المبحث الأوَّل: العَصرُ الحَدِيدِيُّ الأول (أوروساليم) ١٢٠٠–١٠٠٠ق.م.

أولًا: المَرجعِيَّةُ التاريخيَّة

يظهرُ العصرُ الحديديُّ الأولُ في فلسطينَ كأنه فترةٌ انتقاليةٌ من العصر البرونزيِّ المتأخر أكثرَ من كونه عصرًا حديديًّا بالمعنى الاصطلاحيِّ الدقيق للكلمة؛ فقد شهد هذا العصر جملةً من التحوُّلاتِ البيئيةِ والعسكريةِ والسياسيةِ والإثنيةِ التي ظهرَت ثمارُها في العصر الحديديِّ الثاني.

تغيَّر الوضعُ تمامًا في نهاية العصرِ البرونزيِّ المتأخر، وتغيَّرَت أحوالُ فلسطينَ من جميع النواحي المُناخيةِ والسياسيةِ والإثنولوجية، وكان ذلك العصرُ بمثابة خاتمةِ عصرٍ كاملٍ كان في طريقه إلى الزوال. ولعل ثَمَّةَ عواملَ مهمَّةً أَدَّت دورًا كبيرًا في تشكيل سماتِ العصرِ الحديديِّ الأوَّل الذي احتضَنها وتفاعَل معها وأصبح زمنُه جزءًا منها، وهذه العواملُ هي:

(١) الجفافُ المتوسطي

تغيَّر مناخُ العالَمِ بين ١٢٠٠٠–١٠٠٠ق.م. وشهد حوضُ البحرِ المتوسطِ والأراضي الملتفةُ حولَه، في أوروبا وآسيا وأفريقيا، ذروةَ هذا التغيُّر؛ فقد «جاءت فترةُ جفافٍ نقصَت فيها الأمطارُ بنسبة ٢٠% تقريبًا، وارتفعَت الحرارةُ حوالي ٢٠–٣٠ درجةً مئويةً فوق المُعدَّل، وقد أصبحَت حادَّةً تمامًا حوالي ١٢٠٠ق.م.

خلالَ أوائلِ الألفِ الأولِ عاد الطقسُ الأبرَدُ والأرطَبُ إلى أوروبا، وعادَت معدَّلاتُ الأمطارِ في الشرق الأدنى إلى مستوًى يقاربُ مستواها في الوقت الحاضر»١ كان تأثيرُ الجفافِ وقلةِ الأمطارِ مُدمِّرًا في السهوب والمناطقِ الهامشية، وكان التأثيرُ متوسطًا في مناطق المياهِ التي لا تُستَعمَلُ في الزراعة، وهو ما تسبَّبَ في نقص الغذاء، وربما الهجرة، لكنَّ التأثيرَ كان أقلَّ من ذلك في المناطقِ الزراعيةِ التي تَستخدمُ الري، والتي أبدَت مقاومةً أشدَّ واستيطانًا أكثرَ رسوخًا.

إن التحوُّلَ من النباتاتِ المتوسطيةِ إلى النباتاتِ الصحراوية، وانخفاضَ منسوبِ مياهِ البحرِ المتوسط، وجفافَ المراعي، كانت من مظاهر هذه الفترة. ولقد أدَّى تكيُّفُ السُّكانِ دورًا مُهِمًّا في مجابهة هذه الظروفِ القاسية؛ حيث تقلَّصَت الزراعة، واتُّجِهَ نحوَ الرعي، وربما البداوة، وتغيَّرَت خارطةُ الاستيطانِ البشريِّ بشكلٍ واضح.

لم تسقُطْ حضارةُ العصرِّ البرونزيِّ المتأخر تحتَ ظلِّ هذا الظرفِ المناخي، في فلسطينَ فقط، بل كانت شاملةً في حوض المتوسط؛ فقد سقطَت الحضارةُ الموكينية في بحر إيجة، وهي الحضارة التي كانت تمثِّل العصرَ البرونزيَّ الأخير، وكانتْ ذُروَة الجفافِ بين ١٢٠٠ و١١٩٠ق.م. في الإمبراطوريةِ الحيثيةِ على شكل جفافٍ ومجاعة، وسقطَت حضارةُ أوغاريت قبل أن يدمِّرَها الزلزالُ بفعل جفافٍ وقحطٍ طويلَين. ولَحِق القحطُ مصرَ وشمالَ أفريقيا. وفي فلسطينَ دُمِّرَت مدنٌ عِدَّةٌ بفعل الجفافِ مثل حاصور، وتقَلَّصَت مدنٌ مثلَ بئرِ سبعٍ وعراج.

(٢) غزَوَاتُ أقوَامِ البَحر

ربما كان هذا المناخُ سببًا في استفزاز أقوامِ بحرِ إيجة وقحط أراضيهم مما نتج عن ذلك تلك الغزواتُ الكاسحةُ التي قاموا بها على بلاد آسيا الصغرى وسواحلِ المتوسط.

«وفي أوائل القرنِ الثانيَ عشرَ قبل الميلاد، غمَر سواحلَ فلسطينَ فيضٌ من شعوب البحر من جزر شمالي البحر المتوسط وشواطئه. ويبدو أنها قد شغلَت كلَّ السهلِ الساحليِّ لفلسطين. وأشهرُ شعوبِ البحرِ هذه الفلسطينيونَ الذين قطَنوا المنطقةَ الواقعة بين غزةَ وعفرون، وشعب الثكر الذين قطَنوا المنطقة الساحلية جنوبي الكَرْمل. وقد جلَب الفلسطينيون حضارتَهم الخاصَّةَ معهم، ولكنهم سُرعان ما اندمجوا وامتزجوا مع الكنعانيينَ الذين هُزِمُوا على أيديهم. ولمَّا كانوا يمتلكونَ أغنى قطاعٍ من أرضِ فلسطينَ فإنه لم يَمُرَّ وقتٌ طويلٌ إلا وكانوا قد سادوا على شعوب البحر الأخرى. وفي حوالَي منتصف القرن الحاديَ عشرَ.» (أولبرايت ١٩٧١: ١١٥–١١٦).

كان أقوامُ البحرِ خليطًا من هجرةٍ آريةٍ كبيرةٍ قادمةٍ من شمال أوروبا باتجاه بلادِ البلقان، بالإضافة إلى أقوام بحر وجُزرِ إيجة التي أخرجها الجفاف من جُحورها. وقد انقسمَت موجاتُ أقوامِ البحر إلى ثلاثِ مجموعاتٍ أساسية:
  • (أ)

    المجموعةُ المنطلقةُ من البلقان: والتي تألَّفَت من الفريجيين والموكينيين، وهم الذين تحالفوا مع الكاشكيين القاطنين شمال آسيا الصغرى (خصوصًا عند السواحل الجنوبية للبحر الأسود). وقد هجمَت هذه المجموعةُ على قلب الإمبراطورية الحيثية ودمَّرَتها نهائيًّا عام ١١٩٠ق.م. وبذلك انتهى دور آسيا الصغرى في صُنع أحداثِ تاريخِ غربِ آسيا القديم.

