المبحث الثاني: العصرُ الحديديُّ الثاني (أورشليم يهُوذا) ١٠٠٠–٥٨٦ق.م.
ربما كان العصرُ الحديديُّ الثاني أكثرَ العصورِ إثارةً للجدل؛ فهو عصرٌ قابلٌ للبس وخلط الأوراق، وربما كان أكثرَ العصورِ التي اختلطَت فيه الرواياتُ الدينيةُ مع الوقائعِ، بل إن هنا ما يشيرُ إلى مهيمناتٍ توراتية محكمةٍ وقويةٍ سيطرَت على سَردِ وقائعِ هذا العصرِ بطريقةٍ أقربَ إلى الملاحم الشعبيةِ والمروياتِ الفولكلوريةِ منها إلى التاريخ العلميِّ الدقيقِ المستندِ على علم الآثار.
وقد رأينا أن أسلمَ طريقةٍ لتناول تاريخِ القدسِ في العصرِ الحديديِّ الثاني، هو تَتَبُّعُه من خلال أربعةِ قرونٍ ونصفٍ متتابعة، هي التي تشكِّل زمنَ هذا العصرِ كاملًا.
أولًا: القرن العاشر قبل الميلاد (المرتفعات الوسطى ودول المدن)
إذا أخذنا ببعض أَوْجُهِ نظريةِ فنكلشتين القائلةِ إن المرتفعاتِ الوسطى في فلسطينَ (إفرايم ومنسي) انتعشَت بمستوطناتٍ جديدةٍ مع بداية العصرِ الحديديِّ الأوَّل؛ فإننا نُضطَر لقبول فكرةِ الأصولِ الرعوية (وليس الزراعية) لهذه المستوطنات، والتي تُكمِلُ نظريتَه، وهو ما تؤيده النقوشُ المصريةُ في العصرِ البرونزيِّ المتأخرِ حول وجودِ مجموعاتٍ كبيرةٍ غيرِ مستقرَّةٍ من الرعاةِ وقطَّاعِ الطرق.
أمَّا الأراضي المنخفضة، والتي تأثرَت قليلًا بجفاف العصرِ البرونزي، فقد شَهدَت استقرارَ المزارعينَ ونموَ حضارتِهم مع مطلَع العصرِ الحديديِّ الأوَّل.
إن صفةَ المستوطناتِ الرعويةٍ للمرتفعاتِ الوسطى والمستوطناتِ الزراعيةِ للمنخفضات في بلاد فلسطينَ هي الأقربُ إلى الواقع؛ إذ ما زال يفصلُنا عن استعمال مصطلح «شبه إثني» — والذي يكرِّسه طومسون — قرنٌ كاملٌ تقريبًا.
ولذلك تبدو محاولاتُ ستاغر وليمخي وألستروم وغيرهم — لتسميةٍ إثنيةٍ مثل «عابيرو»، و«شاسو»، و«شوتو»، وتحديدِ أماكنِهم المستقرَّةِ الفلسطينية — مغامرةً كبيرة، وتمهيدًا للسقوط في شراك المروياتِ التوراتية.
لا شيءَ تمنحُه الآثارُ عن إثنية القرنِ العاشرِ الفلسطينية سوى المَسحَة الكنعانيةِ العامَّةِ للبلاد، رغم الخصر البلستي في الساحلِ الجنوبيِّ ذي الطبيعةِ الإيجيةِ المخلوطةِ بقوةٍ مع التراث الكنعاني.
وهذا يعني أن وجود «إسرائيل أو يهوذا» في مثل هذا التاريخِ المبكر، لا تؤيده المعلوماتُ المتوفرة عن فلسطينَ في تلك الفترة. إن البيِّناتِ المستخلصةَ من البياناتِ الأركيولوجيةِ والكتابيةِ تُقدِّمُ بكلِّ تأكيدٍ دليلًا ضدَّ أيِّ توكيدٍ لوجود أيِّ بِنًى سياسيةٍ عَبْر إقليميةٍ في المرتفَعات.
أمَّا التجارةُ فقد كان دورُها ضئيلًا في العصرَين البرونزيِّ والحديديِّ الأوَّل، وربما كانت أهميتُها تبرزُ مع ظهور المدن الكبيرة والدول الإقليمية منذ القرن التاسع قبل الميلاد.
والآن كيف يمكنُ التعاملُ مع ما يُسمَّى ﺑ «المملكة الموحدة» وما قبلها بقليل؟
وبشكلٍ أدقَّ كيف يمكن فهمُ الروايةِ التوراتيةِ حول شاؤلَ وداودَ وسليمان؟
نرى أولًا أن القرن العاشر قبل الميلاد لم يشهد تأسيسَ دولتَي إسرائيلَ ويهوذا مطلقًا، وهما اللتانِ نشأَتَا فيما بعدُ، لفترةٍ عابرةٍ ووجيزة، دون أن تكون بينهما علاقةٌ سياسيةٌ ودينيةٌ واجتماعية. وإنَّ ما وُجِدَ في القرن العاشر لا يتعدَّى وجودَ أورشليمَ كمدينة (وليس دولة مدينة) مستمرة من القرون السابقة. ونرى أن كتبةَ التوراةِ اصطنعوا مملكةً موحدةً مكونةً من إسرائيلَ ويهوذا، وصنعوا لها أبطالًا بمَسحَةٍ أسطوريةٍ مثلَ داودَ وسليمانَ اللذَين لا تؤيد وجودَهُما أيةُ إشارةٍ حفريةٍ ولو عابرة؛ ولذلك فإننا نرى أن وهمَ صناعةِ المملكةِ الموحَّدةِ وأبطالها لا يعدُو أن يكون جزءًا من الأدبِ التوراتيِّ وليس من حقائق التاريخِ الآثاري.
أمَّا الأوهامُ التوراتيةُ التي زاد عليها المؤرخونَ المعاصرونَ ونفخوا فيها أكثرَ فلا تعدُو أن تكون تدخُّلًا دينيًّا أيديولوجيا في علم التاريخ؛ إذ نذكُر، على سبيل المثال لا الحصرِ، آراءَ برايت التي توصَّل فيها إلى جَعلِ داودَ سيدًا على إمبراطوريةٍ معتبرة. ها هنا «إمبراطورية» تضمُّ عمون وسوريةَ في الشمال وأدومَ ومؤابَ في الشرق، وتجعلُ برايت قادرًا على الاستنتاج أنه (بفجائيةٍ درامية) استطاعَت فتوحاتُ داودَ أن تُحوِّلَ إسرائيلَ إلى القوة الأولى في فلسطينَ وسورية، وتمتد من خليج العقبة إلى البحر الأبيض المتوسط، ومن وادي العريش جنوبًا إلى سلسلة جبالِ لبنانَ وقادِش الواقعةِ على نهر العاصي شمالًا.
ما زالت القدسُ في القرن العاشر مجردَ مدينةٍ عادية، لكنها مع تزايُدِ السكانِ في القرنَين اللاحقَين حوَّلَت ما حَولَها من مدنٍ إلى أسواقٍ لها؛ فالخليلُ مثلًا الواقعةُ على حدود السهوبِ تحوَّلَت إلى سوقٍ للمستوطناتِ الجديدةِ والمتصلةِ بالقدس تِجاريًّا. أمَّا شيفيلية ولخيش وتل خويليفة فقد تَحكَّمَت بها مراكزُ تِجاريةٌ أخرى تقعُ قُربَ الساحل، مثل عَقرُونَ وعسقلانَ وغزة. لكنَّ هذه التحولاتِ التِّجاريةَ ما زالت بعيدةً عن القرن العاشر قبل الميلاد.
لذلك توَجَّب التعامُل بحذَرٍ مع كتبها وبحوثها، ورغم أننا نرى أن حفرياتِها وكشوفاتِها كانت رائدةً في مدينة القدس، لكِن ما شَوَّه القيمةَ العلميةَ لهذه الحفرياتِ هو تأويلاتُها التوراتية.
أمَّا القصةُ الباذِخةُ ليربعام ورحبعام وهدد فلا يمكنُ العثورُ على ما يؤيدُها؛ لأنها ببساطةٍ قصةٌ مُختلَقة. وهكذا يرى طومسون هذا الحادثَ فلا يهوذا ولا إسرائيلُ ولا القدسُ أو أيُّ عاصمةٍ أخرى محتملةٍ في المرتفعات الوسطى تستدعي اهتمامَ شاشنق في محاولاتِه لإخضاع فلسطين، سياسيًّا واقتصاديًّا، لمصر.
كلُّ هذا الخيالِ الأدبيِّ الجامح — والذي يهدف إلى رسم صورةٍ زائفةٍ عن أمةٍ كبيرةٍ وعريقةٍ لا وجود لها — ذهب مع الريح، ووضعناه في خانة الأدب لا في خانة التاريخ. وما الهدفُ من وراء قصص شاؤلَ وداودَ وسليمانَ سوى الحديثِ الميثولوجيِّ المعتادِ لخلق «عصر بطولةٍ إسرائيلي» كما هو عند كل الأمم الطالعةِ الجديدة. لكننا نعرف كم خدمَت الآثارُ مثلَ ذلك العصرِ عند الكثير من الأمم القديمة، إلا عند اليهود الذين لم يَرقَوا إلى مستوى البطولةِ هذا بسبب ضآلتهم وحجمهِم المتواضعِ في التاريخ القديم، ولم يكن هناك سوى الكتابةِ المُنشَّطةِ بخيالٍ جامح، لكنَّ الكتابة — وهي تُشحَنُ بالمقدسات — تصبحُ أقوى من الواقع أحيانًا، وتسهِمُ في بثِّ أساطيرَ قد تَخلُق بالحَثِّ والقوةِ تاريخًا لاحقًا. وهو ما حصَل مع التوراةِ واليهودِ فيما بعدُ.
المَرجعِيَّةُ الآثاريَّة: الطبقةُ اﻟ «١٤»
- (١) عرف المِهْمَاز Crest of the spure: بقايا جدارٍ اكتشفه ماكلستر وهي نوعٌ من التحصيناتِ الحجرية.
- (٢)
مساحاتٌ مُتخَذةٌ للسكَن.
- (٣)
أبنيةٌ دفاعيةٌ.
- (٤)
الأواني الفَخَّارِيةُ كالمزهريات والسواند الطقْسية التي اكتشفها كلٌّ من ماكلستر وكروفوت وكنيون ومازار وشيلوح.
