين ربما يكونونَ قد تدفَّقوا بفعل طردِ الهكسوس والاحتلالِ المصريِّ باتجاه العمقِ الفلسطينيِّ ومتأثرينَ بالمناخ والاقتصادِ المتغيرِ الذي طرأ في البرونزيِّ المتأخر.

    ولا بُدَّ لنا من إبداء ملاحظتَين أساسيتَين تخُصُّ هذه الأقوامَ وحركتَها؛ الأولى هي أن هذه الأقوامَ تبدو لنا كأنها كانت مستقرَّةً إلى حدٍّ كبير في الأردن (شرق نهر الأردن) في العصر البرونزيِّ الأوسطِ الأوَّلِ والثاني والثالث، ولكنَّها منذُ الرابعِ ومطلعِ البرونزيِّ المتأخرِ اضطربَت وتحطَّمَت كِياناتُها السياسيةُ والاجتماعية، فاضطُرَّت إلى الهجرة والتشظِّي باتجاه فلسطين؛ بدليل أن شرقَ الأردن في العصر البرونزيِّ المتأخر شهد ظهورَ ممالكَ جديدة، هي باشان وعمون في الشمال وحشبون ومؤاب في الوسط وسعير وآدوم في الجنوب، ثم اختفت ممالكُ «باشان وحشبون وسعير» مع نهاية العصرِ البرونزيِّ المتأخر، وبرزَت «عمون ومؤاب وآدوم» في مطلع العصر الحديدي. انظر الخرائطَ (٥، ٦، ٧).

    أمَّا الملاحظةُ الثانيةُ فهي أن هذه الأقوامَ ظهرَت بعد التحلُّلِ والتفسخِ السياسيِّ والإثْنِيِّ للهكسوس إبَّانَ طردِهم من مصر؛ أي إنهم الأقوامُ الناتجة من هذا التحلُّل؛ بدليل أن أغلبَهم من الأموريينَ الذين كانوا أساسَ الهكسوسِ عند دخولِهم إلى مصر.

    وتلتقي الملاحظةُ الأولى مع الثانية إذا اعتبرنا تاريخَ الهكسوس دائرةً تتلاقى بدايةُ انطلاقِها مع نهايةِ إقفالِها؛ فقد كانوا من أصلٍ أموريٍّ شاميٍّ وعادوا إلى أصلهم بعد طردهم من مصر، ولكنَّهم كانوا ذوي كِياناتٍ سياسيةٍ واضحة في حين انتهَوا إلى قبائلَ بدويةٍ رعويةٍ تجوبُ جنوبَ بلادِ الشام.

figure
  • (٤)
    النزوحُ التدريجيُّ الذي بدأه الحوريون نحو بلاد الشام عامَّةً وفلسطينَ خاصَّةً منذ انضمامِ بعضِهم إلى الهكسوس، ولكنهم ازدادوا ترسُّخًا في فلسطينَ منذ بداية القرن الخامس عشر، ومعروفٌ أن الحوريين يشكِّلون جنسًا إِثْنِيًّا مختلفًا عن السيادة السامية على بلاد فلسطينَ؛ فهم ينتمونَ إلى الأقوام الآرية. «ورغم أنهم لم يدخلوا البلد فاتحينَ أو غُزَاة، فقد كان لهم نفوذُهم القويُّ وتأثيرُهم السائد، حتى إن المصريينَ بدءُوا يطلقونَ اسم «حورو» أو «الأرض الحورية» على أرض كنعان، وكثيرًا ما كان الحوريون يَصِلون إلى مناصب السلطة في «المدينة الدولة»، ويقيمون جنبًا إلى جنبٍ مع الأهالي، ويُعلِّمونهم لغتَهم الأكادية التي أصبحَت اللغةَ الرسميةَ للدبلوماسية، والكتابةَ الصنوبريةَ كذلك.»٤

    ويبدو أن التسللَ الحوريَّ كان متواصلًا، وأن صعودَهم للمناصب العليا كان مُتأتيًا من ثقافتهم ومعرفتهم الكتابة، خصوصًا أن اللغةَ التي يستخدمونها لم تكن الحوريةَ بل الأكدية التي كانت قريبةً جدًّا من الكنعانية أو الأمورية؛ لأنها من عائلة اللغاتِ الساميَّة. وتُوضحُ ذلك ألواحُ تلِّ العمارنة التي هي عبارةٌ عن رسائلَ من أمراءِ فلسطينَ إلى ملوك مصرَ مكتوبة باللغة الأكدية وبالكتابة الصنَوبَرية (المسمارية).

    وهكذا أعيدَ تشكيلُ البناءِ الإثنيِّ لفلسطينَ في العصرِ البرونزيِّ المتأخر؛ فالكنعانيونَ يمثلونَ الأكثريةَ الساحقةَ للمدن والقرى الأكثرِ استقرارًا منذ العصرِ البرونزيِّ الأوسط، ثم الحوريونَ الذين بدءُوا يحتلُّون، في المدن، المناصبَ العليا بسبب ثقافتِهم ومعرفتِهم للقراءة والكتابة، ثم البدوُ والرعاةُ المشرَّدونَ المُكوَّنون من الشاسو والشوتو والكوشو والعابيرو في الصحراء والأراضي الزراعيةِ الجافَّةِ والسهوب.

    كلُّ هذه المقدمةِ لنتوغلَ في المرجعياتِ الأربعةِ الجديدةِ للعصرِ البرونزيِّ المتأخر، وهي المرجعياتُ «الآثاريةُ، التاريخيةُ، الميثولوجيةُ، الدينيةُ»

أولًا: المَرجعيَّةُ الآثاريَّة (أركيولوجيا القُدسِ في البُرونزيِّ المُتأخِّر)

(١) السُّور

أعاد الكنعانيونَ — وربما كان معهم الحوريونَ النازحونَ لفلسطينَ — بناءَ مدينةِ القدسِ بعد أن هُجِرَت في نهاية العصرِ البرونزيِّ الأوسط. الآثار لا تؤيد وجود ما عُرف باليبوسيين، لكن البعض يتحدث عنهم مثل فرانكن الذي يقول: «وقد يكون اليبوسيون أعادوا بناءَ الموقع في أوائل القرن الرابعَ عشرَ وشغَلوه طَوال ٤٠٠ سنة، وارتأَت كنيون أن سورَ المدينةِ اليبوسيَّ كان هو نفسه سورَها في العصر البرونزيِّ المتأخر أو أن السورَ اليبوسيَّ كان إعادةً لبناء هذا السور. وحيث توقعَت كنيون أن تجد القسمَ الشماليَّ من هذا السور كشف سلسلةً من المصاطب التي أضافت، في رأيها، إلى حيِّزِ البناءِ داخلَ المدينة، وجعلَت المنحدرَ الحادَّ قابلًا للسكن. ومن المحتمل أن هذا البناءَ كان جُزءًا من القلعة على قمة الجبل ومن دفاعاتها.»٥
figure
خارطة (٨): القدس في العصر البرونزي المتأخر. المراجع: Mare 1978: 50.

غوشة ١٩٩٦: ٥٨–٥٩.

ويبدو أن المِيزَةَ الرئيسيةَ للقدسِ اليبوسيةِ هو توسُّعُها باتجاه الغربِ وإقامةُ حصنٍ جديدٍ على جبل صهيون، في حين انسحب السورُ الشرقيُّ قليلًا عن سور العصر البرونزيِّ الأوسط «ومن المحتمَل إذن أن يكون اليبوسيونَ هم الذين أصلحوا التحصيناتِ القديمةَ على تل الأكمة، وقاموا ببناء الحيِّ الجديدِ على المنحدَر الشرقي بين السور وقمة التل.»٦

وصفَت كنيون هذا السُّورَ بأنه جدارٌ محشوٌّ بقطعٍ من الحجارة، واكتشفَت منه بقايا افترضَت أنها تُسوِّرُ كل المدينة، وتقع داخلَ سورِ العصرِ البرونزيِّ الأوسط.

(٢) الحُصُونُ والقِلَاع

هناك حِصنَان يبوسيان:

  • الأول: شرقيٌّ عبارةٌ عن مَعْقِلٍ ينتصِب على جبل أوفل في منحدَره الشرقي، وعندما امتدَّ عَبْر حرفِ الجبلِ إلى الغرب تطوَّر إلى قلعةٍ حقيقية. وقد قام الكنعانيون ببناء هذا الحِصنِ الذي لا يُقهَرُ دفاعًا عن المدينة من الشرق.
  • الثاني: كان على جبل صهيون، ويبدو أنه الذي أسمَتْه التوراةُ فيما بعدُ ﺑ «قلعة داود». وقد بناه الكنعانيونَ أولًا. وبوجود هذا الحِصنِ تكونُ القدس قد توسَّعَت باتجاه جبل صهيون «وقد ذكر البعض أن لفظ صهيون لم يكن يُشيرُ إلى مدينة أورشليم كلِّها، بل كان يُشير في الأصل إلى القلعة التي كانت تحمي المدينةَ من الجانب الشماليِّ الأكثرِ تعرُّضًا للغزو والاقتحام.»٧

(٣) المصَاطِب

ظهرَت سلسلةٌ من المصاطب المليئةِ بالأحجار كشفَت عنها كاثلين كنيون، وقد مكَّنَت هذه المصاطبُ السكانَ من العيش في تلك المنطقةِ التي تتميزُ بالمرتفعاتِ والمنخفضات. وقالت إنها تعتقدُ أن هذه المصاطبَ المستويةَ حلَّت محلَّ المساكنِ القديمةِ المتفرقة، والشوارعِ التي تتسمُ بالانحدار الشديد. وقالتِ الباحثةُ إن بناء المصاطب استغرق وقتًا طويلًا؛ إذ بدأ العمل فيها في منتصف القرن الرابعَ عشرَ قبل الميلاد، ولم يكتمل إلا في مطلع القرن الثالثَ عشرَ قبل الميلاد، وكان بعضُ جدرانِ المصاطبِ يصل ارتفاعُه إلى ٣٣ قدمًا، وهي بالإضافة إلى كونها مساكنَ كانت تقومُ كتحصيناتٍ للمدينة. وترى كنيون أن هذه المبانيَ قد تكونُ هي «القلعة» التي ذكرَتْها التوراة.٨
وعُثر في المنطقة المسمَّاة G في مساحةٍ تبلغ حوالي ٦٥٠ قدمًا مربعًا، في القسمِ الشماليِّ من المدينة قربَ قمةِ الجبل، على دكَّةٍ أو مصطبةٍ مكشوفة، مع دفاعاتٍ مناسبة، عُملَت في العصرِ البرونزيِّ المتأخر كقلعةٍ أو مدافن.

