النعل التي كانت عند السيدة عائشة
ذكرها العلامة الأديب أحمد بن محمد المقري، مؤلف نفح الطيب في كتابه فتح المتعال
في
مدح النعال، الذي ألفه في مثال النعل النبوية وما قيل فيها، وقد أورد لها عدة أمثلة
أقواها في الصحة مثالان: ذكر أن الأول منهما حذي على نعل نبوية كانت عند أم المؤمنين
عائشة (رضي الله عنها)، وأن هذا المثال
١ هو معتمد عدة من الأئمة الثقات: كأبي بكر بن العربي، وابن عساكر، وابن
مرزوق، والفارقي، والبلقيني، والسخاوي، والسيوطي، وابن فهد، وغيرهم. وأتى على ما يثبت
ذلك من الروايات بأسانيدها، ثم صارت هذه النعل الشريفة لإسماعيل بن إبراهيم بن عبد
الرحمن بن أبي ربيعة المخزومي، وسبب ذلك على ما رواه عن الثقات أنها كانت عند عائشة
(رضي (الله) عنها، ثم صارت من قبلها إلى أختها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق (رضي الله
عنهما، وكانت أم كلثوم تحت طلحة بن عبيد الله، فلما قتل يوم الجمل خلفه عليها عبد
الله
٢ بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة المخزومي، وهو جد إسماعيل المذكور الذي كانت
عنده النعل، ثم ذكر نعلًا أخرى كانت بالمدينة، عند فاطمة بنت عبد الله بن عباس (رضي
الله عنهما)، ولم يفصح عما صار إليه أمر هاتين النعلين بعد ذلك.
نعل كانت بالأشرفية بدمشق
ذكروا أنها كانت عند بني أبي الحديد يتوارثونها، ثم صارت للملك الأشرف موسى بن العادل
الأيوبي، فجعلها في دار الحديث الأشرفية التي أنشأها بدمشق
٣، وقد أشار إليها ابن كثير في البداية والنهاية ص٦ في كلامه على النعل
النبوية بقوله: «واشتهر في حدود ستمائة وما بعدها عند رجل من التجار يقال له: ابن أبي
الحديد نعل مفردة، ذكر أنها نعل النبي
ﷺ، فسامها الملك الأشرف موسى ابن الملك
العادل أبي بكر بن أيوب المذكور، فأخذها إليه وعظمها، ثم لما بنى دار الحديث الأشرفية
إلى جانب القلعة، جعلها في خزانة منها، وجعل لها خادمًا، وقرر له من المعلوم كل شهر
أربعين درهمًا، وهي موجودة إلى الآن في الدار الأشرفية».
ونقل سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان (ج٨ ص٤٧١) خبر مصير هذه النعل إلى الأشرفية عن
الملك الأشرف نفسه فقال في ترجمته الواردة في وفيات سنة ٦٣٥ ما نصه: «وكنت عنده بخلاط،
فقدم علينا النظام ابن أبي الحديد ومعه نعل النبي
ﷺ، فعرَّفته بقدومه فقال يحضر،
فلما دخل عليه ومعه النعل قام قائمًا ونزل من الإيوان وأخذ النعل فقبلها ووضعها على
عينيه وبكى، وخلع على النظام وأعطاه نفقة وأجرى عليه جراية، وقال: تكون في الصحبة نتبرك
بك. وانفصلت عن خلاط، وأقام عنده، فبلغني أنه قال: هذا النظام يطوف البلاد وما يقيم
عندنا، وأنا أوثر أن يكون عندي قطعة منها، ثم بات يفكر ورجع عن ذلك الخاطر، ولما أخذ
دمشق حكى لي قال: عزمت على أخذ قطعة منها، فقلت: ربما يجيء بعدي من يفعل مثل فعلي
فيتسلسل الحال ويؤدي إلى استئصالها بالمرة، فتركتها وقلت: مَن ترك شيئًا لله عوضه الله
أمثاله، ثم أقام عندي النظام شهورًا، واتفق أنه مات وأوصى لي بالنعل فأخذت النعل
بأسرها، ولما فتح دمشق اشترى دار قيماز النجمي وجعلها دار حديث وترك النعل فيها، ونقل
إليها الكتب الثمينة، وأوقف عليها الأوقاف الكثيرة» ا.هـ. وذكر المقري في فتح المتعال
رجلًا اسمه أحمد من بني أبي الحديد الذين كانوا يتوارثون هذه النعل رأى اسمه في استجازة
من الشيخ المحدث أبي عبد الله البرزالي تاريخها سنة ٦٠٩ منعوتًا بصاحب نعل رسول الله
ﷺ٤، ثم نقل عن تاريخ البدري في الملك الأشرف ما صورته: «وقد كان شجاعًا كريمًا
جوادًا محبًّا للعلم وأهله، لاسيما أهل الحديث ومنادمة
٥ الصالحين، وقد بنى لهم دار الحديث بالسفح» إلى أن قال: «وجعل فيها نعل
النبي
ﷺ الذي ما زال حريصًا على طلبه من النظام ابن أبي الحديد التاجر».
