المبحث الثالث: العَصرُ الحديديُّ الثالث (٥٨٦–٣٣٢ق.م.)
أولًا: القُدسُ تَحتَ الاحتلالِ البابلي (٥٨٦–٥٣٩ق.م.)
السَّبيُ البَابليُّ الأوَّل ٥٩٦ق.م.
قام ملك يهوذا «يهوياقيم»، بتحريضٍ من مصر، بالتمرُّد على حكم نبوخذ نصر البابليِّ الكلداني، فما كان من نبوخذ نصر الثاني إلا أن يجهزَ حملةً لمهاجمة القدس التي استسلمَت بسهولة، وأعلن ملكُها الولاءَ لبابل ودفعَ الجزية.
وعندما تولى يهوياكين (يهوياقين) بن يهوياقيم (الذي ربما كان هو نفسه يهوياقيم وليس ولده) الحُكمَ (٥٩٨–٥٩٦) قام هذا الملكُ بالتمرد على بابل، فما كان من نبوخذ نصر إلا أن يرُد بسرعة وحزم على هذا الملك، فحاصَر القدس ودخلَها وأسَر يهوياكين ومعه آلافُ الجنود والغنائم، وأرسلهم إلى بابل، وسُمِّي هذا النفيُ لأهل يهوذا ﺑ «السبي البابلي الأول» الذي يشير له النَّصُّ البابليُّ الآتي:
إننا لا نتفق مع الآراء التي تسمِّي هذا السَّبيَ الأول والسبي الثاني سبيًا لليهود بل هو سبيٌ لأهل يهوذا؛ وتحديدًا لأهل أورشليم الذين مازالوا في أول خطواتهم لتكوين دينٍ خاصٍّ بهم أسميناه «دين يهوذا» أو «الدين اليهوذي»، وهو ليس الدين اليهودي بمعناه المعروف؛ إذ إن هذا الدينَ اليهوديَّ لم يتكوَّن إلا بعد السبي الثاني خلال ما يقرُبُ من القرنَين من الزمان حتى مجيءِ الإسكندرِ المقدوني.
وسنقول ببساطةٍ ووضوحٍ إن الدين اليهوديَّ تَكوَّن في العصر الحديدي الثالث (٥٣٩–٣٢٣ق.م.) إبَّانَ الهيمنةِ الفارسيةِ على الشرقِ الأدنى القديم. أمَّا قبل ذلك بقليل فلم يكن هناك سوى نواةٍ أوليةٍ لدينٍ جديدٍ يمكن أن نطلقَ عليه اسم «دين يهوذا»، بدأ مع إصلاحات يوشيا كما ذكرنا.
السَّبيُ البابليُّ الثاني (الكبير) ٥٨٦ق.م.
كان نبوخذ نصر قد عيَّن بدلًا من يهوياكين عمَّه صدقيا بن يوشيا (٥٩٦–٥٨٦ق.م.) فيما أخذَ يهوياكين (يهوياقين) إلى بابلَ أسيرًا وسجَنه هناك. لكن صدقيا هذا لم يكن ملكًا حصيفًا؛ إذ لم يتعِظ مما حصل لأخيه وابن أخيه؛ فقد ثار في السنة الثامنة من حكمه على نبوخذ نصر الذي جهَّز جيشًا حاصر به القدس لمدة سنة ونصف، فقام صدقيا بثَقْب سور القدس، وهرب مع جيشه باتجاه شرق الأردن، لكن جيش نبوخذ نصر أسَره قرب أريحا وتفرَّق جيشه، فأخذه قائد جيش نبوخذ نصر الذي كان في «ربلة» في حماة ليحكُم عليه، فأعدمَ أبناءه بحضوره، وقلع عينَيه، وأرسلَه مقيدًا بالسلاسل ليُسجنَ في بابل.
وهكذا أصبح هناك ملكان سجينان في بابلَ هما «يهوياكين» من السَّبيِ البابليِّ الأول، وعمه «صدقيا» من السَّبيِ البابليِّ الثاني.
ويبدو أن أغلبَ سكانِ القدسِ اقتُلِعوا من أَرضهم وهُجِّرُوا إلى أرض بابل؛ حيث وُضِعُوا داخلَ ما يشبهُ السورَ قربَ بابل.
ولم تكُن القدسُ هي العقبةَ الكبيرةَ في طريق نبوخذ نصر لإرجاع الشام إلى حظيرته؛ فقد تابع مهاجمَتَه للمدن الفينيقية فأدَّبَها جميعًا ما عدا مدينةَ صور، التي قاومت حصارَهُ على مدى ثلاثةَ عَشَرَ عامًا، لكنها قَبِلَت في النهاية دفعَ الجزيةِ واعترفَت بالسيادةِ البابلية.
وتذكُر نصوصُ نبوخذ نصر أنه في العام السابع والثلاثين من حكمه (٥٦٢ق.م.) سار نبوخذ نصر على رأس جيشه نحو مصر حيث كان يحكم فيها أمازيس، لكنَّ فتحَ مصر لم يتمَّ؛ فقد مات نبوخذ نصر في نفس هذه السنة.
الأحداثُ بَينَ ٥٨٦–٥٣٩ق.م. أحداث القدس: جدليا والثورة عليه
نال القدسَ دمارٌ كبيرٌ لكنَّ أهلَها لم يُسبَوْا كلُّهم؛ فقد بقي منهم القليل، ونَصَّب البابليون عليهم رجلًا منهم هو «جدليا». ويبدو أن مركز القدس لم يعُد صالحًا للسكن؛ ولذلك اتخذ جدليا مكانًا آخر هو «المصفاة» (الذي يُعتقَدُ أنه تلُّ النصبة قرب الجيب)، وطمأنَ سكانَ القدسِ، وأمرَهم بالخضوع التام لملك بابل. وبعد هذا الاستقرارِ النسبيِّ جاء إلى القدس بقايا جيش يهوذا الذي تفرَّق عندما أُلقيَ القبضُ على صدقيا من شرق الأردن.
ولا بُدَّ لنا أن نشير بوضوح إلى أن أهل يهوذا والقدس المسبيينَ — والذين كان أغلبُهم من أتباع «دين يهوذا» الجديد — تركوا فراغًا سكانيًّا كبيرًا في القدس، مما حدا بالقبائل الكنعانيةِ والآراميةِ والأدوميةِ والعربيةِ إلى الاتجاه نحو القدسِ والسكَن فيها، وبذلك تغيَّرَت هُوية القدس ويهوذا بصورةٍ جِديَّةٍ هذه المرة، ولم يعُد هناك ذِكر ﻟ «اليهوذيين» الذين تحدَّثنا عنهم. وسينتُج عن هذا الأمر لاحقًا، بعد عودة المسبيين، خليطٌ إثنيٌّ من السكان، كان «أهلُ السبي» لا يشكِّلون فيه إلا نسبةً معيَّنة.
وبعد مجيء بقايا جيش يهوذا قَدِمَ إلى القدس أحدُ المطالبينَ بالعرش من العائلة الملكية السابقة وهو «إسماعيل بن نثنيا أليشمع» وهجَم مع أصحابه على المصفاة وقتلوا جدليا وبعضَ البابليينَ وسكانَ القدس، وكان هذا العملُ بمثابة إعلانِ ثورةٍ جديدةٍ على بابل؛ ولذلك فرَّ بعضُ شعبِ القدسِ إلى مصرَ طلبًا للنجاة وخوفًا من انتقام البابليين.
وإذا كانت القدس قد سُبِيَت من طبقتِها الملكيةِ والدينيةِ والعسكريةِ والسياسيةِ العالية، فإن الفقراءَ و«سكان الأرض» — كما تُسَمِّيهم التوراة — ظلُّوا هناك.
كما أن العلاقة بين من تَبَقَّى من سكان يهوذا والقدس أصبحَت جيدة مع أهل السامرة (وهذا يؤيد وجهة نظرنا حول الاحتراب لا الاتحاد بين يهوذا وإسرائيل)؛ فقد كانت السامرةُ تُعاني قبل السبي، بعد سقوط دولة إسرائيل، من مركزية القدس وتعاليها على أهل السامرة الذين فرُّوا من السبي الآشوري، وفقدوا آخرَ فرصِ الخلاصِ والعودةِ إلى بلادهم. وأمام غياب المركزيةِ الدينيةِ التي حاولَت الطبقةُ الدينيةُ والملكيةُ فرضَها على الناس في يهوذا والمشردينَ من إسرائيلَ عن طريق ابتكارِ عقيدةٍ جديدةٍ لعلاقاتٍ جديدةٍ بين يهوذا وإسرائيلَ المحطمتَين، بل ربما حلَمَت السامرة أن تزحفَ بأفكارها الدينيةِ الكنعانيةِ ورمزِها المتمثلِ بالإله «إيل» للتأثير على أهل القدس المُتَبقين، خصوصًا أنه صار بالإمكان احتضانُ «يهوا» وجعلُه ابنًا ﻟ «إيل»، وما «يهوا» إلا شكلٌ من أشكال «بعل» الذي كانت تتعبده السامرةُ بصفة ابن إيل. ونرى أن هذا الإجراءَ كان مدخلًا لعلاقةٍ جديدةٍ بين السامرة والقدس، تلك العلاقة التي لن تصبح متكافئةً بعد أن يعود أهل السبي، بل لتكون الفرصةَ المناسبةَ لدمج السامرة في عقائد يهوذا، والتعامل مع «إيل» على أنه «يهوا»؛ أي «الله هو يهوا» ثم العودة إلى تصفية تاريخ إسرائيلَ والسامرة، وتخيُّلِ وجودِ مملكةٍ موحدةٍ بينهما سابقًا تمهيدًا لدمج عقائدِهما، وضمِّ إسرائيلَ المحتربةِ مع يهوذا إلى تاريخ يهوذا، قاعدةِ الدينِ الجديد.