- (٥) اﻟدَّرَجُ الحجريُّ في المنطقة G وهو بارتفاع ١٨ مترًا وفيه بقايا حصنِ البلدةِ الكنعانيةِ الأقدمِ المعبَّأ بالأحجار.١٢ والذي مازال واضحًا كما في الشكل ٦١.شكل ٥٣: القدس: بقايا المنطقة G (الوسط) الدرج الحجري (انظر غربًا). وينظر المرجع: Shiloh, p. 703.شكل ٥٤: الأعلى: مخطط قنوات الماء من عين جيحون إلى داخل المدينة، الأسفل مقطع للمخطط الأعلى. الشكل يوضح جميع المراحل التي مرَّت على تطوير القنوات والأنفاق، ومن ضمنها نفق حزقيا في العصر الحديدي. المرجع: Kenyon, Royal Cities of Old Testment, 1971, p. 24.
- (٦) شبكة المياه السرية من عين جيحون إلى داخل المدينة كما في الشكل ٦٢.١٣
- (٧)
المنحدَر الشرقي الصخري الذي اعتبره ماكلستر كتحصيناتٍ دفاعية.
- (٨)
قبل بناء البرج في القرن السابع والسادس قبل الميلاد كانت منطقته جزءًا من تحصينات ما يُسمَّى ﺑ «الجدار الأول للقدس».
شكل ٥٥: العمود الأيولي البدائي، ويسمَّى أيضًا العمودَ الأيونيَّ البدائي. المرجع: Kenyon: Jerusalem 1967: 46. - (٩) الحجر المربع Ashlar Stone مع رأس العمود الأيولي البدائي (انظر شكل ٦٣) Proto-Aeolic Capital. وترى كنيون أن هذه الموادَّ المعماريةَ كانت موجودةً في بناياتٍ مهمَّةٍ في العصر الحديدي الثاني في مدنٍ قياسيةٍ أخرى مثل السامرة ومجدو وحاصور ورامات راحيل.
- (١٠) ختمٌ صخريٌّ يحملُ صورةً لحيوان الغرفين (حيوان خرافي نصفه نسر ونصفه الآخر أسد). ويرى شيلوح أنه التعبيرُ التوراتيُّ عن المدينة العالية (أكروبوليس) للقدس.١٤
وقد عُثر عليه في جبل الأوفل.
ديكوراتٌ حجريةٌ عُثر عليها في منطقة g انظر شكل ٦٣.١٥شكل ٥٦: جبل الأوفل: ختمٌ صخري يحمل صورة الغرفين. العصر الحديدي الأول.شكل ٥٧: المرجع: Shiloh 1993: 703. قطعة من ديكورٍ حجريٍّ عُثر عليه في المنطقة G من القدس: العصر الحديدي. المرجع: Shiloh 1993: 703. - (١١) حشوةٌ كبيرةٌ ساندة لإسناد المنازل ترى كنيون وَفقًا لخلفيةٍ توراتيةٍ مُقحمَةٍ على علم الآثار أنها تشكِّلُ ما يسمَّى ﺑ «ميلو Millo» المذكورةِ في التوراة، والواقعةِ بين جبلِ موريا وقلعةِ داود. أمَّا مازار فيقترحُ أن تكونَ منازلُ الميلو هي الجدار السميك الذي يصل إلى حوالي ١٫٤ مترًا، ويشيرُ إلى تركيبٍ ضخمٍ تَحطَّم نهايةَ العصرِ الحديديِّ ويظهرُ في موقع B.
- (١٢)
يقرِّر الآثاريون جميعًا أنْ ليس هناك أيُّ آثارٍ تتعلقُ بما يسمَّى ﺑ «هيكل سليمان»، ويلجأ بعضُهم إلى افتراض أنَّ مكانَه هنا أو هناك، ويستعيرون مخططاتِ معابد كنعانية أخرى في فلسطينَ أو لبنانَ للإيحاء بشكله دون جدوى. ولا نريدُ أن نَنجَرَّ في بحثنا العلمي هذا إلى أوهام ذوي الخلفياتِ التوراتيةِ المُقحَمةِ على علمِ الآثار.

وهكذا تكون البقايا الآثاريةُ لمدينة القدس في العصر الحديدي الثاني بسيطةً متواضعة، تُشكِّل امتدادًا لمدينة القدس اليبوسية التي عرفناها، مع توسُّعٍ عُمرانيٍّ بسيطٍ نحو الشمال، وإتقانٍ هندسيٍّ لشبكة المياه المرتبطة بعين جيحون، كما في الشكل ٦٦.
تؤكد مارغريت شتاينر على ذلك، وتوضِّح بصراحة أن ما اكتُشِفَ من الأثَر في العصر الحديدي الأول لا يعطينا انطباعًا عن وجود مدينة، بالمعنى المعروف، واستيطانها ضعيفٌ جدًّا.
«لكن ما عُثر عليه بالواقع يحكي حكايةً مختلفة؛ فقد عُثر على سلسلة من المصاطب بُنِيَت فوق مبنًى أكثرَ قِدَمًا، كشفَها كلٌّ من كنين وشيلوه، وكان على أرضيتها المكسوةِ بالجَصِّ حَافةُ جَرَّةٍ كاملة، يعود تأريخها إلى العصر الحديدي الأول. ولم يُعثَرْ على أيِّ طبقاتٍ استيطانيةٍ في أيِّ مكانٍ آخرَ على التلَّة، ولا على أسوار مدينةٍ أو مبانٍ كبيرة. كان نظامُ المصاطب يتألف من (٧) درجاتٍ على الأقل، تنزل على منحدَر التلَّة ومرتبطة من جانبِها الجنوبيِّ بجدارٍ صُلب. المبنى بكامله كان على ارتفاع (٢٠م) على الأقل. وكانت معظمُ الدرجات صغيرة، باستثناء المصطبة الثالثة التي كانت كبيرةً بما يكفي للبناء عليها. يمكن الزعمُ أن المبانيَ المهمةَ المرتبطةَ بهذا النظام كانت قد أنشِئَت فوق التلَّة. كان تاريخُ الحشوة والنظام، من حفريات كنين وشيلوه يعود بها إلى العصر الحديدي الأوَّلِ بشكلٍ أكيد» (شتاينر ٢٠٠٦: ١٥٤).
القَرنُ التاسعُ قَبل الميلاد (دُوَلُ المُدنِ الفلسطينيَّة)
أصبحَت الظروفُ مُؤاتيةً أكثرَ لظهور مدنٍ فلسطينيةٍ متميزة شكَّل بعضُها، فيما بعدُ، دولَ مدنٍ مستقلَّة. ولعل السببَ الواضحَ في هذا الانتعاشِ السياسيِّ المؤقت — الذي ظهر بشكلٍ خاصٍّ في القرن التاسع قبلَ الميلاد — هو ضعفُ القوتَين الكبيرتَين المحيطتَين ببلاد الشام، ونعني بهما وادي الرافدين ووادي النيل؛ فقد ظهرَت فترةُ فراغٍ سياسيِّ واضحٍ في الدولة الآشورية تَمثَّل في المشكلات الداخلية لها وضغوطِ القبائلِ والمدنِ الآراميةِ عليها. أمَّا وادي النيل فقد غرق في نزاعاتٍ أسريةٍ داخليةٍ بعد أن انتهت فترةُ الإمبراطورية وتنفَّسَت مدنُ بلادِ الشامِ كلها من الضغط المصري المتصل عليها سابقًا. لكنَّ هذا الانتعاشَ المؤقتَ لن يستمرَّ طيلةَ القرنِ التاسعِ قبل الميلادِ بسبب تفاقُمِ قوةِ الإمبراطوريةِ الآشوريةِ وبطشِها.
استمر الاستيطان — والذي ظهر في القرن العاشر وما قبله — بالترسُّخ والكثافة؛ فقد شَهدَت المرتفعاتُ الوسطى والمنخفضاتُ في كل مكانٍ مزيدًا من استقرار الرعاة والمزارعين. كذلك تسرَّبَت هجراتُ الأقوامِ غيرِ المستقرَّة كالسوتو والشاسو والعبيرو من مناطق الأطراف والسهوب.
ويرى طومسون أن كِياناتِ دولِ المدنِ الفلسطينيةِ بدأَت تتميزُ باتجاهٍ «شبه كنعاني»؛ إذ لم يَعُد كنعانيًّا خالصًا كما كان في البرونزي؛ فقد كان للتحولاتِ المناخيةِ والاقتصاديةِ والإثنية في فلسطينَ دورٌ في خلق هذه المدنِ الجديدة.
إن ما يهمُّنا من جميع هذه الكياناتِ السياسيةِ الجديدةِ في بلاد فلسطينَ هو ما يتعلقُ بالقدس، وسنقومُ بإيضاحه هنا.
عرفنا أن الإشارةَ الأركيولوجيةَ العابرةَ الواردةَ في لوحة مرنبتاح في القرن الثالث عشر قبل الميلاد حول إسرائيل لا تعدو كونها ذِكرًا لمدينةٍ عابرةٍ في وسط فلسطينَ لا نعرفُ حتى اليوم موقعَها الحقيقي، ونرى أنها مدينةٌ أو بلدةٌ كنعانيةٌ قديمةٌ لا علاقة لها مطلقًا ﺑ «إسرائيل» التوارتية، خصوصًا أن كلمة إسرائيل (إسرا+إيل) يمكن أن تُفسَّر كنعانيًّا على أنها «إشيرا + إيل»؛ أي «عشيرا زوجة إيل»، وهي الإلهةُ الكنعانيةُ الأمُّ وزوجةُ إيل فعلًا، ويمكن أن تكون هذه المدينةُ قد سُمِّيَت باسمها تقديسًا لها واحترامًا لعبادتها فيها.
- (١)
النصوصُ الآشوريةُ التي تُسَمِّيها بيت «حُمري».
- (٢)
نصُّ حملةِ شلمنصر الثالثِ ومعركة قرقر التي تذكُر آحاب ملك إسرائيل.
- (٣)
نصُّ مسلةِ ميشع التي تذكُر آحاب ملكَ إسرائيل.
- (٤)
نصُّ ملك أرام دمشق (حزائيل).