  • (ب)

    المجموعة المنطلقة من كريت: والتي تألَّفَت من الشاردانيين واللوكيين والموكينيين واتجهَت نحو قبرص، ثم اتجهَت جنوبًا وتحالفَت مع القبائل الليبية، وهاجمت مصر وكادت تُسقِطُها لولا وقفةُ رمسيسَ الثالثِ الذي أجبَرها على التراجع.

  • (جـ)

    المجموعة التي ضمَّت القبائل الفلستية والليرية والزاكارية باتجاه ساحل بلاد الشام؛ حيث دمَّرَت بعضَ ممالكِها وتوغَّلَت في الجنوب؛ أي في فلسطين، وتصدَّى لها رمسيسُ الثالثُ في معركتَين على البحر وفي البر.

وقد انتهى غزو المجموعتَين الأخيرتَين بشكلٍ خاص إلى تفرُّق قبائلِها واستقرارِ بعضِها كسكانٍ مسالمينَ في كثيرٍ من أرجاء المتوسط «وأصبحَت أسماءُ بعضِ هذه الشعوبِ علَمًا على البلاد حتى الآن، ومنهم البلست مثلًا الذين أصبح اسمهم يُطلَق على «فلسطين» منذ ذلك العهد، والشردان الذين أصبحَت جزيرة «سردينيا» تسمَّى باسمهم، و«ثكر» الذين من المحتمل أن يكونوا قد أعطُوا اسمهم لجزيرة صقلية وغيرهم.»٢
وهكذا غيَّر هجومُ أقوامِ البحرِ وجهَ التاريخِ بل وأدخلَه في مرحلةٍ جديدةٍ كانت التمهيدَ الأكبرَ لدخول التاريخ في العصورِ الحديدية. ويُلخِّصُ لنا الدكتور توفيق سليمان معالمَ هذا التحوُّلِ الجذريِّ الذي ترتَّب على هجمة أقوام البحر بالنقاط الآتية:٣
  • (١)

    انهيارُ المملكة الحيثية التي كان بيدها تحديدُ مصيرِ شعوبِ غربِ آسيا وممالكِها لعدة قرونٍ خَلَت على هذه الهجمة.

  • (٢)

    انهيارُ جميعِ ممالكِ وإماراتِ ساحل بلاد الشام حتى الحدودِ المصرية.

  • (٣)

    تداعي أركانِ الدولةِ المصرية، بالرغم من صدِّ رمسيسَ الثالثِ لهجوم المغيرين؛ فقد دخلَت مع الأسرة الحادية والعشرين في مرحلة الضعف والانهيار.

  • (٤)

    هجرةُ بعضِ القبائلِ الليبيةِ القديمةِ إلى مصر وتسلُّمُها الحكم في الدلتا.

  • (٥)

    تراجعُ السلطةِ الآشورية إلى داخلِ حدودِها الأصليةِ الإقليمية، ثم نهوضُها كدولةٍ قوية.

  • (٦)

    استقرارُ القبائلِ البلستية (الفلسطينية) على ساحلِ أرضِ كنعان.

  • (٧)

    ظهورُ الميديين كقوةٍ كبرى على مسرح الأحداث السياسية في غرب آسيا.

وعلى أثَر هذه الهجمةِ نشأَت ثلاثُ قوًى جديدةٌ تصارعَت فيما بينها لتسلُّم زِمَامِ القيادةِ السياسيةِ والعسكريةِ والحضاريةِ في غرب آسيا القديم، وهي الإمبراطوريةُ الآشوريةُ والممالكُ الآراميةُ والمملكةُ الميدية، فوُلِد بذلك عالَمٌ جديدٌ في تركيبه وفي إنجازاتِهِ السياسيةِ والعسكريةِ والاقتصاديةِ والحضارية.

(٣) الأسرةُ العشرونَ في مصر وأثَرُها على فلسطين

يحتلُّ تاريخُ الأسرةِ العشرين (١٩٩٥–١٠٨٠ق.م.) معظمَ فترةِ العصرِ الحديديِّ الأول. فإذا أضفْنا له التاريخَ المضطربَ للأسرة الحادية والعشرين (١٠٨٥–٩٥٠ق.م.). نكون بذلك قد غطَّينا كل مرحلة العصر الحديدي الأول في فلسطين.

figure
شكل ٤٩: رَمسيسُ الثالثُ في معركةٍ مع أقوامِ البَحر (صورةٌ جزئية). المرجع: جاردنر، ١٩٨٧م: ٣١٥.

ربما كان «إرسو» — الذي قفَز إلى كرسيِّ الحكمِ في نهاية الأسرةِ التاسعةَ عشرةَ — أحدَ زعماءِ الجنودِ القادمينَ من بلاد الشام، وفلسطين بشكلٍ خاص، مُنهِيًا بذلك حكمًا مصريًّا قاسيًا ضد فلسطينَ استمر خلال الأسرتَين الإمبراطوريتَين الثامنةَ عشرةَ والتاسعةَ عشرة.

ويبدو لنا مغزى الرسالةِ السريعةِ التي تعنيها هذه الحادثةُ عميقةً ومؤثرةً وتُعيدُ إلى الذاكرة ما فعله الهكسوس؛ فقد ازداد تدمير القبائل البدوية المهاجرة من بلاد الشام وفلسطينَ نحو مصر، وقامت بغزواتٍ متعددةٍ نجحَت واحدةٌ منها في رفع زعيمها «إرسو» إلى مرتبة الفرعون.

ورغم أن مؤسسَ الأسرةِ العشرينَ أزاح هذا الفرعونَ الأجنبيَّ وأورث على العرش المصريِّ ولدًا قويًّا هو رمسيسُ الثالث، لكن هذا الأخير وجد نفسه مُضطرًّا للسير إلى بلاد الشام لإخماد ثورةٍ في بلاد «أمورو»، كما تشيرُ إلى ذلك نقوشُ معبدِ مدينة «هابو».

لكنَّ العملَ الجبارَ الذي قام به رمسيسُ الثالث كان في صدِّه لهجوم أقوام البحر التي احتلَّت كيليكيا وقبرص وكركميش، ثم اتجهَت نحو مصر «وجاء بعضها بطريق البر، ومعهم نساؤهم وأطفالهم على عرباتٍ تجرُّها الثيران، والبعضُ الآخَرُ على سفنٍ حربية. ولم يُهمِل رمسيسُ الثالثُ دفعَ هذا الخطر، فاستعدَّ له وجمع أسطولًا كبيرًا، كما جمع جيشًا بريًّا، وسار لملاقاة أعدائه الذين كانوا في طريقهم إلى مصر من ناحية الشرق. وقد حَفِظَت لنا جدرانُ معبدِ مدينة هابو صورًا مفصَّلةً لهذه المعارك من بريةٍ وبحرية، وهي تمثِّل لنا صورًا من الصدام بين مصر والشعوبِ الأوروبية.»٤

وكان من ضمن هذه الأقوام «البلست» أو«الفلستو» الذين هُزِموا أمامَ رمسيسَ الثالث. لكنهم قاموا بالهجوم، بعد ذلك، على المدن الساحلية الكنعانية، ثم تمركزوا واستقروا في خمسِ مدنٍ ساحليةٍ كنعانية، هي «عكا، أسدود، عسقلان، جت، غزة»، وأصبحت أسدود عاصمةً لمملكةٍ فلستية (فلسطينية) انصهَرَت فيها القبائل الإيجية الغازية مع القبائل الكنعانية التي كانت تسكُن هذه المدن.