وهكذا كان السبي — سواء في بابل أو في القدس — فرصةً عظيمةً لتطورٍ نوعيٍّ باتجاه ظهورِ الدينِ اليهوديِّ ودمجِ عقائدِ إسرائيلَ (السامرة) مع عقائدِ يهوذا نهائيًّا، وهو الجانبُ الخفيُّ الذي لا يُرى تحت أحداثِ الدمارِ والقتلِ والسبي الذي قام به نبوخذ نصر لبابل.
ولا تُعرَفُ أخبارُ القدس كلما اقتربنا من سقوطِ بابلَ عام ٥٣٩ق.م. ويبدو أن الفوضى دبَّت فيها، وأن بَدْوَ الصحراءِ من النَّقبِ وسيناءَ وأدومَ كانوا يتسرَّبون إليها وإلى مدن يهوذا المُدمَّرة بطريقةٍ غيرِ منظمةٍ طيلةَ ما يقرُب من نصفِ قرن.
كانت هذه النهايةُ المأساوية — التي جرَّها حكامُ القدسِ على أنفسهم وشعبهم — هي المشهدَ الأخيرَ لها في نهاية العصر الحديدي الثاني، والتي لم تكُن لها أيةُ علاقةٍ بالمعتقداتِ الدينيةِ أو بسبب دينٍ جديدٍ هو «الدين اليهودي» كما تحاولُ التوراةُ تصويرَ ذلك. لقد كان العملاقُ البابليُّ آنذاك مشغولًا بسعة إمبراطوريته وتجارتها أكثرَ من أيِّ شيءٍ آخر.
المَنفَى البَابلي: التدْوينُ الأوَّلُ للمَرويَّاتِ التوراتية
لم يُدرِك البابليون (الكلدانيونَ) أنهم أخفوا في جسدهم، بل في موقع القلب، لغمًا اسمه «أهل السبي» سينفجرُ عليهم ذاتَ يوم. كذلك لم يُدرِك «أهلُ السبي» أنهم سيُحولِّون هذا المنفى إلى أكبرِ منعطفٍ في تاريخهم، وأن هذا المنعطفَ هو الذي سيفصلُ بين شعبِ يهوذا الكنعانيِّ والشعبِ اليهوديِّ العبري. وسيتمُّ ذلك عن طريق التدوين … والتدوين فقَط.
لقد وجدَ «شعبُ السبي» أن أفضلَ وسيلةٍ للبقاء هو عَبْر الكلمةِ التي تبقى في بطون التاريخِ أكثرَ من بقاء الإنسان أو الأحداثِ التي يصنعها الإنسان، بل إن بالإمكان تدوينَ أحداثٍ غيرِ موجودة أو ليست لهم وجَعْلَها جزءًا من تاريخهم؛ إذ مَن سيقول لهم غيرَ ذلك عندما يبتعدُ الزمنُ مئاتِ وآلافِ السنواتِ عن تلك الأحداث، أمام ذلك النسيانِ الكبيرِ الذي يَلُفُّ أحداثَ العالمِ القديمِ بسبب شحَّةِ التدوين، واقتصارِه على فئاتٍ قليلةٍ دون أخرى.
وجد شعبُ السبي أن بالإمكان الحديثَ عن تاريخ العالم كلِّهِ من خلالهم، ولِمَ لا؛ فهُم فئةٌ قليلةٌ يمكنُ استنباتُ جذورٍ وهميةٍ قديمةٍ لهم، ويمكنُ الحديثُ عن أول إنسانٍ في الوجود (آدم!) وتتبُّع ذريته وصولًا لهم حتى تصبحَ سلالةُ النسب هذه مرتبطةً بهم … وهو ما لم يَفطن له أيُّ شعبٍ قبلهم.
كان ذلك يحتاج إلى نوعٍ من التهذيبِ والتشذيبِ وإعادةِ الصياغة. أمَّا الأحداثُ التي تخصُّ شعوبًا أخرى فيمكنُ أن تصبحَ لهم بمجرَّد كتابتِها بلغتهم وربطِها بتاريخهم.
كانت اللغةُ السائدةُ آنذاك في الإمبراطوريةِ البابليةِ هي اللغة الآرامية، التي لم تكن بعيدةً عن الكنعانية، لكنَّ ميزتَها الأساسيةَ المرنةَ في طريقة كتابتها وسهولة تداولها؛ ولذلك دَوَّنَ أهلُ السبي أولى مروياتِهم الشعبيةِ باللغة الآرامية، وستُصبحُ هذه المروياتِ نواةَ التوراة.
ولم يكُن بالإمكان اعتبارُه إلَهَ البشريةِ كلِّها؛ لأن الأمرَ ما زال متعلقًا بِلَمِّ مجموعةٍ من الناس معرَّضةٍ للفناء.
كان الأمر يتعلق إذن بصناعة دينٍ جديدٍ تُوضعُ في المنفى البابلي خطواتُه الأولى، ثم تكتملُ صناعتُه في زمنٍ لاحق. وكانت هذه الخطوةُ ردَّ فعلٍ ذكيًّا على آخر مرحلةٍ من مراحل نهاية شعب يهوذا.
لكن يهوياكين تُوفِّي بعد زمنٍ فوضع الكهنةُ من أهل السبي أملَهم في ابنه (شألتيئيل)، الذي عاصر ملوكَ بابلَ الآخرينَ الضعفاء (نرجال شار أوصر، ثم لباش مردوخ). وهكذا أصبح شألتيئيل هو المسيحَ المنتظَر، وبذلك نشأَت سلالةٌ ملكيةٌ باطنيةٌ جديدةٌ ليهوذا ترفع ملوكَها إلى مستوى المسيحِ المخلصِ المنتظَر. وكان هذا يترافقُ مع جهدٍ كانت تبذله المؤسسةُ الدينيةُ لأهل السبي من خلال الاستمرارِ بظهور من تُسمِّيهم بالأنبياء (الذين لا نعرف عنهم في الآثار شيئًا)، ومن خلال جهدٍ منظمٍ دقيقٍ كانت تقوم به مؤسسةُ الكهنةِ وعلى رأسهم «الصدوقيون» الذين بذلوا جهدًا عظيمًا في الجمع بين ترشيحِ الملكِ المسيحِ وربطِه بالمؤسسةِ الدينية.
الدَّورُ الغَامضُ للملكِ البابليِّ نبونائيد
كانت الأحداثُ تجري متسارعةً في بابلَ العاصمةِ أيضًا؛ فقد خلع الكهنةُ الملك الصبي «لباش مردوخ» الذي حكم تسعة شهور، وقرَّروا هم تولِّي الحُكْم من خلال تعيينهم لكاهنٍ ناشطٍ اسمه «نبونائيد أو نبونيد» (٥٥٦–٥٣٩ق.م.)
كان نبونائيد مجهولَ الأبِ وكانت أمُّه هي الكاهنةَ العليا لإله القمر (سين) في حرَّان؛ ولذلك نُرجِّحُ أن يكون أبوه هو «نبوخذ نصر الثاني»، الذي ربما مَثَّل دَورَ الإله مع الكاهنة العليا (التي تقوم بدور الإلهة) في طقوس الزواج المقدس في حرَّان … ربما في عيد رأس السنة الحراني.
وكانت حران، منذ زمنٍ بعيد جدًّا، مشهورةً بعبادة إلَه القمر الذي هو إلَه المدينة الرئيسي وكان فيها معبدُ اﻟ «هلهول»؛ المعبدُ الأكبرُ لإله القمر. ولعل حرَّانَ كانت تابعةً دينيًّا ذاتَ يومٍ لمدينة أور مركز عبادةِ إلَهِ القمر أيامَ السومريين.
تركَت أم نبونائيد (أدد كبي) في حرَّان لوحًا شاهدًا على سيرتها أوضحَت فيه كيف أنها علَّمَت ابنها كهانةَ إلَهِ القمر، وكيف أن عُمرَها امتدَّ إلى ١٠٤ سنوات، وأنها عاصرَت آشور بانيبال حتى رأت ابنَها ملكًا على بابل، وكيف رَمَّمَ واعتنى بمعبدِ الهلهول.
تُحيط بشخصية نبونائيد أحداثٌ غامضة، وتحفُّ دعوتَه الدينيةَ أسرارٌ ما زال الكشفُ عنها صعبًا ومعقدًا، وربما كان الكشف عنها مَدْعاةً لإعادة النظر كليًّا بالديانة اليهودية وأصولها؛ فعلى الأرجح أن نبونائيد لعب دورًا مُهمًّا في إعادة صياغة ديانة يهوذا، وتحويلها إلى الديانة اليهودية..
لقد كان نبونائيد مُوحِّدًا، وقد أدرك ببصيرته الثاقبة أن مَأزِقَ بابلَ الحقيقيَّ ليس سياسيًّا، وأن عقيدتَها الدينيةَ كانت بحاجةٍ إلى ثورة جذريَّةٍ لكي تجابه نزعاتِ التفريدِ اليهوذية (من خلال يهوا) ونزعاتِ الثنويةِ الزرادشتية (من خلال إِلَهَي النورِ أهورمزدا والظلامِ أهريمان) وكان لا بُدَّ من القيام بثورةٍ توحيديةٍ تنطلقُ من أرض بابل.