(٤) الآثارُ المادِّيَّةُ المَنقُولَة

عُثر على كسورٍ فَخَّارِيَّةٍ من القرن الرابعَ عشرَ والثالثَ عشرَ في المدينة في مواقعَ داخلَ جدارِ السور، ووُجدَت آثارٌ كثيرةٌ في المقبرة العاليةِ التي تحدَّثْنا عنها في العصرِ البرونزيِّ الأوسطِ والمتأخر.

figure
شكل ٤٤: جرَّةٌ فَخَّاريَّةٌ من القدس في العصر البرونزي المتأخر ١٥٥٠ق.م. http://www.trocadero.com/stores/TheAweidahGallery/items/1049637/item1049637.html
وقد وجدت كنيون ما يشير إلى الاستقرار في العصر البرونزي المتأخر عند المقابر؛ حيث ظهرَت فخَّارياتٌ كثيرةٌ محليةٌ ومستوردةٌ تعود للقرَنين الرابعَ عشرَ والثالثَ عشرَ قبل الميلاد. وهذه المقابرُ ليست بعيدةً عن مدينة العصرِ الحديديِّ الأوِّل (التي تُسمَّى مدينةَ داود) قُربَ المقبرةِ العاليةِ على المنحدَر الغربيِّ لجبل الزيتون وقُربَ المبنى الحكومي في شمال المدينة وفي نحلات أحيم المجاورة للغرب.٩
وكذلك عثَر شيلوح في ١٩٦٨م في منطقة G (عند قمة منطقة A التابعة لحفريات كنيون) على آثارٍ تعود للقرنَين الرابعَ عشَر والثالثَ عشَر قبل الميلاد من الطبقة اﻟ «١٦»، وفيها شبكةُ بناءٍ واسعة وجدران معادة البناء لتكوين ما يشبه المُضلَّع من الأحجار تشغَل مساحةً واسعةً ومسطَّحة.١٠

ثانيًا: المَرجعيَّةُ التاريخيَّة (فلسطينُ ومصرُ الإمبراطوريَّة)

ينقسم تاريخ العصرِ البرونزيِّ المتأخرِ لفلسطينَ إلى مرحلتَين زمنيتَين، وذلك على ضوء الاحتلالِ المصريِّ لفلسطينَ وبَدءِ العصرِ الإمبراطوريِّ لمصر، وهاتانِ المرحلتانِ هما:
  • (١)

    مرحلة الأسرة المصرية الثامنةَ عشْرةَ (١٥٧٠–١٣٠٤ق.م.) حيثُ بدأَت بعد منتصف القرن السادسَ عشرَ إلى نهاية القرن الرابعَ عشرَ قبل الميلاد؛ أي إنها استمرَّت زُهاءَ قرنَين ونصف. وهي المرحلة التي سادها حُكمٌ مصريٌّ مباشرٌ للقدس، وكان للحوريينَ أثَرٌ كبيرٌ فيها.

  • (٢)

    مرحلة الأسرة المصرية التاسعةَ عشْرةَ (١٣٠٤–١١٩٥ق.م.) حيث بدأَت مع بداية القرن الثالثَ عشرَ إلى بداية القرن الثانيَ عشرَ تقريبًا؛ أي إنها استمرَّت زُهَاء قرنٍ كامل. وهي المرحلة التي استمر فيها الحكمُ الإمبراطوريُّ المصري، وكان لليبوسيينَ والحيثيينَ الأثرُ الأكبرُ فيها. وتنتهي هذه المرحلةُ مع ظهور أقوام البحر في الشرق الأدنى في حدود ١١٩٠ق.م. حيث يبدأ عصرٌ جديد.

القُدسُ والأسرةُ المصريَّةُ الثَّامنةَ عشْرة

لا يُمكِننا قراءةُ تاريخِ فلسطينَ عمومًا، وتاريخَ القدسِ خصوصًا، في هذا الجزء من العصر البرونزيِّ المتأخر إلا من خلال تاريخِ الدولةِ المصريةِ الحديثة، التي أصبحَت إمبراطوريةً بضمِّها فلسطينَ وبعضَ أطرافِ الشام إليها.

لقد أدركَت مِصرُ أن أمانَ حدودِها الشرقية لا يكمُن في شرق الدلتا أو سيناءَ بل في فلسطين. وإذا كان أحمس، الذي قضى على الهكسوس في مدينة شاروحِن وشرَّدَهم في فلسطينَ والأردن، قد عاد سريعًا إلى مصر لينظِّمَ أمورَها الداخليةَ ويُدخِلَها في عصرٍ جديد، فإنَّ ابنَهُ أمنحتب الأول (١٥٤٦–١٥٢٦ق.م.) مدَّ نفوذَهُ السياسيَّ المباشرَ إلى جنوب فلسطينَ وبعضِ بلادِ الساحلِ الفينيقي.

أما شمال فلسطينَ وسوريا فقد كان مستقلًّا أحيانًا وواقعًا تحت نفوذِ الحوريينَ أو البابليينَ أحيانًا أخرى.

واستمرَّت السيطرةُ المصريةُ في عهد تحوتمس الأول (١٥٢٥–١٤٩٥ق.م.) الذي جهَّز جيشًا كبيرًا باتجاه آسيا، وسار نحو فلسطينَ في السنةِ الثانيةِ من حكمه حتى وصل إلى نهر الفرات، الذي أسمَاه مُعاصِروهُ «ذو المياه المعكوسة» إشارةً إلى أنه يجري من الشمال إلى الجنوب بعكس نهر النيل.١١

وعندما ظهَر الملك تحوتمس الثاني (١٤٩٥–١٤٩٠ق.م.) وظهرَت معه زوجته حتشبسوت انفصل النصف الشمالي من بلاد الشام عن السلطة المصرية، وتعاظم نفوذُ المملكةِ الحوريةِ الميتانية في شمال شرق بلاد الشام.

وأهملَت حتشبسوت شأنَ فلسطينَ مثلما أهملَت شئونَ بلاد الشام كلها. وكان من نتائج هذه السياسة أن قام أمراء فلسطينَ وسوريا بقيادة أميرِ قادِش بالتمرُّد على الحُكم المصري.

وما إن تولى تحوتمس الثالث (١٤٩٠–١٤٣٦) الحكم حتى جهَّز حملة لسحق هذا التمرُّد. واستطاع بعد معركة مجدو فعل ذلك واستولى على كلِّ فلسطين. وكانت حملتُه على مجدو فاتحةً لحملاتٍ أخرى، بلغ عددُها ستَّ عَشرَةَ حملةً رسخ فيها النفوذُ المصريُّ في الشام، وشعَر الحوريونَ ثم الحيثيونَ بالحاجة إلى صداقةِ مصرَ لا معاداتِها، وتراخى نفوذها في بلاد الشام.

ووجد تحوتمس الثالث بعد هذه الحروب أن الحاجة باتت ضروريةً لإنشاء حصنٍ دعاه «حصن طيبة» لتربية أمراءِ فلسطينَ والشامِ منذ طفولتِهم على الولاء لمصرَ وطريقةِ الحكمِ المصرية حتى يكونوا حكامَ المستقبل، وربما كان «عبدي حيبا» حاكم القدس في عهد أخناتون أحد هؤلاء.

وظل الحال على ما هو عليه في فلسطينَ أثناء حكم أمنحتب الثاني (١٤٣٦–١٤١١ق.م.). ثم تحوتمس الرابع (١٤١١–١٣٩٧ق.م.) الذي هادَن الميتانيين وتزوَّج منهم. وهدأ الصراعُ المصريُّ الميتانيُّ على بلاد الشام، ثم انفردَت المملكة الحورية الميتانية بالنصف الشمالي من بلاد الشام (ريتينو الشمالية)، وأحكمت مِصْرُ سيطرتَها على النصف الجنوبي من بلاد الشام (ريتينو الجنوبية).

وما إن ظهرَت الدولةُ الحيثيةُ حتى دخلَت في صراعٍ حاسمٍ مع الدولة الحورية الميتانية، وزالت الدولة الحورية الميتانية، الصديقةُ لمصر، من الوجود. وبذلك يكون الصراعُ المصريُّ الحيثيُّ قد حلَّ محلَّ الصراعِ الحوريِّ الحيثي، وكانت بلاد الشام، أيضًا، ساحتَهُ الكبرى.

عندما تولى أمنحتب الرابع (إخناتون) (١٣٧٠–١٣٤٩ق.م.) الحكمَ في مصرَ كان يحكُم فلسطينَ ولاةٌ محليونَ تَربَّوا في «حصن طيبة» على الولاء المطلَق لمصر. ولعل أبرزَ ما يمكنُ أن نتحدثَ عنه في هذا المكان هو ما عُرِفَ ﺑ «ألواح أو رسائل تل العمارنة».