ويرى طومسون أن «السلالة العمرية التي حكمَت السامرة كانت بالتأكيد تاريخية، ولكن يصعب اعتبارُ العُمريين خلفاءَ المملكةِ الشاؤلية.
إن جمعَ خيوطِ النسيجِ المبعثَر للمرحلة التي تبدأ منذُ منتصفِ القرنِ التاسعِ قبل الميلاد تضعُنا أمام حقيقةٍ مذهلةٍ معاكسةٍ تمامًا للتاريخ التوراتي … وهي ليست فقط عدم وجود هذه المملكة، بل إن إسرائيلَ والسامرةَ كانتا على نزاعٍ سياسيٍّ ودينيٍّ دائمٍ ضدَّ القدسِ كمدينةٍ ودولةِ مدينةٍ لاحقًا … والذي يقرأ السَّردَ التاريخيَّ المُضخَّم لهما في التوراة يرى بجلاءٍ ذلك الاحترابَ المدمرَ بينهما، بل إننا نرى أنهما دولتانِ عدوتانِ لبعضهما بعضًا حاولَت كلتاهما أن تمحوَ الأخرى بشتى الطرق. ونرى أنه بعد سقوطِ السامرةَ وبقاءِ القدس، عمَد كتَبةُ التوراةِ إلى سرقةِ تاريخِ وتراثِ السامرةَ وضَمِّهِ إلى تاريخ القدس، وإرجاعِهما إلى أصلٍ واحدٍ وَهميٍّ ومُفتَرضٍ عَبْر ما يسمَّى بالمملكة الموحدة لداودَ وسليمان … ونرى أن مثلَ هذه الخديعةِ انطلَت على أغلب المؤرخينَ إن لم نَقُل جميعهم تقريبًا.
إننا نرى أن إسرائيل كانت على دين يختلف تمامًا عن دين القدس (التي صارت تُعرَفُ دولتُها بدولة يهوذا لاحقًا)، بل إن الدينَين متضادَّان تمامًا؛ فقد كانت إسرائيلُ دولةَ مدينةٍ كنعانية تعبد الإله «إيل» أبَ الآلهةِ والبشرِ عند الكنعانيين ومعه زوجُه عشيرا (أشيرا أو أسيرا) التي تُلمِّحُ لها التوراةُ ﺑ «الساريات».
أما يهوذا (التي ستظهر بوضوحٍ أكثرَ في القرن الثامن قبل الميلاد) فقد ظهر فيها قومٌ يعبدون الإله «يهوا» في القدس وغيرها، وهو شكلٌ من أشكال الإله «بعل» لكنه غريبٌ عن آلهة الكنعانيين تمامًا؛ فقد عرف الكنعانيون الإله بعل ولم يعرفوا «يهوا»، وهو الإله الذي نُرجِّح أنه قَدِم مع بعضِ البدوِ والرعاةِ الذين قَدِمُوا من جنوب فلسطين، وربما من «مَدْيَنَ» تحديدًا، والإله «يهوا» بمقام ابن الإله «إيل»؛ إذ هو يوازي «بعل» الابنَ الحقيقيَّ للإله «إيل». وكانت عبادةُ الإلهِ بعل وما يناظرُه بمواجهة إيل تُعتبَر، أحيانًا، عبادةً خارجةً عن التقاليد الدينية الكنعانية. وهكذا كان الإسرائيليونَ أو السامريُّونَ الكنعانيونَ يعتبرونَ عبَدةَ «يهوا» في يهوذا والقدس كفرةً يتوجَّبُ محاربتُهم ومقاطعتُهم. وهو ما حصل فعلًا بين إسرائيلَ ويهوذا.
هذا الاختلافُ الحادُّ هو الذي سبَّب الاحتراب، إضافةً إلى المصالح السياسية والاقتصادية المحيطة لكلا الكيانَين.
لعل من المفيد تحليلَ الوثيقتَين التاريخيتَين المهمتَين حول إسرائيلَ في القرن التاسع قبل الميلاد، للاطلاع على أهمِّ جارةٍ لمدينة القدس، ولفهم الأحداثِ القادمةِ بينهما.
- (١)
«إرخوليني ملك حماة من ٧٠٠ عربة، ٧٠٠ فارس، ١٠٠٠٠ مقاتل.
- (٢)
آحاب ملك إسرائيل ٢٠٠٠ عربة، ١٠٠٠ مقاتل.
- (٣)
أمير قويه (مملكة صغيرة على شاطئ تركيا بين نهرَي سيحان وجيحان)، ٥٠٠ مقاتل.
- (٤)
أمير مصري (مجهولة المكان)، ١٠٠ مقاتل.
- (٥)
أمير بلاد أرقاتانة (إلى الشمال الشرقي من طرابلس)، ١٠٠ عربة، ١٠٠٠٠ مقاتل.
- (٦)
ماتينو بعل أمير أرواد، ٢٠٠ مقاتل.
- (٧)
أمير أشناتو (إلى الجنوب من جبلة)، ٢٠٠ مقاتل.
- (٨)
أدنو بعل أمير سيانو (إلى الشرق من جبلة)، ٣٠ عربة، ١٠٠٠ مقاتل.
- (٩)
جندب أمير بلاد العرب، ١٠٠٠ هجان.
- (١٠)
أمير بيت روحبي.
- (١١) باعاسة أمير عمون، ١٠٠٠ مقاتل.»٢٠
لقد لاقى الجيشُ الآشوريُّ هذا التحالفَ في «قرقر» إلى الجنوب من جسر الشفور عام ٨٥٢ق.م. ولم يهزمهم تمامًا، ثم تصدَّى لهم في الأعوام «٨٤٩، ٨٤٨، ٨٤٦، ٨٤٥»ق.م. وكان التحالفُ ما زال قويًّا. ثم استطاع الجيشُ الآشوريُّ هزيمةَ التحالفِ والهجومَ على دِمشقَ وفرض الجزية عليها عامَي «٨٤١–٨٣٨»ق.م. ولم يتمكَّن الآشوريونَ من غزو دِمشقَ وإخضاعِها إلا في عام «٧٣٢»ق.م. ونعيدُ التأكيدَ على ما ذهبنا إليه، وهو أن دولة مدينة إسرائيل لم تكن هنا عبريةَ الهويةِ أو توراتيةَ الدين، بل كانت دولةَ مدينةٍ كنعانية لا تختلفُ مطلقًا عن أيِّ دولةِ مدينةٍ كنعانية أو فينيقية ذُكِرَت في هذا النَّص.
أما موضوع علاقة دولة آرام دِمَشقَ بدولة إسرائيلَ فعلينا أن نضعَهُ وَفقَ التصوُّرِ المعقولِ والغزواتِ المتبادلةِ بين دولِ مدنِ بلادِ الشامِ آنذاك. وعلينا أن نتجنَّبَ الدخولَ في الوهم التوراتيِّ الذي يذكُرُ أن آحاب، ملكَ إسرائيل، قد واجه هجومًا بقيادة برهدد الثاني مع عشرينَ مَلِكًا، وحاصرُوا السامرة. وتضيفُ التوراةُ أنَّ آحابَ كاد يستسلمُ (امتثالًا لأمر الربِّ) واعدًا إيَّاهُ بالنصر، ثم يذكُرُ السِّفر كيف أن برهدد رجع مهزومًا وفقد كثيرًا من جيشه!! مثلُ هذه الرواياتِ الدونكيشوتية (واحد وعشرون ملكًا يهاجمون السامرة!!) لا تؤيدها الآثار؛ ولذلك نُدخِلُها أيضًا في خانة الأدب. ومثلُها أخبارٌ كثيرةٌ من ضمنها ما تذكُرُه التوراةُ عن حزائيل (٨٤٣–٨٠٢ق.م.) الذي تذكُرُ التوراةُ أنه حارب يورام بن آحاب وأحزيا بن يهورام ملك يهوذا.٢١مِثلُ هذه المبالغاتِ تَصلُح مادةً للروايات الأدبية، ولكنها تهتزُّ وتسقُط مع صرامة البحثِ العلميِّ في الآثار والتاريخ.
- (١٢)
أمَّا «مسلةُ ميشع» أو نقشُ ميشع، فتذكُر دون لَبسٍ اسمَ «عُمري» مَلِك إسرائيل، وابنه الذي لم يُذكَر اسمُه، ولعله «آحاب».
تذكُر المسلةُ كيف أنَّ إلَهَ مؤاب «كموش» كان غاضبًا على مؤابَ فسلَّطَ ملك إسرائيل «عُمري» ثم ابنَهُ فأذلا مؤاب. ولما أصبح ميشع ملكًا على ذيبانَ عاصمةِ مؤابَ أمره كموش بمقاومة ملك إسرائيل، فقام ميشع بانتزاع أرض مادبا، وبنى للإله كموش معبدًا مرتفعًا في «قرحي»، وبنَى مدينتَين، ثم انتزع أرضَ عطرت (خربة الطاووس) وأسر الحاكمَ الإسرائيليَّ فيها، وسحَبه أمام الإلهِ كموش.
ويبدو أن ميشع يجلب من خربة طاووس (عطرت) موقدَ إيل الذي يسميه «إلَه ملك إسرائيل المحبوب»، وفي غزوةٍ ثانيةٍ ينتزع منطقةَ «بنه»، ولعلها «نبو»، ويقتل سبعةَ آلافِ رجلٍ وامرأةٍ وصبيٍّ من الأسرى، كأضاحٍ للإِلَهةِ عشتر كموش (إلهة مؤاب). وقد نُصِبَت هذه المسلةُ في ضاحية قرحة في معبد كموش عام ٨٤٢ق.م. وهذا يعني أنها وُضِعَت بعد حصولِ معركةِ قرقر بحوالي «١١ سنة».
يبدو أن السلالة العُمرية في إسرائيلَ كانت هي الأكثر استقرارًا رغم كلِّ الظروفِ المتوترةِ حولها إقليميًّا ودوليًّا، لكنها استطاعت بدهاءٍ سياسيٍّ محكمٍ أن تُذلِّل هذه الظروف. ومع نهاية هذه السلالةِ يكونُ عصرُ الانقلاباتِ والاغتيالاتِ قد بدأ في إسرائيل على يد مجموعةٍ متتاليةٍ من المغامرينَ من طُلاب الحكم.