كان نبونائيد قد تربَّى في أحضان عقيدةِ أمِّه (أدد كبي) النَّزَّاعةِ نحوَ التوحيدِ من خلال تفريدِها للإله «سين»، واعتبارِه أعظمَ الآلهةِ وأعلاهم. أمَّا هو فقد قرَّر، على ما يبدو، الإطاحةَ نهائيًّا بجميع آلهةِ بابل، وإعلانَ الإلهِ سين (إلَهِ القمر) إلهًا واحدًا للعالم كله.
ورغم أننا لا نملك أدلةً كافيةً ومفصَّلةً عن دعوته هذه، لكنَّ شَذرَاتٍ منها ومن سيرتِه تدُل على هذا. لقد شعَر نبونائيد أن الإله مردوخ لم يعُد صالحًا لتقديم عقيدةٍ دينيةٍ جديدة؛ ولذلك رفض المشاركةَ في احتفالاتِ رأسِ السنةِ البابليةِ لعدم إيمانِه بمردوخ.
وكان كهنةُ بابلَ ينظرون إلى عقيدتِه وتصرُّفاتِه بريبةٍ وخوف؛ ولذلك دبَّروا فاجعةً هائلةً له ولبابلَ يوم تآمروا مع كهنة أهل السبي داخل بابل واتصلوا بالفرس، وكان أهل السبي قد سبقوهم إلى ذلك في اتصالاتٍ سريةٍ مع الفرس، للإطاحة بنبونائيد وحكمه، والتخلص من الدين الجديد الذي كان يبشِّر به في حرَّان ويثرب وخيبر وتيماء وددان … إلخ؛ حيث انقطع للعبادة والتبشيرِ في مدن وضواحي جزيرة العرب.
وهكذا أعدُّوا هاويةً لعقيدة نبونائيذ التوحيدية، وقد حسبوا أنها ستكون له فقط ولدعاته، ولكنَّ الهاويةَ ابتلعَت بابلَ كلَّها وابتلعت تاريخَ وادي الرافدَين كلَّه يوم سقطَت بابل، ومعها سقطَت آخرُ حضارةٍ كبيرةٍ لوادي الرافدَين. وذهبَت أوهامُ كهنةِ مردوخَ سُدًى؛ إذ إن الفاتح الإخميني كورش ومن تلاه قَدَّمُوا، شكليًّا، الولاءَ لمردوخ في بداية احتلالهم، ثم فرضوا عبادة أهورامزدا إلَهِ فارس الجديد الذي كان يمضي باتجاه التوحيد.
وهكذا أفلتَت من بابلَ أعظمُ فرصةٍ تاريخيةٍ كان يمكن أن تقوم بها؛ ألا وهي فرصةُ دعوةِ التوحيدِ التي تقوم على أسسٍ لاهوتيةٍ راسخة. وتلقَّفَ هذه الفرصةَ أنبياءُ يهوذا وفارس في صيغٍ مربكةٍ للتوحيد؛ فهي بين أن تكون صيغًا تفريدية أو غارقة في أشباح التعدُّديةِ القديمة.
لكن نبونائيد، يقينًا، كان قد أثَّر في صياغة العقيدة الجديدة لشعب السبي الذي كان يفتقر إلى كاهنٍ وملكٍ عظيمٍ مثل نبونائيد. وربما كان ذلك الرجلُ المؤسسَ الحقيقيَّ للعقيدة الجديدة، لكنَّ أهلَ السبي وضعوا ثقتَهم السياسية بعدُوِّه (كورش) الذي جعلوا منه المسيحَ المنتظر، وهذا ليس غريبًا على كتَبةِ التوراةِ وأهلِ السبي واليهود لاحقًا.
وإمعانًا في موت بابلَ وإزاحتِها من مركز التاريخ أصبح تشويهُ تراثِها ونصوصِها، بل ونهبُ ما استطاعوا من هذا التراثِ وطَمْر بابلَ وشتْمها والدعاء عليها بالفناء، (انظر أسفار العهد القديم) وكل ذلك لأن بابل تُشكِّل ضميرًا خفيًّا وعقدةَ ذنبٍ لكل من مسَّها أو أخذ منها سطرًا أو كلمة.
وسيجود الزمن، ذات يوم، بالعظماء من الآثاريينَ والباحثينَ الذين سيكشفون سرَّ بابلَ في أواخرِ أيامِها وسرَّ عقيدتِها التي اغتيلَت في مهدها بعد أن نُهِبَت مادتُها، وربما ستتوفرُ فرصةٌ أوسعُ لنا للحديث عن هذا الموضوع.
من اليهوذيَّةِ نَحْوَ اليهوديَّة
كانت العقيدةُ الجديدةُ التي ظهرَت في أواخر سِني مملكةِ يهوذا — والتي يُمكِن تسميتُها «اليهوذية» أو «اليهوية» قبل السبي — تتمثَّل في العبادةِ غيرِ المنظمةِ والمرتبكةِ للإله «يهوا» الذي نرى أنه كان إلَهَ القبائلِ البدويةِ المتاخمةِ ليهوذا، قبل انتقاله ليهوذا، وخصوصًا قبيلةَ مَدْين. وهو صورةٌ صحراويةٌ من صور بعل. وكانت عبادةُ هذا الإلهِ التي نمَت في أحضانِ عبادةِ بعل الحيثيةِ اليبوسيةِ في أورشليم — مع تأثيراتٍ صحراويةٍ في تخوم يهوذا — قد تمثَّلَت في مطابقة بعل مع يهوا، أو بالأحرى إحلالِ يهوا محلَّ بعل، ثم افتعالِ حربٍ بينهما وتناقُضٍ بين طبيعتهما.
وكانت عبادة «يهوا» في بدايتها ضمنَ صيغةٍ تعدُّديةٍ مع غيره من الآلهةِ ثم أصبحَت — بحكم تكريسِها المستمر — تفريدية. واستمرَّت على هذا الشكل حتى السبي.
أما في السبي فقد تعرَّضَت عبادة يهوا إلى نقلاتٍ منتظمةٍ أدَّت فيما بعد السبي إلى جعل يهوا إلهًا واحدًا للعالم، مع احتفاظِهم بفكرة كونِه إلهًا خاصًّا بهم، عن طريق فكرة «الشعب المختار»؛ أي إنهم شعبُه المختار.
والحقيقة أن إرميا هو الذي أسَّس العمقَ التراجيديَّ للتيهِ اليهوذي، وهو الذي، بمراثيه، استطاع جَعْلَ اليهودِ يتفقونَ على مأساتهم ويعترفونَ بذنوبهم؛ فقد جاء التصريحُ بدمار أورشليمَ على أنه عقابٌ إلهيٌّ على أهلِها تتقبلُه على لسان إرميا مؤسسًا أولَ نواةٍ مأساويةٍ في تاريخ يهوذا، وكانت هذه النواةُ ضروريةً لخلق ديانةٍ جديدة، بل إنها كانت السببَ لأن تتحول الديانةُ من اليهوية (اليهوذية) إلى اليهودية فيما بعدُ: «ولماذا يشتكي الإنسانُ الحيُّ الرجلُ من قصاص خطاياه. لنفحص طُرقَنا ونمتحنها ونرجع إلى الربِّ، لنرفعَ قلوبَنا وأيديَنا إلى الله في السماوات. نحنُ أذنَبْنا وعصَيْنا وأنت لم تَغفِر. التحفتَ بالغضَب وطَردْتَنا. قتلْتَ ولم تُشْفِق. التحفْتَ بالسحاب حتى لا تنفُذَ الصلاة.
ثم يقول:
هذه هي صورةُ المأساةِ التي رسمَها أولًا إرميا، ثم ظلَّت ترافقُ اليهود أينما وُجِدُوا، ولعل صورةَ المأساةِ هذه هي التي دَعَت كتَبةَ التوراةِ في بابلَ إلى تَتَبُّع جذورِها في الماضي، وربط ما ليس لهم من مآسي ودمارِ الشعوب والأممِ القديمةِ بهم وبتاريخهم، من تاريخ التشرُّدِ المزعومِ مع إبراهيمَ وأولادِه في مصر، حتى تاريخِ التشرُّد المزعوم في مصر وسيناء مع موسى، حتى مآسيهم مع شاءول وداودَ وسليمان. كلُّ هذا التاريخِ التراجيديِّ الموهومِ في الماضي كان نتاجَ حاضرِ التراجيديا الحقيقيِّ بعد سقوطِ أورشليمَ بيد البابليينَ وما بعد السبي. وكان هذا الحاضرُ هو الزمنَ الذي كُتِبَت فيه بعضُ أسفارِ التوراة، فَلِمَ لا يلُفُّها الحزنُ الشديدُ والملاحقةُ والمآسي، خصوصًا أن نبيًّا صريحًا مثلَ إرميا قد شكَّل، كتابيًّا، النواةَ التراجيديةَ للمأساةِ اليهودية.
وتُسيطِر صورةُ المرأةِ الزانيةِ على تشبيهاتِ حزقيال بحيث إنها تغَطي سِفرَه كله. وتُعطينا هذه الصورةُ انطباعًا واضحًا حولَ عبادةِ تعدُّدِ الآلهة التي كانت عمادَ الديانةِ اليهوذية قبل السبي؛ حيث كانت تُعبَدُ آلهةٌ عديدة؛ منها آلهةُ الغزاةِ والجيرانِ مع يهوا.