وممن ذكره العلماء واجتمعوا به من بني أبي الحديد أبو الحسين بن أبي الحديد، ذكره
ابن
عساكر في تاريخ دمشق، وملخص ما نقله عنه المقري في التعريف به أنه أبو الحسين عبد
الرحمن بن عبد الله بن القاسم بن الحسن بن عبد الله بن أبي الحسن أحمد بن أبي الفضل عبد
الواحد بن أبي بكر محمد بن أحمد بن عثمان بن الوليد بن الحكم بن سليمان المعروف بابن
أبي الحديد السلمي الخطيب كان شيخًا صالحًا سليم الجانب سديد السيرة من بيت الحديث
والخطابة، وكان جده الأعلى أبو الحسن بن أبي الحديد من مشهوري المحدثين. قال ابن عساكر
سمعت عنه بدمشق أجزاء ودخلت داره المليحة وقرأت عليه، ورأيت نعل النبي
ﷺ معه،
وكانت ولادته في جمادى الأولى سنة ٤٦٤ بدمشق ووفاته بها نهار يوم السبت مستهل جمادى
الآخرة من سنة ٥٤٦ ودفن في مقابر باب الصغير. ا.هـ
٦.
ونقل المقري أيضًا كلامًا مفصلًا مفيدًا في هذه النعل عن رحلة الحافظ الرحال أبي
عبد
الله محمد بن رشيد
٧ الفهري المغربي السبتي المالكي المسماة: «ملء العيبة مما جمع بطول الغيبة
في الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكة وطيبة» يتلخص في أنه قصد زيارة هذه النعل بالمدرسة
الأشرفية المذكورة للتبرك بها والاستشفاء من مرض أصابه فوجد بركتها، ورأى بالمدرسة
بيتين بُنيا في قبلتها أحدهما عن يمين المحراب به نسخ من المصاحف، والآخر عن يساره فيه
النعل الكريمة، وهي فردة واحدة، وقد جعل لهذا البيت باب مصفح بالنحاس الأصفر كأنه صفائح
ذهب، وعلق عليه كِلل حرير ثلاث خضراء وحمراء وصفراء، ووضعت النعل الكريمة على كرسي من
آبنوس، ثم وضع على النعل لوح من آبنوس، ونقر في وسط اللوح بمقدار ما ظهرت النعل منخفضة
عن اللوح بمقدار النقر، ولا شك أنه بقي منها تحت أطراف اللوح مقدار ما ثبت به تحت اللوح
وما أخذته المسامير التي طوقت به فإن الدائر المحيط بها كله مكوكب بمسامير فضة ويملأ
ذلك الظاهر منها الذي هو منقور عليه بأنواع الطيب حتى إن الذي يلثمها يتمرغ فمه في
طيبها، وقد وكل بها قيِّم له عليها مرة بلغنا أنه أربعون درهمًا ناصرية، وأمر بفتحها
يوم الإثنين ويوم الخميس للناس للتبرك بلثمها. ا.هـ.