أَلْواحُ تَلِّ العمَارِنة

في عام ١٨٨٧م اكتشف الآثاريونَ في تلِّ العمارنة بمصر «أخيتاتون» مجموعةً من الألواح التي كانت جزءًا من أرشيف أمنحتب الثالث وابنه أمنحتب الرابع (إخناتون) وتضُم هذه الألواح ما يقرُبُ من ٣٣٧ رسالة.١٢ وكانت هذه الرسائلُ مكتوبةً من أمراءِ كنعانَ إلى الملكِ المصريِّ باللغة الأكدية والكتابة المسمارية (الصنوبرية). وكانت هذه الرسائل قد أرسِلَت بالدرجة الأساس لإخناتون، وقليلٌ منها أرسِل إلى أبيه، وبعضُها أرسِل إلى خليفته «سمنخ كارع» الذي هو «توت عنخ آمون». وتُلقِي هذه الألواحُ الضوءَ على الأوضاعِ السياسيةِ السائدةِ في فلسطينَ في زمن إخناتون، وتوضِّح ضعفَ هذا الملكِ في السياسة الخارجية لمصرَ بسببٍ من انشغاله في إرساء عقيدته الدينية التوحيدية، وعبادته للإله أتون بدلًا من آمون.
تَرِد في هذه الألواح إشارةٌ إلى وجود اتفاقياتٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ وتجاريةٍ جمعَت بين بعض المدنِ الفلسطينية؛ منها: شكيم (نابلس) ولخيش وكيله (القدس). كما تذكر هذه الرسائلُ القدسَ بأسماءٍ أخرى مثل «إيفن»، أو «راشاليم» و«يورساليم».١٣
كان عدد الرسائل التي أرسلَها حاكمُ القدس «عبدي حيبا» إلى إخناتون ستَّ رسائلَ تحملُ الأرقام (٢٨٩، ٢٩٠، ٢٩١، ٢٩٢، ٢٩٣، ٢٩٤). وكانت القدسُ في عهده تسمَّى أورسالم وتسمَّى أيضًا «أرض حيبا»، أو «أرض هِبه»، و«مملكة كيله» التي سيطرت على التلال الشمالية للقدس، مثل تلِّ الفول وتلِّ النصبة وشعفاط وبيت حنانيا والجيب.١٤
figure
خارطة (٩): المدن الكنعانية التي ورَد ذِكرُها في رسائل تل العمارنة. المرجع: معاوية، إبراهيم، الموسوعة الفلسطينية، القسم الثاني، المجلد الثاني، ١٩٩٠م، ص١٠٢.
وكان «عبدي حيبا» يعبِّرُ عن ولائه لسيده إخناتون بعباراتٍ رنانةٍ ومستجديةٍ مثل هذه المقتطفاتِ من رسائله:
  • (١)
    إن هذه الأرضَ، أرضَ أوروسالم، لم يعطني إياها أبي ولا أمي، ولكن أيدي الملك القوية هي التي ثبَّتَتني في دار آبائي وأجدادي، ولم أكن أميرًا بل جنديًّا للملك وراعيًا تابعًا للملك … مُنحَت ملكية الأرضِ أوروسالم إلى الملك إلى الأبد، ولا يمكنُ أن يتركَها للأعداء.١٥
  • (٢)
    لقد ثارت كل البلاد، فهذا الميلكو Ilimilku حاكم جازر (الواقعة غربي القدس) قد كان سببًا في فقدان كلِّ أملاكِ الملك … ليت الملك سيدي يبعث إلينا بوحداتٍ من رُماة السهام، وإذا كان هناك رماةُ سهامٍ في هذه السنة، فلسوف تبقى أرضُ الملك دون أن يمسَّها سوء، ولكن إذا لم يكن هناك رماةُ سهامٍ ضاعت أرض الملك.١٦
  • (٣)
    لقد وضَع الملك اسمَه على أرض أورشليم إلى الآن، حتى إنني لا أستطيعُ ترك أورشليم.١٧
  • (٤)
    إنهم (أي الأعداء) الآن يحاولونَ الاستيلاءَ على أورشليم، وإذا كانت هذه الأرضُ ملكًا للملك … هل تُترَكُ أورشليم تسقُط، ليت الملكَ يرسل لنا خمسينَ رجلًا كحاميةٍ ليقوموا بحراسة البلاد، لقد ثارت أرضُ الملكِ كلُّها.١٨
  • (٥)
    ستضيع جميع أرض جلالتك التي ثارت عليَّ، أمَّا إقليمُ «شيري Seir» الواصلُ إلى «جنتَي كرمل Genti Kirmil» فقد شَق عصا الطاعة عليَّ، وكذلك أمراؤه. لقد كانت سُفنُ جلالَتِك الساعدَ القويَّ في بسط سلطتِك على بلاد النهرَين وقادِش. أمَّا الآن فقد احتلَّ بدوُ الخابيري بلادَ فرعون، ولم يبقَ لسيدي والٍ مطيع؛ فالكلُّ عصاه.
    ليحترس الملك على قطعانه وبلاده … وليُرسِل المدَد … لأنه إذا لم يصِلْ جنودُه هذه السنةَ ذهبَت ممتلكاتُ جلالةِ فرعونَ سيدي، وإذا تعسَّر إرسالُ جنودٍ هذه السنةَ فليرسِلْ جلالةُ فرعونَ ضابطًا يلازمُني للحضور أنا وأخوتي كي نموتَ مع سيدنا الملك.١٩
ومن خلال قراءتنا لهذه الرسائلِ يتضحُ لنا أن القدسَ كانت عاصمةً إقليميةً في بلاد فلسطينَ تضُمُّ إليها جازر وشيري وما يُحيطُ بها من المدن، وأن سببَ اضطرابِ الأوضاعِ في فلسطينَ آتٍ من ثلاثة أمور:
  • (١)

    انفراط إقليمِ القدسِ واستقلال مُدنه.

  • (٢)

    توسُّع إقليم نابلس (شكيم) في عهد حاكمه «لبعايو» وضغطه على القدس.

  • (٣)
    ظهور طبقةِ «الخابيرو»، أو «ساجاز = قاطعو الرقاب» وهم «العابيرو»، «وهو مُصطلحٌ شاملٌ أُطلِقَ على المنبوذينَ أو العصاباتِ التي لا تنتسبُ إلى أيةِ مجموعةٍ جنسيةٍ محدَّدة، وهم يظهرونَ في النصوص المصريةِ كأسرى آسيويينَ يُستَخدَمون في المحاجر.»٢٠ ولا نعتقد أن لهؤلاءِ علاقةً بالعبريينَ كما يذهبُ إلى ذلك باحثونَ كثيرون.
ويبدو أن إخناتون استجاب لنداء «عبدي حيبا» فأرسلَ حملةً بقيادة «بيخورو» لإعادةِ النظامِ في فلسطين، لكن الحملةَ وصلَتْ إلى شَمالي الجليل واضطُرَّت إلى الانسحاب، ثم تقدَّمَت نحو القدس، وانسحبت إلى غزةَ بسبب المقاومة العنيفةِ التي لاقَتْها. كما أن «عبدي حيبا» فَشِل في حربه مع شكيم، وظهرَت ثوراتٌ متتاليةٌ في القدس نفسِها لكنه لم يُرسِل، مرةً أخرى، رسالةً لكي تُنجِده القواتُ المصرية، وربما كان السبب ما يؤكِّدُه هو من أن هذه القواتِ اقتحَمَت قصره في إحدى نجداتِها له وحاولَت قتلَه؛ ولذلك أرسَل إلى الفرعونَ ليطلب منه إنجادَ جازر أو لخيش أو عسقلون، وحذَّره من أن سُقوطَ القدس وشيكٌ إذا لم تأتِ هذه القواتُ «ويكاد يكون من المؤكَّد أن القواتِ التي طلبها عبدي حيبا لم تُرْسَل إليه مطلقًا، بل إن منطقةَ التلال كانت تتحوَّل بسرعة في تلك الآونة إلى منطقةٍ منزوعةِ السلاح؛ إذْ هجَر السكان مدينة شيلو، مثلًا، وهي المدينة الحصينة، كما اختفت نسبةٌ تقاربُ ٨٠ في المائة من المستوطناتِ القائمةِ على المرتفعات، في أوائل القرن الثالثَ عشرَ قبل الميلاد.»٢١

وهكذا تردَّى الحالُ في جنوب فلسطين، وانهارَ الولاةُ الموالينَ لمصرَ في المدن الفلسطينية، فقُتِلُوا أو أعدِمُوا أو انضَمُّوا إلى الأعداء، وخرجَت فلسطينُ قُبيل وفاة إخناتونَ عن طاعة مصرَ تمامًا إليها، واستقلَّت ممالكُ سوريةٌ وفلسطينيةٌ وفينيقيةٌ بنفسها، وأصبحَت إمبراطوريةُ مصرَ على حافة الانهيار.

ولم يتغيَّر الأمرُ مع سمنخ كارع ثم توت عنخ آمون (١٣٤٨–١٣٣٧ق.م.) ولا مع خليفته «آي» ولا مع «حور محب» الذي عالج اضطراباتِ سوريا بمعاهدةٍ مع الملكِ الحيثيِّ مورسيل الثالث، لكنه ترك فلسطينَ مسرحًا للاضطراباتِ الأهلية.

القُدسُ والأسرةُ المصريَّةُ التاسعةَ عَشْرة

نُرجِّحُ ظهورَ اليبوسيين في القدس عند نهايةِ فترةِ حكمِ الأسرةِ الثامنةَ عشرةَ وبدايةِ حكمِ الأسرةِ التاسعةَ عشْرة. ورغم أننا لا نتفق مع الرأي الذي يربط اليبوسيين مع الحيثيين بصِلةٍ إثنية (عرقية) لكننا نُرجِّحُ ظهورَهم المُرافقَ للحيثيين.