وهكذا بدأ أوَّلُ تحوُّلٍ إثنيٍّ في بلاد فلسطينَ عندما كوَّن «الفلستو» لهم دولةً ساحليةً تضم خمسَ مدنٍ كبيرة (خارطة ١٠).

figure
خارطة (١٠): المواقع التي عُثر فيها على الطراز الفخَّاري البلستي. المرجع: Ahlstrom, The History of Ancient Palestine Map (10), 1993.

وقد رافق استقرار الفلستو في فلسطين ظهورُ ملامحَ خاصَّةٍ بطراز فَخَّارِهم الذي حمَل مؤثراتٍ إيجيةً واضحة، مثل أشكال بعض الحيوانات والنباتات. وكذلك طراز الدُّمى التي صنعوها، والتي كان لها نمطٌ خاص (شكل ٢٠، ٢١).

figure
شكل ٥٠: فخَّارٌ فلستيٌّ مزخرف. المرجع: إبراهيم، معاوية، الموسوعة الفلسطينية، القسم الثاني، المجلد الثاني، ١٩٩٠م، ص١١٥.
figure
شكل ٥١: دُمًى فلستية وميناوية. المرجع: إبراهيم، معاوية، الموسوعة الفلسطينية، القسم الثاني، المجلد الثاني، ١٩٩٠م، ص١١٦.

ويبدو أن رعمسيسَ الثالثَ قام بحملةٍ أخرى في بلاد الشام لكنه لم يُطهِّرْها من بقايا أقوام البحر، كما يذهب إلى ذلك أغلبُ المؤرخين، بل حاصر مدنًا داخليةً قد تكونُ «قادِش» واحدةً منها.

وبعد وفاة رعمسيسَ الثالثِ عام (١١٦٠ق.م.) تلاه سلسلةٌ من الملوك من رعمسيسَ الرابعِ وحتى رعمسيسَ الحاديَ عشرَ حكموا ثمانين عامًا وكانوا ضعفاء، وخضَعوا لسلطان الكهنة، وأخذ النفوذُ المصريُّ في بلاد الشام يقلُّ حتى اقتصر على فلسطين، ثم تحرَّرَت فلسطينُ أيضًا منه مع نهايةِ الأسرةِ العشرين. واستمرَّت الاضطراباتُ وضعُفَت الأوضاعُ الداخليةُ في مصرَ طيلةَ حُكمِ الأسرةِ الحاديةِ والعشرين. وقد تكون برديةُ رحلةِ الكاهنِ «ون-أمون» إلى لُبنانَ خيرَ وثيقةٍ أدبية لتِبيانِ ما آلَت إليه أمورُ مصرَ في الشام مع نهايةٍ مُرة.٥
كانت الصفةُ العامةُ للنفوذ المصريِّ في فلسطينَ منذ العصرِ البرونزيِّ المتأخر هي محاولة «تمصير كامل لجنوب فلسطين» كما يصفها طومسون. وقد تَوجَّه هذا النفوذُ الذي وصل إلى ذروته مع حكم رعمسيس الثالث، بثلاثةِ أبعادٍ هي «التدخلُ العسكري ودمجُ المصريينَ بالاقتصاد وسياسة المدنِ وطرقِ التجارة والضبط الإداري النشيط للأراضي المنخفضة».٦

ويدور التدخُّلُ العسكري، لا سيَّما مع حكامِ فراعنة السلالةِ التاسعةَ عشرةَ، في صدِّ غزواتِ الحيثيينَ المتجهينَ جنوبًا وإخمادِ الثوراتِ المواجهةِ للحكمِ المصريِّ ومنعِ أو تقليل غزوات اﻟ «شاسو» على الساحل الجنوبي. أمَّا التدخلُ الاقتصاديُّ فيتضَمنُ وجودَ مجاميعَ حِرفيَّةٍ مصريةٍ ومعابدِ آلهةٍ مصريةٍ في غزَّةَ وعسقلان، وربطَ مواقعِ التعدين — في «تمنه»، و«سرابيط الخادم» — بالاقتصاد المصري. أمَّا الضبطُ الإداريُّ فكان مركزُه في غزة.

ويبدو أن هذه الخطة نُفِّذَت طيلةَ العصرِ البرونزيِّ المتأخرِ والحديديِّ الأول، وهناك ما يشيرُ إلى انسحاب الوجود المصري من فلسطينَ أثناء حكم رعمسيسَ الرابع (١١٤١–١١٣٤ق.م.) أو بعد ذلك بقليل. ويبدو أن السببَ الأساسيَّ في ذلك هو الحروبُ الأهليةُ في مصر وضعفُ الإدارةِ الحكومية.

(٤) حرَكاتُ الهجرةِ والاستِيطانِ الجديدة داخل فلسطين

كان تأثيرُ الجفافِ على المدن والأراضي الفلسطينية متفاوتًا؛ فهو يختلف في الأراضي الزراعية التي تعتمد على الري أو على المطر عنه في أراضي السهوب أو في المدن المستقرة وهكذا. وقد ظهرَت بحوثٌ وفرضياتٌ كثيرةٌ عالجَت موضوعَ حركاتِ الهجرةِ والاستيطانِ داخل فلسطين كان أغلبُها ينطلق من خلفيةٍ توراتية لكي تُمهِّد الجوَّ لمعالجة النتائج الأركيولوجية التي ظهرَت في فلسطين؛ ولذلك وقعَت تحت تأثيرٍ دينيٍّ أيديولوجي، ولم تحافظ على نزاهة العِلم الأركيولوجي.

وكان بعضُها يصوغ الموديلاتِ أو السيناريوهاتِ المختلفةَ لكي يُمهدَ للكيفية التي ظهرَت بها إسرائيلُ كدولةٍ مهمةٍ في فلسطين، أو أن بعضَها كان يحاول ملاءمةَ التوراة والأركيولوجيا لنحت طريقٍ يوضحُ كيفيةَ دخولِ القبيلةِ الإسرائيليةِ المزعومة هاربةً من مصر إلى كنعان، وهكذا.

وسنُهمِل كلَّ هذه الدراساتِ بسبب عدم إخلاصِها للعلم وخضوعِها لمُوجِّهاتٍ دينيةٍ وأيديولوجيةٍ واضحة.