ثم ذكر المقري أيضًا أن هذه النعل الشريفة كانت عند أم المؤمنين ميمونة بنت الحارس
الهلالية (رضي الله عنها) مما تركه النبي
ﷺ فتوارثها ورثتُها من بعدها إلى أن
وصلت إلى بني أبي الحديد
٨ وما زال يتوارثونها إلى آخرهم موتًا، وأنه ترك ثلاثين ألف درهم وترك تلك
النعل وولدين له فتراضيا على أن يأخذ أحدهما المال ويأخذ الآخر النعل الشريف فصار يذهب
بها إلى أرض العجم ويفد على الملوك فيتبركون بها حتى رجع إلى خلاط فطلب منه الملك
الأشرف ابن العادل أن يقطع له منها قطعة يتبرك بها، ثم رجع عن ذلك إلى أن آلت إليه
وجعلها في دار الحديث التي ابتناها بدمشق ومما أنشده للحافظ ابن رشيد الفهري في هذه
النعل أنه زارها بالأشرفية:
هنيئًا لعيني إن رأت نعل أحمد
فيا سعد جدي قد ظفرت بمقصد
وقبلتها أشفي الغليل فزادني
فيا عجبًا زاد الظما عند مورد
فلله ذاك اللثم لهو ألذّ من
لما شفة لميا وخدّ مورد
ولله ذاك اليوم عيدًا ومعلمًا
بتاريخه أرخت مولد أسعد
عليه صلاة نشرها طيّب كما
يحب ويرضي ربنا محمد
وأنشد للإمام أبي عبد الله محمد بن جابر الوادي آشى قوله لما رآها بالأشرفية
وقبلها:
دار الحديث الأشرفية لي الشفا
فبها
٩ رأت عيناي نعل المصطفى
ولثمتها حتى قنعت وقلت يا
نفسي أنعمي أكفاك قالت لي كفى
لله أوقات وصلت بها المنى
من بعد طيبة ما أجل وأشرفا
لك يا دمشق على البلاد فضيلة
أيامك الأعياد لازمها الصفا
ولكم يجيرون جررت ولم أخف
ذيلًا وبرح هواي فيها ما اختفى
وأنشد فيها أيضًا أبياتًا دالية للإمام أبي بكر بن محرز تركنا ذكرها لتحريف وقع بها
لم نهتد لصحته.
ومن الحوادث المتعلقة بهذه النعل الشريفة ما وقع
بدمشق من نائب الشام سيف كراي زمن الملك الناصر محمد بن قلاوون، وذلك أنه قرر على أهل
دمشق ما عجزوا عن أدائه فأغلقوا البلد؛ لأنه أدخل في هذه المظلمة أهل الأسواق وحواضر
البلد وأملاكها وحاراتها وأمر بكتابتها ليوظف عليها فضَجَّ الناس وشكوا إلى القضاة
والخطباء والأئمة فتواعد الجميع على الطلوع إلى النائب المذكور، فلما كان يوم الإثنين
ثالث عشر جمادى الأولى (أو الأخرى) من عام أحد عشر وسبعمائة أخذ الخطيب جلال الدين
القزويني صاحب تلخيص المفتاح والإيضاح المصحف الكريم العثماني ونعل النبي ﷺ من
دار الحديث الأشرفية وأعلام الجامع التي تكون بين يدي الخطباء وخرج من باب الفرج ومعه
العلماء والفقهاء والقراء والمؤذنون والأئمة وعامة الناس، فلما وصلوا إلى النائب
واستغاثوا أَمَر بضربهم وقال للجلال القزويني حين سلم عليه: لا سلم الله عليك، وضرب
النقباء الناس ورموا المصحف العثماني والنعل الشريفة النبوية فعندها رجمهم الناس وأخذوا
الجلال القزويني إلى القصر وخلص العوام المصحف والنعل الشريفة والأعلام ودخلوا البلد،
فاتفق بعد عشرة أيام أن عوقب سيف الدين كراي المذكور وقيد وسجن بأمر الناصر محمد بن
قلاوون وناله من الإهانة ما ناله جزاء تهاونه بالمصحف الشريف والنعل النبوية، وفرج الله
عن أهل دمشق وفرحوا بالانتقام الإلهي منه.
مصير هذه النعل مع نعل أخرى كانت معها بدمشق
قال المقري: «وقد فحصت عن أمر هذه النعل الشريفة في زماننا هذا فلم أجد لها عند أحد
ممن سألت خبرًا، وأظن أنها ذهبت في فتنة تيمورلنك حين خرَّب دمشق وأحرقها سنة ثلاث
وثماني مائة حسبما هو مشهور … وقد سئل بعضهم عن تاريخ تخريب تيمورلنك لدمشق، فقال: سنة
خراب، يعني أن لفظ خراب هو التاريخ، وهذا نحو قوله لما سئل عنه سنة قيامه وثورته، فقال:
سنة عذاب. يعني ثلاث وسبعين وسبعمائة، وهاتان توريتان عظيمتان فيهما اتفاق غريب، يعرف
ذلك كل أريب. ثم بعد كتْبي لما ذكرته بمدة وقفت على نور النبراس على سيرة ابن سيد الناس
للحافظ برهان الدين الحلبي رحمه الله، فإذا فيه نحو ما ظننته مع زيادة ونصه: (فائدة)
الذي بقي من آثاره صلى الله عليه وآله وسلم الشريفة الآن فيما نعرفه كان بقي نعلان
بدمشق، كل فردة في مكان، واحدة بالأشرفية دار الحديث بقرب القلعة، أنشدونا لشيخ الإسلام
شيخنا الإمام المحدث أمين الدين الأنفي المالكي
١٠:
وفي دار الحديث لطيف معنًى
وفيها منتهى أربي وسولي
أحاديث الرسول عليَّ تتلى
وتقبيل لآثار الرسول
والفردة الثانية في الدماغية
١١ المدرسية المعروفة للشافعية، ذهبتا في وقعة تيمورلنك لا يدري أين ذهبتا،
والله أعلم. ا.هـ.