ونرى أن مرتفعات يهوذا تحوَّلَت من البداوة الرعوية في العصر البرونزي الأخير إلى مستوطناتٍ زراعيةٍ متوسطيةٍ مستقرَّةٍ في العصر الحديدي الأول، من خلال عمليات توطينٍ إلزاميةٍ ساعد عليها توسُّعُ النفوذِ السياسيِّ لمدن شمال النقب وشيفيلية والساحل الجنوبي في فلسطين. وقد شهد العصرُ الحديديُّ الثاني توسُّعَ هذه المستوطناتِ بعد أن توسَّعَت المرتفعاتُ الوسطى شمالًا عند السامرة. كما شَهدَت مدينة القدس توسُّعًا سكانيًّا ونفوذًا إقليميًّا واضحًا. لكنَّ القدسَ لم تكن يومًا منافسةً لدولة مدينة إسرائيلَ ولم يَبزُغْ نجمُ القدس ويهوذا إلا بعد تحطُّمِ السامرة على يد الآشوريين؛ ولذلك نُرجِّحُ أن المدينة اليبوسية في القدس استمرَّت أيضًا في القرن التاسع قبل الميلاد مدينةً عاديةً بسيطةً كنعانيةَ الطابع. وهو ما تؤيِّده الآثار كما سنرى.
كانت التجارةُ (وليس السياسة) سببَ نمُو القدسِ وانتعاشِها في القرن التاسع قبل الميلاد؛ إذ إِن سيطرتَها على السلعِ التِّجاريةِ جعلَها تُنافسُ أولًا مدنَ الخليلِ ولخيش، ثم تهيمنُ عليها. أمَّا السياسةُ فقد أسهمَت لاحقًا في محاولة توسيعِ أراضيها خارجَ نطاقِ وادي عليون وهَضْبةِ القدس.
ظهرَت عدة دولة مدينة في بداية العصر الحديدي الثاني في فلسطين، مثل لخيش وجازر والخليل، ولا نعتقد أن القدس كانت في تلك الفترةِ متميزةً عن هذه الدول المدينة. لقد كانت دولةَ مدينةٍ عادية تمامًا. ويرى طومسون أن مدينة القدس لم تُسيطرْ على مرتفعات يهوذا وتتحوَّلْ إلى مدينةٍ إقليميةٍ ذاتِ سيطرةٍ سياسيةٍ واضحة إلا بعد أن دُمِّرَت مدينةُ لخيش على يدِ الآشوريين، وبعد أن شَهدَت القدس انفجارًا سكانيًّا متطورًا في بناها وقواها، وهذا ما حصل في القرن السابع قبل الميلاد.
أمَّا المروياتُ التوراتيةُ حول استمرارِ السلالةِ الدَّاوديَّةِ والأحداثِ التي مرَّت بها مع إسرائيلَ ومع آرام دِمشقَ والمماليكِ الأردنيةِ القديمةِ فنتحفَّظُ عليها تاريخيًّا ونميلُ إلى جعلِها، أيضًا، جزءًا متممًا للإنتاجِ الملحميِّ الأدبي، ومحاولةً خياليةً لإظهار القوةِ والتوسُّعِ وغيرِ ذلك.
الطبقةُ اﻟ «١٣»
وهو ما يشير إلى بقائها مدينةً يبوسية كنعانية آثاريًّا. وهو ما يجعلنا نعيدُ التأكيدَ على عدمِ وجود ما يُسمَّى ﺑ «المملكة الموحدة» لإسرائيلَ ويهوذا، وعدمِ تمَيُّزِ القدسِ كمدينةٍ خارجةٍ عن السياق الكنعانيِّ اليبوسي، كأن تكون عبريةً أو يهوديةً أو … إلخ.
ولذلك يمكننا القولُ إن المدينة كانت متواضعةَ البناءِ والحجم، ولا يمكنُ أن تكونَ عاصمةً لمملكتَين اتَّحدَتا، كما تقول المروياتُ الدينية، «لكن يبدو من غير المحتمل أن هذه القدسَ كانت عاصمةً لدولةٍ كبيرةٍ مثل عاصمة «الملكية المتحدة» المذكورةِ في النصوصِ التوراتية. وبالمقارنة مع المدن الأخرى من القرنَين العاشر والتاسع قبل الميلاد، لم تكن القدسُ مختلفة. كانت مجدو وحاصور وجازر ولخيش جميعُها مدنًا صغيرةً لها الخصائصُ نفسُها؛ تحصيناتٌ كبيرة وبناءٌ بالحجارةِ المنحوتة ومبانٍ عامة، ونادرٌ من الأحياء السكنية. وبالاستناد إلى السجلات الأثرية وحدها، يمكننا الزعم، على سبيل المثال، أن هذه المدن كانت مراكزَ الحكوماتِ لعدَّةِ دولٍ إقليميةٍ صغيرة لم تتحوَّل إلى دولتَي إسرائيلَ ويهوذا الثابتتَين تاريخيًّا إلا في زمنٍ لاحق. و«الملكية المتحدة ليست حقيقةً تاريخية، ويجب إجراءُ بحوثٍ إضافيةٍ كثيرةٍ جدًّا حول الوضعِ السياسيِّ والاقتصاديِّ في القرنَين العاشر والتاسع قبل الميلاد.» (شتاينر ٢٠٠٦: ١٥٤).
ثانيًا: القَرنُ الثامنُ قَبل الميلاد (نهايةُ إسرائِيلَ والسامرة على يد الآشُوريين)
كانت الحياةُ تتطورُ بوتيرةٍ عاليةٍ في المرتفعات الوسطى، واحتلَّت السامرةُ موقعًا رئيسيًّا في أحداث القرن الثامن قبل الميلاد السياسية، واندمجَت المشاربُ المختلفةُ لسكان المرتفعاتِ الوسطى لتكوِّن دولةً مدنيةً متميزة، ولكنَّ الاضطراباتِ الداخليةَ كانت تسودُها.
كان ثمَّة ما يشير إلى المنافسة السياسيةِ بين دِمشقَ وإسرائيلَ وبينَ إسرائيلَ وأورشليم، ولم تنفَع كلُّ محاولاتِ الهدنة والتحالفاتِ السابقة لإزالة التوتر.
وفي هذا الوقت كان «تجلات بلاسر الثالث» (٧٤٥–٧٢٧ق.م.) أول أباطرةِ الإمبراطوريةِ الثانية قد حاول تنظيمَ الإمبراطوريةِ على أساس تقسيمِها إلى ولاياتٍ إدارية. وكانت هذه السياسةُ تهدفُ إلى إخضاعِ أصقاعِ الإمبراطوريةِ كلِّها إلى إدارةٍ ذاتيةٍ مرتبطةٍ بالملكِ الآشوريِّ عَبْر حكامِها المحليين، وبذلك يضمنُ إخمادَ الثوراتِ الانفصاليةِ لهذه الولايات، وفي حالة مروقِ حاكمِ الولايةِ فإنه يقوم بخلعه. أمَّا إذا ثار الشعبُ معه فإنه يقومُ بإجلاءِ وتهجيرِ هذا الشعبِ كُلِّه من البلاد ويقوم باستبداله شعبًا (أو شعوبًا) ثائرًا آخر، أو من سكان الإمبراطورية.
هذه هي السياسةُ الآشوريةُ الجديدةُ التي ستصبحُ نهجًا ثابتًا للبابليينَ والفرسِ بعدهم، وربما لروما في بعض الأحيان.
ويبدو أن تجلات بلاسر الثالث شعَر بالغيظ من التحالُف الذي قام بين مملكتَي دِمَشقَ وإسرائيلَ اللتَين طلبتَا من مملكة يهوذا الدخولَ في هذا الحلف المضادِّ للآشوريين، وعندما طلب «آحاز» ملكُ يهوذا النجدةَ من تجلات بلاسر هبَّ الأخيرُ وقام بحملتَين ضدَّ بلادِ الشام في «٧٣٣ق.م.» و«٧٣٢ق.م.» أخضعَ فيها معظمَ بلادِ الشام، وقسَّمها من جديدٍ إلى عدة ولاياتٍ هي «دور، مجدو، قرنايم، حورون، دِمَشق»، وبذلك يكونُ قد قضى على ذلك التحالف، لكنه أعطى بعضَ الحريةِ لمملكتَي إسرائيلَ ويهوذا؛ أي لم يجعَلْهما ولايتَين تابعتَين له، بل فرضَ عليهما الجزيةَ فقط.
بعد وفاةِ تجلات بلاسر الثالثِ رأت إسرائيلُ أنها يمكن أن تقيمَ تحالفًا جديدًا مع مصر، لكنَّ مصرَ كانت غارقةً في صراعاتها الداخلية بين «تف نخت» و«بعنخي»، وحين استقامت الأمور ﻟ «تف نخت» قليلًا أعطى إشارةً لإسرائيلَ لكي تقومَ بالتمرُّد على آشور.
هكذا توهَّم «هوشع» ملكُ إسرائيل، وهو يستند إلى التحريضِ المصري، بأنه سيُواجه المطامعَ الآشورية؛ ولذلك رفضَ دفعَ الجزيةِ لآشورَ عندما طلب منه الملكُ شلمنصر الخامسُ (٧٢٧–٧٢٢ق.م.) ذلك، فما كان من هذا الملكِ الآشوريِّ إلا وحاصر عاصمتَها «السامرة» وأرغم «هوشع» على دفع الجزية. لكنَّ الجيشَ الآشوريَّ لم ينسحب، بل واصل حصارَه للسامرَّة.