وأضاف حزقيال لذلك ما يمكن أن تفعلَهُ أورشليمُ وشعبُها إذا حاربت تحت راية يهوا المحارب، ربِّ الجنود. كذلك ساهم حزقيال بضبط الطقوس والشعائرِ الجديدةِ وتأصيلِها، خصوصًا شعائرَ التطهيرِ وأصول التقديس، وهكذا أصبحَتِ الشعائرُ مقدسةً ثابتةً لا يجوزُ التخلِّي عنها، وهو ما جمعَ أهلَ السبي حولَ نواةٍ شعائريةٍ ذَوَّبَت بينهم الفوارق الإثنية، وجعلَتْهم يشعرونَ أنهم أهلُ دينٍ مميزٍ عن بقية الشعوب.
رُؤيَا حزْقِيال (أُورشَليم: مِن الخَرابِ إلى اليُوتُوبْيا)
يتحدَّث سِفرُ حزقيال بنشوةٍ فريدةٍ منذ الإصحاح ٤٠ وحتى الإصحاح ٤٨ عن يوتوبيا أورشليم متجاوزًا خرابَها في رؤيا حدثَت له بعد ربعِ قرنٍ من السبي ليصفَ لنا مدينةَ أورشليمَ الحُلم التي يتمنَّى أن يراها، ويسمِّيها اسمًا يوتوبيًّا أيضًا هو «يهوه شمه».
كان لا بُد من العبور على أورشليمَ المُخرَّبةِ لصنع أورشليمَ الخياليةِ حتى تُصبِحَ جزءًا من أمل الشعب المَسْبي. وبذلك يكونُ حزقيال قد أعطى لأهل السبي فسحةَ أملٍ يجتازون بها بؤسَهم. وهو ما أسهمَ أيضًا في صنع اليهودية كدين، ولكن حزقيال لا يذكُرُ أورشليمَ بالاسم بل يسمِّيها المدينة، رغم أنه يقولُ في بداية كلامِه إنها في أرض إسرائيلَ وليس يهوذا! وهو أمرٌ مثيرٌ للاستغراب والتساؤل.
والرؤيا هي وصفٌ هندسيٌّ لما يريدُ أن تكونَ عليه المدينةُ ووصفُ طقوسِها وكهنوتِها وشعائرِها. والحقيقةُ أن هذه الرؤيةَ لمدينةٍ صافيةٍ نقيةٍ تُؤَدَّى فيها كُلُّ الشرائعِ والمتَّسمة، بين أهل السبي، بنوعٍ من العدالة وذاتِ الأبوابِ العديدة … إلخ.
هذه الرؤيا كانت تَشحَذُ في نفوسِ أهل السبي الأملَ بالعودة؛ ولذلك كان أَوَّلُ شيءٍ فعلوه بعد العودةِ هو بناءُ الهيكلِ والمدينة.
وتتكامل رؤيا حزقيال مع الرؤيا التي قدمها «سفر إشعيا»، وخصوصًا منذ الإصحاح «٤٠» حتى الإصحاح «٥٥» عندما يتحدث كاتبُ هذه الفقرات عن نهاية عقابِ أورشليمَ وأن جهادَها قد كَمُل، وأنَّ إثمَها قد عُفِيَ عنه، وأنها قد قَبِلَت من يدِ الربِّ ضِعفَين عن كلِّ الخطايا، ولا بُدَّ من العودة إليها الآن، وأنَّ من سيُحقِّقُ هذا هو كورش؛ المسيح المنتظر.
وهكذا هيَّأَ أنبياءُ السبي والمؤسسةُ الدينيةِ وما تَبقَّى من البيت المالكِ جَوًّا جديدًا خلال ما يقرُبُ من نصف قرنٍ تحوَّل فيه أهلُ السبي من عِبادٍ تقليديينَ ليهوا إلى يهودَ لهم نواةُ كتابٍ مقدسٍ وأنبياءُ كبارٌ ولهم مسيحٌ مُحرِّرٌ هو «كورش» ومسيحٌ مُنتظَرٌ هو «زرُبابل».
إضافةً لذلك وجدوا أنفسَهم وسط تراثٍ بابليٍّ وسومري — شفاهيًّا ومكتوبًا — لا حدودَ له، وكان هذا أيضًا مادةً أولية؛ بالإمكان خلطُها مع تراثِهم الخاص، وجَعْلُها مادَّةً لهم.
بدايةُ فِكرةِ الشَّتَات Diaspora
وتشير هذه الحقائق إلى أن القدس بعد تخلُّصِها من أهل السَّبْي لم تَعُد مدينةً للمجتمعِ اليهوديِّ إلا لفتراتٍ قليلةٍ جدًّا، بعد السبي الذي كان فيه مجتمعُ القدسِ حاويًا غيرَ اليهود. ويمكننا القولُ إن فكرةَ الشتات — لا الوطنِ الثابتِ أو الموعود — هي التي سيطرت، عمليًّا، على حياة المجتمع اليهودي. وهي التي شكَّلَت مُناخَهم الاجتماعيَّ والدينيَّ أكثرَ من فكرة الاستقرارِ والمجتمعِ التقليديِّ الدينيِّ أو القومي. ولهذه النقطة أهميتُها في تاريخ القدس التي لم تشهَد، كما عرفنا، تأسيسَ الدينِ اليهوديِّ ولم تكن مدينةً سياسيةً واجتماعيةً لليهود إلا لفترةٍ وجيزة، وكانت هذه المدينةُ، مثلَ غيرِها من مدن فلسطين، مكانًا لهجرة الناس ولقائِهم من جميعِ أرجاءِ فلسطينَ وما حولَها.
المَرجعيَّةُ الآثاريَّة
- (١) عثَر أفيغارد Avigard على البرج (شمال المدينة) وفيه طبقةٌ ثانويةٌ تحتوي على رءوس سهام، وهو ما يشير إلى نشوب حريقٍ عندما هاجمها البابليون.١٨
- (٢) عثَر شيلوح في المناطق G, E على طبقةٍ ثانويةٍ محترقةٍ محطمةٍ في البيت المربَّع، وبيت أهيل والغرفة المحترقة وبيت الكريات، وكانت جدرانُها وأرضياتُها تحتوي على كمياتٍ كبيرةٍ من الموجودات، مثل الفخاريات والأواني الحديدية والحجرية والأدوات العظمية وموادَّ ذاتِ خطوط.١٩
- (٣) عُثر على درزينات من السهامِ الحديديةِ المسطحةِ من النوعِ المحليِّ ورءوسِ السهامِ النُّحاسيةِ المثلثةِ ممَّا يُدعَى ﺑ «النوع السكيثي» في بيوتٍ محترقة.٢٠
والحقيقة أننا لا نستطيع أن نُقرِّر نهائيًّا، من خلال هذه الآثار، حجمَ هذا الغزوِ أو هُويتَه بالتحديد. فقد غُزِيَت مدينةُ القدس، في العصر القديم، مراتٍ عديدة، ولا يمكنُنا الجزمُ المطلقُ بنسبة هذه الآثار (المحدودة) للبابليين حصرًا.
«وفي نهاية العصرِ الحديدي، كانت هذه المدينةُ قد تطورت إلى مدينةٍ مهمَّة، مستقرةٍ حلَّت محلَّ المستقراتِ الأخرى من حيث الحجمُ والعددُ السكاني. وقد كان السببُ الرئيسُ في ذلك حملاتِ الآشوريين، ليس فقط لأنهم دمَّروا البنية الحضرية ليهوذا وتركوا القدس المدينة الوحيدة الباقية؛ فقد كانتِ القدسُ أيضًا المستقرَّةَ الوحيدةَ في المنطقة الأكثرِ اتساعًا التي لم يحتلَّها العدُو الجبَّار، والأهمية الدينية التي نُسِبَت إلى هذه الحقيقةِ يمكن أن تكونَ قد ساهمت في تزايد عدد السكان؛ فالقدسُ ملجأٌ آمنٌ تحت الحمايةِ السماوية. كانت هذه الأهميةُ الدينيةُ على وجه الدقة هي التي منحَت المدينة سببَ وجودها في القرون التي تَلَت الحملاتِ البابليةَ عندما لم تَعُد تملكُ أيَّ قوةٍ سياسيةٍ أو اقتصادية» (شتاينر ٢٠٠٦: ١٥٧).
ثانيًا: القُدسُ تَحتَ الاحتلالِ الفارسيِّ الأخميني (٥٣٩–٣٣٢ق.م.)
ظُهورُ الإمبراطوريَّةِ الفارسيَّةِ الإخمينيَّة (٥٣٩–٣٣٣ق.م.)
كان الفرس، وهم من أصلٍ آريٍّ، قد أكملوا هجرتَهم الكبرى إلى شرق إيرانَ واستقَروا في منتصف القرن التاسع قبل الميلاد قرب أرضِ عيلام، واتخذوا من أرضٍ مرتفعةٍ اسمُها «بارسوماش» مكانًا لهم، وقد عُرِفَت عاصمتُهم الأولى باسم «جمشيذ».
انتهز «إخمينس»، مؤسسُ الأسرةِ الإخمينيةِ الفارسيةِ الصغيرةِ الخلافاتِ المتصاعدةَ بين الآشوريينَ والعيلاميينَ وأخذ في توسيع مملكته الصغيرة.