قلت: الذي ذكره العلامة عبد الباسط بن موسى العلموي في مختصر تنبيه الطالب وإرشاد
الدارس
١٢ (ص٧) أن تيمورلنك أخذهما في تلك الوقعة ونص ما قال في كلامه على دار الحديث
الأشرفية: «وبها نعل النبي
ﷺ، وكانت عند الإمام نظام الدين أبي العباس أحمد بن
عثمان بن أبي الحديد السلمي مولده بدمشق سنة ٥٦٠، وكان ورثها، أي: النعل من آبائه وكان
الأشرف يقربه ويجله لأجلها ويؤمل أن يشتريها منه ويضعها في مكان ليزار فلم يسمح بذلك،
وسمح بأن يقطع له قطعة منها فامتنع الأشرف حذرًا من التطرق إلى إعدامها، ثم أقطعه
الأشرف وقدر له معلومًا فاستمر كذلك إلى أن توفي سنة ٦٢٥ فأوصى بها للأشرف فأقرها بدار
الحديث الأشرفية، ويقال: إنها كانت الفردة اليسرى، وأن الفردة اليمنى كانت بالمدرسة
الدماغية، ولم تزالا إلى زمن تيمور، فلما دخل دمشق أخذهما».
قطعة كانت عند القاضي عبد الباسط
القاضي زين الدين عبد الباسط بن خليل بن إبراهيم (وقيل: ابن يعقوب) الدمشقي ثم
القاهري ترجمه السخاوي في الضوء اللامع ج٢ ص٦٥١ ترجمة طويلة جاء فيها أنه ولد سنة ٧٨٤
بدمشق أو سنة ٧٩٠ أو التي قبلها والأول أشبه، وتوفي بالقاهرة سنة ٨٥٤ ودفن في تربته
التي أنشأها بالصحراء ونال قسطًا وافرًا من الوجاهة والسؤدد في الدولة، وكان حسن
السياسة واسع الكرم اشترى بيت تنكز
١٣ وأصلحه وأكمله وسكنه وعمر تجاهه مدرسة بديعة انتهت سنة ٨٢٣ ثم قبض عليه
السلطان الملك الظاهر جقمق وأخذ منه قطعة قيل: إنها من نعل المصطفى
ﷺ وأهين
باللفظ غير مرة ثم أطلق فحج وزار وسافر إلى بعض البلاد وعاد إلى القاهرة مستوطنًا لها
إلى أن توفي بها.
قلنا: دار تنكز المذكورة لم تزل باقية إلى اليوم بشارع الخرنفش، وكان يسكنها قاضي
القضاة إبراهيم بن جماعة ثم ملكها القاضي عبد الباسط المذكور وتنقلت بعده من مالك إلى
آخر حتى اشتراها عباس باشا الكبير قبل توليه على مصر، فغير معالمها وجدد بناءها على ما
هي عليه الآن وسماها بالإلهامية نسبة لولده إلهامي باشا ثم اشتراها خليل باشا يكن من
تركة إلهامي باشا ثم اشتراها منه عزيز مصر الخديو إسماعيل وأنعم بها على السادة البكرية
شيوخ مشايخ الصوفية لما أخذ دارهم التي كانت على بركة الأزبكية عند تنظيم شوارعها، وما
زالت إلى اليوم للبكرية يسكنونها، والمدرسة التي بناها القاضي تجاهها ذكرها المقريزي
في
الجوامع باسم الجامع الباسطي، وهو باق أيضًا إلى اليوم ويعرف بجامع القاضي عبد الباسط
وبجامع عباس باشا لتجديده بعض بنائه وبه قبر الشيخ أحمد بن خليل السبكي
المتوفى سنة ١٠٣٢، وكان يتولى الإمامة والخطابة
به، وأما القطعة من النعل الشريفة فقد فصل المقريزي خبرها في تاريخه المسمى لمعرفة دول
الملوك ونقله عنه المقري بمعناه في فتح المتعال فقال:
«ذكر المقريزي المؤرخ المصري رحمه الله في تاريخه المسمى بالسلوك ما معناه أن
السلطان سيف الدين جقمق لما غضب على القاضي زين الدين عبد الباسط وأمر بجعله في
البرج دخل عليه والي القاهرة وأمره أن يخلع جميع ما عليه من الثياب فإنه نقل
للسلطان أن معه اسم الله الأعظم، ولذلك كان كلما همَّ بعقوبته صرفه الله عنه
فخلع جميع ما كان عليه من الثياب والعمامة ومضى بها إلى الوالي وبما في أصابع
يديه من الخواتم فوجد في عمامته قطعة أديم، ذكر لما سئل عنها أنها من نعل النبي
صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم. انتهى المقصود منه. ولعلها كانت من التي
بالأشرفية بالشام، وكان لهذا القاضي الجاه العريض والتصرف في مملكة الإسلام
بمصر والشام وما يليهما فلا يبعد أن يحصل له ذلك منها أو من غيرها من النعال
النبوية التي كانت يتوارثها من خصه الله بها، والله أعلم» ا.هـ. ما ذكره
المقري.