- (١)
في السنة الأولى من حكمه (٧٢١ق.م.) قام بالهجوم على مدينة السامرة وفتحها، وفرض عليها الجزية، وهجَّر أهلَها؛ فهو يقول في أحد النصوص الملكية:
«في بداية حُكمي الملكيِّ حاصرتُ وفتحتُ السامرة وقُدتُ من سكانها ٢٧٢٩٠ كغنيمة … فرضتُ عليهم جزية … وقد خرج ضدي «هانو» ملك غزة وكذلك «سبعي تورتان موصوري» من رفح ليصارعوا في معركةٍ حاسمةٍ فهزمَتْهم، وأما «سبعي» فهرب خائفًا … وأما «هانو» فقد قبضتُ عليه.»٢٥ - (٢)
في السنة الثانية من حكمه (٧٢٠ق.م.) دمَّر تحالُف السامرة مع مدنٍ أخرى في قرقر وهزمها، وهذا يعني أنه لم يجعل كل سكان السامرة، بل إنها كانت قادرة على تجهيز جيش والدخول في تحالفٍ جديد ضد آشور قادته حماة:
«وفي العام الثاني من حكمي جاء «إيلو بعيدي» من حمَاةَ بجيشٍ كبيرٍ عند مدينة قرقار … مدن أربد وسميرا ودمشق والسامرة ثارت ضدي … عمل «هانو» ملك غزة اتفاقًا مع ملك مصر، واستدعى هذا «سبعي» قائدَه ليساعده «هانو» وخرج سبعي في حملة هزَمتُه فيها … وأما سبعي … هرب وحيدًا واختفى وقبضتُ على «هانو» وجئتُ به إلى مدينتي آشور، ودمرتُ رفح وهدمتُ أسوارها وحرقتُها … حيثيٌّ … قام بمؤامرةٍ ليكونَ مَلِكًا على حماة، فأغرى مدنَ أرواد وسميرا ودِمَشقَ والسامرةَ لتتخلى عني، وتحالَفوا وجمَعوا جيشًا، وحاصرتُهم وجنودَهم في قرقار … هزمتُها وأحرقتُها.»٢٦ - (٣) في السنة السابعة من حكمه (٧١٤ق.م.) جلب سرجون الثاني قبائلَ عربية وأسكنَها مدينةَ السامرة، فهو يقول: «وفي السنة السابعة قضيتُ على قبائل تامود وإيباديدي ومرسيمانو وحيابا والعرب … سبَيتُ الأحياءَ منهم ونقلتُهم إلى السامرة.»٢٧
وهكذا انتهَت دولةُ إسرائيلَ الشمالية التي بصورةٍ أكيدةٍ منذ بداية عُمري حتى نهايةِ هوشع (٨٨١–٧٢١ق.م.) أيْ حوالي (١٦٠) سنة فقط، والتي كانت عدوًّا لدودًا ليهوذا لا بسببٍ سياسيٍّ فقط، بل بسببٍ ديني؛ حيث اختلفَت عقيدتُها الدينيةُ الكنعانيةُ الملامح (والتي مركزُها عبادةُ إيل وزوجته إشيرا ومجموعة الآلهة) عن العقيدة الدينية ليهوذا وأورشليم لاحقًا ذاتِ الطبيعةِ البدوية (والتي مركزُها عبادةُ يهوا وزوجتِه مع مجموعةٍ من الآلهة).
الآشوريُّون والقُدس
استمرَّت القدسُ في نموها المُطَّرِد وطموحِها التِّجاري باتجاه جنوبِ يهوذا، ولم يأخذ توسُّعُ النفوذِ هذا طابعًا سياسيًّا أو عسكريًّا، بل كان تِجاريًّا إقليميًّا. كذلك فقد توسَّعَت أراضيها الزراعيةُ في وادي عليون وشمالِ القدسِ، وتزايدَ إنتاجُ الزيتِ والمواشي حتى تحوَّلَت القدسُ إلى بؤرةٍ زراعيةٍ تِجارية لمنطقة يهوذا «ولم تأخُذ القدسُ ببعض مظاهرِ الدولةِ الإقليميةِ المسيطرةِ إلا في الربع الأخيرِ من القرنِ الثامن، وخاصَّةً في النصفِ الثاني من القرنِ السابع. أخذ حجمُ مدينةِ القدسِ في خلال العقودِ الأخيرة من القرنِ الثامن عندما بدأَت السيطرةُ الآشورية إلى الشمال، وباشرَت القدسُ دورًا ثانويًّا على حافة العالمِ الآشوري.
كانت مدينةُ القدسِ تضمُّ خليطًا من المتمدِّنينَ من أصحابِ الثقافاتِ والمشاربِ المختلفةِ والمتعددة، وكان فيها الهيكلُ السياسيُّ الأكبرُ لإدارةِ إقليمِ يهوذا، وقد تزايد عددُ سكانِها بعد سقوطِ السامرة شمالًا على يد سرجون الثاني ولخيش على يد سنحاريب (انظر الشكل ٦٧).

تخطيطٌ عن نحتٍ آشوريٍّ بارزٍ محفوظ في المتحف البريطاني. لاحظ السلالم المبنية بمواجهة أسوار المدينة والمشاعل التي يرميها المدافعونَ باتجاه مكائنِ الحصار حيث يحاول المهاجمونَ إطفاءَها بالمياه.
وهكذا استقبلَت القدسُ صفوةَ الناسِ الهاربينَ من المدينتَين (السامرة ولخيش) إليها. أمَّا أصقاعُ يهوذا الأخرى فكان أغلبُهم من الفلاحينَ والمزارعينَ الهامشيينَ والرعاة، وهم الأقلُّ ثقافةً وتمدُّنًا من النخبة الحاكمةِ في القدس، كذلك فإن تجانُسًا طبقيًّا كان يحوطُهم بسبب طبيعةِ أعمالِهم الزراعيةِ من جهة، وبسبب بُعدِهم عن مراكز الغزواتِ الآشورية.
دخلَت إلى القدس عباداتٌ جديدة بسبب التأثيرِ الآشوريِّ لعل أهمَّها عبادةُ الكواكب (الشمس، القمر، الكواكب، النجوم)، وكانت متفشيةً عند الطبقة المتنفِّذة في القدس.
وبسقوط إسرائيلَ ودمشقَ (عدُوَّتا يهوذا) شعرَت القدسُ أن بإمكانها أَداءَ الدورِ الإقليميِّ الذي كانت تؤديه «إسرائيل»، وهنا نهض الدورُ السياسي (بعد التِّجاري) الجديد للقدس، والذي نظَّم له بشكلٍ جيدٍ حاكمُ القدس حزقيا (٧١٥–٦٨٧ق.م.) وفي سياق الإعدادِ للثورةِ الجديدةِ أمر حزقيا بحفر القناةِ الشهيرةِ التي حوَّلَت مياه «عين جيحون» إلى «بِركة سلوان» التي كانت، حينئذٍ، داخلَ سورِ المدينة. وهكذا دخلَت القدسُ في مقاومة الحصارِ الآشوري، وكان ذلك بدايةَ عهدٍ جديدٍ ستحصُد القدسُ نتائجَه، بعد قرنٍ، على يد البابليينَ بعد أن كان أعداؤها قد أعطَوها مبررًا كافيًا لدرسٍ واضحٍ يكمُن في إيقاف الاكتساحِ الآشوريِّ عن طريق تملُّقِهم وإفراغِ شحنتِهم المزحومةِ بالاحتلالِ والحصارِ والجزية.
وهكذا استمرَّت القدسُ، في النصفِ الأولِ من القرن الثامنِ قبل الميلاد، بتوطيد مركزِها الإقليمي. لكنَّها برزَت قويةً كدولةٍ مدنيةٍ إقليمية، تِجاريًّا وسياسيًّا، في نهاية القرنِ الثامنِ قبل الميلاد، وهو ما دفع الملكَ الآشوريَّ شلمنصر الخامسَ لمحاصرتِها ثلاثَ سنوات، لكنه انشغلَ عنها بعد ذلك باضطراباتٍ حصلَت في بلاده حتى مات، كان ذلك في حدود (٧٢٥ق.م.). واستمَرَّ خلَفه سرجون الثاني بحصارها، واستطاعَ الجيشُ الآشوريُّ أن يهزمَ جيشَ الملكِ المصريِّ «طهارقة» الذي أرسِلَ لمساعدة القدسِ لفكِّ الحصارِ عنها. وكانت هذه الحادثةُ مدعاةً للتفكير الجَدِّيِ عند الآشوريينَ بغزو مصر؛ لأنهم كانوا يرَونها مُحرِّضًا لمدن الشامِ ضدَّ مصالحِهم؛ ولذلك تقدَّم الجيشُ الآشوريُّ إلى اتجاه مدينة رفح خلفَ الجيشِ المصريِّ المهزوم، واتجه نحو الدلتا حيث توقَّفَ هناك، بعد أن صمدَ المصريونَ بوجهه، وأجبروه على التراجع.
ثالثًا: القَرنُ السابعُ قبل الميلاد (ظُهورُ دينِ يهُوذا)
الألعابُ الخَطِرةُ للسياسة والتجارة
انخرطَت القدسُ، تدريجيًّا، في لعبتَين خَطِرتَين؛ الأولى سياسية تقضي بمقاومة الآشوريين (بدفعٍ من المصريين)، والثانية تِجارية تقضي بجعل القدس بؤرةً مهمةً في التجارة الدولية.
كانتِ السنواتُ الأخيرةُ لحاكم القدس «حزقيا» قاسية؛ فقد عمَد الآشوريونَ لتحطيم المراكزِ التِّجاريةِ المغذيةِ لها وأسواقها، وإلى تدميرٍ واسع النطاق للريفِ المحيطِ بها والحقولِ الزراعيةِ التابعةِ لها، ثم الحصارِ الطويلِ الذي اضطر «حزقيا» للاستسلام ودفعِ جزيةٍ ضخمةٍ من الذهب والفضة.
قاد الملكُ الآشوريُّ «سنحاريب» (٧٠٥–٦٨١ق.م.) حصارَ القدس؛ فقد تقدَّم إلى مجموعة من المدن الشامية المتمرِّدة التي حرَّضَها الفرعون المصري «شبتكو».
وذهب أولًا لغزو المدن الساحلية، ثم اتجه إلى القدس التي كان يحكمها «حزقيا»، وكانت مدنٌ أخرى مثل «صور» و«عسقلون» قد مضت في عصيانها وتحدِّي الجيوشِ الآشورية.