تنقسم أرض فلسطين إلى خمس مناطقَ طوبوغرافيةٍ مميزة، هي:
  • (١)

    السهلُ الساحلي.

  • (٢)

    القسمُ الشمالي (الجليل والكرمل).

  • (٣)

    القسمُ الوسطيُّ الأعلى.

  • (٤)

    القسمُ الوسطيُّ الأسفل.

  • (٥)

    القسمُ الجنوبي (الصحراء والنقب).

(أ) السَّهلُ السَّاحلي

رغم أن الجفافَ طال كلَّ الساحلِ المتوسطيِّ الشامي إلا أن المدنَ الفينيقيةَ من أوغاريت إلى عكا استطاعت تجاوزَ هذه المحنة، نسبيًّا، وما رافقَها من اضطرابٍ سياسيٍّ دون أن تنهارَ بشكلٍ واسعِ النطاق.

ففي عكو (عكا) أكَّدَت حفرياتُ دوثان M. Dothan أنه بعد أن دمَّر رمسيس الثالث المدينة عاد السكان إلى استيطان الموقع على نطاقٍ أضيقَ وبدون تحصينات. واقترح دوثان أن يكون هؤلاء المهاجرونَ الشردين Shereden الذين أتَوا من إيجة وكليكيا، لكن الشردين شكَّلوا جزءًا من جيش رمسيس الثاني في معركة قادِش؛ إذ يُحتمَلُ أن يكونوا قد تأقلَموا في المنطقة قبل التدمير.٧
أمَّا الساحلُّ الفلسطينيُّ في سهل «شارون» فقد شَهِد تحولاتٍ من نوعٍ آخرَ تمامًا؛ فقد استوطن إيجيُّون يُدعَون «جكر-سيكيل Tjekker-Sekel» في مدينة «دور» الساحلية «والظاهر أنهم عَمِلوا ضمن الاقتصاد والثقافة الراسختَين في العصرِ البرونزيِّ الأخير، داعمينَ لها ومضيفينَ إليهما المبتكراتِ التقنيةَ الجديدة، التي أَدَّت في المدى الطويل إلى تحسيناتٍ في الصناعةِ البَحْرية. وفي بعض المواقعِ الأبعدِ إلى الجنوب تُوحي البياناتُ الأركيولوجية بأن المهاجرينَ الجددَ إلى دور لم يتسبَّبوا في تغيُّرٍ جذريٍّ أو اقتلاعٍ لسكان الساحل. والأخرى، هو أن المهاجرين اندمجوا سلميًّا مع السكان الساحليين المحليين.»٨

أما الساحلُ الفلسطينيُّ من يافا إلى غزةَ فكلُّها تشير إلى وجود تغيُّرٍ إثنيٍّ يتمثلُ في مجيء الفلستو الذي أنتج نوعًا جديدًا من الخزف الثنائي اللون بذات الزخارف المتميزة؛ إضافةً إلى الدُّمَى الفلستية والميناوية التي تمثل إناثًا مرفوعةَ الأيدي إلى الأعلى أو على الرأس، ويُعتقَدُ أنها نوعٌ من الإلهةِ الأُمِّ الفلستية التي كانوا يتعبَّدونها في موطنهم الأصلي (انظر شكل ٥٩).

وهكذا نرى أن سهل شارون شَهِد التحوُّلَ من العصرِ البرونزيِّ القديم إلى العصرِ الحديديِّ الأول عن طريق تغيُّرٍ إثنيٍّ وظهورِ المزارعِ الصغيرةِ أو المخيماتِ أو القلاعِ والأسوارِ المُحصَّنةِ بأبراجِ مراقبةٍ مثل ما عُثر عليه في تل زيرور.

إن منطقةَ السهلِ الساحليِّ تُعرَفُ باسم سهل فلسطين، وتاريخُها — خلال الفترة من القرن الثالثَ عشرَ إلى القرن العاشر — يُقرَنُ بتاريخ شعبٍ بهذا الاسم في هذه المنطقة. وهناك نظريةٌ ترى أن هؤلاء البلست سكنوا في السواحل الفلستية قبل هجومِ أقوامِ البحر، وربما كانوا جزءًا من هجرة أقوام البحر المكوَّنةِ من البلست والجكر والشريدان والدانانو إلى مناطقِ فلسطينَ الساحلية؛ سبقَت حكم رعمسيسَ الثالث، وتمَّت في وقتٍ ما في القرن الثالثَ عشَر.٩

ولقد كان اندماجُ شعوبِ البحرِ مع السكانِ المحليين إشارةً إلى عدم تأسيس إثنيةٍ جديدة. أمَّا الانتعاشُ السريعُ في المدن الفلستية؛ خلافًا لمدنِ فلسطينَ الأخرى، فقد كان بسبب الجهودِ المصريةِ للسيطرةِ على الطرق البريةِ والبحْريةِ الجنوبيةِ في فلسطين.

(ب) فلسطينُ الشماليَّة (الجَليلُ والكَرْمل)

اتصلَت محاولاتُ ربطِ الحفرياتِ في مواقعِ الجليلِ وتاريخِ فلسطينَ التوراتيِّ التي قام بها «فنكلشتين» على إثبات علاقةٍ عَبْر إقليميةٍ بين مستوطناتِ العصرِ الحديديِّ الأول في الجليل ومستوطناتِ مرتفعاتِ إفرايم-منسي. لكنَّ هذه العلاقةَ لا تستندُ إلى أدلةٍ واضحة؛ فقد ارتبطَت أواني الجليلِ الأعلى، مثلًا، مع فينيقيا وساحل فلسطينَ الشماليِّ بدلًا من مواقعِ السامَرَّةَ ويهوذا، وكذلك البناءُ المعماري وأنواعُ معاصرِ الزيتونِ وغيرها. وتؤكِّد الحفرياتُ أن الجليلَ الأعلى — وهو المنطقةُ المرتفعةُ والوعرة — حصَل فيها الاستيطانُ الشاملُ في العصر الحديدي الثاني (ربما حتى نهاية القرن العاشر أو التاسع)؛ ولذلك توَجَّب الحذَرُ من ربطِ آثارٍ بالمرتفعات الوسطى في العصر الحديدي الأول وما قبله خدمةً لأغراضٍ توراتية. أمَّا الجليلُ الأسفلُ فقد شَهِد هو الآخرُ استيطانًا واسعًا في «قريات تيفون» و«تلال عيرون» وغيرها.

أمَّا وديانُ الأراضي المنخفضةِ مثل وادي جرزيل فهو أكثرُ المناطقِ الزراعيةِ في فلسطينَ استقرارًا؛ ولذلك لم يتأثَّرْ إنتاجُه الزراعيُّ بفعل الجفاف الذي حصل في العصر الحديدي الأَوَّل. وتؤكِّد حفرياتُ مجدو وبيسانَ أن هذا الواديَ شهد تواصلًا واستقرارًا سكانيًّا.