النعل الشريفة التي بدار الشرفاء الطاهريين بفاس
ذكر عصريُّنا العلامة محمد بن جعفر بن إدريس الكتاني المتوفى سنة ١٣٤٥ في كتابه سلوة
الأنفاس ومحادثة الأكياس بمن أقبر من العلماء والصلحاء بفاس (ج١ ص٣٤٣) في ذكر من اشتهر
من صلحاء حومة الجزيرة، وما أضيف إليها دار الشرفاء الطاهريين التي بها النعل الشريفة
النبوية، فآثرنا نقل كلامه بنصه وإن طال لما فيه من الفوائد التاريخية، قال رحمه الله:
«أعلم أن من مزارات هذه الحومة دار الشرفاء الطاهريين الصقليين التي بدرب أبي بكر وهي
الأولى عن يمين الداخل إليه من جهة مصمودة لأن بها الآن نعل رسول الله ﷺ الشريفة
التي كان يلبسها في رجله الشريفة بعينها وذاتها، وكانت قبل بدار أخرى كانت لهم بدرب
الدرج من حومة درب الشيخ، ثم نقلوها إلى هذه وهي في ربيعة في جوف صندوق في مكان مرتفع
في غرفة بأعلى الدار المذكورة معظمة محترمة وعندهم الشهادة بخطوط أئمة كبار أنها نعل
رسول الله ﷺ، وفي الإشراف في ترجمة الشرفاء المذكورين ما نصه:
وبأيدي أصحاب الترجمة من الآثار النبوية
والمتبركات المصطفوية نعلا الرسول ﷺ الكريمتان اللتان كانتا بدقميه الشريفتين
شاع خبرهما منذ أعوام، ولهج بذلك الخاص والعام قال الوالد قدس سره في نظمه عقود
الفاتحة:
ومنهم سادة أبدت صِقِلِية
١٤
مجلاهم وغدت من بعد في ظلم
وشعبة منهم للثم نعلهم
يرى هلال السماء فاتحًا لفم
وفي تأليف للشيخ الإمام الأوحد أبي مالك سيدي عبد الواحد بن محمد الفاسي في السلالة
الصقلية سماه غاية الأمنية وارتقاء الرتب العلية في ذكر الأنساب الصقلية ذات الأنوار
البهية السنية، لما تعرض لذكر بني طاهر عقب الشريف الولي الجليل الأحظى الكفيل الأثيل
ذي القدر السامي والفضل الجلي أبي العباس أحمد بن علي المتوفى سنة ثلاث وتسعين وألف ما
نصه: وسيدي أحمد بن علي المذكور هو الذي كان حائزًا بداره التي بدرب الدرج من عدوة فاس
الأندلسي
١٥ للنعلين الكريمتين اللتين لبسهما جده مولانا رسول الله
ﷺ بقدميه
الشريفتين كما شاع خبرهما منذ أعوام ولهج بذكرهما الخاص والعام، أعاد الله علينا من
بركتهما آمين.