أما ابنه «تشبيش» (٧٦٥–٦٦٠ق.م.) فقد استولى على إقليم فارس عندما آلَت عيلام إلى الزوال.
كانت ميديا قد عقدَت تحالفًا مع بابل، أسقطَتا به الإمبراطورية الآشورية، في عصر ملكها القوي «كي-أخسار». أما في عهد «أستياجز» فقد تحالفَت بابل مع الفرس (أعداء الميديين). كان الميديون يسيطرون على شمال إيران، وكان ملكهم (أستياجز) ضعيفًا، فقام كورش الأول، ابن تشبيش، بالثورة عليه وخلعه من العرش ونصب نفسه ملكًا على ميديا وفارس، وأصبحَت إيرانُ بأكملها تحت سيطرة كورش الذي كان طموحًا وقويًّا.
قام كورش بفتح مملكة ليديا أولًا، وأخضَعها له، ثم أخضَع السواحلَ اليونانيةَ والمدنَ الأيونيةَ في آسيا الغربية، ووصلَت حدودُ الإمبراطوريةِ الفارسيةِ نحوَ الغرب لمدًى بعيدٍ جدًّا، فاتجه نحو بابلَ وأسقطَها، وبسقوط بابلَ توحَّد غربُ آسيا من البحر الإيجي إلى مشارفِ مصر تحت صولجان حاكمٍ واحد، ويُعتبَرُ سقوطُ بابلَ ثم سقوطُ الشامِ ومصر بيد الفرس الإخمينيين إشارةً إلى نهاية الحكومات السامية الأصل في غرب آسيا، والتي شغلَت التاريخ القديم منذ ٣٠٠٠ق.م. أيْ حوالي ٢٥٠٠ سنة، ومعه بدأ الحكمُ الآريُّ لغرب آسيا وشمال أفريقيا الذي استمَر حوالَي ألف سنة حتى ظهرت رسالةُ الإسلامِ التي أعادت للمنطقة طبيعتَها الأولى مع عقيدةٍ سماويةٍ جديدةٍ بعثَت إبداعَها وحضارتَها على أكمل وجه.
سقطَت بابل عام ٥٣٩ق.م. بيد كورش بسبب ضعف آخِرِ ملوكها بالنيابة بل شاصر (بلثازار) ابن نبونائيد، الذي ناب عن أبيه في بابلَ إثر غياب نبونائيد في مهمةٍ مجهولةٍ داخلَ جزيرةِ العرب.
وكانت إدارة بلثازار سيئةً جدًّا، فتسببت في انتشار المجاعة وتَأَزُّمِ الوضعِ السياسيِّ والديني، واستغل ذلك أهلُ السبي، فأقاموا صلةً مع كورش الفارسي الذي كان يُهدِّد بغزو بابل، وعملوا كمؤيدينَ له عساه يكونُ مُخَلِّصًا لهم من الحكم البابلي، وانضَم كهنةُ مردوخ في تأييد كورش وانتظارِه كي يعيدَ احتفالاتِ رأسِ السنةِ البابلية (أكيتو) التي ألغاها نبونائيد.
وحين دخل كورش إلى بابلَ كافأَ عملاءَه من الكهنة وأهلِ السبي، فأعاد الأكيتو وأمرَ بترميم معبدِ مردوخَ للكهنة، وأمر بإعادة أهلِ السبي إلى القدس ويهوذا، وعَيَّن حاكمًا جديدًا على القدس اسمه «شيش بصر»، وأمره بأخذ ما سُبِيَ من القدس وهيكلها وإعادتها إلى مكانها.
والملاحظ أن هناك الكثيرَ من الأقوام الذين لا علاقةَ لهم بأورشليمَ أو يهوذا، مثل «بنو عيلام، بنو لود، بيت لحم، بيت إيل، عاني، بنو أريحا … وغيرهم»، وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه من أنَّ أهلَ السبي كانوا خليطًا من الأقوام يعكس طبيعةَ سكانِ أهلِ القدسِ الذين هم أصلًا خليطٌ غيرُ متجانسٍ ثقافيًّا ودينيًّا، وربما كانت تجمعهم لغةٌ واحدةٌ هي اللغةُ الكنعانيةُ التي صارت عند أهل السبي لغةً وكتابةً آرامية.
وبدا كورش وكأن الإله «يهوا» هو الذي بعثَه كمسيحٍ مُخلِّصٍ لأهل السبي اليهوذيين كما تقول التوراة، لكنَّ ذلك مخالفٌ للحقيقة؛ إذ إن كورش أصدر أمرًا بعودة كلِّ الأممِ والأقوامِ التي كان البابليونَ قد سَبَوها أثناء السبعينَ سنةً التي حكموا فيها، وكان من ضمن هؤلاء «سبي يهوذا» الذي حاول كتَبةُ التوراةِ أن يصوِّروا أن الأمرَ خاصٌّ بهم.
- (١)
أن كورش لم يتصرف لوحده، بل إنَّ كلامَ الربِّ (الذي نطق به إرميا) هو الذي نَبَّه روحَه، فتكلم وكتب أمرًا بإرجاع السبي!
- (٢)
أن الرب (الذي هو من المفروض إلَه يهوذا فقط) أصبح إلَهَ كورش (الذي كان يؤمن بإلهٍ آخَرَ هو أهورامزدا إلَه النور)، وأن هذا الإلهَ (الذي هو يهوا) أخضع له الأمم، وأوصاه بعد ذلك أن يبنيَ له بيتًا في أورشليم. وكأن كورش يفي بنَذْرٍ ووعدٍ كان قد قطَعه مع «يهوا» وهذا أمرٌ زائف.
- (٣)
يقضي الأمر ببناء بيت الربِّ وليس بإعادة بناء بيت الربِّ الذي كان في أورشليم.
- (٤)
هناك من بَقِيَ في بابل وزوَّده أهلُه أو أقرباؤه بالأمتعة والبهائم.
زربابل: المسيح المنتظر وقائد العودة.
تُعتبَر شخصية «زربابل» مهمةً في هذه المرحلة؛ فقد أدَّت دورًا بارزًا في نهايات السبي في بابل، وبدايات عودة السبي وبناء بيت الربِّ. كان معنى اسم «زرُبابل» هو «أسير بابل»؛ ولذلك فهو يبدو لنا لقبًا أكثر من كونه اسمًا.
كان أهلُ السبي يعتبرون زربابل حفيدَ آخرِ مَلِكٍ مسبيٍّ وهو «يهوياكين»، وكان والِدُه هو «شألتيئيل»، رغم أن سِفرَ أخبار الأيام الأوَل يضعه كابن ﻟ «يكنيا» ابن يهوياقيم.
المهم في هذا الأمر أنه من سلالة ملوك يهوذا، وقد قام كتَبةُ التوراة لاحقًا بنسب هذه السلالة إلى الملك/النبي داود، الذي نتحفظ على عصره ونسبه كما ورَد في العهد القديم!
ومعروفٌ أن كتَبةَ التوراة قاموا، لغاياتٍ تتعلقُ بدمج إسرائيلَ بتراثهم، بجعْلِ داودَ وسليمانَ يُكَوِّنان مملكةً متحدةً من «إسرائيل ويهوذا»، وهو أمرٌ لا تؤيِّده الآثارُ ولا الوقائعُ المادية.
كان زربابل أملَ «أهلِ السبي» في عودة الملوكية إلى يهوذا، ولأن ذلك مستحيلٌ فقد اعتُبِرَ الملك المنتظَر أو المسيح المُخَلِّص ليهوذا، كشكلٍ من أشكال الملوكيةِ الباطنية. وكان النبيانِ حَجي وزكريا قد أيَّداه ودفَعاه حثيثًا إلى أن يكون ملكًا على يهوذا أو أورشليم. وكذلك الكاهن الصادوقي «يوشع بن يهوصاداق» الذي يُمثِّلُ المؤسسةَ الدينيةَ الداعمةَ لملوك يهوذا، وهكذا أُحيط زربابل بكل أَماراتِ القوةِ الدينيةِ لتتويجه ملكًا على أورشليم.
ربما كان هذا هو السببَ الذي أشعرَ الناسَ في يهوذا و«جماعة السامرة» ومجمل «ولاية عبر النهر» بالخوف من أن يهوذا ستستقل وستخرُج على الحُكمِ الفارسيِّ وهو ما سيُسبِّب لها دمارًا جديدًا. وربما أن الفرسَ شعروا باحتمال تتويج زربابل ملكًا؛ ولذلك تعطَّل البناءُ أولًا … ثم عندما أُعيد واكتمل لم يكن زرُبابل مع المُحتفِلينَ واختفى ذكره إلى الأبد.
كان زربابل قد نشأ في بيئتَين؛ الأولى بابلية ذاتُ تراثٍ شعبيٍّ محتشدٍ بفكرة العودة الدورية للإله المخلِّص (تموز)، والثانية فارسيةٌ تؤمن بظهور المخلِّص (الفارقليط) الذي نشأ مع الأفكار الزرادشتية، وهو دين الدولةِ الفارسيةِ الإخمينيةِ الرسمي؛ ولذلك لم تكُن فكرة المسيح المنتظَر المخلِّص وليدةَ المصادفة، بل هي بتأثير هذَين التراثَين أولًا، ثم إنها تنمو، عادةً، في أجواء النكوص وترقُّبِ الخلاص.