لقد ذكَر البعض أن اليبوسيين لم يكونوا سوى أسرةٍ أرستقراطية تعيش في قلعة القدس، وفي عزلةٍ عن سكان البلدة نفسها.٢٢

ومن المحتمَل أنهم يُشكِّلون أشرافَ أو زعماءَ الكنعانيينَ في القدس، والذين ظهرَت قيادتُهم للحكم في القدس بعد انهيارِ حُكم «عبدي حيبا» وانفراطِ ولاءِ القدسِ لمصر.

وترى كارين أرمسترونج أن من المحتمل أن يكون اليبوسيون هم الذين أصلحوا التحصيناتِ القديمةَ على تل الأكمة (أوفل)، وقاموا ببناء الحي الجديد على المنحدَر الشرقي بين السور وقمة التل. وقد أدَّت الحَفْريات التي قامت بها كاثلين كنيون إلى الكشف عن سلسلةٍ من المصاطب المليئة بالأحجار، والتي مكَّنَت السكانَ من العيش في تلك المنطقة التي تتميز بالمرتفعات والمنخفضات، وقالت إنها تعتقد أن هذه المصاطبَ المستويةَ حلَّت محلَّ المساكنِ القديمةِ المتفرقةِ والشوارعِ التي تتسم بالانحدارِ الشديد.٢٣

وترى كنيون أن بناء المصاطب استغرَق وقتًا طويلًا؛ إذ بدأ العمل بها في منتصف القرنِ الرابعَ عشرَ قبل الميلاد، واكتمل في مطلع القرن الثالثَ عشَر، ولعل سبب هذه الفترةِ الطويلةِ ظهور الكوارثِ الطبيعيةِ كالزلازل، أو تآكل التربة، والحجم الكبير لجدران المصاطب، التي وصل ارتفاعُ بعضِها إلى ٣٣ قدمًا.

اليبوسيون إذن من شغَل تاريخ القدس في النصف الثاني من العصرِ البرونزيِّ المتأخر؛ فهم لم يظهَروا في العصر البرونزي الأوسط، كما تذهب معظمُ آراءِ الباحثينَ في هذا الشأن؛ ولذلك يتوجَّبُ علينا تصحيحُ هذه القضية، والقولُ إن الكنعانيين بعامةٍ هم مَن شغَل القدس في العصر البرونزي الأوسط. أما أشرافُهم من اليبوسيين فهم الذين حكَموا القدس في العصر البرونزي المتأخر وفي قرنه الأخير تحديدًا (القرن الثالثَ عشَر) وما بعده؛ فهم الذين بنَوا القدسَ الثالثة (يبوس) ووسَّعوها باتجاه جبل صهيون. ومع صعودِ الأسرةِ التاسعةَ عشرةَ في مصر — وبَدءِ الضابط «رمسيس الأول» بقيادة دَفَّةِ البلادِ بعد وفاةِ زميلِه «حور محب» — اتجهَت الأنظارُ لإعادة السيادةِ المصريةِ إلى فلسطين، لكنَّ ذلك لم يتحقَّق إلا عند تولِّي ابنِه «سيتي الأول» (١٣٠٣–١٢٩٠ق.م.) عرشَ مصر الذي قاد حملةً هزَم فيها بدوَ سَيناء، وأقام مذبحةً كبيرةً بين البدوِ الرُّحَلِ الثائرينَ من الشاسو، ثم استولى على الحصون التي كانت تمتدُّ من القنطرة حتى رفح، وكان سكان بيسان — بمؤازرةٍ من الحيثيينَ وتحالُفٍ مع الكنعانيين — قد تمرَّدوا عليه. «ولم يجد سيتي صعوبةً في دحر هذا التحالُف، على الرغم من الإزعاج الذي سَبَّبه العابيرو لمؤخرة جيشه. وفي «ينوعام» تقبَّل مراسمَ طاعةِ حُكامِ لبنان، ما عدا عمورو التي استظلَّت بحماية الحيثيين، ثم قام بحملةٍ أخرى غيرِ حاسمة، ضد قادِش وعمورو التي استظلَّت بحماية الحيثيين.

وترك سيتي مسلتَين؛ إحداهُما مكسورة، في قلعة بيسان، تُمجِّدانِ انتصارَه على تحالُفِ ملوكِ كنعان، وفي المسلَّة المكسورةِ التي يصعُبُ تحديدُ زمانِها بالدقة، يَرِد ذكرُ العابيرو بين القوى التي هزَمَها الفرعون العظيم.»٢٤

واستمر سيتي الأول في إعادة سيطرةِ مصرَ على فلسطينَ وفينيقيا وجنوب سوريا، ثم عقد معاهدة صُلحٍ مع الحيثيين.

وحين خرَق الحيثيونَ هذه المعاهدةَ دارت معركة قادِش الطاحنةِ بين رمسيس الثاني (١٢٩٠–١٢٢٣ق.م.) وتَجمُّعٍ من الإمارات المنفصلة مع الحيثيين، وكان أنِ اكتسحَ رمسيس أولًا بلادَ فلسطينَ ليصل إلى قادِش. ولم يمضِ عامانِ على معركة قادِش حتى كانت فلسطينُ نفسُها قد ثارت بأَسْرها، وامتدَّتِ الثورةُ حتى وصلَت إلى حدود مصر، فسارع رمسيسُ الثاني إلى إخمادها، ثم عقد معاهدةَ صلحٍ مع الحيثيينَ لمواجهة أعداءٍ مشتركينَ لهما، وهم شعوبُ البحر التي بدأَت بالتحرُّك نحو آسيا الصغرى وسواحل المتوسط الشامية والمصرية. وأصبحَت الأرضُ التابعةُ لمصر تُعرفُ باسم «أرض كنعان»، والتي كان أهم مراكزِها هما موقعا تلِّ القدح (تل وقاص) وحاصور.

وهذا يعني أن مصطلحَ كنعانَ ظهَر في الوثائقِ المصريةِ تحديدًا في سنة ١٢٨٠مق.م. أي قبل أن يظهر في التوراة بزمنٍ طويل.

ومصطلحُ «كنعان» أمرٌ خلافيٌّ جرى إطلاقُه لاعتباراتٍ كثيرة؛ فهو أولًا يميِّزُ بين فلاحي السهول المستقرِّينَ (كناخي) والبدوِ الرُّحَلِ حولَهم (شاسو وعابيرو وشوتو)، ثم إنه أطلِق على تجار الأرجوان (كنع) الذين هم التجارُ وليس الفلاحون أو البدو؛ فتاجر الكنعان هو الذي يتاجر بصبغة الكنعان الأرجوانية بحرًا إلى مصر والعالَم، ثم أطلِق الاسم، بسبب البحر، على المدن الشامية الساحلية، وكان قد أطلِق على المدن والقرى السهلية. وهكذا تحول المصطلحُ الجغرافيُّ التِّجاريُّ إلى مصطلحٍ إثنيٍّ ليدل على قومٍ بعينهم.

لكن مصطلح «كنعان» كان محدَّدًا ولم يكن شائعًا أو رسميًّا؛ ولذلك يبرز السؤال المهم: ماذا كان يُطلَقُ على هؤلاء الأقوامِ قبل أن تَرِدَ بعضُ الإشاراتِ عن اسمِ «كنعان» هذا؟

كنا قد تعرَّفْنا إلى الأسماءِ المختلفةِ لفلسطينَ بلغة المصريين، ولكننا نعتقد أن اسم الكنعانيينَ كان قبل ذلك هو «شام» لاعتباراتٍ كثيرةٍ وفرضياتٍ مختلفةٍ ناقشناها مُطوَّلًا في كتابنا (المعتقدات الكنعانية).٢٥

ثم اندثَر هذا الاسم بعد استقرارِهم في أرض الشام (التي أخذَت الاسم منهم)، وتوزَّعوا في المدن، وأخذوا أسماءَهم من أسماء هذه المدن (أوغاريت، جبيل، صور، صيدا، يبوس، … إلخ).

بل إن أصقاعَ بلادِ الشامِ كانت تُعرَفُ بأسماءٍ مختلفة؛ فمثلًا عندما جاء الملك مرنبتاح إلى العرش المصري (١٢٢٢–١٢١١ق.م.) تَوَجَّهَ، بعد ثلاثِ سنواتٍ من حكمه، لإخماد ثوراتٍ في فلسطينَ سجَّلَها لنا على لوحةٍ أصبحَت تُعرف عند الآثاريين «لوحة إسرائيل» حيث يَرِد اسمُ فلسطينَ بصيغة «حورو»، وهو الاسمُ الذي كان يُطلَق عليها سابقًا، ويَرِد لأوَّلِ مرَّةٍ في التاريخ اسمُ «إسرائيل»، وهي المرة الوحيدة التي يُذكَر فيها هذا الاسمُ على الآثار المصرية. أما ترجمةُ لوحةِ مرنبتاح هذه فهو كما يلي:

«الأمراءُ منبطحونَ يصرُخون: الرحمة. وليس بين الأقواسِ التسعةِ من يرفَع رأسَه. لقد دَمَّرتُ أرضَ تحنو، خاتي هادئة، كنعانُ قد استُلبَت في قسوة، عسقلون تمَّ الاستيلاءُ عليها، وجازر قد أخِذَت، ينوعام أصبحَت كأن لم تكُن، إسرائيل أقفَرَت وليس بها بذرة … حور عُدَّت أرملةً ﻟ «توميري».»٢٦

وهناك ترجمةٌ أخرى للمقطع الأخير كما يلي:

«ينعم أصبحَت كأن لم تكُن، وإسرائيل أبِيدَت ولن يكون لها بذرة، وأصبحَت حورو أرملةً لمصر.»٢٧

وقد أثارت كلمة «إسرائيل» في هذه اللوحةُ مُخيِّلةَ بعضَ العلماء، مثل ألستروم وإيلدمان، واللذَين رأَيا فيها تعبيرًا جغرافيًّا استُعمِل بتوازٍ متقاطعٍ مع كنعان، ليَدُل على جزءٍ كبيرٍ من فلسطينَ أو سكانِها، ويعتقدانِ أنها تقومُ في إفرايم، وأنها نواةُ إسرائيلَ التي ظهرَت في العصرِ الحديديِّ الثاني. أما ستاغر فقد قام بربط هذه اللوحةِ بتاريخٍ لاحقٍ عليها وغيرِ ممكنٍ ﻟ «أغنية دبوره» في سِفرِ القضاة … وهكذا.

