قيس ولبنى
كانت إذن «قيس ولبنى» أول مسرحية كتبها الأستاذ عزيز أباظة شعرًا، ومثلتها الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى في ٤ نوفمبر من عام١٩٤٣.
وأول ما نلاحظه على هذه المسرحية هو نفس ما لاحظناه من قبل على مسرحية «مجنون ليلى» لأحمد شوقي؛ فالمؤلف لم يغير من وقائع الأسطورة العربية القديمة عن حب قيس بن ذريح ولبنى بنت حباب من بني كعب، بل اقتصر جهده على أن يختار من بين روايات تلك الأسطورة المختلفة، التي أثبتها أبو الفرج الأصفهاني في كتابه «الأغاني»، ما ارتضاه من تلك الروايات، وما أمكن أن يُدخِله في التصميم الفني الذي وضَعه لمسرحيته، وذلك مع أنه كان في مجال الأسطورة الذي يسمح بالتغيير على نحو ما يبدو من روايات صاحب الأغاني نفسه، ومن دراسة الدكتور طه حسين لهذه الأسطورة ولغيرها من أساطير الحب المماثلة التي شاعت عن بيئة الحجاز في العصر الأموي، عندما انتقلت السيادة مع الأمويين من الحجاز إلى دمشق، وتعطل في الحجاز سراة المسلمين، فاتسعت بهم أوقات الفراغ مع وفرة المال الذي كان يفيء عليهم من المسلمين، أو الذي كان يترضاهم به الأمويون (راجع الجزء الثاني من أحاديث الأربعاء لطه حسين)، فظهر بينهم الغزل العذري وغير العذري، ونسجت حوله تلك الأساطير المتشابهة في هيكلها العام عن «قيس بن الملوح»، و«مجنون ليلى»، «وقيس بن ذريح صاحب لبنى»، و«جميل بثينة»، «وكُثيِّر عزة»، وزعيم الغزل الإباحي «عمر بن أبي ربيعة».
ومن البديهي أننا لا يمكن أن نطالب الشاعر عزيز أباظة، بأن يتخيل أحداثًا ومواقف يضيفها إلى أحداث الأسطورة المتوارثة، إن كان قد وجد في تلك الأحداث المروية ما يغنيه عن التخيل والإضافة، وبخاصة إذا ذكرنا أن قصة «قيس ولبنى» تمتاز عن قصة «مجنون ليلى» في الروايات المتوارثة ميزة كبيرة، تُعفي من يتناولها من طرح الكثير من وقائعها جانبًا؛ لما فيها من إسراف وإحالة يبعدان بها عن الروح العصرية المتعمقة التي تحاول أن تغوص من خلال الأساطير خلف حقائق النفس البشرية، والمعاني العميقة للحياة.
فقصة «قيس ولبنى» المروية تستند عن حقائق نفسية وتاريخية لا شك في صدقها، أو على الأقل في مشاكلتها لواقع الحياة العربية من جهة، والإنسانية العامة من جهة أخرى.