وفيما يلي ترجمةٌ لحوليات «سنحاريب» التي تشير إلى حربه مع المدن المتمرِّدة وحصاره لأورشليم:
ولم يتعظ «منسي» ملك يهوذا (٦٨٧–٦٤٢ق.م.) فأقفلَ أبوابَ أورشليمَ بوجه «أسرحدون» (٦٨٠–٦٦٩ق.م.) فما كان من هذا الملكِ الآشوريِّ القويِّ إلا مهاجمةُ أورشليم. وأخِذ «منسي بن حزقيا» أسيرًا إلى بابل، وقضى بعض الوقت هناك، ثم أطلقَ الآشوريونَ سراحَه، فعاد إلى القدس وأدركَ أسرحدون أن مصر وملكَها «طهارقة» كان وراء عصيانِ القدسِ وغيرِها مثل صيدا التي دمرها، فما كان منه إلا التوجُّه إلى مصر وملاقاةُ جيشِ «طهارقة» شرقَ الدلتا، فانهزم الجيشُ الآشوري، لكن أسرحدون لم ينكفئْ فقاد جيشَه بعد خمس سنوات، واستطاع هزيمةَ جيشِ طهارقة فيها. وهرب طهارقة جريحًا إلى جنوب مصر، ومنها إلى «كوش» في بلاد السودان الحالية، ثم قام «طهارقة» باسترداد منف، وهزم الحاميةَ الآشوريةَ فيها فدفع ذلك أسرحدون إلى إرسال حملةٍ تأديبيةٍ سار على رأسها لإخضاع مصر ثانية، لكنَّه أُصيبَ بمرضٍ مفاجئٍ اضطرَّهُ إلى العودة لآشورَ حيث مات فيها.
وحين صَعِد آشور بانيبال (٦٦٨–٦٢٦ق.م.) إلى عرش الإمبراطوريةِ الآشورية، أعادَ فتحَ مصر كلِّها بعد أن هزمَ جيوشَ «طهارقة» في شرق الدلتا، ولم تنفَع كلُّ محاولاتِ تحريرِها أثناءَ حكمِ آشور بانيبال.
هذه الأمور جعلَت حُكامَ القدس من «منسي» وحتى «يوشيا» يدركون أن الخضوع لآشورَ هو أفضلُ الحلول لها، وبذلك تبدَّدَت آمالُهم في الاستقلال والتوسُّع. ولم تكُن القدسُ، آنذاك، إلا دولةً صغيرةً هامشيةً في الأحداث الكُبرى للشرق الأدنى القديم، ومن الخطأ تصوُّرُ حجمِها أكبرَ من ذلك، خصوصًا أن حُكامَها جلبوا لها المآسيَ بتقلباتِهم السياسية وولاءاتِهم المزدوجة لقوَّتَي آشورَ ومصر.
ولا بد لنا من التنويه بما عُرِفَ في زمن الآشوريينَ من «سياسة التهجير» التي كانت تقوم بها الدولةُ الآشوريةُ في أرجاء إمبراطوريتها؛ فقد كانت تقوم بعمليات نقلٍ واسعة لسكان المدن الثائرة والخارجة عن إرادتها، فتقومُ بنقل سكانِ السامرة مثلًا إلى مكانٍ آخر، وتأتي بسكان مدينةٍ ثائرةٍ أخرى إلى مدينة السامرةَ لكي تسلُبَ من الناس هويتهم، وتجعلَهم أسرى البحث عن مأوًى ومأكلٍ وحياةٍ آمنة أكثرَ من بحثهم عن استقلالٍ سياسي.
وكانت سياسة التهجير هذه تُسهِمُ في تغييرٍ إثنيٍّ واضحٍ للمدن المُهَجَّرة، وإذا كانت السامرةُ أو أورشليمُ قد بدأَتا ببلورة شبهِ إثنيةٍ خلال القرنَين الثامن والسابع قبل الميلاد، فإنهما فقدَتا هذا التبلورَ الإثنيَّ خلال القرنَين السابع والسادس قبل الميلاد على التوالي. عندما مارس الآشوريونَ سياسةَ التهجيرِ نحو السامرة ومارس البابليونَ سياسةَ التهجيرِ نحو أورشليم.
ولم تكُن سياسةُ التهجيرِ آشوريةَ الأصل، بل ظهرَتْ منذ بداياتِ الألفِ الثاني قبل الميلاد، وكانت إجراءً شائعًا في حروب الشرق الأدنى القديم بين مصر وبابلَ والعالَمِ الحيثِي، ثم استمرَّت مع الفرس بعد انهيار آشور وبابل.
إن تأكيدَنا على سياسة التهجيرِ الآشورية، ثم الكلدانية قد طالت التركيبَ شِبهَ الإثنيِّ الجديدَ للسامرَّة وأورشليم (إسرائيل ويهوذا)، وكان هذا التغييرُ الإثنيُّ عاملًا في غاية الأهمية للوقوف بوجه الآراءِ التوراتيةِ التي تستمرُّ في نسج أسطورتها العِرقِيةِ والدينيةِ بطريقةٍ متطرفةٍ ومُبالَغٍ فيها للدرجة التي تضعُها خارجَ التاريخِ وخارجَ المنطقِ والعقل.
الإصلاحُ الديني ليُوشيا
عندما تَملَّك يوشيا مُلكَ يهوذا (٦٤٠–٦٠٩ق.م.) كانت يهوذا تخضَعُ تمامًا لآشورَ بعد أن انهارَت كلُّ آمالِها السياسية، وكان يوشيا قد أدرك هذه الحقيقةَ تمامًا؛ لذلك عمد طيلةَ حُكمِه إلى تهدئة الأمورِ السياسية مع آشور، وانصرفَ إلى الدين بكل جوارحه.
تقول المروياتُ الدينيةُ إنه من أجل أن يجمعَ شعبه حولَه، ويصرفَهم عن الكفاح السياسيِّ ضدَّ آشورَ أو غيرِها، كان عليه أن يهيِّئَ لثورةٍ دينية؛ حيث يصبح الدينُ عاملًا فاعلًا عند اليأس السياسي. وكان أساسُ هذه الثورةِ الدينيةِ يقومُ على كتابة كتابٍ أو سِفرٍ يكون بمثابةِ القانونِ الإلهيِّ لإلهٍ واحدٍ هو الذي يرعى شعبَ يهوذا تنبذُ معه آلهة يهوذا الأخرى وآلهة الشعوبِ الأخرى التي كانت تُعبَدُ في يهوذا وأورشليمَ لكي يترسَّخَ من خلالها حكمُه وحكمُ إلهِه، وقد أُطلِقَ على هذا الكتابِ اسم «سِفر الشريعة» الذي يرى كتَبَةُ التوراة أنه «سِفر التثنية» الذي كتبه موسى بيده! ومعروفٌ أن نسبتَه إلى موسى لاحِقة تداركَها كتَبَةُ التوراةِ وهم يحاولون ربطَ أجزاءٍ متفرقةٍ من تاريخ البشرية القديم «ذات الطابع الأسطوري والملحمي»، ونَسَبوه لهم أو جعَلوه متصلًا بهم.
وهكذا وضع يوشِيا عام ٦٣٦ق.م. هذا السِّفر في مخبأ في «هيكل الرب»، وبعد فترةٍ طلَب من رئيس مدينتِه ومن كاتبه أن يُرمِّمُوا «هيكل الرب» تحت إشراف كبير الكهنة «حِلقيا» وإذا ﺑ «حِلقيا» يعثُر على «سِفْر الشريعة» ويُسلِّمه إلى رئيسِ المدينة وكاتبِ الملك، فقاما بدورهما بتسليمه إلى «يوشيا»، الذي عندما سمع مضمونَ السِّفر مزَّق ثيابَه، وأمر الرجلَين بجمع كلِّ شيوخِ ورجالِ وكهنةِ يهوذا وأورشليم، وقرأ عليهم مضمونَ السِّفرِ الذي يتضمَّن وصايا الربِّ وتحذيراتِه … وهكذا أُعلِنَت ثورةٌ دينيةٌ دمَّر فيها يوشيا كلَّ الأوثانِ الأجنبيةِ والسارياتِ وغيرها، وأصبح «يهوا»، لأول مرة في التاريخ، الربَّ الوحيدَ لأهل أورشليم، وصار ذلك اليومُ عيدَ الفصحِ لأول مرة أيضًا.
ويكادُ يشكِّل هذا الحادثُ منعطفًا دينيًّا جديدًا في تاريخ يهوذا والقدس؛ فقد ظهرَت لأول مرة ديانةٌ جديدة (يهوذية وليس يهودية) وهي ديانةٌ كنعانيةٌ بدأَت بالتبلور، وانفصلَت رسميًّا عن الديانات المحيطة بها من كنعانية وفينيقية وأمورية وآرامية … إلخ. وأصبح ثمَّة شريعةٌ وشعائرُ دينيةٌ واضحة. ومنذ ذلك الوقت بدأ يُطلَق اسمُ «يهوذي، يهوذيم» وسمِّي شعب يهوذا «يهوذه». أمَّا اللهجةُ الكنعانيةُ التي كُتِبَ بها سِفرُ الشريعةِ فأصبح لغةَ يهوذا (يهوذيت) التي أصبحَت نواةَ اللغةِ العبريةِ فيما بعدُ؛ والتي ظهرَت متأخرةً قبل القرون الميلادية الأولى.
وهكذا نقل «يوشيا» هذا الشعب — الخليطَ المتفرقَ المشارب، العديمَ الهوية، الخليطَ الأعراق — من وضعه الملتبس هذا إلى شعب «شبه إثني» بدأ بتجاوز فُرُوقِه القبليةِ والاجتماعية، وأصبح «شعبُ يهوذا» ذا محورٍ دينيٍّ مكتوبٍ ومعلَن، وكان ذلك حوالي «٦٣٦»ق.م.
ولولا ما فعلَه يوشِيا لتَفرَّقَ شملُ شعبِ يهوذا هذا أثناءَ وبعدَ السبي البابليِّ الذي سيأتي بعد «٣٨» عامًا من هذا الحادثِ؛ إذ إن هذه الثورةَ الدينيةَ هي التي جعلَت هذا الشعبَ يتمحورُ حول جوهرٍ دينيٍّ مكتوبٍ يصعبُ تفتيتُه. وهكذا سيُصبحُ «سِفرُ الشريعة» جوهرَ كتابِ التوراةِ الذي سيظهرُ بعد قرون.
كانت نهاية يوشِيا غيرَ متوقَّعة؛ فبعد ثلاثةِ عقودٍ من رسالته الدينية الجديدة وابتعادِه عن السياسة ظهرَت أحداثٌ جديدةٌ جرَّتْه إليها فلقيَ حتفَه.