وقد رآهما وتبرك بهما بالدار المذكورة جماعة من أعيان العلماء منهم الشيخ الحافظ
أبو
زيد سيدي عبد الرحمن بن شيخ الإسلام أبي محمد سيدي عبد القادر الفاسي، وذلك سنة سبع
وستين وألف هو وجماعة من الأئمة الأعيان وقيست النعل الشريفة بمثال بشهادة عدلين وكان
المقيس
١٦ له على الأصل الشريف الفقيه العلامة سيدي حمدون المزوار، ونظم ذلك أبو زيد
المذكور في أبيات كتبت على ذلك المثال المحذو عليه، وفي نشر المثاني في ترجمة الشيخ
الفقيه البركة أبي عبد الله سيدي محمد ابن الشيخ أبي زيد سيدي عبد الرحمن
المذكور
١٧ ما نصه: ووجدت بخط صاحب الترجمة نسب لوالده هذه الأبيات الخمسة كتبها على
مثال مقاس على النعل الذي بيد مولاي أحمد طاهر الشريف الحسيني الصقلي نزيل درب الدرج
من
عدوة فاس الأندلس الذي عنده الشهادة بخطوط أئمة أنها نعل المصطفى مولانا محمد
ﷺ،
وهي هذه الأبيات:
نعال بها إذا مست الأرض شُرّفت
بها الأرض عن أفق السموات في الفضل
فما مثلها ذخر وهذا مثالها
طباق الذي للمصطفى كان في الرجل
وعند الصقليين من شرفائنا
بفاس وجدتها فقيست بذا المثل
وفي السبع والستين والألف صنعه
محكم إتقان بشاهدَي العدل
١٨
وشاهده العمراني وهو محمد
وأحمد المزوار قاسه بالأصل
وفيه أيضًا ما نصه: ومن خط بعض أشياخنا رحمه الله رأيت نعل المصطفى ﷺ التي
بدار الشرفاء الطاهريين الحسينيين الصقليين القاطنين بعدوة فاس الأندلس فتبركت بها على
أعلى البدر والحمد لله وتوسلت بها إلى الله في حوائج فما رأيت أسرع إلى الإجابة منها
في
بعضها وأنا أرجو الله في الباقي أوائل سنة أربع وأربعين ومائة وألف وممن عاينها وتبرك
بها من المتأخرين شيخ الجماعة أبو عبد الله سيدي محمد التاودي بن سودة المري، وفي ذلك
يقول:
دار بمصمودة المكارم والوفا
فيها رأت عيناي نعل المصطفى
١٩
ولثمتها
٢٠ حتى شبعت وقلت يا
نفسي أنعمي أكفاك؟ قالت لي كفى
قال في الإشراف: ولعله تمثل بهما مع تغيير في الشطر الأول إذ هما من جملة أبيات للشيخ
الإمام المحدث ابن جابر الوادي آشي نظمها بدار الحديث الأشرفية في دمشق المحروسة، وقد
رأى فيها نعل النبي ﷺ فقبَّلها وقال:
دار الحديث الأشرفية لي شفا
فبها رأت عيناي نعل المصطفى
ولثمتها حتى قنعت وقلت يا
نفسي أنعمي أكفاك قالت لي كفى
لله أوقات وصلت بها المنى
من بعد طيبة ما أجل وأشرفا
لك يا دمشق على البلاد فضيلة
أيامك الأعياد
٢١ ألزمها الصفا
وممن نسبها لابن جابر المذكور المقري في أزهار الرياض، وزاد في آخرها بيتًا
وهو:
ولكم بجيرون جررت ولم أخف
ذيلًا وبرح هواي فيها ما اختفى
وقد قال الشيخ التاودي في حاشيته على البخاري في باب الشرب من قدح النبي
ﷺ من
كتاب الأشربة ما نصه: وقد منَّ الله عليَّ مع حقارتي وضعف تعلقي بالسنة والحديث بأني
رأيت فردًا من نعل النبي
ﷺ ومسحت به وجهي وعيني وذلك في العشرة الأخيرة من
المائة الثانية عشرة، وهذه النعل بدار الأشراف الطاهريين بعدوة الأندلس قرب مصمودة هناك
معروف جدهم بصاحب النعال، وكان السلطان مولاي إسماعيل جبر على أخذها فأعطوه واحدة
وكتموا الأخرى فلهذا لا يطلعون عليها أحدًا، وهي عندهم في ربيعة في صندوق في مكان معظم
محترم، ورأيت حوله خط واحد من العلماء ممن أدركته لا غير، وكتبت حوله فلله الحمد
والمنة، وقد ذكر في نشر المثاني قضية جبر السلطان المذكور على أخذها حيث قال فيه ما
نصه: وفي عام أربعة عشر ومائة وألف شدد في المغرم على أهل فاس السلطان المنصور بالله
مولانا إسماعيل ابن الشريف الحسني فطلب أهل فاس من الشرفاء الطاهريين أن يعطوهم النعل
النبوية يستشفعون بها للسلطان فحملها بعض الشرفاء المذكورين وساروا إلى السلطان
فأحضروها بين يديه ودفعوها له بمكناسة، فعفا عن أهل فاس في تلك القضية، وأخذ السلطان
النعل وأدخلها لداره بقصد التبرك وبنى قبة بداره معلومة إلى الآن تسمى قبة النعال ووضع
فيها النعل في كوم
٢٢، وبقيت النعل عند السلطان مدة حياته ولا أدري ما وقع بها بعد وفاته. ا.هـ.