لكن طومسون يرى أن مجموعة «إسرائيل» التي هزَمَها مرنبتاح ليست «إسرائيل» ستاغر المذكورة في القضاة (٥)، ولا إسرائيل ألستروم وإيلدمان في مرتفعات إفرايم. إنهم بالأحرى مجموعةٌ محدودةٌ تمامًا ضمنَ سكانِ فلسطينَ تحمل الاسم الذي يَرِد هنا، لأول مرة، وفي مرحلةٍ لاحقةٍ متأخرة — من تاريخ فلسطين — أصبح يحملُ معنًى مختلفًا إلى حدٍّ.٢٨

تُوصَف «لوحة مرنبتاح» بأنها لوحةٌ كبيرةٌ من الجرانيت موجودةٌ في المعبدِ الجنائزيِّ لرمسيس الثاني في الضفة الغربية من طيبة، وتتضمَّنُ ما يُشبه النشيدَ الفخريَّ لانتصاراتِ الفرعونِ على أعدائه من الليبيينَ والفلسطينيين. ولا تُذكَرُ كلمةُ إسرائيلَ آثاريًّا، في جميعِ منطقةِ الشرقِ الأدنى، مرةً أخرى، إلا بعد ذلك بزمنٍ طويل، في مسلة الملك ميشع، ملكِ مؤاب، حوالَي عام (٨٤٢ق.م.)؛ حيث حارب ميشع إسرائيل. ولم تُذكَرْ إسرائيلُ خلال القرونِ الأربعةِ بين مرنبتاح وميشع رغمَ كلِّ الضجَّةِ الكبيرةِ التي تثيرُها أسفارُ العهدِ القديمِ حول مملكةِ داودَ وسليمان … إلخ، فكيف نفسِّر ذلك؟

ونقول ببساطةٍ شديدة إن إسرائيلَ الواردةَ في لوح مرنبتاح لا تتعدَّى أن تكونَ مدينةً كنعانيةً فلسطينيةً صغيرةً سكنَها وأسَّسَها الكنعانيون، ولم تَنَلْ أيةَ أهميةٍ تاريخيةٍ بعد ذلك. ولا علاقة لها إلا بالاسم مع ما خلقه التوارتيونَ من «إسرائيل» المملكة الشمالية الوهمية. ونرى أن إسرائيل هذه لها علاقةٌ بإقليم ومدينة «شيري أو سير Seir» التي ذكرها عبدي حيبا في رسائله إلى فرعون مصر، وسنناقش ذلك مُفصَّلًا في الفصل القادم.

يبدو أن الهدوء ساد العلاقاتِ وحريةَ التنقل من فلسطينَ إلى مصر، وأصبحَت قائمةً بدليل ما ورَد في يوميات ضابطٍ مصريٍّ يصف حركة قبائل الشاسو في مصر:

«انتهينا من السماح لقبائل اﻟ «شوسو» الأدومية بتخطي قلعة مرنبتاح التي في زيكو، حتى بحيرات بي توم مرنبتاح التي في زيكو، ليظلوا هم وقطعانُهم أحياءً بفضل إحسان فرعون الشمسِ المشرقةِ على كل أرض.»٢٩

بل إننا نرى أن نهاية الأسرة التاسعةَ عشرةَ (التي ينتهي معها العصرُ البرونزيُّ المتأخر) تُختتَمُ بتولِّي شخصٍ سوريٍّ (شامي) اسمه «إرسو» عرشَ مصرَ بعد أن دبَّت الفوضى، وأعلن كثيرٌ من كبار حُكام الأقاليم استقلالَهم عندما اختفى الفرعونُ الشرعيُّ لمصر «رعمسيس سي بتاح»، فدبَّت الفوضى في مصر حتى تولَّى «ست نخت»، والد رعمسيس الثالث، الحُكم وأسس الأسرة العشرين.

إن ما نودُّ التأكيدَ عليه — بعد هذا العرضِ السريعِ لعلاقة مصر بفلسطين — هو ظهورُ التوترِ الشديدِ بينهما وعمليات الغزوِ الكاسحةِ التي كان يقومُ بها الجيشُ المصريُّ لشمالِ وجنوبِ بلادِ الشام، وكيف أنه كان يُسيطرُ على المدن الفلسطينية. لكن اللافت للانتباه أن القدس ظلت في مرحلةِ الأسرةِ التاسعةَ عشرةَ بعيدةً عن أحداث العنف هذه. ويبدو أن الأسرةَ اليبوسيةَ حكمَت المدينةَ بهدوءٍ وكانتِ التجارةُ هي عمل المدينة الرئيسي، وقد أمَّن حكامُ القدسِ مدينتَهم من خلال دفع الجزيةِ للمصريينَ مقابلَ السلامِ معهم؛ ولهذا السببِ تطوَّرت القدسُ اليبوسية (يبوس) كثيرًا خلال هذه الفترةِ وما بعدها؛ فقد انتعشَت الطرقُ التجاريةُ المرتبطةُ بها، وكان أهمُّها طريقَين؛ الأوَّل يربط البحرَ بالصحراء ويمرُّ بالقدس، والثاني يربط الخليلَ (حبرون) ببيت إيل ويمر بالقدس.

وكان من حُسن حظِّ القدسِ أن أغلب الهجماتِ المصريةِ كانت تمُرُّ بمحاذاة ساحلِ البحرِ المتوسط، مَارَّةً بغزةَ وعسقلونَ وجازر، ثم يتجه بعضها إلى وسط فلسطين، الذي تقع فيه أغلب المدنِ الفلسطينيةِ الثائرة. ومع ذلك فقد حسَّن اليبوسيونَ من حصن مدينة القدس، وسلكوا سلوكًا سياسيًّا رصينًا، وتجنَّبوا الحروب عن طريق إقامة الاتفاقيات والعلاقات الحسنة مع دول مدن الجوار.

figure
شكل ٤٥: لوحٌ بالهيروغليفية المصرية للملك سيتي الأول (١٣٠٢–١٢٩٠ق.م.) وهو من الأسرة اﻟ «١٩»، عُثر عليه في بيسانَ في فلسطين.

شهد ذلك العصرُ تأثيرَ الحضارةِ المصريةِ على الشعوب التي سكنَت في فلسطين، رغم بقاءِ التأثيرِ الكنعانيِّ محافظًا على خصوصيتها.

قام سيتي الأول بتوطيد السلطةِ المصريةِ في فلسطينَ والشام، وقاوم الحيثيينَ الذين حَكَموا آسيا الصغرى بنجاح، وعقَد معهم معاﻫدةَ سلامٍ وعدم اعتداءٍ عليهم. وربما كانتِ القلعةُ المصريةُ في بيسانَ لم تُبنَ بعدُ، لكنَّ العثورَ على لوح سيتي الأول في بيسان، دليلٌ على الوجود المصريِّ الواسعِ في فلسطين، والذي سبَّبَ الكثيرَ من الاستقرارِ التِّجاريِّ والثقافيِّ لفلسطينَ كلِّها.

ثالثًا: الأساطيرُ والمِيثولوجيا (بَعلٌ وصُهْيون: الإِلَه وجبَلُه المُقدَّس)

ظلَّ تقديسُ الإله «شاليم» قائمًا في القدس اليبوسية باعتباره إلَهَ المدينةِ الرئيسيِّ وحاميَها، لكننا لا نعرف على وجه الدقة مكان «هيكل شاليم»، وفيما إذا جُدِّد بناؤه أم لا في العصر البرونزيِّ المتأخر!

لكننا نرى أنه ليس من الغريب عبادةُ الإلهِ بَعلٍ في المدينة؛ فقد عُبِد أبوه في العصر البرونزيِّ المبكر، ولكنَّ مجيءَ الحوريينَ ثم الحيثيينَ إضافةً إلى الكنعانيينَ اليبوسيينَ في العصرِ البرونزيِّ المتأخر- جعل من مجتمع مدينة يبوس يُفكِّرونَ بإلهٍ مشترَكٍ بينهم كانوا يتعبَّدونه قبل مجيئهم إلى المدينة، ولم يجدوا أفضلَ من الإله «بعل»؛ فهو إلَهُ الطقس عندهم جميعًا؛ ثم إنه الإلَهُ القوميُّ لكلٍّ منهم تحت أسماءٍ مختلفة، فإذا كان اسمه الصريحُ عند الكنعانيينَ هو «بعل»، فإنه كان يسمَّى عندَ الحوريين «تاهوندا»، وعند الحيثيينَ «تيشوب»، وأصبح عند الآراميين — وهم السكانُ المجاورونَ للكنعانيين — باسم «حدد». ويشترك جميعُهم في صفاتٍ متقاربةٍ لعل أهمَّها أنهم آلهةُ طقسٍ وعاصفة، وآلهةٌ قوميونَ لشعوبهم، ويظهرونَ بمظهر المحارِبين (انظر شكل ٥٩).

وكان لقبُ «بعل» الذي يعني «السيد أو الرب» هو الذي يجمعُهم، ويشيرُ إلى الحيويةِ والخصبِ والقوةِ وركوبِ السحابِ وإرسالِ البروقِ والرعودِ التي تبشِّر بنزول المطر.