سقطَت آشورُ على يد البابليينَ (الكلدانيينَ) والميديينَ عام ٦١١ق.م. واقتسم الحليفانِ المنتصرانِ إرثَ الإمبراطوريةِ الآشورية، فأصبحتِ الشامُ من حصة بابل، وكان «نخو» أو «نخاو» الثاني، ملكُ مصر، قد قرَّر معاونةَ آشورَ المتداعيةِ على ضوء اتفاقٍ كان قد وقِّع بينهما بعد احتلالِ آشورَ لمصر، وهكذا جهز جيشًا وتقدَّم به نحو الفُرات. ولمَّا وصل إلى «كركميش» خرج يوشِيا بجيشه ليمنعَ تدخُّلَ جيش «نخاو» في مساعدة الآشوريين، فاعترضَ الجيشُ المصريُّ جيشَ يوشيا عندَ «مجدو» وقُتِل يوشيا وأخِذَ ابنُه «يهود آحاز» عام ٦٠٩ق.م. مكانه. ولم تمضِ ثلاثةُ أشهرٍ حتى تمكَّن «نخاو الثاني» من أَسرِه وبعث به إلى مصر. وأصبحَت القدسُ واقعةً تحت النفوذِ المصريِّ هذه المرة، وأصبح أخ يهود آحاز، المسمَّى «الياقيم = يهوياقيم» بن يوشيا مكانه (٦٠٩–٥٩٨ق.م.) على أن يقبلَ الخضوعَ لمِصر ويدفعَ الجزية.
أما «نخاو» فقد تقابل مع الجيشِ البابليِّ بقيادة نبوخذ نصر (ابن الملك البابليِّ نبوبلاصر) في معركةٍ كبيرةٍ في كركميش، وانتصر البابليونَ وعاد «نخاو» إلى الدلتا مهزومًا، وتَبِعَه نبوخذ نصر حتى وصل إلى الحدود المصرية، وكاد يعيدُ فتحَ مصر لولا أن وصلَت إليه الأخبارُ من بابلَ تفيدُ بموت أبيه فاضطُّرَّ للعودة كي يَخلُفَه على العرشِ البابليِّ لحوالي نصفِ قرنٍ (٦٠٥–٥٦٢ق.م.) وهكذا سقطَت تلقائيًّا كلُّ مدنِ وأقاليمِ بلادِ الشامِ تحتَ السيطرةِ البابلية، وكانت القدسُ ويهوذا ضمنَ هذه الأقاليم.
رابعًا: القُرونُ الثامنُ والسابعُ والسادسُ قَبلَ الميلاد المَرجعِيةُ الآثارية – الطبَقات ١٠، ١١، ١٢
-
(١)
الشكلُ العامُّ لمدينةِ القُدس: توسَّعَت المدينةُ غربًا، ووصلت إلى ذرْوَة تطوُّرِها في القرن الثامن قبل الميلاد، وما زالت الهويةُ اليبوسيةُ الكنعانيةُ للمدينة هي طابعها العام، رغم وصول أفواجٍ من اللاجئينَ من السامرة والمناطقِ المجاورةِ التي هاجمَها الآشوريونَ في ٧٢٢ق.م.
شكل ٦٠: موقع الجدار الغربي (الواسع) لمدينة القدس في العصر الحديدي الثاني. المرجع: Kenyon 1971: 32.وبعد حُكم حزقيا ازدادَت مساحةُ المدينةِ باتجاه المرتفَعِ الغربي، وأعيد بناءُ التحصيناتِ بحجمٍ أكبرَ حول الأماكنِ القديمةِ والجديدة، وأعيدَ تقويةُ شبكةِ المياهِ بحفر قناة «حزقيا» لتجهيز المياه (ممر وارن وقناة سليمان).
وقد عثَر شيلوح في الطبقات ١٠–١٢ من منطقة E, D على بقايا جدارِ المدينة (انظر شكل ٦٨) الذي يَظهرُ منه الآنَ حوالي ١٢٠ مترًا على المنحدَر الغربي، والذي سَعَتُه غيرُ المنتظمةٍ تتراوحُ بين «٣–٥» أمتار، وتسمَّى بالجدار الواسع The Broad Wall٣٣ الذي تسمِّيه التوراةُ (مشنا) كما يرى ذلك شيلوح. -
(٢)
البيت المربع Ashlar house: في المنطقة E1 وهو بناءٌ يمتاز بسُمْكِ جدارِه، وقد بُنيَ في زاوية، وقدَّر شيلوح زمنَه حوالي القرن السابع قبل الميلاد (الطبقة اﻟ «١١») (انظر شكل ٦٩).شكل ٦١: بقايا المنطقة E ويتضح سور القدس الغربي والبيت المربع. وانظر المرجع: Shiloh 1993: 705.
-
(٣)
الحيُّ الذي سُمِّيَ فيما بعدُ ﺑ «الحي اليهودي»، والذي وُجدَت فيه بقايا جُدرانٍ وأرضياتٍ وفخَّار يعودُ للعصر الحديدي الثاني. وقد عُثر في بعض بيوتِ هذا الحيِّ على تماثيلَ لآلهةِ الخصب؛ بعضُها حيواني؛ وهو ما يشير إلى وجود عبادةِ الآلهةِ المتعددةِ ذاتِ الأصلِ الكنعانيِّ (انظر شكل ٧٠) وهناك أيضًا طبَعَاتٌ وأختامٌ شخصيةٌ وأشياءُ أخرى.
وهناك في «الحي اليهودي» بقايا الجدرانِ والأرضياتِ على شكل صخورٍ مُدوَّرةٍ وفَخَّارِيات، وأغلبُ البيوتِ القديمةِ زالت بسبب بناء بيوتٍ جديدة. انظر مخططَ الحي، والذي أُطلِقَ عليه لاحقًا اسمُ الحيِّ اليهوديِّ (انظر شكل ٧١)، والذي يظهر فيه واضحًا البوابةُ الوسطى Middle Gate، وهو من مخلَّفات العصر الحديدي، وهناك بوابة جيناث Gennath Gate من مخلَّفات العصر الحشموني.٣٤شكل ٦٢: تماثيلُ آلهةِ خصبٍ بشريةٍ وحيوانية. الحيُّ اليهوديُّ (القرن الثامن قبل الميلاد). المرجع: Shiloh 1993: 706.شكل ٦٣: مخطَّط ما عُرف باسم «الحي اليهودي» في العصر الحديدي والهيلنستي والحشموني. المرجع: Shiloh 1993: 706. -
(٤)
قاعدة برج تعود للعصر الحديدي الثاني، وترتبط من الأسفل يسارًا بالبرج الحشموني الذي بُني لاحقًا. انظر الشكل (٧٢).
شكل ٦٤: برج من نهاية العصر الحديدي الثاني في القدس ضمن الحيِّ اليهودي. حيث يتصل يسارًا بالبرج الحشموني. http://www.biblewalks.com/Sites/MountZion.html وينظر المرجع: Shiloh 1993: 706. -
(٥)
المقابر: اكتُشفَت مقابرُ كثيرةٌ في القدس من تلك الفترة، وخصوصًا منذُ القرنَين السابعِ والسادسِ قبل الميلاد، وقد بُنيَت خارج التحصينِ الذي يحيط بالمدينة، وأهمُّ مَن اكتشف تلكَ المقابرَ هم «كلونر ومازار وباركلي».
فقد اكتشف «كلونر» شَمال ما يسمَّى ﺑ «بوابة دِمشقَ» مقبرةً من هذه الفترةِ في الحافَة الشرقيةِ لوادي هنوم، أمَّا «باركلي» فقد اكتشفَ قبورًا مشابهةً على مرتفع الكنيسة الاسكتلندية شمال غرب الوادي، أمَّا «مازار» فاكتشف مقبرةً غربَ جبلِ موريا لم تُستَعمل في القرنَين السابع والسادس قبل الميلاد، وتلك المنطقةُ كانت ضمنَ الجدران.
ويمكننا إجمالًا التعرُّف إلى تلك القبورِ كما يلي:- (أ) ثلاثة قبورٍ محفورة في الصخور طولها ١٦ مترًا وعرضها متران ونصف، وارتفاعها ٤ أمتارٍ من الأمام وأحيانًا مترٌ وثمانون سم. وأرجعها ويل R. Weill إلى ملوك يهوذا.٣٥
- (ب)
مقابر مدينة سلوان (سلوام) وأهمُّها قبرٌ سمِّي ﺑ «قبر بنت الفرعون» وهو موجودٌ على الحافةِ الصخريةِ عند النهايةِ الشماليةِ للقرية، وشكلها تقريبًا مكعب (٥ × ٨. ٥ × ٤) مترًا. ويظهر في أعلاها كورنيشٌ مصريٌّ محاطٌ بهرمٍ صغيرٍ لم يتبقَّ منه شيء. وتبدو الأشكالُ وكأنها كنيسةٌ مصريةٌ صغيرة. وفي داخل هذا القبرِ ممرٌّ صغيرٌ وغرفةٌ مفردة، ويقطعُ الممرَّ من الأعلى كتابةٌ «عبرية؟» لم يبقَ فيها إلا آخرُ حرفَين. وهناك مقابرُ أخرى تُشبِهها (انظر شكل ٧٣).
وهناك واجهاتٌ منقوشة بكتابة «آرامية؟». وهذا القبر هو قبر البلاط الخارجي واسمه «قهرمان البيت» وخادمه «أماه»، والنقش يتضمن تحذيرًا ضد أي شخص يحاول فتح القبر، ويرجع تاريخه إلى بداية القرن السابع قبل الميلاد. وقد وجدَت قطعةٌ أخرى مشابهة في قبرٍ مجاور (انظر شكل ٧٤).
شكل ٦٥: (أ) بقايا كتابة أعلى ممر قبر بنت الفرعون. (ب) واجهة قبر بنت الفرعون (معاد التصميم). المرجع: Geva 1993: 713.شكل ٦٦: (أ) القهرمان الملكي (قهرمان البيت) المسقط والواجهة. (ب) نقش الواجهة. المرجع: Geva 1993: 713. - (أ)
-
(٦)
عثَر مازار في المنحدَر الشرقيِّ من المرتفَع الجنوبيِّ الغربيِّ مقابلَ جبلِ موريا على قبورٍ صخريةٍ مقطوعةٍ في الصخر تحتوي على موادَّ من القرون الثامن والسابع قبل الميلاد.