ومن خط بعضهم ما نصه: الحمد لله ومما وجدته مطوقًا بخدي بيت ساداتنا الشرفاء الطاهريين
الكائنة بالعدوة المجاورة لمصمودة الموضوع فيها نعلا النبي
ﷺ:
يا بني الزهراء يا من في الورى
لهم الجاه الأعز الأشرف
دمتم في نعم لا تنقضي
وسرور عنكم لا يصرف
وها هنا تنبيهات:
-
الأول: بحث صاحب النشر المذكور في كون النعل المذكورة نعل المصطفى ﷺ بأن
الذي يغلب على الظن أن نعاله عليه السلام قد أهلكها الدهر وطول العهد، وبأن
المقري في فتح المتعال ذكر في النعال روايات وأمثلة مما عند السخاوي والزين
العراقي وغيرهما ولم يعرج على مثال هذه النعل التي بيد الشرفاء المذكورين
مع أنه معاصر لها بالزمان والمكان وليست مما يخفى عليه، ومنتهى الأمثلة
التي ذكر سبعة ومثال ما عند الشرفاء المذكورين أصغر منها كلها، ونحوه قول
بعض المتأخرين من الشرفاء القادريين أيضًا في تأليف له في مناقب مولاي عبد
الله الشريف الوزاني لم يصح استمرار طول مكث نعليه ﷺ إلى الآن بعد
المائتين وألف؛ لأن الدنيا جميع ما فيها يفنى إلا أشياء استثنوها من ذلك،
وقد سألت عن ذلك أهل حرفة الدباغة فقالوا لي: إن كانتا من الجلد النيئ غير
المدبوغ فإنه يسوس، وإن كانتا من الجلد السبتي المدبوغ الذي ليس فيه شعر
فإنه يكرف وييبس ويتمزق، وإن كانتا من الجلد الإفرنجي العنان فإنه يكرف
ويتمزق أيضًا ولا أثر لبقاء وجودهما إلى الآن ومن ادعى شيئًا من ذلك فلا
يصدقه العرف في دعواه.
قلت: وفي هذا الذي ذكراه نظر.
- أما أولًا: فقد تقدم أنه شهد لهم بأنها نعل المصطفى ﷺ أئمة
علماء، ويبعد كل البعد أن يشهدوا على غير يقين أو ظن قريب
من اليقين.
- وأما ثانيًا: فإن ما استدلا به على فنائهما لا ينهض، فإن الله تعالى
حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، ولا يبعد أن ينسحب
ذلك أيضًا على بعض ما حل بأجسادهم الكريمة من النعال
وشبهها معجزة لهم، وقد وقع لمولانا إدريس الأكبر دفين
زرهون أنه ظهر جسده الشريف بكفنه عام ثمانية عشر وسبعمائة
ولم تعد الأرض على شيء من الجسد ولا من الكفن المصاحب له،
وكان بين وفاته وظهور جسده على الحالة المذكورة خمسمائة
سنة وأحد وأربعون سنة وثمانية أشهر.
- وأما ثالثًا: فإن الجلد إذا كان محفوظًا مصونًا من الماء والشمس
ونحوهما لا يسرع إليه البِلى بالكلية ولا يبعد بقاؤه هذه
المدة وأزيد منها، وقد رأينا من الكتب المكتوبة ما له نحو
من سبعمائة سنة مع كون كتابته في أوراق من الكاغد ويحل
بأيدي كثير من الناس وتطرأ عليه أنواع من التغييرات كثيرة،
فكيف بجلد البقر أو الإبل الغليظ المصون عن الأيدي
والتغيرات، وعدم ذكر المقري وغيره لهذه النعل لا ينفيها؛
إذ لم يستوعبوا ذكر النعال التي مشى بها عليه الصلاة
والسلام في عمره، وإنما ذكروا منها ما حصلت لهم به رواية
أو نقل لهم فيه أمر وما بقي أكثر مما ذكروا بكثير، وقد عد
جماعة من الأئمة وهم علماء صلحاء رؤيتهم لهذه النعل التي
بيد هؤلاء الشرفاء من أعظم نعم الله تعالى عليهم وتبركوا
بها وشاهدوا بركتها ووجودها، وأي دليل أقوى من هذا فلا
يعدل عنه إلى التجويزات العقلية التي لا مستند لها إلا
الوقوف مع العادة إن سلمت.