قاد زربابل بِنَي الكورة من بابلَ إلى يهوذا والقدس. وكان أول أعمالِهم هو بناء «بيت الربِّ» أو «الهيكل»، فما هذا الهيكلُ؟ ومن هذا الربُّ؟
- (١)
معبدِ إيل إلَهِ إسرائيلَ القديم، والذي لم يكن موجودًا في القدس بل في السامرة.
- (٢)
معبد يهوا الإلهِ الواحدِ ليهوذا، الذي تبلورت شخصيتُه قبل السبي وبعده، والمُرجَّحُ هو الاحتمالُ الأولُ بسبب ورودِ العبارة الآتية في سِفر عِزْرا:
ولم يكن أعداءُ يهوذا وبنيامين هؤلاءِ سوى أهلِ إسرائيلَ والسامرة، فقد اغتاظوا؛ لأنهم رَأَوا أعداءَهم، أهلَ يهوذا، يبنون معبدًا (هيكلًا) لإله إسرائيلَ الذي هو إيل.
ويُحْدِثُ هذا الاستنتاجُ بلبلةً كبيرةً؛ فهم إمَّا حاوَلوا أن يبنوا هيكلًا لإلهٍ أكبرَ هو إيل، الذي هو بمثابة أبي يهوا، لكي يسحبوا البساط نهائيًّا من تحت أهلِ إسرائيلَ والسامرة، وإمَّا أنهم وحَّدوا إيل مع يهوا وتعمدوا تسميته بالربِّ (إلَهِ إسرائيل).
- (١)
زربابل بن شألتيئيل حسب سِفْر عِزْرا، وهو الذي يصفه سِفرُ أخبار الأيام الأُوَلِ بأنه ابن يكنيا ابن يهوياقيم.
- (٢)
يشوع بن يهوصاداق.
- (٣)
الكهنة اللاويُّون.
وبدءوا أولًا بتشييد المذبحِ ثم الهيكل، ويبدو أنهم كانوا أثناء ذلك يبنون المدينةَ وأسوارَها، وكانت يهوذا كلُّها تابعةً لولايةٍ فارسيةٍ اسمُها «عَبْر النهر».
ويبدو أن إعادةَ المباشرةِ بالبناء ظهرَت في السنة السادسةِ من حكمِ الملكِ الفارسيِّ داريوس (دارا الأول)؛ أي في سنة ٥١٥ق.م.
ويقع كتَبةُ العهدِ القديمِ في أخطاءٍ تاريخيةٍ فاحشةٍ فيما يخصُّ تسلسلَ تاريخِ ملوكِ الفرس؛ فهم يثبتونَ «أحشويرش» قبل «دارا» وغيرَ ذلك … مما يدُل على أنهم كتبُوا أسفارَهم المتعلقةَ بهذا الموضوع (عِزرا مثلًا) في فترةٍ متأخرةٍ معتمدينَ على الذاكرة والرواياتِ الشفاهية، وجمعِ ما ليس لهم أيضًا وجَعْلِه باسمهم، وصناعةِ بطولاتٍ وأحداثٍ وهمية، وهو ما ينسحب على كلِّ أسفارِ العهدِ القديمِ من عدم دقةٍ وتلفيقٍ وتحوير.
بعد أن اكتملَ بناءُ «بيتِ الربِّ»، احتفلَ أهلُ السبي في يوم اكتمالِه ودَشَّنُوه بالذبائح، ثم احتفلوا بعيد الفصْحِ وعيدِ الفطير. لكنَّ الأسفارَ لا تذكرُ لنا المكانَ الذي بُنِيَ فيه بيتُ الربِّ في أورشليم. كذلك لا نلمَحُ اسم زربابلَ من بين المحتفلينَ بنهاية البناء، فهل اختفى أو قُتِلَ هذا الملكُ الباطنيُّ لأهل السبي؟ لكن سلالته تستمرُّ فتنتقلُ الملوكيةُ إلى ولده «أبيهود» وهكذا حتى نصلَ إلى يسوعَ المسيح، الذي يفصلُه عن زربابل أربعةَ عشَرَ جيلًا أو أبًا.
حَجي وزكَريَّا: نَبِيَّا العَودة
ومن الجدير بالذكر أن المؤرخَ اليونانيَّ هيرودوتس — الذي عاصر أحداثَ ما بعد السبي والعودة — زار بلادَ الشام في هذه الفترةِ ولم يأْتِ، لا من قريبٍ ولا من بعيد، على الإشارة إلى اليهود وعودتِهم المزعومةِ وبناءِ الهيكل … إلخ. وهو ما يَدْحَضُ كلَّ هذه المروياتِ التوراتية.
نهايةُ القَرنِ السادسِ قَبل الميلاد
كان الربعُ الأخيرُ من القرن السادس خاليًا من الأحداث إذا استثنَيْنَا اكتمالَ بناءِ الهيكلِ في عام ٥١٥ق.م. وبعد ذلك لا نعثرُ على أخبارٍ مُفصَّلةٍ عن القدس. وقد انتهى الأمرُ بفكرةِ مُلوكيةِ سلالةِ بني يهوياقين الذين أُرجعوا إلى داود، إلى نهايتها؛ فبعد النهاية الغامضة لزربابل لم نسمع بالمطالبة بملوكية يهوذا أو انتظار المسيح.
وربما انتصر الكهنة الصدوقيون (الحزب الديني) على زربابل وجماعتِه (الحزب السياسي) وتحولَّت القدسُ إلى مدينةٍ دينيةٍ يسيطر عليها الصدوقيونَ وهي تحت السيطرةِ الفارسيةِ سياسيًّا.
كان تأثيرُ القدس محدودًا جدًّا، بل إنها لم تستطع أن تُحققَ لأهلها، من «أهل السبي» و«الأقوام الذين نزحوا إليها بعد السبي»، أيَّ شيءٍ من تلك الصورةِ اليوتوبية التي رسمَها لها أنبياؤها (حجي وزكريا) وأصبح همُّها محصورًا في رضى الوالي الفارسيِّ عنها وفي دَرْءِ مخاطر «أدومَ» جارتِها، وفيما يتيسَّرُ من عيشٍ هابطِ القيمةِ فيها.
استمرَّ النموُّ البطيءُ للقدس في زمن الاحتلال الفارسيِّ في القرنَين الخامسِ والرابعِ قبلَ الميلادِ حتى ظهورِ الإسكندرِ المقدونيِّ في الشرق حوالي (٣٣٣ق.م.) وسعى سكانُ القدسِ إلى تجنُّب خرابِ جديدٍ من قِبَلِ جيرانِها والتمسُّكِ بحمايةِ الفرسِ لهم.
ولا نعرف على وجه الدقَّةِ ما إذا كانت هناك من أحداثٍ قاسيةٍ قد مرَّت بالمدينة مطلعَ القرنِ الخامسِ قبل الميلاد، ولكن هناك من يُرجِّحُ ذلك.
وعلى مدى هذه الفترةِ التي تتجاوزُ القرنَ ونصفَ القرنِ نجحَ أهلُ السبي في تطويرِ الدينِ اليهوذي إلى الدين اليهودي. وذلك بحكم ابتعادِهم الواضحِ عن السياسة وخضوعِهم الكاملِ للفرس، بل وحمايةِ الفرسِ لهم ولحريتهم في العبادة.
استطاع أهلُ السبي تكوينَ نواتَينِ أساسيتَين لهذا التحوُّلِ الديني؛ الأولى أرضيةٌ هي «بيت الرب» أو الهيكلُ الذي رسخ معه القدس كمدينةٍ مركزيةٍ حتى لو كان ذلك عَبْر اليوتوبيات فأصبحت مركزَ العالم، والنواةُ الثانيةُ سماويةٌ تتمثلُ في كتابة «أسفار التوراة الخمسة».
لقد كان بناءُ القدسِ مستمرًّا، ولكنَّ بناءَ الهيكلِ بعَث فيهم روحًا جديدة، لكنَّ أهلِ السبي تخَلَّوا، نسبيًّا، عن فكرة ملك أورشليمَ الظاهريِّ أو الباطني، وارتضُوا بالوالي الفارسيِّ لولايةِ «عبر النهر» التي كانت يهوذا القدس جزءًا منها.
ولم تكُن هناك حاجةٌ لظهور معبدٍ أو كنيسٍ أو مجمعٍ لممارسة الديانة؛ فقد كان الأمرُ مقتصرًا على القدس، وكان «هيكل يهوا» فيها كفيلًا بذلك. وهكذا ظهرت الحاجةُ أمام محاولةِ ترسيخِ يهوا كإلهٍ واحدٍ وحيدٍ لمحاربة معابدِ الآلهةِ الأخرى والتحريضِ على هَجرِها وهَدمِها، وهكذا رأى أهلُ السبي أنَّ هناك هيكلًا واحدًا للربِّ مثلَما هناك ربٌّ واحدٌ للعالم. وبذلك تصاعدَت أهميةُ الهيكل. ولم تظهرِ المعابدُ والكنيسُ اليهوديُّ إلا في القرنِ الثاني قبل الميلاد كمكانٍ للتربيةِ الروحية؛ لأن الهيكل كان هو المسيطرَ منذ القرن الخامس حتى القرن الثاني قبل الميلاد.
نحميا وإعادةُ بناءِ أسوارِ القُدسِ عامَ ٤٤٤ق.م.
ظهر في هذه الفترة نبيانِ مهمَّانِ هما «نحميا وعزرا». كان «نحميا» ساقيًا عند الملكِ الفارسيِّ «أرتحششتا» في العاصمة سوسة، ثم طلب من الملك التوجُّهَ إلى القدس لبناءِ أسوارِها طالبًا العونَ منه على أن يساعدَه في ذلك ولاة «عبر النهر».