فقيس فيما تحكي الأسطورة يمر بديار لُبنى، ويستسقي لُبنى ماء، فتحمل إليه ما أراد، ويبهره جمالها فتعلق بها نفسه ويقول فيها الشعر. ومن الثابت تاريخيًّا أن القبائل العربية كانت ترفض أن تزوج فتياتها بمن يشبب بهن، وإن كنا لا ندري كيف وقع أكثر من شاعر عربي في مثل هذا الخطأ إذا كان ذلك العرف ثابتًا مقدسًا بين القبائل العربية، ولكن هذا على أية حال هو ما جرت به قصة «قيس ولبنى» المروية. والظاهر أن هذا العرف كان من الممكن رغم تأصُّله التغلُّب عليه إذا وضع في الكفة الأخرى ثقل يمكن أن يرجحه، وذلك بدليل أننا نرى «قيس بن ذريح» يلجأ في القصة إلى أخيه في الرضاعة الحسين بن علي؛ لكي يلقي بثقله عند «الحباب» والد لُبنى وقومه. وبالفعل يرسل الحسين مع قيس عبد الله بن أبي عتيق إلى والد لُبنى، فلما كان أهل الحجاز جميعًا في ذلك الوقت من الشيعة الذين لا يمكن أن يرفضوا لابن الإمام علي ولسبط النبي طلبًا، فقد كان من المتوقع أن يستجيب «الحباب» لهذه الوساطة الكريمة، ولكن القصة تأبى هذه السهولة التي تُفقدها رونقها؛ ولذلك نراها تزعم أن «الحباب» قد وجد عذرًا وجيهًا لكي لا يستجيب لما طلب منه عند الوهلة الأولى، فيعتذر إلى رسول الحسين بأنه وإن يكن لا يستطيع أن يرد للحسين طلبًا، إلا أنه لا يستطيع أن ينسى تقاليد العرب وآدابهم التي تقضي بأن يطلب الأب زوجة الابن من أهلها، وبخاصة وأن «ذريح» والد قيس رجل ذو ثراء، وقد جرت الأحاديث بأنه يفضل لابنه زوجة من قبيلته؛ قبيلة «ليث بن بكر» الكنانية، وحباب لا يريد أن يظن العرب أنه قد اختطف قيسًا لابنته طمعًا في مال «ذريح»، وعن غير علم منه ولا رضًا ولا إرادة صريحة ساعية؛ ولذلك يعود الرسول إلى ديار بني كعب ليبذل أولًا مسعاه عند ذريح باسم الحسين بن علي، ويَحمِله على أن يرتحل معه إلى «حباب» ليطلب «لبنى» زوجة لابنه «قيس». وفعلًا ينجح هذا السعي ويتم الزواج، وبذلك ينتهي الفصل الأول من القصة ليبدأ الفصل الثاني؛ فصل حياة «قيس ولبنى» في ديار ليث بن بكر الكنانية، ومع ذريح وزوجته أم قيس. وهنا تصور القصة تلك الظاهرة الإنسانية العامة؛ ظاهرة الأم التي تستشعر الغيرة من زوجة ابنها عندما تحس أنها قد سلبتها حبه، ويزيد واضع القصة من وقائعها تعقيدًا في مهارة، فيزعم أن «قيس ولبنى» لم ينجبا أطفالًا بالرغم من امتداد الحياة الزوجية بهما خمس سنوات، كما يخبرنا بأن «ذريح» لم يكن له ولد غير قيس، وأنه كان بالبديهة حريصًا على أن يكون لقيس ولد تئول إليه ثروة الأسرة، ولا تفارقها إلى أجنبي أو قريب قصي. واستغلت الأم هذا العنصر الجديد الفعَّال لكي توغر صدر الأب على زوجة الابن، وتحمله على أن يطلب إلى ابنه أن يتزوج بثانية، وإذ رفض الابن ذلك لشدة حبه لزوجته طالبه الأب بأن يتسرَّى على الأقل بإحدى الإماء؛ لعله ينجب الولد، ولكن الابن يرفض هذا التسرِّي أيضًا، فتثور ثائرة الأب، ويطلب إلى ابنه أن يختار بين لُبنى وبين والديه، ويعجز الابن عن مثل هذا الاختيار القاسي ويرفضه، فيزداد الأب هياجًا ويُقسم ألا يُظلَّه مع قيس ولبنى سقف واحد، ويعرض «قيس» عدة حلول؛ كأن يغادر هو و«لبنى» منزل الأسرة، ولكن الأب يصر على عناده. وبالفعل يغادر هو الدار ليقيم في العراء، وتتقطع من الابن نياط القلب حتى لنراه يخف إلى أبيه في وهج الشمس ليظلَّه ويصطلي هو نارها بردائه، ويظل على هذه الحالة مدة تختلف فيها الروايات ما بين الشهور والسنوات، حتى يفتر منه العزم في النهاية، ويتغلب جانب البر بأبويه، فيرضخ لحكم القضاء ويُطلِّق «لبنى»، التي تقيم بعد ذلك في خباء مجاور حتى تنقضي عدَّتها، ويأتي أهلها ليحتملوها فتتجدد النار في قلب «قيس» ويبكي ويتوجع، وكأنه قد صحا من حلم لا يريد أن يصدقه، ويتعلق بأذيال لبنى، بل ويقبل على الأرض مواقع أقدام البعير الذي حملها. ويصاب قيس بالشقاء والشرود، حتى أوشك أن يصبح هو الآخر «مجنون لبنى» على نحو ما أصبح ابن الملوح «مجنون ليلى»، ويحتال أهله للأمر، وما يزالون به حتى تروقه فتاة من «فزارة» اسمها هي الأخرى «لبنى»، فيَقبل الزواج منها على مضض، ولكنه لا يدخل بها، ولا ينظر إليها، ولا يطيق الحياة معها، ويغادر دياره ومعه قطعة من نوق أبيه زعم أنه سيقوم ببيعها في نجد ويمتار — أي يشتري — مئونة لأهله بثمنها.