وكان لبعل دورةُ حياةٍ تبدأ بولادته؛ فهو ابنُ الإلهِ إيل (وأحيانًا ينسب للإله داجون)، وتستمرُّ الدورةُ بذكر صباه وتَألُّقِه وقوَّتِه، ثم صراعهِ ضدَّ إلَهِ البحر «يم» (الذي نرى أنه الإلهةُ الكنعانيةُ الأمُّ يمو).٣٠
وينتجُ عن تغلُّبِه على الإله «يم» مطالبتُه ببناء قصرٍ فخمٍ له، وتتدخل الآلهةُ عند إيل لكي يفعلَ ذلك، فيترددَ إيل أوَّلَ مرَّة، ثم يأمرُ ببناء قصرٍ له. ولعل أهمَّ أساطيرِهِ هي أسطورةُ صراعِه ضدَّ إلَهِ العالَمِ الأسفلِ وإلَهِ القَحْطِ والموت «موت»، وكانت دوريةً كلَّ سبعِ سنوات، وتقضي بنزول بعلٍ دون قتالٍ إلى العالَمِ الأسفل، ثم تقوم زوجتُه وأختُه «عناة» بقتل «موت» بعد سبعِ سنواتٍ ليقتلَ «بعل» وهكذا … وهناك أساطيرُ صغيرةٌ أخرى مع آلهةٍ آخرينَ يمثِّلونَ العالمَ الأسفلَ أيضًا.٣١

كلُّ هذه الأساطيرِ كانت من صُلب عقائدِ الكنعانيين، ومنهم اليبوسيون، وهي حاضرةٌ في قلب الأساطيرِ الحيثيةِ والحورية، كذلك نجد أنها تُكمِلُ عبادة «شالم»، ولا تتعارضُ معه؛ لأن «بعل» يمثِّل دورةَ الخصب، ويمثِّل شالم دورةَ الليلِ والنهارِ ممثلةً بكوكب الزهرة، الذي هو كوكبٌ يمثِّل الخِصبَ أيضًا عن طريق الحُبِّ، كما يظهرُ بعلٌ وسالمٌ كابنَين للإله إيل.

figure
شكل ٤٦: آلهة الطقس في الشرق الأدنى القديم.

لكنَّ النقطةَ الأهمُّ التي ظهرت مُرافِقةً لعبادة بَعلٍ في القدس تتعلقُ بجبل «صهيون»، الذي نرى أنه كان مقرَّ عبادةِ بَعل، في حين نرى أن جبل أوفل كان مقرَّ عبادةِ شالم. أمَّا جبلُ موريا فقد كان مقرَّ عبادةِ أبيهما الإلهِ إيل (إيل عليون) وعند الأموريينَ قبلهم الإله «مر» أو «داجون».

وعلينا في هذا المجال أن نتحاشى اللبْس الشائعَ والخطيرَ الذي يمثِّلُه ارتباطُ صهيونَ باليهود وإسرائيلَ وغيرِ ذلك؛ لأن «صهيون» لا علاقة له مطلقًا في بدايته بهؤلاء، الذي لم يكن لهم وجودٌ عندما أطلِقَت على الجبل هذه التسمية؛ ﻓ «صهيون» اسمٌ كنعانيٌّ أيضًا، لكنَّ اليهود — الذين ما زال على ظهورهم حوالي ألفُ سنة — سرَقوا هذا الاسم، واعتبروه جزءًا من تُراثهِم في مدينة القدس.

مثلما سرقوا هيكل شليم واعتبَروه هيكلَ سليمان وأصبح مركزَ عقيدتهم. ولا بُدَّ لنا، في هذا المجال، من توضيح أصلِ تسميةِ صهيونَ وعلاقةِ ذلك بالعهدِ القديمِ واليهود.

كان الإله بعل — وَفقَ ما ترويه نصوصُ أوغاريت — يسكنُ في قصر دائمي نُسجَت حوله أسطورةٌ معروفةٌ تقضي ببنائِه على جبلٍ يسمَّى «صفُن» أو «صفون»، وكان هذا الجبلُ هو المكان الذي يُدفَنُ فيه الإلهُ بعل، أيضًا، بعد صراعه مع «موت» كلَّ سبعِ سنوات؛ حيث تقوم زوجته «عناة» بدفنه هناك.

أي إن جبلَ «صفون» كان مقرَّ حكمِ بعلٍ وقصرَه ومعبدَه وقبرَه في الوقت نفسه؛ فهو يجمعُ قُوَّتَه في الحياة حيثُ يديرُ شئونَ العالَم، وقُوَّتَه في الموت حيث يُبْقِي بذرةَ الخصبِ المدفونةِ التي تُرتَجى، والتي ستمنحُ العالَم الرخاءَ بعد تحرُّرِها. ولذلك أصبح هذا الجبلُ مقدسًا في الديانة الكنعانية، وأصبح يُطلَقُ على المكان الذي يُعتبَرُ مركزًا أو مقرًّا أو معبدًا أو هيكلًا أو قبرًا للإله بعل، خصوصًا عندما يكونُ هذا المكانُ جبلًا مرتفعًا، لكن «صفون» كان مكانًا بعينه يرى الباحثون أنه يمكنُ أن يكونَ أحدَ الأمكنةِ الآتيةِ أو كلها:
  • (١)
    جبل الأقرع: وهو الأرجح، وهو جبلٌ يقع على بعد ٥٠كم شمال أوغاريت عند مصَبِّ نهرِ العاصي؛ حيث يمكنُ مشاهدةُ قمتِه منها، وهي محاطةٌ بالسُّحُب حتى في الأيام المشمسة، فلا عجب أن يتخذَ إلَهُ المطرِ والصواعقِ قِمَّتَه منزلًا له في التصوُّرات الأسطورية. وقد حافظ الجبل على قدسيته في العصور الهيلينية والرومانية؛ فقد تربَّعَ فوقه «زيوس كاسيوس»، ولعب دورَ الأولمب السوري، وحافظَ على قُدسيته في الديانة المسيحية حتى العصورِ الوسطى.٣٢
  • (٢)

    جبل حازي: في آسيا الصغرى، وهو جبل بعلٍ الحيثيِّ والحوريِّ (تشباك وتاهوندا) في النصوص الحيثية والحورية.

  • (٣)

    جبل قاسيون: في حلب، الذي نشأَت تسميتُه من أحد احتمالَين:

    فهو إمَّا تحويرٌ لكلمة حازي إلى كاسيوس الرومانية ثم قاسيون. وإمَّا أنه مَزجٌ بين كلمتَي حازي وصفون فأصبح حازيفون التي أصبحَت مع الزمن كازيون، والاحتمالُ الأولُ هو الأرجح.

هذه الجبالُ الثلاثةُ كانت أشهرَ جبالِ بعلٍ في بلاد الشام وآسيا الصغرى، ولكننا قبل أن نناقشَ ذهابَ التسميةِ إلى القدس علينا معرفةُ معنى كلمة «صفن».

«صفن» في اللغات السامية تعني «اطَّلَع، شاهَد، راقَب»، ومن ذلك أصبح «صفن» يعبِّر عن جهةٍ جغرافيةٍ معيَّنة هي الشمال، مثلما تعبِّر كلمةُ «نقب» عن جهةٍ جغرافيةٍ معيَّنة هي الجنوب، وتُشير إلى الصحراء.٣٣

وللتأكُّد من هذه الملاحظة نرى أن اسمَ جبلِ صفون يَرِد في العهد القديم باسم جبل الاجتماع الذي في أقاصي الشمال.

«وأنتَ قلْتَ في قلبكَ أصعدُ إلى السماوات أرفعُ كرسيَّ فوق كواكب الله على جبل الاجتماع الذي في أقاصي الشمال، أصعدُ فوق مرتفعاتِ السَّحاب، أصيرُ مثل العَلِي».٣٤

والعَلِيُّ هنا تعبيرٌ معروفٌ عن الإله «بعل». وما دام الأمرُ كذلك فقد نقل الحوريونَ والكنعانيونَ عبادةَ بعلٍ على الجبل «الشمالي» لمدينة القدس، وربما بنُوا معبدَه هناك فصار مقرَّه ومهوَاه. والراجح أنهم أطلقوا عليه في البداية جبلَ «صفون» ثم تحوَّل هذا الاسمُ إلى «صهيون»، ربما بفعل تصويتٍ حيثيٍّ أو حوريٍّ أخذ بنظر الاعتبار دمجَ كلمةِ صفون مع كلمة حازي أو هازي، أو أن كلمة صفون تحوَّلَت مباشرةً إلى «صهيون».

ونَوَدُّ أن نشيرَ إلى أن «صفون» أو «صهيون» قد يشيرانِ مباشرةً إلى الإله بعل؛ حيث يتحول الجبلُ نفسُه إلى إلَه، أو أن بعل اكتسب أيضًا اسم هذا الجبل؛ حيث نصادفُ اسمَ «بعل صفون» الذي يُذكَرُ كثيرًا في النصوص الأوغاريتية.

ولا نستبعدُ أن يكونَ الاسمُ الدقيقُ للإله بعل في مدينة القدس هو «بعل صهيون»، الذي كانت تجري عبادتُه على الجبل الشماليِّ للمدينة، والذي يُعرَفُ الآن ﺑ «صهيون»، «ونحنُ نعرف أن الحوريينَ أيضًا كانت لديهم قصصُهم عن بعلٍ ومعبدِه فوق جبلِ زافون «صفون»؛ ومن ثَمَّ انتهى العلماءُ إلى نتيجةٍ مَفَادُها إلى أن الحوريينَ قد جاءوا بعبادة بعلٍ معهم إلى أورشليم، وإلى أن ذلك من شأنه إدراجُ الفكرةِ الأوغاريتية عن مدينة السلامِ المقدسةِ في العبادات الإسرائيلية على جبل صهيون في يومٍ من الأيام.»٣٥

ومن هنا نرى وجه الشبه الكبير بين النصوص الأوغاريتية ونصوص المزامير في العهد القديم، التي تشير إلى العبادة على جبل صهيون، في حين تمتدحُ النصوصُ الأوغاريتية «بعلًا» وانتصاراتِهِ على التنِّين البحْريِّ على جبل صهيون. وهكذا نجد أن هذه النصوصَ اعتمدَت على نصوصٍ كنعانيةٍ سابقةٍ عليها هي النصوص الأوغاريتية.