ورغم غزارةِ الحفرياتِ في وديان الأراضي المنخفضة — وخاصة جرزيلَ ونوعيتَها التي تشيرُ إلى استمرار وتنامي حضارتِها من البرونزيِّ الأخيرِ مرورًا بالحديديِّ الأولِ والثاني — إلا أن مخطَّطاتِ فنكلشتين النظريةَ المعتمدةَ على التوراة — والتي حاوَل أن يحوز بها الآثار المكتشَفة في هذه الوديان — جعلَت من الحضارة البديعة لهذه الوديان هامشية، قياسًا بالاستيطان في المرتفعات الوسطى، الذي يرى أنه شكَّل نواةَ إسرائيلَ لاحقًا.

يقدِّم طومسون اعتراضَه ونقدَه لهذه النظرية عَبْر النقاط الآتية.١٠
  • (١)

    تصوَّر فنكلشتين أن وجود «إسرائيل» — في تلك الفترة السابقة لنشوء الدولة — يقتصرُ على المناطق التي يُتَصَوَّرُ أنها (من دون اعتماد منطقٍ تاريخيٍّ نقديٍّ) شكَّلَت فيما بعدُ مملكة شاؤل حوالي ١٠٠٠ق.م. والتي حدَّد حدودَها بقراءة سِفْر صموئيل الأول (الذي يعتبره مرجعًا تاريخيًّا، مع قليلٍ من النقد).

  • (٢)

    تأثُّرُهُ بالفكرة الأركيولوجية التوراتية التي تعتبرُ أن العصر البرونزي حقبةٌ «كنعانية»، وأن العصر الحديدي الأول حقبةٌ «إسرائيلية». وأن «إسرائيل القديمة» تُشكِّلُ جزءًا من سكان فلسطينَ الآخرينَ بالاستقرار.

  • (٣)

    إصرارُه المُسبَقُ على عدم وجود استيطانٍ إلا في المرتفعات الوسطى (في العصر الحديدي الأول)، وإهمالُ الوديانِ المنخفضةِ قادَه إلى نسيان تواصلِ الاستيطانِ الكنعانيِّ في المرتفعات الوسطى من العصرِ البرونزيِّ إلى العصر الحديدي.

  • (٤)

    ليست بياناتُه الأركيولوجية، بل تصوُّره المُسبَقُ المتأثرُ بالتوراة هو الذي «شوَّه» وتحكَّم في تاريخ فنكلشتين. وتدعو الضرورةُ إلى فهم مسارِ الاستيطانِ في المرتفعات في العصر الحديدي الأول، ضمنَ المحيطِ الجغرافيِّ الأوسعِ للتغيُّرات في كلِّ أرجاءِ فلسطين.

(ﺟ) فلسطينُ الوُسطى الشماليَّة (إِفرايم- منسي)

يصُبُّ فنكلشتين كلَّ جهودِه لوصف أصولِ إسرائيلَ انطلاقًا من العصر الحديدي الأول، وعلى ضوء أنماط الاستيطان في المرتفعات الوسطى؛ حيث يرى أن استقرار أشباه البدو بدأ على طول أطراف السهوب الشرقية للمرتفعات الوسطى، ثم ازداد عدد السكان، واعتمدوا على زراعة الكفاية، وتحولوا عن زراعة الحبوب إلى إنتاج الزيتون والكروم.

وكان «ألت» قد قدم روايةً أركيولوجيةً مستندةً إلى التوراة عن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين تحكي كيف استوطَنوا تلك المناطق في المرتفعات؛ حيث الهيئات السياسية الكبرى كانت قد تأسَّسَت، والتي كانت مُلقَّحةً ضدَّ العدوى بنظام الدولة-المدينة الموجود في المنخفضات، وتلك المناطق قليلة السكان — والتي وصفَها ألت بأنها هشَّةُ التنظيم — هي التي كانت أقلَّ قدرةً على مقاومة الدخلاء الإسرائيليين بعد أن استقرت الجماعات «شبه البدوية» على النمط الزراعي من الحياة، وأدَّى توسُّعُها في النهاية إلى تدمير نظام دولة المدينة.١١

ويرى فنكلشتين أن مستوطناتِ المرتفعاتِ في العصر الحديدي (إفرايم-منسي) كانت مرتبطةً بمستوطناتِ المناطقِ المنخفضةِ المعاصرةِ لها، ويتميزُ كلُّ طرازٍ بأنه يعكسُ وحداتٍ اقتصاديةً متميزةً إقليميًّا.

ويُخالِف فنكلشتين نظريةَ «ألت» عن البداوة الرعوية، بالقول إن مستوطني المرتفعاتِ محليون، ويُقدِّم لهم ثلاثَ مراحلَ أركيولوجية خلال الفترة من ١٢٠٠–١٠٠٠ق.م. مؤديًا مباشرةً إلى «الملكية الموحدة» لدولة إسرائيلَ على يد داودَ في العصر الحديدي الثاني، وهنا يقع في الخطأ القاتل؛ فهو بقدر علميته ومعلوماته وبياناته الأركيولوجية المهمة، إلا أنه كان يبني ذلك وَفْقَ بناءٍ توراتي مُعَدٍّ سلفًا. إنه يُطوِّع المعلومات العلمية لصالح المرويات التوراتية. وبكلمةٍ أدقَّ إنه لا يبني تاريخًا أركيولوجيًّا لفلسطينَ بعامةٍ ولإسرائيلَ بخاصة، بل هو يصف الأركيولوجيا لصالح نهايةٍ توراتية.

ولعل أهمَّ ما يميِّز فنكلشتين هو رفضُه لفكرة تأسيسِ إسرائيلَ من «عائلة إسرائيلية» مهاجرةٍ من مصر، وهو ما يقع فيه ألت. وكذلك يجد طومسون مجموعةَ نقاطٍ ضعيفة أخرى في نظرية فنكلشتين، لعل أهمَّها مطالبتُه أن يقوم فنكلشتين بفحص ما يسمَّى ﺑ «المملكة الموحَّدة» وجذورِها ونشأتِها لا على أسسِ تاريخانيةِ المروياتِ التوراتيةِ المناسبة، بل في ضوء مبرِّرها التاريخيِّ ومبدأ قابليتِها للتحريف.١٢

إن فنكلشتين مطالبٌ بأن يُحرِّرَ الأركيولوجيا كليًّا من الموجِّهات التوراتية، ويتركَها كما هي مع استنتاجاتٍ منطقيةٍ تعتمد على العقل لا على الدين.