وفي نجد، يشتري منه ناقة رجل اسمه «كثير بن الصلت» على أن يدفع ثمنها في داره التي دعا قيسًا إلى أن يزوره فيها، وأن ينزل عليه ضيفًا بها، ويلقى «قيس» في نجد أيضًا عبد الله بن أبي عتيق نصير الحسين، ويصطحبه معه إلى دار «كثير»، وإذا به يكتشف في تلك الدار أن كثيرًا هذا قد تزوج من لُبنى، التي قبلت الزواج منه بعد أن علمت بزواج قيس من الفزارية، ويلتقي قيس بلُبنى ويتعاتبان. وبعد عدة أحداث ملفقة، تقول هذه الرواية: إن ابن أبي عتيق قد استخدم نفوذ الحسين مرة أخرى لكي يحمل كُثيِّرًا على أن يطلق لُبنى ليستردها قيس، وذلك بينما تنكر بعض الروايات الأخرى كل هذه القصة الأخيرة الخاصة ببيع الناقة، وزيارة قيس للبنى في دار زوجها الجديد وتطليقها، واسترداد قيس لها؛ لتترك قيسًا في شقائه المقيم الذي انتهى إليه أضرابه من المحبين المنكوبين، وعلى رأسهم قيس بن الملوح «مجنون ليلى».
هذه هي القصة التقليدية في بعض رواياتها المختلفة المتضاربة، فماذا فعل بها الأستاذ عزيز أباظة؟ وما الذي أخذه منها؟ وما الذي تركه؟ وهل أحسن الأخذ وأحسن الترك بحيث يستقيم له الفن الدرامي، ويخرج من هذه الأسطورة الجميلة بكل إمكانياتها الخلقية، بأن تدنو بها من صدق الحياة، أو على الأقل مُشاكَلة الحياة والكشف عن مفاهيمها العميقة؟
أما عن الجزء الأول من هذه القصة، وهو الخاص بزواج قيس من محبوبته لُبنى، وإزالة العقبات التي كانت تعترض ذلك الزواج، فإننا لا ندري لماذا أسقط المؤلف ذلك الجزء الهام الذي قال فيه الرواة: إن «الحباب» رفض أول الأمر أن يزوج ابنته من قيس ما لم يأته أبوه ذريح بنفسه خاطبًا، وعلى العكس من ذلك نرى حبابًا في الفصل الأول من المسرحية يرفض أول الأمر رجاء ابن أبي عتيق في تزويج ابنته لقيس، ثم ينقلب فجأة وفي نفس المجلس من الرفض إلى القبول دون أن يستشير أحدًا من ذويه، أو يستجد جديدٌ، فيما عدا بلاغة ابن أبي عتيق اللفظية. وما هكذا تتطور الأحداث وتتغير المواقف في المسرحيات القائمة على بناء درامي سليم، وإنما الأحداث هي التي يولِّد بعضها بعضًا، وقد كان في الأسطورة ما يسعف المؤلف ببغيته الفنية، وذلك بأن يطور الموقف فيعرض المحاولة الأولى كتمهيد نفسي يسبق ببعض الوقت تغيير «الحباب» لموقفه، وبذلك يتجنب هذا الموقف المصطنع غير المفهوم الذي عرضه في مشهد واحد، ورأينا فيه الحباب يتحول فجأة وبغير مقدمات من الرفض إلى القبول.