هذا المشهد يوضِّحُ لنا صعودَ عبادةِ الإله «بعل» في أورشليم، ولنحفَظ تمامًا هذه الصورةَ ولنُدرِك أنها كانت هكذا قبل بَدْءِ العصرِ الحديدي؛ لأن ذلك من شأنه أن يعطيَنا فكرةً مذهلةً عن عبادات العصرِ السابقِ للإلهِ شليم وهيكلِه.

•••

بقيَ أن نُلقِيَ الضوء على اسم أرنانا الذي هو الاسمُ الحيثيُّ لمدينة القدس، والذي ظهر في العصرِ البرونزيِّ المتأخر، والذي له خلفيةٌ ميثولوجية أيضًا؛ فهذا الاسم له علاقةٌ بإلهةِ الأرضِ الحيثية «آره»، والعهدُ القديمُ يتحدثُ عن قائدٍ حيثيٍّ اسمُه «أرنان» مع داود.

تذكُر نصوصُ المواثيقِ الحيثيةِ جبلَ صفون (حازي) إلى جانب اسمِ «ناني»، فإذا جمعنا كلمةَ الأرضِ في الحيثيةِ مع اسم هذا الجبل «ناني» يكون «أرناني» أو «أرنانا» وهو، في رأينا، مصدرُ الاشتقاق. وهذا يعزِّزُ استنتاجَنا السابقَ حول جبل صفون وصهيون؛ حيث نرى أن الحوريينَ، ومن ثَم الحيثيين، أطلقوا اسمَ الجبلَين اللذين يَرِدَانِ مع بعضهما في النصوص الحيثيةِ والمرتبطين ﺑ «بعلٍ»، وهما حازي (صفون) وناني، فتحوَّلا في القدس إلى صهيون وأرنانا؛ أي قياسًا إلى الأصل «جبل صفون» و«أرض الجبل ناني». ولأن القدسَ سُمِّيَت أرنانا؛ فلذلك نرى أن المقصودَ منها القدسُ المُقَامةُ على جبل «أوفل» المقابلِ لجبل «صهيون».

وفي هذا المقام علينا أن نتذكَّر أن التوراةَ نفسَها ذكرَت اسم حاكمٍ لمدينة القدس هو «أرونا»، وهو الذي باع بيدره لداودَ عندما دخل إليها.

و«أرونا» كلمةٌ حورية وحيثية أيضًا. وهذا جزءٌ من أساطيرِ وتهاويلِ العصرِ الحديديِّ على لسان كتَبةِ التوراة.

وقد عُثر على معبد أرنانا في نزلات وادي القدرون في القدس.

أمَّا الاسمُ الحوريُّ الآخَرُ الذي ورَد في الوثائق المصرية فهو أرضُ هبه أو هبة أو حيبا، وهبة (حيبا) إلهةٌ حورية وحيثية ظهرَت في اسم حاكم القدس «عبدي – حيبا»، ولكننا لا نملك دليلًا آثاريًّا على وجودها ضمنَ عباداتِ مدينةِ القدسِ في العصر البرونزيِّ المتأخر، أو أنها أصبحَتْ ضمنَ مجمعِ الآلهةِ اليبوسي؛ لكنَّ وجودَها في القدس أمرٌ مؤكَّد.

رابعًا: المَرجعِيَّةُ الدينيَّة: تُراثُ يبوس الديني

يتضح لنا من المرجعية الميثولوجية لمدينة القدس في العصر البرونزي المتأخر أن ثَمَّةَ ديانةً يبوسية هي التي استقرَّت في القدس، وصهَرَت في نسيجها ما يمكن أن نسمِّيَه بعبادة العصرِ البرونزيِّ في القدس، التي ظهَرَت في نهاية الألفِ الثاني قبل الميلاد.

إن هذه العبادةَ يجبُ أن تُناقَشَ بحذرٍ شديد؛ فمعروفٌ أن القدسَ أصبحَت دولةً مدنيةً في العصرِ البرونزيِّ المتأخر، واستمرَّت كذلك إلى العصرِ الحديديِّ في حدود (١٠٠٠ق.م.)؛ أيْ طيلةَ ما يقرُب من (٥٠٠ سنة)، وهذا يعني أن هناك تقاليدَ دينيةً خاصَّةً ظهرت فيها.

صحيحٌ أن أصولَ العبادةِ اليبوسية كامنٌ في الديانة الكنعانية، ولكنَّ خصوصيةَ «يبوس» ومُدَّتَها الطويلةَ من جهة، وذوبان العناصرِ الحوريةِ والحيثيةِ والمصريةِ في نسيج دياناتها من جهةٍ أخرى، أَدَّيَا — بلا شك — إلى ظهور عبادةٍ يبوسية لها بعضُ الخصوصياتِ الواضحة.

ومن أجل التقاطِ خيوطِ هذه العبادةِ سنحاولُ إعادةَ تشكيلِ صورتِها عن طريقَين معًا؛ الأوَّلُ هو أن نبحثَ فيما تيَسَّر لنا من التراثِ اليبوسيِّ ونحاول تشكيل صورتها. والثاني هو أن ننطلقَ من التوراة رجوعًا إلى العصرِ اليبوسيِّ (مع الحذَر من الأيديولوجيا الدينية التوراتية التي قد تُفسِدُ كلَّ شيء) لنتعرَّفَ إلى ماهية هذه العبادة. وسنسلكُ الطريقتَين في حوارٍ وجدلٍ وتمحيص.

لعل شتولتز Stoltz اهتمَّ أكثَرَ من غيره في محاولة بناء صورةِ الممارساتِ الدينيةِ اليبوسية؛ فقد رصد مجموعةً من الموضوعاتِ الشعائريةِ التي رأى أنها كانت تُشكِّل ميثولوجيا وطقوسَ اليبوسيين وهي:٣٦
  • (١)

    المعركة ضد فوضى المياه الهيولية الأولى (يم)، والمعركة ضدَّ الأممِ، وهي موضوعاتٌ كان بعلُ محورَها الأصلي.

  • (٢)

    الإله البعيد إيل، بوصفه خالقًا وقاضيًا أعلى.

  • (٣)

    آلهة المدينة الأخرى، مثل سالم.

أي إنه حدَّد ثلاثةَ آلهةٍ رئيسية هي «بعل وإيل وسالم». والحقيقة أن علينا هيكلةَ هذه الآلهةِ مع ما عَرَفنا من آلهة أورشليم، ووضعَها وَفْقَ النَّسَقِ الآتي:

figure
شكل ٤٧: البانثيون المحلي لمدينة القدس في العصر البرونزي.
ولا شك أن هذا البانثيونَ المحليَّ للقدس ينتمي إلى البانثيون الكنعانيِّ الشاملِ:٣٧ ويَتْبَع ذلك ظهورُ العقائدِ والطقوسِ المناسبةِ والمعروفةِ المرتبطةِ بهذه الآلهة؛ منها دورةُ أساطيرِ «بعلٍ» وولادةُ الآلهةِ الوسيمة، و«بعل» وقتلُه لمياه الفوضى (يم) وبناؤه لقصره على جبل صهيون، ونزولُه إلى العالم الأسفل ودفنُه في جبل صهيون.

وتستمدُّ القدسُ قداستَها الطبيعيةَ من مرتفعاتها التي تُشكِّل أماكنَ عاليةً وواضحةً يمكنُ أن تكونَ مركزًا كونيًّا، إضافةً إلى ما امتزجَت به من قداسةٍ إلهيةٍ حيث استقرَّ كلُّ إلَهٍ على جبل (سالم على أوفل، بعل على صهيون، إيل على موريا)، وسيؤثِّر هذا على التراث اللاحق لليبوسيين؛ حيث نرى القدسَ وهي تمثلُ مركزَ العالَم.

أوضح لنا تيرين Terrien أهميةَ فكرةِ قداسةِ المكان ومركزية القدس في الكون عند بني يهوذا المأخوذ عن اليبوسيين؛ حيث يقول: «أخذ بنو يهوذا عن الكنعانيين في يبوس القديمة الاعتقادَ بأنَّ موقعَ صهيونَ كان مرتبطًا بسُرَّة الأرض، وبأن هيكلَ سليمانَ مبنيٌّ على صخرةٍ هي مركزُ الأرضِ وجبلُ العالمِ وركنُ الخليقةِ وطرفُ حبلِ السُّرَّة الذي يربط بين السماء والأرض والعالم السفلي؛ ولذلك فهو يغدو مرتبطًا بشجرة الكون وجنةِ عَدْن، وفي وقتٍ متأخرٍ عن ذلك بالجنة الجديدة والقدس السماوية.»٣٨
وتظهر فكرةُ سُرَّةِ الأرضِ في معظمِ الأديانِ القديمةِ وأقدمِها كالسومريةِ والبابليةِ والمصريةِ والكنعانية «ويصادف التقليدُ ذاتُه لدى العَبْرَانيين؛ فصخرةُ المعبدِ المقدَّسِ كانت تمتدُّ بعمقٍ في التيهوم المعادلِ العبريِّ لآبسو. كذلك الأمر، وكما كان هناك في بابل «باب آبسو» كانت صخرةُ معبدِ أورشليمَ تحبس «فم التيهوم»؛ فآبسو وتيهوم يرمزانِ في آنٍ واحدٍ للعَماء المائي والكيفيةِ المُشَكلة مُسْبَقًا للمادة الكونية، وعالَمِ الأموات، وكلِّ ما يسبقُ الحياةَ ويتلوها. إن بابَ آبسو والصخرةَ التي تحبس فم التيهوم تدُلان، ليس على نقطة التلاقي، وبالتالي الاتصالِ بين العالمِ الأسفلِ والأرضِ فحسبُ، وإنما أيضًا على فارقِ النظامِ الأنطولوجي بين هذَين المخططَين الكونيَّين.»٣٩
ولذلك يبدو من الطبيعيِّ أن يسمَّى وادي قدرونَ أيضًا باسم (وادي جهنم)؛ لأنه يقع تحت الصخرةِ التي تسدُّ فمَه. ويرى مرسيا إلياد أن بلادًا برُمَّتِها «فلسطينَ» وأنَّ مدينةَ «أورشليم» وأنَّ معبدًا «معبد أورشليم» تمثِّل لأعلى التعيين صورةً كونيةً Image mundi؛ أي كلٌّ منها تُمثِّل، في آنٍ واحدٍ، صورةَ الكونِ ومركز العالَم.٤٠

كلُّ هذا التصوُّرِ عن قدسية يبوس ومرتفعاتِها نشأَ أوَّلًا في ذهن اليبوسيين الذين ينتمون لعقيدةٍ دينيةٍ كنعانية كانت ترى في المكان المقدَّسِ المرتفعِ مركزًا للعالم، أو سُرَّةً كانت تربط الأرضَ بالسماء.