-
الثاني: ما زال الناس يتبركون بمثل النعل والقلنسوة والعكازة والسبحة ونحوها مما
ترجى بركته، فأحرى بمرات عديدة ما كان من سيد الأولين والآخرين ﷺ،
وما زالت حوائجه وآثاره عليه السلام بيد الصحابة فمن بعدهم على وجه الحفظ
والأمانة والتبرك بها لا على سبيل الميراث، وذلك معلوم عند من طالع السير
والتواريخ.
-
الثالث: ذكروا لمثال النعل الشريفة خواص عديدة ذكر بعضها في التقاط الدرر تبعًا
للمقري في فتح المتعال، ونصه: ولصورة هذه النعل الكريمة خواص وبركات، فمنها
أن من وضعها على محل وجع يعني بنية صادقة شفاه الله من حينه، وإن أمسكها
متبركًا بها كانت له أمانًا من بغي البغاة، وحرزًا من الشيطان، ومن عين كل
حاسد، وإن أمسكتها صاحبة الطلق بيمينها وقد اشتد عليها الطلق تيسر أمرها في
الحين، ومن لازم حملها كان له القبول التام ولابد أن يزور النبي ﷺ
أو يراه منامًا، ومن سافر به في بر أو بحر فعرضت له آفة خوف أو هلاك نجَّاه
الله وآمنه. ذكر هذه الأشياء الحافظ المقري في فتح المتعال منقولة عن
الأئمة بسندها وذكر قضايا وقعت من ذلك له ولغيره فانظره.
-
الرابع: كثير من الناس اليوم يتطير من رؤية هذه النعل التي بيد هؤلاء الشرفاء
ويزعمون أن من رآها مات بعد أيام يسيرة، ويذكرون لذلك قضايا اتفاقية، ولا
صحة لهذا وإنما هو من تخيلات الأوهام التي لا معول عليها، وقد عاش أبو زيد
الفاسي بعد رؤيتها قريبًا من ثلاثين سنة، والشيخ التاودي أزيد من عشرة
أعوام، نعم هذا أمر جعله الله في نفوس العامة ليصون به هذه النعل الكريمة
من الابتذال والوقوع في يد من لا يُرضى حالُه، ولله تعالى فيما يريد حكم
وأسرار لا يعلمها إلا هو سبحانه، والله أعلم». انتهى بنصه، ولم نغير فيه
إلا بعض أفعال ونعوت وردت مذكرة في بعض العبارات لعدهم النعل من المذكرات
وهي مؤنثة، فجعلناها بالتأنيث.
نعل غير صحيحة
وهي نعل أهداها بعضهم للخليفة المهدي العباسي فظهر له أنها غير صحيحة غير أنه قبلها
وأجاز مهديها سياسة منه، ذكر ذلك ابن شاكر في ترجمته في فوات الوفيات ج٢ ص٢٢٥ ونص
عبارته: وجلس المهدي جلوسًا عامًّا فدخل عليه رجل وبيده منديل فيه نعل فقال: يا أمير
المؤمنين هذه نعل رسول الله
ﷺ قد أهديتها لك فأخذها منه وقبَّلها ووضعها على
عينيه وأعطاه عشرة آلاف درهم فلما خرج قال لجلسائه: ما ترون أني أعلم أن رسول الله
ﷺ لم يرها فضلًا عن أن يكون لبسها، ولو كذبناه لقال للناس: أتيتُ أمير المؤمنين
بنعل رسول الله
ﷺ، فردَّها عليَّ، وكان من يصدقه أكثر ممن يكذبه؛ إذ كان من شأن
العامة الميل إلى أشكالها والنصرة للضعيف على القوي وإن كان ظالمًا، فاشترينا لسانه،
وقبلنا هديته، وصدقناه قوله، وكان الذي فعلناه أرجح وأنجح». انتهى
٢٣.