واستغلال هذا الجزء من القصة على نحو يستقيم به البناء الدرامي للمسرحية، كما يستقيم التطور النفسي لشخصية «الحباب»، كان المؤلف يستطيعه في المسرحية بأحد أمرين: إما أن يكرر مشهد الوساطة فيجعلها تجري أولًا دون حضور ذريح والد قيس مع الوسطاء، ثم يجعلها تدور ثانيًا بحضوره، بعد أن يعود الوسطاء لإحضاره معهم، وإما أن يجمع المشهدين في مشهد واحد كما فعل، ولكن على أن يغيِّر الحوار من أساسه، فيجعل ابن أبي عتيق يبدأ الحباب بأن يُسقط حُجة رفضه الأول بحضور ذريح معهم، وبذلك نفهم أنه قد جرت محاولة سابقة لم تنجح بسبب تمسُّك حباب بضرورة حضور ذريح نفسه، وطلب يد الفتاة لابنه حفظًا لكرامة قبيلة الفتاة.
ومن الغريب أنه بينما يضنُّ المؤلف بمثل هذا المشهد على أهميته في البناء الدرامي، وفي التطور النفسي، نراه يختتم الفصل الأول — الذي ينتهي به هذا الجزء من القصة — بمشهد دخيل مفتعل يعتبر حشوًا فاسدًا، وغير معقول ولا مُشاكِل لحياة العرب، بل ولا لحياة الإنسانية المنظمة كحياة المسلمين على أي وجه. وهذا هو المشهد السادس والأخير من الفصل الأول؛ حيث نرى أهل الفتاة والوسطاء ينسحبون جميعًا ليتركوا قيسًا ولبنى في خلوة مطلقة، مع أنهما لم يكونا قد تزوجا رسميًّا ولا بنَى بها. ومثل هذه الخلوة لا تسمح بها التقاليد العربية حتى بعد عقد الزواج، وما لم يتم البناء. وفي هذه الخلوة، يُسمعنا المؤلف عدة قصائد غزلية يقسِّم كلًّا منها بين قيس ولبنى؛ لينشد كلٌّ منهما جزءًا منها، دون أن نشتم في المشهد كله أيَّة رائحة للحوار الذي يجاوب فيه شخص شخصًا آخر، بل لقد اكتشفنا أن بعض أبيات هذا الحوار كان المؤلف نفسه قد نشرها قبل هذه المسرحية ضمن إحدى قصائده في ديوان «أنات حائرة»، قبل ذلك ببضعة أشهر، وذلك في قصيدة «ليلة وليلة» ص١٠٠ من الديوان. وهذه الأبيات هي:
وإن يكن قد غير في المسرحية لفظتي «وروعتها» و«الدنا» إلى «ونشوتها» و«الربى».
وإن يكن قد غيَّر في المسرحية الشطر الأول إلى «لم نعتنق والهوى يفري جوانحنا».
وأمعن في الدلالة على أن المؤلف لم يحاول أن يكتب في هذا الفصل حوارًا، بل كتب قصيدة بعضها جديد، وبعضها مستمد من قصيدة قديمة، ثم جزَّأها بين قيس ولبنى ليجعل منها حوارًا؛ ما حدث بعد ذلك؛ إذ ضم المؤلف جزءًا من هذا الحوار المزعوم الذي يجري على لسان قيس إلى جزء آخر على لسان لبنى، وجزء ثالث على لسان قيس، وأضاف إلى كل ذلك بيتين ورد الشطران الأولان منهما في مكان آخر من المسرحية، وأكملهما بعجزين جديدين ليُكوِّن من كل هذه المجموعة أغنية «همسة حائرة» التي يغنيها «محمد عبد الوهاب» بمفرده، دون أن نحس فيها تناقضًا أو حوارًا، وهي:
وقد ورد الشطران الأولان من هذين البيتين في ص٩١ من المسرحية على لسان قيس.
ثم تستمر الأغنية قائلة:
وهو في المسرحية جزء من الحوار الذي يجري على لسان قيس في المشهد المذكور على النحو الآتي:
ثم تستمر الأغنية قائلة:
وهذا البيت بنصه يتمم السابق في حوار قيس بنفس المشهد.
ثم تقول الأغنية:
وهذان البيتان يجريان على لسان لبنى ردًّا على حوار قيس السابق في نفس المسرحية، ثم تستمر الأغنية:
وهذه الأبيات الثلاثة تجري في الحوار المسرحي على لسان قيس.