ويَحفِل سِفْرُ المزاميرِ بالكثير من الإشارات الميثولوجيةِ واللتورجيةِ العَبْرانيةِ ذاتِ الجذورِ الكنعانية، واليبوسية بشكلٍ خاصٍّ، عندما يتعلقُ الأمرُ بأورشليم والطقوسِ التي كانت تجري فيها.

ولعل «عيدَ المَظالِّ» العبريَّ الذي يتضمنُ طقوسًا احتفاليةً لجلب الماء من أحدِ الأحواضِ إلى بوابةِ الماءِ بموكبٍ حافل «فيُنفَخُ في الأبواقِ المصنوعةِ من قرونِ الأكباشِ ثلاثَ مراتٍ تحيةً للموكب، ثم تُسْكَبُ المياهُ في وعاءٍ فضيٍّ فوقَ المَذبَح، وتخرجُ المياهُ ثانيةً من فَوْهةٍ في أسفلِ الوعاءِ وتسيلُ فوقَ الأرضِ (مشنا، سوكاه ٤: ٩، ٥: ٥). ويتوافقُ موعدُ هذا العيدِ مع أوائلِ سقوطِ المطرِ في فصل الخريف، ويُعتقَدُ أنه من بقايا الاحتفالاتِ الكنعانيةِ القديمةِ التي يُستَسقَى فيها بواسطة السحرِ والشعوذة.»٤١

وتُشبِهُ هذه الطقوسُ ما كان يحصلُ مع معبدِ الإله «بعل» وهبوط المطرِ على تمثالِ الإله بعد فتحِ طاقاتِ السماء، وهي طقوسٌ كنعانيةُ الأصل.

وبإمكاننا أن نُحصِيَ الكثيرَ من الطقوسِ الواردةِ في التراثِ العبريِّ ثم اليهوديِّ لنجدَ صلتَها المباشرةَ بالتراثِ الكنعاني.

يرى تيرين أيضًا أن «النحُشتان»، وهو الثعبان البرونزي الذي رفعه ملك يهوذا حزقيا من مرتفعات أورشليم، كان موجودًا في هيكل يبوس: «هو أزال المرتفعاتِ وكسَّر التماثيلَ وقطعَ السواري وسحق حية النُّحَاسِ التي عَمِلها موسى؛ لأن بني إسرائيل كانوا إلى تلك الأيامِ يوقدونَ لها ودعَوه نَحُشتان.»٤٢

ونرى أن المرتفعاتِ والتماثيلَ والسواريَ وحيةَ النُّحَاس، كلها، كانت رموزًا دينيةً كنعانيةً يبوسية في أورشليم.

ويذهبُ «تيرين» أيضًا إلى أن «بحر البرونز» الذي ركبه سليمان أمام الهيكل كان يرمزُ إلى ارتباط هيكلِ القدس بالعالَم السفلي؛ هاويةِ أنهارِ عَدْنٍ وأسطورتها، وربما لم يكن هذا العنصرُ مستمدًّا من اليبوسيين، لكنَّ الفكرةَ التي وراءه كانت بالتأكيد جزءًا من المعتقدات الكنعانية؛ ولهذا السبب قد تكون أيضًا جزءًا من الديانة اليبوسية.٤٣
١  طومسون، المرجع السابق، ص١٤٢.
٢  نفسه، ص١٤٥.
٣  نفسه، ص١٤٦.
٤  أرمسترونج، كارين، المرجع السابق، ص٣٧.
٥  فرانكن، المرجع السابق، ص٤٧.
٦  أرمسترونج، المرجع السابق، ص٣٩.
٧  نفسه، ص٤٠.
٨  نفسه، ص٣٩–٤٠.
٩  Shiloh, op. cit., p. 702.
١٠  .Ibid.
١١  أحمد فخري، مصر الفرعونية (موجز تاريخ مصر منذ أقدم العصور حتى عام ٣٣٢ق.م.) القاهرة، ١٩٩٥م، ص٢٨١.
١٢  ترجَم أولبرايت أهمها للإنجليزية في كتاب نصوص الشرق الأدنى القديم: W. F. Albright, “The Amarna Letters,” ANET Ancient Near East Texts Relating to the Old Testament by James B. Pritchard, 3rd Edition, New Jersery 1969, pp. 283–490. وترجمها ميرسر كاملة في: S.A.B Mercer, The Tell El-Amarna Tablets, 2 Vols., Toronto, 1939. اعتمادًا على ترجمةٍ ألمانيةٍ كاملة لكوندتسون: J. A. Kundtzon, J. A and O. Weber, Die El-Amarna-Tafeln, 3 Vols., Leipzig. 1915.
١٣  الفني، إبراهيم، المرجع السابق، ص٤٥.
١٤  نفسه، ص٤٤.
١٥  أحمد سوسة، العرب واليهود في التاريخ، ط٤، ١٩٧٥م، ص٦٢٧. وانظر كذلك عزمي عبد محمد أبو عليان، القدس بين الاحتلال والتحرير، عمان، ١٩٩٣م، ص٥٨.
١٦  أبو عليان، عزمي، المرجع السابق، ص٥٩.
١٧  نفسه.
١٨  نفسه.
١٩  جيمس هنري برستد، تاريخ مصر من أقدم العصور إلى الفتح الفارسي، ترجمة الدكتور كمال، القاهرة، ١٩٢٩م، ص٢٥٧.
٢٠  جاردنر، المرجع السابق، ص٢٢٨.
٢١  كارين أرمسترونج، القدس مدينة واحدة عقائد ثلاث، ترجمة د. فاطمة نصر ود. محمد عناني، عمان، ١٩٨٨م، ص٣٩.
٢٢  نفسه.
٢٣  نفسه.
٢٤  شوفاني، المرجع السابق، ص٧٤.
٢٥  خزعل الماجدي، المعتقدات الكنعانية، عمان، ٢٠٠١م، ص١٩–٢٢.
٢٦  جاردنر، سير ألن، المرجع السابق، ص٣٠٢.
٢٧  فخري، أحمد، المرجع السابق، ص٣٧٧. أما النص الكامل للوحة ففي ANET … p. 376–378.
٢٨  طومسون، المرجع السابق، ص١٩٠.
٢٩  جاردنر، سير ألن، المرجع السابق، ص٣٠٣.
٣٠  الماجدي، خزعل، الآلهة الكنعانية، عمان، ١٩٩٩م، ص٣٢–٣٣.
٣١  الماجدي، خزعل، المعتقدات الكنعانية، عمان، ٢٠٠١م، ص١٤٥–١٥١.
٣٢  بوب ورولينغ، «قاموس الآلهة والأساطير في الحضارة السورية»، قاموس الآلهة والأساطير، ترجمة محمد وحيد خياطة، دمشق، ١٩٨٧م، ص١٨٥–١٨٦.
٣٣  نفسه، ص١٨٧.
٣٤  العهد القديم، سفر إشعياء ١٤: ١٣.
٣٥  أرمسترونج، المرجع السابق، ص٥٠.
٣٦  فرانكن، المرجع السابق، ص٤٢. وكذلك انظر: Stoltz F., “Strukturen und Figuren im Kult von Jerusalem,” BZAW, 118, Berlin, 1970.
٣٧  الماجدي، خزعل، المرجع السابق.
٣٨  فرانكن، المرجع السابق، ص٤٣. وكذلك انظر: Terrien S., “The Omphalos Myth and Hebrew Religion,” VT, XX, 1970, 317.
٣٩  مرسيا إلياد، المقدَّس والمدنَّس، ترجمة عبد الهادي عباس المحامي، دمشق، ١٩٨٨م، ص٣٧–٣٨.
٤٠  نفسه، ص٣٨–٣٩.
٤١  بوب ورويلنغ، المرجع السابق، ص١٩١.
٤٢  العهد القديم، الملوك الثاني ١٨: ٤.
٤٣  فرانكن، المرجع السابق، ص٤٣. شتاينر، مارغريت، القدس في العصر الحديدي (١٣٠٠–٧٠٠ق.م.)، ترجمة رزق الله بطرس، زياد منى، قَدْمُس للنشر والتوزيع، بيروت (٢٠٠٦م). وايتلام، كيث وتوماس طمسن، نيلز لمكة، إنغرِد هيلم، زياد منى: الجديد في تاريخ فلسطين القديمة، ترجمة عدنان حسن، زياد منى، قَدْمُس للنشر والتوزيع، بيروت (٢٠٠٤م).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