لكن نحميا عاد من جديدٍ إلى أورشليمَ عام ٤٣٢ق.م. واتخذَ تدابيرَ جديدةً أشدَّ صرامةً وعنفًا على مستوى اللاهوت؛ مثل التشديدِ على عدم الزواج من الأجانب، وعدم إهمال يوم السبت، ثم قام بطردِ أحدِ الكهنةِ من أورشليمَ هو «منسي» الذي كان حفيدَ رئيسِ الكهنةِ وصهرَ «سنبلط»، حاكمِ السامرة. وهو الحادثُ الذي حَسمَ العلاقةَ بين أهلِ السبي وأهلِ السامرة كما سنرى.
عِزرَا وتَدوينٌ للمَرويَّاتِ التوراتيَّة (حوالي ٤٤٥–٤٠٠ق.م.).
إِثْرَ تنامي نفوذِ مؤسسةِ الكهنةِ الصادوقيةِ في القدس وإحكام قبضتها على أهل السبي واليهوذيين فيها، ظهر في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد كاهنٌ من بيت «صادوق» اسمه «عِزْرا» وكان لامعًا ومتميزًا جدًّا، فقد أظهر اطلاعًا واسعًا على ما تركه أهل السبي من إرْثِ (سِفر الشريعة) الذي ظهر في عهد يوشيا. وقد هيأته موهبتُهُ الدينيةُ والثقافيةُ للقيام بدورٍ كبيرٍ جدًّا من تاريخ الدين اليهودي، وهو تدوين المروياتِ التوراتيةِ بشكلٍ متسلسل، وذلك بالتعاون مع فريقٍ منتخبٍ من الكهنة اللاويين والكتبة.
قام عِزرا بعمل يشبه عمل هوميروس وهسيودوس بالنسبة للدين الإغريقي؛ فقد جمع أكبرَ عددٍ من المروياتِ الشعبيةِ التي كانت شائعةً في بلاد يهوذا، وعرضَها بطريقةٍ دينيةٍ مركزية، ولكنه لم يكتب كلَّ المروياتِ بل قام، بتشجيعٍ من الكهنة اللاويين، بكتابة «سفرِ اللاويين» والأسفارِ المتعلقةِ بالشريعة (سِفْرَي العددِ والتثنية). أمَّا سِفرُ «عِزرا» نفسه فيرجَّحُ أنه كُتب في العصور اللاحقة؛ لأن مضمونَهُ لا يشير إلى أن عِزرا هو الذي كتَبه.
وتبدو لنا قصةُ أمرِ الملكِ الفارسيِّ أرتحششتا لعِزرا بالتوجُّه إلى القدس — حوالي عام (٤٥٨ق.م.) — مشابهةً لأمر الملكِ الفارسيِّ كورش لزربابل للذهاب إلى القدس، وهو ما يشير إلى ركاكة الرواياتِ الإخباريةِ في العهدِ القديم، ونقلها عن بعضها البعض.
في هذه المرة يظهر أرتحششتا، دون مناسبة، وكأنه المخلِّص الجديد لأهل السبي، فهل يُعقَلُ أن يكونَ مضمونُ رسالتِه إلى عِزرا، بعد ما يقرُب من قرنٍ كاملٍ على عودة أهل السبي، دائرًا حول العودةِ للقدس وجمعِ تبرعات الكهنة وتسليمِ الآنيةِ وما إلى ذلك!
ويصل عددُ الذين عادوا مع عِزرا إلى حوالي «١١٧٢» شخصًا حسب العهد القديم، وعندما وصل عِزرا إلى القدس وجد أن أهل السبي والكهنة قد اختلَطوا بالشعوب الأخرى، وتزوَّجوا من نساءِ الأقوامِ الأخرى المجاورة لهم، وهو ما رآه إثمًا عظيمًا سيُعاقِبُ عليه الربُّ، وطلب منهم أن يستغفروا للربِّ.
إن عقيدةَ منعِ زواجِ اليهودِ من غيرهم ظل أمرًا نظريًّا، طيلة التاريخ، رغم تشدُّدِ الشريعة في ذلك، وكان الأنبياءُ الذين سنُّوا هذه الشريعة، ومنهم «عِزرا ونحميا»، يعتقدون أن دمار اليهود مُتَأَتٍّ من هذه النقطة بالذات؛ فهم شعبٌ خاصٌّ بالإله يهوا (شعب مختار)، وليس من الصحيح اختلاطُهُم بشعوبٍ أخرى تؤمنُ بآلهةٍ أخرى كما يرَون.
وكانت هذه النقطةُ بالذات تدُل على ضيقِ الأفقِ والتعلُّقِ بالأمورِ اللاهوتيةِ ذاتِ الأصلِ الأسطوري، لكنها كانت على ما يبدو جزءًا من التعاليم التي حاولَت بناءَ المجتمعِ اليهوديِّ وَفْقَ طقوسٍ أصوليةٍ ثابتة.
عاد عِزْرا إلى بابلَ واستمر في إعادة كتابة المروياتِ التوراتيةِ بعد أن جُمع له من التراث الكنعانيِّ ما طاب له، وأدخله مع تراث يهوذا السابق والتراث البابليِّ في الأَسْر، حتى تَكَوَّن ما يمكنُ أن نُسمِّيَه ﺑ «نواة التوراة»، التي ضمَّت المادةَ الأوليةَ للأسفارِ الخمسةِ الأولى.
إن كلمة «توراة» مشتقةٌ من الفعل العبري «يَرَشْ» الذي له علاقةٌ بالفعل العربي «ورث»، والذي يقترب بمعناه من الفعل العربي «رأى» الذي يفيد اليقينَ والاعتقاد. وأساسُ التوراةِ هي الأسفارُ الخمسةُ الأولى (التكوين، الخروج، اللاويون، العدد، التثنية)، ثم أضيفَت لها الأسفارُ الأخرى التي ازدادت مع الزمن، ويبلغ الحدُّ الأدنى لكل أسفارِ التوراة «٣٩» سِفرًا وتسمَّى باﻟ «تناخ» واﻟ «مقرا» عند اليهود، ويسمِّيه المسيحيون «العهد القديم» الذي يحمل بالعبرية الاسم الحرفي «توراة الأنبياء والكتَبة»، أي «إرشاد الأنبياء والكتبة».
ونرى أن تداولَ النصوصِ الشفاهيةِ الذي حصل أثناء السبي كان بدائيًّا وبسيطًا، وقد كان باللغة الكنعانيةِ الخاصَّةِ بشعب يهوذا، أو باللغةِ الآراميةِ التي كانت لغةَ تفاهمٍ في الشرق الأدنى بأكمله.
أمَّا التدوينُ الذي قام به عِزرا في بابلَ بعد قُرابةِ ثلاثةِ أرباعِ القرنِ فقد كان باللغة الآرامية، وهي «لغة التلمود» أيضًا فيما بعدُ، وقد بدأ عِزرا بعمله هذا كأنه المرجعُ الكتابيُّ الأولُ لليهود بعد المروياتِ والتعاليمِ الشِّفاهيَّةِ السابقةِ والأبُ الروحيُّ للدين اليهودي. أما ما قبله من عقائدَ وأنبياءَ وكهنةٍ فقد كانوا مادةً أوليةً وأخلاطًا منوعةً شكَّلَت ينابيعَ الدينِ اليهوديِّ الخام.
ولأن عِزرا وُلدَ وتعلَّم وتَثَقَّفَ وكتب كتبه ومات في بابلَ فيمكنُنا القولُ إن اليهودية نشأَت في بابلَ وليس في فلسطين (يهوذا أو القدس)، وإنها رحلَت من بابلَ إلى القدس عن طريق عِزرا ومعاونيه.
واليهوديةُ كديانةٍ لم تكن تسمَّى مطلقًا بهذا الاسم «يهودية»، والتوراةُ كلُّها لا تذكُر اسم «دين يهودي» فقد كان القصد من هذه الديانة هي ديانةَ أهلِ ما بعد السبي (وقد اصطلحنا عليه بالدين اليهوذي)، وتحديدًا منذ حوالي (٤٤٥ق.م.) على ضوء اتخاذِ أهلِ السبي للشريعةِ والكتابِ الذي دوَّنَه لهم عِزرا أساسًا وتعاهَدوا عليه. ثم أصبحوا يُسَمَّون «أهل تورا» أي «التوراتيون».
ومن حقنا أن نثير تساؤلًا منطقيًّا هنا هو: هل كتب عِزرا سِفرَ الشريعة على ضوء سِفر الشريعة الذي عُثر عليه في عهد يوشيا (في القرن السابع ق.م.)، أم أنه تلقَّف آثارَه الشِّفاهيةَ على لسان الكهَنةِ الذين سبقوه، أم أنه مؤلِّفُ هذا السِّفرِ كلِّه ولا وجودَ لسِفرِ الشريعةِ قبل السبي؟ هذه الأسئلةُ تبدو مشروعةً أمامَ خلطِ الأوراقِ الذي يضجُّ به تاريخُ اليهود.