وهكذا يقدم لنا المؤلف الدليل المحسوس على أنه كان أكثر اهتمامًا بأن يكتب قصائد شعرية غنائية منه بأن يكتب حوارًا، بل وأنه قد أدرج في هذا الحوار أبياتًا قالها بلسانه هو، وتعبيرًا عن ذاته في مناسبة عزيزة على نفسه، وهي الحديث عن ذكرياته مع زوجته الفقيدة، وذلك مع العلم بأن فن المسرح من الفنون الموضوعية التي يجب أن يبعد المؤلف فيها ما استطاع عن نفسه، وأن يكتفي باستنطاق لسان حال شخصياته المسرحية، دون أن يتدخل فيما تنطق به ممَّا تمليه الظروف التي يحيطها بها، وإلا خرج المسرح عن طبيعته وأصبح شيئًا آخر قد يكون شعرًا غنائيًّا، كما في هذا المشهد، ولكنه ليس حوارًا تمثيليًّا ولا مسرحًا بالمعنى الفني.
والواقع أن المؤلف قد كتب هذه المسرحية وهو لا يزال غارقًا في ذكرى زوجته الفقيدة، وفيما قاله من شعر في «الأنَّات الحائرة»، سواء ما قاله عن ذكرياته المشتركة مع الفقيدة، أو ما قاله في الحجاز وزيارته له على أثر النكبة التي نزلت به، حتى لنراه يتحدَّث في هذه المسرحية عن عدة أماكن لعلَّه شاهدها بنفسه أثناء زيارته للمدينة، مثل: جبل سلع، ومرج غدير المياه بوادي العقيق، وحاجر والمنحنى، وهما موضعان بالمدينة، ثم وادي العقيق نفسه، المشهور بجماله وخصبه بالمدينة، بل إننا لنحس أنه كثيرًا ما ينسى أنه يكتب مسرحية ويجري حوارًا على ألسنة غيره، فيتحدث على نحو ما تحدث في «أنَّات حائرة» لا في المشهد السابق فحسب، بل وفي مواضع أخرى من المسرحية، على نحو ما نرى قيسًا يتحدث مثلًا في ختام الفصل الثالث عن لبنى التي طلقها ففقدها، حتى لكأنه ينعيها فيقول ردًّا على «أشجع» الذي يحاول أن يخفف عنه ص١٠٩:
فلولا البيت الأخير ما أحسسنا أنه يتحدَّث عن امرأة طلقها، بل عن زوجة فقدها بالموت.
وعلى أية حال، فإن المؤلف لم يضمن مسرحيته بعضًا من شعره الغنائي السابق فحسب، ولم ينس أو يتناس دائمًا أنه يتحدث عن غيره، ويستنطق لسان حاله، ويدون ما ينطق به، بل نراه يجاري أحمد شوقي حتى في تضمين مسرحيته بعض الأبيات والمقطوعات القديمة التي قالها بطل قصته، أو نسبها الرواة إليه. وإذا كان أحمد شوقي قد أجرى على لسان المجنون في مسرحية «مجنون ليلى» قوله القديم لورد الثقفي زوجها:
أو ضمنها قصيدة المجنون التي يحكي فيها قصته مع الظبية، ومطلعها:
وكذلك قول المجنون عن جبل التوباد الذي كان يرعى الغنم على سفحه مع ليلى أيام الطفولة:
فإن عزيز أباظة قد ضمن هو الآخر مسرحيته «قيس ولبنى» عدة أبيات أو مقطوعات من روائع ابن ذريح القديمة، مثل قوله على لسان قيس ص٩٧:
وأجرى أيضًا على لسان قيس ص١٠٧ مقطوعته القديمة الرائعة:
ثم يقتطع البيت الأخير من هذه المقطوعة ليجريه على لسان عامر؛ أحد أفراد قبيلة قيس، وهو يحاوره فيقول ردًّا على الأبيات السابقة ص١٠٨:
وإن كنت لا أدري لِمَ أسقط المؤلف من هذه المقطوعة الخالدة بيتًا كنت — ولا أزال — أعتبره من روائع الشعر العربي؛ لبساطته وقوة تعبيره الساحقة، وهو قوله:
كما نجد تضمينًا آخر على لسان قيس ص١٣٥:
بل ويختتم المسرحية كلها بتضمين هو:
ونحن لا نرى التضمين عيبًا في ذاته، ولكننا نرى فيه دليلًا لا يُدفع على الطريقة التي تتم بها عملية الخلق الفني عند من يلجئون إليه، فهو يدل على أنهم لم يتخلصوا بعد من عبء الذاكرة؛ لكي يخلصوا إلى ملكة الخلق الفني. وقد كان التضمين دائمًا من خصائص المقلدين الذين لا يستطيعون أن يغلقوا مخازن ذاكرتهم، مع أن التضمين والاقتباس، سواء أكان من القرآن أو من مأثور القول، كثيرًا ما ينحرف بالتفكير عن وجهته لكي يمهد للقول المقتبس أو للتضمين، وبهذا يضطرب الفكر؛ وبالتالي قد تضطرب عملية الخلق الفني، كما أن الأصالة تقتضي — بوجه عام — أن يعتمد الكاتب أو الشاعر على أسلوبه الخاص قبل كل شيء؛ لأن أسلوب الرجل هو الرجل نفسه، وكل ذلك ما لم يقصد التضمين لذاته أو لحكمة خاصة.