وكان كتاب ليمخي N. P. Lemche «إسرائيل القديمة» قبل فنكلشتين قد وقع، هو الآخَر، في شَرَك مُسبَقاتِ المروياتِ التوراتيةِ رغم مَسحَتِه الأنثروبولوجية والسوسيولوجية والأركيولوجية، ولعل أبرزَ ما أضافه ليمخي هو اكتشافُه لعدم وجود ما يبرِّر التمييزَ الشائعَ بين ثقافةِ الكنعانيينَ والإسرائيليينَ أركيولوجيًّا، بمعنى أنه لا تُوجَد آثارٌ إسرائيليةٌ خاصةٌ بإسرائيلَ (في العصر الحديدي الأول والثاني)، بل هناك دائمًا آثارٌ كنعانية فحسب.
ويتحزَّبُ ألبرايت بطريقةٍ تبتعدُ عن الذوقِ العلميِّ وتُجافي أبسطَ أنواعِ الحقائقِ الآثاريةِ والعلميةِ عندما يقلب الوقائع وتفسيرها الصائب، حين يرى أن من حُسن الحظ لمستقبل التوحيد أن إسرائيليِّي الغزوِ قد كانوا هَمَجًا، مُزوَّدينَ بطاقةٍ بدائية وإرادةٍ في البقاء لا تلين؛ حيث إن إفناء الكنعانيينَ قد منع الخلط الكامل بين القَومَين القريبَين؛ الأمرُ الذي كان سيحُطُّ من المستوى اليهوديِّ إلى درجةٍ يُصبِحُ معها إصلاحُ الأمرِ مستحيلًا. وبهذا فإن الكنعانيينَ بعبادتهم للطبيعة الطقسيعربدية، ومذهبهم المتعلق بالخصوبة بصيغة رموزِ الثعابينِ والعُريِ الشهوانيِّ وخرافاتِهم الغريزيةِ قد تمَّ استبدالُهم بإسرائيلَ ببساطتِها الرعوية، ونقاء حياتِها، ووحدانيتِها اللطيفة، ونظامِها الأخلاقيِّ الصارم.١٣
كان فنكلشتين قد زحزحَ نظريةَ ألت وألبرايت بنظرية الهجرة من داخل فلسطينَ إلى المرتفعات الوسطى، وباكتشافه لفكرة الهيكلِ السياسيِّ لدولة الفلستو هو الذي ضغَط على قبائل اﻟ «عابيرو»، الذين نجدُهم مذكورين في رسائل تل العمارنة، وأجبَرهم على الاستقرار في المناطق الجبلية أوائل العصر الحديدي ليشكِّلوا نواة شعبٍ طوَّر، بعد وقتٍ لاحق، تقاليدَ قصصيةً غالبًا ما تعرف تطابقًا بين تعبير «إسرائيليين» وتعبير «عبريم» الذي يبدو عرقيًّا. وهو بذلك يحاول توضيحَ التطوُّرِ التاريخي، والأهمُّ التطور اللفظي من «عابيرو» كطبقةٍ اجتماعيةٍ متدنية إلى «عبريم» الذي نجده في التوراة.١٤

وهذا مُوجِّهٌ توراتي أيضًا، في نظرنا، لعدم وجود وثائقَ تاريخيةٍ تربط بين «عابيرو» رسائل تل العمارنة في القرن الرابعَ عشرَ مع العبريين في التوراة. خصوصًا أن كلَّ ما يتعلقُ بما هو «عبري» ما زال غامضًا … حتى ذلك الخطأ الشائع الذي يُطلَق على اللغةِ المصطنَعةِ التي تُسمَّى «عبرية»، والتي لا وجود لها إلا صناعيًّا عند بعضِ الكهنةِ الذين كتبوا المشنا. أما التوراة فمعروف أنها مكتوبةٌ بلهجةٍ كنعانية حيةٍ تُسمِّيها التوراة نفسها «شفة كنعان» ولا تُسمِّيها «عبرية»!

ويقع بوروفسكي O. Borowski في خطأٍ قاتلٍ آخَر؛ فقد حاوَل، بحماسٍ قوي — وإن كان مُضَلِّلًا — أن يقرِنَ كلَّ إبداعِ الزراعةِ الفلسطينيةِ خلال العصرِ الحديديِّ مع الإبداع «الإسرائيليِّ»، وبشكلٍ خاصٍّ تنظيمُ المصاطبِ الذي مكَّن من سُكْنى المناطقِ الجبليةِ وإزالةِ الغابات، ومن الزراعة الانسيابية، والإبداعِ في تخزينِ المياهِ والأدواتِ الحديديةِ واعتمادِ الدورةِ الزراعيةِ والتسميدِ وإراحةِ الأرض، واختراعِ معصرةِ الزيتِ الخشبيةِ ووسائلِ التخزينِ المُبتكَرة.١٥
أما كوتي R. Coote ووايتلام K. Whitelam فيريانِ أن بداياتِ الاستيطانِ في المرتفعات والسهوب أوائلَ العصرِ الحديديِّ جاءت نتيجةً لانهيار التجارةِ أواخرَ العصرِ البرونزي، وأن انتعاشَ التجارةِ مجددًا في العصرِ الحديديِّ الأوَّل أمسكَ بزمام النموِ التجاري، الذي قاد إلى تشكيل دولةٍ إسرائيليةٍ تحت حُكمِ داودَ وسليمان، ويذكُرانِ أن المبدأَ الحاكمَ هو أن تركيزَ الاستيطانِ بتحوُّله إلى قرى المرتفعات والسهوب — خلال فترةِ تناقُصِ أو انهيارِ التجارةِ الإقليمية - هو وسيلةٌ لتقليل المخاطر باعتماد اقتصادِ الكفافِ الرعوي، الذي يُقدِّم أملًا أقوى بالبقاء بعيدًا عن الأراضي المنخفِضة والمُعرَّضة للمخاطر. ويبدو أن ظهورَ إسرائيلَ يتلاءم مع هذا النموذجِ.
لكن ميلر وإيدلمان Edelman يَريانِ أن نشوءَ ملكيةٍ أو مشيخةٍ محدودةٍ في المرتفعات الوسطى، يبدو ممكنًا أواخر العصر الحديدي الأول وبداية العصر الحديدي الثاني. ورغم ذلك، فإن وجودَ مثلِ هذه الوَحدةِ السياسيةِ الصغيرة يُفترضُ وجودها في مرتفعات إفرايم في هذه الحقبةِ القديمة، ويبدو مستقلًّا تمامًا عن أيِّ توسُّعٍ في التجارة الدولية. ويرى طومسون أنْ لا وجودَ لهذه التجارةِ الدوليةِ، ويرى كذلك أن تأكيدَ كوتي ووايتلام على كونها السببَ المباشرَ لنشوء المِلْكية يبقى مُحيِّرًا.١٦

وهكذا ظلت نظريات «المرتفعات الوسطى» كأساسٍ لنشوء إسرائيلَ متهافتةً ولا أساسَ لها من الصحة؛ فهي مجردُ سيناريوهات تأويليةٍ مبنيةٍ على حقائقَ أركيولوجيةٍ قليلة وناقصة وتعتريها الثَّغرات.