-
(٧)
عثَر على «١٥» مترًا كان تصميمُها فريدًا، وتتكوَّن إحدى مجموعاتِها من غرفةٍ مفردةٍ طويلةٍ جملونية السقف وتحتوي على حجرٍ كوسادةٍ لسَندِ الرأس، والمجموعةُ الأخرى تتكوَّنُ من غرفتَين أو ثلاثٍ مقطوعةٍ بالصخر ومنظمةٍ واحدةً بعد الأخرى، وليس فيها محتويات، وهناك مجموعةٌ تتكونُ من أنصابٍ فوق الأرض، وغُرف دفنٍ منقوشة مثل قبرِ بنتِ الفرعونِ والقهرمانِ الملكي.٣٦
-
(٨)
مقبرة المدينة القديمة التي عثَر عليها باركلي وكلونر وتؤرِّخُ لحوالي القرنَين الثامن والسابع قبل الميلاد.٣٧
-
(٩)
قبر الحديقة الذي يسمَّى أيضًا «كعب حوردون» المُكوَّن من غرفتَين مقطوعتَين في الصخر وفيه ثلاثُ مناضدِ دفنٍ وهو نموذجُ النوعِ الأولِ لقبور قرية سلون الخمسةَ عشَر.
-
(١٠)
قبور في أرض دير القديس إتيني Saint Etienne حيث يظهر أحدُهما ذا مدخلٍ مع جوفَين كمدخلَين ذَوَي أبوابٍ تشبه الطرازَ الآشوري، وتظهر زخرفةٌ لشعورٍ تُشبِهُ شعرَ الإلهةِ المصرية «حاتحور».٣٨
-
(١١)
في شارع سليمان قرب مدخل دِمشقَ اكتشف مازار عام ١٩٣٧م قبرَين؛ أحدَهما بشكلٍ غريبٍ ذي فناءٍ وخمسِ غرفِ دفنٍ وفيه فَخَّاريات، والثاني مقطوعٌ بالفأس بعنايةٍ ويحتوي على مناضدِ دفنٍ مع حافاتٍ مرتفعةٍ ومساندِ رءوسٍ تشبه حدوة الحصان.
-
(١٢)
في وادي هنوم عند القسم الغربي والجنوبي من القدس اكتشف ماكلستر مجموعةً من الكهوف أهمُّها كهفُ المنحدَرِ الغربيِّ لجبل صهيون، وهو عبارةٌ عن غرفتَين متلاصقتَين مع مناضدَ حجريةٍ على طول الجدران، وتحتوي على هياكلَ كثيرةٍ وموادَّ فخاريةٍ من القرنَين السابع والثامن قبل الميلاد، وأختامٍ عظميةٍ سميكة، وصاحبةُ الكهوف هي «حمياهيل بنت مناحيم». وهناك قبورٌ أخرى عند كتف هنوم. وفي جوار المماليك وغيرها. (انظر شكل ٧٥)
وخلاصة القول أن المدينة في القرن السادس قبل الميلاد امتدت من المكان القديم إلى الوادي الجنوبي، وأصبح وادي هنوم يُستَخدَمُ كمدفنٍ رئيسيٍّ للطبقات العادية، أمَّا الطبقةُ الحاكمةُ والنبيلةُ فأصبحَت تُدفَنُ في منطقة وادي سلوان. وربما كانتِ المقابرُ التي عُثر عليها في أرض دير القديس إتيني انظر شكل ٧٦ تُستَخدَمُ لآخر ملوك يهوذا قبل السَّبْي.٣٩شكل ٦٧: مسقط ومقطع في كهف الدفن على المنحدر الغربي في جبل صهيون. المرجع: Geva 1993: 714.شكل ٦٨: مسقط دير القديس إتيني. كهف الدفن الأول. المرجع: Geva 1993: 714. -
(١٣)
عثَر أفيغارد وباركلي وجيفا على جدار العصر الحديدي المتأخر محيطًا بالمرتفع الغربي على طول خط «الجدار الأول» الذي اكتشف «بليس Billiss» استمراريته عند شمال وشمال شرق جبل صهيون. وهو الجدار الذي يحيط النهاية الشمالية لمدينة العصر الحديدي الثاني (خارطة ١١).(City of David مدينة داود): اصطلاحٌ توراتي المقصود منه آثاريًّا مدينة العصر الحديدي الثاني في القرن العاشر ق.م.(Temple Mount جبل الهيكل): اصطلاحٌ توراتي المقصود منه آثاريًّا جبل موريا وهو جبل المسجد الأقصى.
وقد انتشَرَت الأحياء المسكونة على مساحةٍ واسعة أكثر من ١١٠م٢ وهناك أحياءٌ جديدة مثل المشنا (الحي الثاني) والمختيش (الهاون) التي يُفترَضُ أن تكون قد بُنيَت على المرتفعِ الغربي.
ويلفت الانتباهَ بيت أهيل Ahiel في منطقة G التي حفَرها شيلوح، والبيت يحتوي على أربع غرف. البناء الرئيسي فيه «٨ × ١٢» م يتصل بغرفة خزن وخدمة، وُجدَت فيه عشراتُ الأواني. وقد ذُكرَت كلمة أهيل مرتَين على بعض الآثار في المنزل وقربه (انظر الشكل ٧٨).٤٠ويبدو أنَّ «أهيل» اسمُ شخصٍ معروف، وقد احتوى بيتُه على الأواني الفَخَّارية، وهناك غرفةٌ محترقةٌ تحتوي على آثار حريقٍ وتحطيمٍ منذ ٥٨٦ق.م.
خارطة (١١) القدس في القرن السادس قبل الميلاد (نهاية العصر الحديدي الثاني) المرجع: Shiloh, 1993: 707.شكل ٦٩: بقايا المنطقة G في مدينة القدس (الحديدي الثاني) قرب بيت أهيل. وانظر المرجع Shiloh 1993: 708. -
(١٤)
الأثَاثُ والمَوادُّ المَنزِليَّة: عُثر في بعض البيوت والمقابر على الكثير من أخشاب الأثاث والمواد المنزلية والدُّمَى الصغيرةِ والفَخَّارياتِ والصخورِ والأواني العظمية والملاعقِ الحديدية. ويبدو أن الخشب كان يُستَورَدُ من شمال سوريا وهو مُقوَّسٌ يشبه شكلَ سعفِ النخيل.
(أ) بيت الكريات: عُثر على «٥١» كرية bullae … مع طَبَعاتِ أختامٍ لأسماءٍ مختلفةٍ من ذلك العصر منها:بناياهو ابن هوشيا، أزرياهو ابن هلكياهو، عزريكام مشياهو، اليشاما ابن ساما شياه، جمريا بن شافان. وهذا الأخيرُ هو أحدُ رؤساءِ العشائرِ أو البيوت، ويعمل كاتبًا، وقد ذُكر اسمُه في العهد القديم (أرميا ٣٦: ٩–١٢) فقد كانت له غرفةٌ في بلاط يهوياقيم، ملك يهوذا، في السنةِ الخامسةِ من حكمِه؛ أي ٦٠٤ق.م. ويبدو أن أختامَ هذه الطبعاتِ احترقَت في تدمير المدينة، ويقع بيت الكريات على الحافة بين المدينة العليا والأوفل، وربما كانت أرشيف دائرةٍ حكومية (انظر شكل ٧٩).٤١شكل ٧٠: قدس يهوذا في العصر الحديدي الثاني آثار المنطقة G. (أ) مختارات من الفخاريات والكريات والمواد الصخرية من «بيت الكريات». (ب) الخشب المقوَّس من المنطقة المدمرة (نهاية العصر الحديدي الثاني). (ﺟ) مختارات من طبعات الأختام من «بيت الكريات». المرجع Shiloh 1993, p. 708-709..أمَّا الكشوفاتُ الحديثةُ للمدينة فتتركزُ في جبل الأوفل؛ حيث اكتشف مازار في جنوب شرق الأوفل لفترة العصر الحديدي الثاني (عند ما يُعرَف خطأ ببيت الميلو) بقايا إحدى البنايات C المكوَّنة من غرفتَين والحاوية على جِرارٍ كثيرةٍ للخَزْن. أمَّا الغرفةُ D فتحتوي على عدة غرفٍ للخَزْن. وهناك مدخلٌ للماء في جزءٍ من بناءٍ مُركَّبٍ يسمَّى «البيت الأعلى للملك».٤٢وخلاصة القول أن جدار القدس في نهاية العصر الحديدي الأول كان يحيط بالمرتفَع الجنوبي والغربي. واستمر جدار المدينة على القسم الشمالي من المرتفَع فوق الوادي المتحوِّل، واستمر غربًا إلى القلعة وبوابة يافا الحديثة. وعند هذه النقطة استدار جنوبًا واستمر فوق وادي هنوم على طول طريقِ جدارِ المدينةِ القديمةِ الحاليِّ وإلى وادي صهيون، ثم انحدر على المنحدَر الجنوبي للمرتفَع باتجاه بداية وادي تريبونيون، واستمر شمالًا إلى مدينة العصر الحديدي الثاني.٤٣إن آثار العصر الحديدي الثاني بشكلٍ عام تكشف لنا عن مدينة القدس اليبوسية التي طالها عمرانٌ جديدٌ وتوسُّعٌ واضح، ولكنها لا تحتوي آثاريًّا من قريب أو بعيد على ما يشير إلى داودَ أو سليمانَ أو أولاد سليمان، وليس هناك قطعةُ آثارٍ واحدة تدُل على ذلك. أما ما نراه من تسميات (مدينة داود، جبل الهيكل، الميلو … إلخ) فكلُّها إسقاطاتٌ معاصرةٌ على آثارٍ لا علاقة لها بهذه الأمور. إن كل ما نعرفه آثاريًّا عن مدينة القدس في العصر الحديدي الثاني هو هذه الآثارُ المتواضعةُ جدًّا، والتي تمثِّل مدينةً عادية من مدن الشام ثارت عدة مراتٍ على النفوذ الآشوري فحُوصِرت عدةَ مراتٍ … ثم سنرى كيف تُدمَّرُ من قِبل البابليينَ الكلدانيينَ لأسبابٍ سياسيةٍ وغيرِ دينية … أما دين يهوذا فما زال جنينًا صغيرًا انفصل عن الديانة الكنعانية اليبوسية التي كانت الديانةَ العامَّةَ للمدن الكنعانية عامَّةً في فلسطين.
Katheen M. Kenyon, “Royal cities of the old Testament,” London, 1971.