وفي اليوم الثاني جمَع الشعبُ أغصانَ الأشجارِ لعملِ مَظَالَّ لهم (أي ظلال الأغصان لحمايتهم من الشمس) وفي بيوتهم وسطوحهم وساحاتهم، وهكذا صار عيدُ المَظَالِّ كما هو معروف … وتثير فينا هذه الحادثة تساؤلًا موازيًا للتساؤل السابق؛ لأن هذه المناسبة تشبه أولَ حصولِ عيدِ الفصحِ مع يوشيا بعد قراءةِ سِفرِ الشريعةِ أيضًا!
استمرَّتْ قراءةُ الشريعةِ (من قِبَلِ عِزرا) سبعةَ أيامٍ (وهي أيامُ عيدِ المَظَالِّ)، ثم اعتكفوا بعدها في اليوم الثامن.
وقد قام أهل السبي في القدس بقطع ميثاقٍ وكتابته، وختمَ عليه الرؤساءُ واللاويُّونَ والكهنةُ بالالتزام الكاملِ بشريعة الربِّ؛ ولذلك كان ذلك اليومُ هو اليومَ الرابعَ عشرَ من الشهر السابع (في تقويمهم) الذي يصادف في العام ٤٤٥ق.م. وهو يومُ تأسيسِ الدينِ اليهوديِّ الذي يصادف في نهاية عيد المَظَالِّ الأول؛ حيث ظهر الدينُ اليهودي، لأول مرَّة، كدينٍ مُنظَّمٍ وواضحٍ على يد عِزرا.
ويُذكِّرُنا بالطبع هذا الحادثُ بتأسيسِ الدين اليهوذي، لأول مرةٍ أيضًا، قبل ذلك بقرنَين، عندما عثر يوشيا على سِفرِ الشريعةِ كما أسلَفْنا.
ونرى أن الحادثة المتأخرة لعِزرا عام ٤٤٥ق.م. هي التي حصلَت، أمَّا الحادثةُ الأولى ليوشيا عام ٦٣٦ق.م. فنضع عليها الشكوكَ وعلاماتِ الاستفهامِ رغم أننا اعتمدناها في السرد التاريخي.
وهذا يعني أن اسم القُدس له علاقةٌ باسم النذور والتقدُّمات، وهو على وجه التحديد الجزءُ الذي شُرِّف أن يكون في المكان المقدَّس؛ فالشخصُ الواحدُ المنتخبُ من عشرة للسكن في أورشليم هو «قُدس» والتسعة الآخرون ليسوا كذلك. وهكذا يَرِدُ معنى أورشليم مدينةِ القُدس؛ أي المدينة التي يسكنها القسم الذي وقعَت عليهم القرعة من كل بيوت أهل السبي، بواقع واحدٍ من عشرةٍ لكل بيت، إضافَةً لرؤساء الشعب.
ونعتبرُ هذه الإشارةَ فريدةً من نوعها؛ فهي تسبق تاريخًا، ولو على المستوى الشكلي، إشارة نحميا.
ونعود إلى عِزرا لنلاحظَ أنه كما اختفى ذكرُ زربابل في التوراة اختفى ذِكرُ عِزرا كذلك، ولا نعرف لذلك سببًا. ويذكرُ المؤرِّخُ اليهوديُّ يوسيفوس (الذي كتب تاريخ اليهود في القرن الميلادي الأول) أن عِزرا تُوفِّي في يهوذا، ولكن هذا غيرُ صحيح؛ إذ يبدو أنه عاد بعد عيدِ المَظَالِّ وبعد التوقيع على الميثاق إلى بابل، وتُوفِّي فيها عام ٤٤٤ق.م. ودُفنَ فيما يُعرَفُ اليومَ في جنوب العراق ﺑ «مقام النبي عُزير»، وما زال اليهود يحملون تقديسًا لهذا المزار.
اليهوديَّةُ الأصُوليَّة
شهدَت الفترةُ اللاحقةُ لظهور عِزرا ونحميا، تزمتًا شديدًا في الدين اليهودي؛ ففي فترة القرن الأخير من حياة الإمبراطورية الفارسية كان اليهود يُرسِّخون التقاليدَ والشعائرَ الأصوليةَ لشريعة عِزرا كي يضمنوا نموَ مجتمعٍ يهوديٍّ متماسكٍ وقوي.
ومع تَرَسُّخ تعاليمِ الشريعةِ ازدادَ الإصرارُ على اعتبار «يهوا» إلهًا وحيدًا للعالم رغم أنه ما زال الإلهَ القوميَّ لليهود. ولا بُدَّ لنا من الإشارة إلى أن نزعاتِ التوحيدِ البابليةِ والمصريةِ والفارسية كانت قد وُجدَت قبل التوحيدِ اليهوديِّ لكنَّها ارتبطت على الدوام بمركزية الملكِ البابليِّ أو المصريِّ أو الفارسي، وكانت انعكاسًا لطغيانه وجبروته. أمَّا التوحيدُ اليهوديُّ فقد تجاوَز هذه العقبةَ لأنه كان دينيًّا صرفًا، وينطلق من اليأس العميق بظهور ملكيةٍ قويةٍ وكبيرة؛ فلا مُلك ولا دولة ولا أمة واحدة لهم؛ ولذلك كان الذهاب إلى المطلق يسيرًا لا يصطدم بأية عقباتٍ ملكيةٍ أو إمبراطوريةٍ أو جغرافيةٍ أو متعلقةٍ بالاصطدامات العنيفةِ بين الشعوب والأمم الكبرى. ومن هنا ازداد توترُ المطلقِ عند هؤلاءِ القلةِ من الناس (أهل السبي)؛ لأنهم لا يملكون إلا هذه البقعةَ الصغيرةَ من الأرض؛ ولذلك فإنهم بالكلام والخيال يستطيعون امتلاكَ العالمِ والدنيا والآخرة … إلخ. وهكذا دفَعوا بوحدانية «يهوا» إلى أقصاها ونجحوا في ذلك.
وفي أجواءِ مركزيةِ الهيكلِ والربِّ والأعيادِ والشعائرِ هذه نشأَت الأصوليةُ اليهوديةُ متزمتةً مغلقةً على نفسها، ولعل أولى ثمارِ هذه الأصوليةِ هو اضطهادُ السامريينَ ونبذُهم، الأمرُ الذي أدَّى بهؤلاء إلى القيام ببناءِ هيكلٍ في جبل جرزيم ينافسُ هيكلَ القدسِ قُبيل ٣٣٠ق.م. حيث ادَّعى السامريون أنه هيكلُ الربِّ الوحيدِ في أرض فلسطين.
ويشير هذا الحادث، ببساطة، إلى أن إقامةَ فكرةِ الهيكلِ المركزيِّ لليهود لم يكنْ يتعلقُ مطلقًا بما له علاقةُ ﺑ «سليمان» بل ﺑ «الربِّ»، سواء كان يهوا أو إيل، وهو ما قصده السامريون، بل إنهم ذهبوا إلى أبعدَ من ذلك عندما اعتبروا أن جبلَ جرزيم هذا هو الجبلُ الذي قدَّم فيه إبراهيمُ ولدَه قُربانًا وليس جبلَ موريا في أورشليم؛ ولذلك ما زال السامريون يجتمعون إلى اليوم فوق قمتِه ليحتفلوا بعيد الفِصح حيث يقدِّمون الحملَ ذبيحةً ويَشْوون لحمَه ويرتلون صلواتِهم باللهجة السامريةِ القديمةِ التي هي، بلا شك، لهجةٌ كنعانية.
ويبدو أن عام ٣٣٠ق.م. شَهدَ طلاقًا نهائيًّا بين يهود أورشليم واليهودِ السامريين، وما زال هذا بينهم إلى الآن، ومعروفٌ أن سببَ ذلك أصلًا يعودُ إلى استقلالية السامرة الدينية عن يهوذا قبل السبي، وإلى الاختلاف بين العقيدتَين.
وكان من ثمارِ الأصوليةِ هذه أيضًا هجرةُ بعضِ اليهودِ الأصوليين إلى البلدانِ المجاورةِ مثل مصر لتعليم سكانِ يهوذا الذين هاجروا إبَّان السبيِ البابليِّ إلى مصر، والذين كانت عقائدُهم مندمجةً بعقائدِ الأديانِ الأخرى، وخصوصًا الدينَ المصريَّ القديم.
ويبدو أن تأثيرَ الأصوليينَ على هؤلاء كان واضحًا حتى إننا سنرى جاليةً يهوديةً كبيرةً في مصر في العصر الهيلنستي القادم.
ومع بداية القرن الرابع قبل الميلاد دَبَّ الفسادُ في المؤسسةِ الكهنوتية، وبدأَت طموحاتُ الزعامةِ تتناهبُ هذه المؤسسة.
المَرجعِيَّةُ الآثاريَّة: الطبقةُ التاسعة (القَرن ٦–٤ق.م.).
والأمرُ المُحيِّرُ حقًّا هو أنْ لا وجودَ لآثارٍ تؤيدُ وجودَ هذا الهيكلِ الذي كان رمزًا لعودة أهلِ السبي إلى القدس. وهكذا يضعُنا الرنينُ العالي للمروياتِ التوراتيةِ أمامَ مفارقةٍ جديدة … فكيف نستطيعُ الحكمَ على صدق هذه المروياتِ أمام غيابِ آثارٍ متماسكةٍ وواضحةٍ لهيكل ما بعد العودةِ من السبي، أو لنقل لهيكلِ المرحلةِ الفارسيةِ من احتلال القدس. والحقيقةُ أن هذه المبالغاتِ لها علاقةٌ بالمبالغات الكبيرة والخيالية التي تمَّت قبل ذلك، والتي تحدَّثنا عن بعضها.