(د) فلسطينُ الوُسطى الجنوبيَّة (تِلالُ يَهُوذا)

تقعُ مرتفعاتُ يهوذا بين مرتفعاتِ إفرايم حتى شَمالِ القدس، أمَّا تلالُ يهوذا فتقعُ بين القدسِ والخليل. وتشير المسوحُ الأركيولوجية إلى أن تلال يهوذا كانت مهجورةً في العصرِ البرونزيِّ الأخير، باستثناء القدسِ وخربة رابود، وربما بيت زور التي توَاصَل السكنُ فيها خلالَ العصرِ الحديديِّ الأول. أمَّا الحافة الشرقية لصحراء يهوذا فقد وُجِدَت فيها مواقعُ تعود إلى العصرِ الحديديِّ الأول، معظمُها قرب تجمُّعاتِ المياه.

كانت الزراعةُ، على ما يبدو، حَرِجةً في العصرِ الحديديِّ الأوَّل ومتأثرةً بظروف الجفاف؛ ولذلك اتجه الإنسانُ هناك إلى تربية الحيوانات. وهكذا تبدو لنا السهوبُ الواسعةُ المحيطةُ بيهوذا والصحراءِ الشرقيةِ المتاخمةِ لها مكانًا لهجرة مجموعاتٍ من بدو «الشاسو» شبهِ المستقرِّينَ قُرْبَ مرتفعاتِ يهوذا.

ويرى طومسون أن السبب الذي أدَّى إلى تحوُّل سكانِ مرتفعاتِ يهوذا عن البداوة الرعوية؛ خلال العصرِ البرونزيِّ الأخيرِ والحديديِّ الأول، إلى شكلٍ زراعيٍّ متوسطٍ مستقرٍّ يجب أن يُعْزَى إلى سياسة توطينٍ إلزاميةٍ شجَّعَ عليها توسُّعُ النفوذِ السياسيِّ لمدنِ شَمال النقب وشيفيلية والساحلِ الجنوبيِّ في فلسطين.١٧

في هذه الأثناء كانت مدينةُ القدسِ المتواصلةِ مع تاريخِها البرونزيِّ بوجود اليبوسيين تنمو تدريجيًّا، وتتحول إلى دولةٍ مدنية تسيطر على وادي عليون، وتصبحُ مركزًا تقليديًّا عريقًا للمهاجرينَ من بدو الشوس حولَها ونحو المرتفعاتِ شَمالها.

ويبدو أن القدسَ كانت محاطةً في إقليم المرتفعات الوسطى السفلية بثلاث مدنٍ مهمَّةٍ هي: «لخيش وشيفيلية والخليل» وكانت حتى ذلك الوقتِ أهمَّ بكثيرٍ من القدس على جميع المستويات. ولم تبرُز أهميةُ القدسِ إلا عندما دُمِّرَت لخيش في بداية القرنِ (حوالي ١١٠٠ق.م.) أما شيفيليةُ والخليلُ فقد تَخَلتا، بفعل الصراعات الاقتصادية الإقليمية بينها، إلى القدس عن أهميتهما لتنموَ القدسُ ببطءٍ وبهدوءٍ بين تلالِ ومرتفعاتِ يهوذا القادمة.

(ﻫ) فلسطينُ الجنوبيَّة (النَّقب)

استمر السكَن المحدود في بعض مواقع شمال النَّقبِ مثل «تل الحويليفية» من العصر البرونزي الأخير إلى العصر الحديدي الأول؛ حيث يتوسعُ السكنُ فيها كلما اتجهنا نحو العصر الحديدي الثاني، وأظهرَت آثارُها أدواتٍ كثيرةً منها أدواتُ التخزينِ الفَخَّارِيَّة والخزف وبيوت السكَن. ولعلَّ أكبرَ المواقعِ سكنًا كان تلَّ الدوير (لخيش) التي تحدَّثنا عنها؛ حيث تواصلَ السكنُ فيها حتى حكمِ رمسيسَ الثالث، ثم انقطع لينموَ مع العصر الحديدي الثاني، وهذا ما حصل مع مدينة شيفيلية.

ويظهرُ موقعُ «خربة المشاش» استثنائيًّا في سكَنه وتطوره في منطقة النَّقب نظرًا لموقعها الجغرافيِّ الذي يربط الجزيرة العربية بالسهل الساحلي، وتبدو التفسيراتُ التي تحاول جهلَ هذا الموقعِ «إسرائيليًّا» متهافتةً ولا قيمةَ لها.

ويتسع ذلك النموُ المُطَّرِدُ لموقع بئر سبع وقادِش البرانية. ويبدو أن ذلك كلَّه حصل بفعل استقرارِ سكانِ بدوِ التخومِ الجنوبية، وفرضِهم هذا الاستقرارَ على قرى ومدن النقب ومرتفعات يهوذا.

ويرى طومسون أن هذه المناطقَ انتقلَت تدريجيًّا من اقتصادٍ مختلطٍ يقوم على زراعة الحبوبِ والمحاصيلِ الحقلية والرعي إلى اقتصادٍ أكثرَ اتِّسامًا بالسمات المتوسطية، وميزته الكامنة في الاستثمار في مجال المحاصيل النقدية؛ مثل الزيتون والزيت والعنب والخمر، بعد إنشاء المصاطب بصورةٍ تدريجية. ومع اندماجِ السكان بالاقتصاد المتوسطيِّ وأثرِه اندمجوا في الشبكاتِ التِّجاريَّةِ الإقليمية، مما أدَّى إلى جذب الاستثماراتِ والمصالحِ والسيطرةِ السياسيةِ والعسكريةِ للمدن.١٨

•••

وهكذا نلاحظُ، إجمالًا، أن فلسطينَ في العصر الحديدي الأول قد مرَّتْ بتحولاتٍ اقتصاديةٍ واجتماعيةٍ جذْريَّةٍ كان من شأنها أن تُعيدَ تكوينَ البنيةِ الحضاريةِ والسياسيةِ لها؛ والتي ما عادت كما كانت في العصور البرونزية ذات الطابع الأموري الكنعاني.

لقد شهد غربُ فلسطينَ الساحلي استيطانَ «الفلستو» الإيجية التي اختلطَت بالتراث الكنعاني وذابت فيه رغم أن صلابتها العسكرية ظلت حافزًا على تشكيل أقاليمَ حولَها. أمَّا شَمالُ فلسطينَ فقد شَهِدَ تدفُّقًا زراعيًّا كنعانيًّا نشطًا، وحافظت تمامًا على الهوية الكنعانية. أمَّا وسطُ فلسطينَ فشهِدَ استقرارًا للقبائل البدوية التي حاولَت انتقاءَ ما يحلو لها من العقائد الكنعانية في سبيل تكوين هويةٍ خاصَّةٍ بها دون جدوى؛ فقد ظلَّ التراثُ الكنعانيُّ مهيمنًا. أمَّا الجنوبُ الصحراويُّ لفلسطينَ فقد ظل كما هو، وأصبحَت تُخومُه محاطةً بالبدو شبهِ المستقرينَ من الكوشان والأدوميينَ (وهما من بقايا الأموريين)، وانتعشَت مدنُه وقُراه بطبيعةٍ متوسطيةٍ تِجاريةٍ وشبهِ زراعية.

هذا المشهد لا يُوحي ببناء سيناريوهاتٍ مبالغٍ فيها وصادرةٍ عن عقليةٍ أيدولوجية ودينيةٍ تفترضُ أن إسرائيلَ قد استوطنَت أوَّلًا مرتفعاتِ فلسطينَ النادرة السكان.

figure
شكل ٥٢: توابيتُ آدميةٌ فَخَّاريةٌ كنعانية في دير البلح. Anthropoid coffins from Deir el-Balah. IMJ, Gift of Laurence and Wilma Tisch, New York, purchasers of the Dayan Collection.

استطاع الكنعانيونَ فرض ثقافتِهم من جديد، واستفادوا من مؤثِّرات الثقافةِ المصرية، مثل استخدامِهم للتوابيت الآدميةِ الفخَّاريَّةِ في دفن موتاهم، وقد ظهرَت هذه التوابيتُ في الكثيرِ من المدنِ الساحليةِ بشكلٍ خاص، ومنها دير البلح، في غزةَ الآن، والتي كُشِفَ فيها عن العديد من هذه التوابيت.

ويُعِدُّ «برايت» المسرحَ لتوصيفِهِ الاستيلاءَ الإسرائيليَّ على كنعانَ بتهيئة القارئ، باقتراحِ وتأكيدِ أن إسرائيلَ كانت مهيأةً لإدخال نظامٍ أخلاقيٍّ وسياسيٍّ إلى المنطقة، بالطريقةِ ذاتِها التي كانت تُقدِّم فيها إسرائيلُ في أيامها على أنها حاملةُ الحضارة «الأوروبية/الغربية» إلى منطقة كانت مقسمةً سياسيًّا ومفلسةً أخلاقيًّا. ولا تُذكَرُ الإنجازاتُ الثقافيةُ لفلسطينَ إلا ويُظِلُّها عجزُ سكانٍ مفسدينَ دينيَّا عن تشكيل أَنفسِهم في تنظيمٍ سياسيٍّ ذي معنًى؛ أي العجز عن عبور العتبة نحو الدولة. ولم تكن فلسطينُ قبل دخولِ إسرائيلَ إلا خليطًا من دول-مدن صغيرة وتافهة تحت السيطرةِ المصرية، والتي تُرِكَت فوضويةً وعاجزةً بعد انهيارِ السلطةِ المصرية.١٩

إن الفراغَ الآثاريَّ الواضحَ في تاريخ فلسطينَ في العصرِ الحديديِّ الأوَّل يملؤه «التوراتيون» بسيناريوهات الهجرةِ البدويةِ وتكوينِ بذرةِ إسرائيلَ في شَمال الوسط، وبذرة يهوذا في جنوب الوسط، ولنلاحظْ ضغطَ المقدماتِ التوراتية على تشكيل هيكل السيناريو لنكتشفَ ببساطةٍ زيفَ هذه الطروحاتِ وبطلانَها. بل ولنزيحَ الستارَ عن مؤامرةٍ مخزيةٍ تطعنُ التاريخَ القديمَ لتهيِّئَ مسرحَ التاريخِ الحديثِ لاستيطانٍ شبيهٍ بذلك الذي حصل في العصر الحديدي الأول يصنعه يهود قادمونَ من الغرب ليملئوا الفراغَ السياسيَّ والحضاريَّ الذي تركَتْه الإمبراطوريةُ العثمانيةُ (في الماضي كانت الإمبراطورية المصرية الفرعونية) وهذا ما يجتهد كيث وايتلام لفضحه في كتاب: «تلفيقُ إِسرائيلَ التوراتية: طمسُ التاريخِ الفلسطيني».

ثَانيًا: المَرجعِيَّةُ الآثارية

الطبقة اﻟ «١٥»

كشف شيلوح في الطبقة اﻟ «١٥» من الطبقات الآثارية لمدينة القدسِ دلائلَ خزفيةً واضحةً تعود للقرن الثانيَ عشرَ والحاديَ عشرَ قبل الميلاد في المنطقة D1، E1 وكان معظمُها متناثرًا وفي حالةٍ رديئة، ولا يتناسبُ مع أهمية القدس في العصر، والذي ذكَره في التوراة (يوشع ١٠: ٢، صموئيل ٥: ٦–٨). وقد كُشِف الآن عن فخَّارياتٍ مشابهةٍ تعودُ لجِرارٍ ذاتِ حَافةِ فمٍ واضحةٍ تعودُ للعصر الحديديِّ الأوَّل أو قبل ذلك؛ حيث ربما كانت تعود للعصرِ البرونزيِّ المتأخر.٢٠

ويشير هذا الفقرُ الواضحُ في الآثار الخاصة بالعصر الحديدي الأول إلى فقر المرحلة تاريخيًّا وآثار البيئة آنذاك واستمرار العيش في مدينة «يبوس» الكنعانية؛ فلا أثَرَ لقبائلَ جديدةٍ أو استيطانٍ جديدٍ ولا أثَرَ لمجتمعٍ جديد، وهو ما يضعُ الرواياتِ الدينيةَ التوراتيةَ في حرجٍ كبير.

١  توماس طومسون، التاريخ القديم للشعب الإسرائيلي، ترجمة صالح علي سوداح، بيروت، ١٩٩٥م، ص١٤٩.
٢  أحمد فخري، مصر الفرعونية (موجز تاريخ مصر منذ أقدم العصور حتى عام ٣٣٢ق.م.)، القاهرة، ١٩٩٥م، ص٢٩٣.
٣  توفيق سليمان، دراسات في حضارات غرب آسية القديمة (من أقدم العصور إلى عام ١٩٩٠ق.م.)، دمشق، ١٩٨٥م، ص٨.
٤  فخري، أحمد، المرجع السابق، ص٣٩٢.
٥  نفسه، ص٣٠٩.
٦  طومسون، المرجع السابق، ص١٨٩.
٧  نفسه، ص١٨٢.
٨  نفسه.
٩  نفسه، ص١٨٦.
١٠  نفسه، ص١٧٧–١٧٨.
١١  كيث وايتلام، تلفيق إسرائيل التوراتية: طمس التاريخ الفلسطيني، ترجمة ممدوح عدوان، مراجعة زياد منى، دمشق، ٢٠٠٠م، ص١٢٧.
١٢  طومسون، المرجع السابق، ص١١٥.
١٣  وايتلام، المرجع السابق، ص١٢٧.
١٤  طومسون، المرجع السابق، ص١٩٥.
١٥  نفسه، ص١٠١.
١٦  نفسه، ص١١٠.
١٧  نفسه، ص١٩٩.
١٨  نفسه، ص١٩٧.
١٩  وايتلام، المرجع السابق، ص١٤٤–١٤٥.
٢٠  Yigal Shiloh, “Jerusalem, The early periods and the first temple period,” The New Encyclopedia of Archealogy Excavations in the Holy Land, Volume 2, Jerusalem, 1993. p. 703.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