وإذا انتقلنا في قصة قيس ولبنى — كما عرضها عزيز أباظة في مسرحيته — إلى الجزء الثاني منها، وهو الجزء الذي يصوِّر حياة البطلين الزوجية وما نشب من صراع بين الأم والزوجة على محبة قيس، نلاحظ أنه وإن كان الحوار قد استقام من ناحية الصورة الفنية فجاء سريعًا متلاحقًا لا قصائد ومقطوعات، كما لاحظنا في بعض المشاهد الأخرى؛ كمشهد الغزل المتبادل بين قيس ولبنى، إلَّا أن هذا الحوار قد أعوزه التطور الدرامي بمراحل ذلك الصراع، بحيث نستطيع تتبع حلقاته وما غلفه من مكر ودهاء لفتنا إليهما الرواة القدماء، عندما أخبرونا أن أم قيس لم تخض المعركة ضد زوجة ابنها باسم حبه الذي سلبته الزوجة من الأم، ولا باسم الرعاية التي صرفها الابن إلى زوجته بدلًا من أمه، ولا باسم تقتير من الابن على والديه، في الوقت الذي نعلم فيه أن الأبوين كانا في يسر لا يمكن أن يشكُوَا معه عسرًا ولا تقتيرًا، وإنما قادت الأم هذه المعركة في مكرٍ ودهاء وتظاهُرٍ كامل بالتجرد؛ لكي تستخدم عقم الزوجة وحرص ذريح — كبير الأسرة — على الخلف، في تقويض حياة تلك الزوجة، والتخلُّص منها بالطلاق، واسترداد الابن ومحبته. وكل ذلك بينما نرى الأستاذ عزيز أباظة يستهل الحملة بحديث أناني للأم يفضح أهواءها المغرضة فضيحة كان من الممكن أن تثلم سلاحها لو أن الحوار تطورت فيه تطورًا طبيعيًّا تلك البذرة الأولى، حتى ولو شفعها المؤلف بعد ذلك بسلاح العقم.
وفي حواشي هذا الجزء من القصة تلوح لنا أيضًا بعض علامات الاستفهام التي تتركها المسرحية بغير جواب، ولعلنا نجد لها مثلًا واضحًا في مصاحبة مطيع لعزة عند زيارتهما لدار قريبتهما لبنى، فنحن نعلم أن مطيعًا كان يحب عزة، ولكننا لا نعلم من المسرحية إلامَ تطور هذا الحب، ومتى انتهى إلى زواج، وهل هذه الصحبة كانت قبل أم بعد الزواج. وإذا كانت هذه الصحبة قبل الزواج، فهل تسمح بها تقاليد العرب؟ وفي هذا الفصل الثاني الذي يعالج الجزء الثاني من القصة، نرى المؤلف يغفل أيضًا من الأسطورة القديمة أحداثًا كان يستطيع أن يستغلها استغلالًا دراميًّا رائعًا، في تصوير الصراع الذي قام في نفس قيس بين حبه لزوجته وبرِّه بأبيه، وهي تلك الأحداث التي يرويها الرواة في قصة هجر ذريح لبيته وبقائه بالعراء تحت وهج الشمس، وقيام ابنه بتظليله بردائه، ويتحمل نار الشمس المحرقة، فهذا المشهد الرائع أسقطه المؤلف، وفاجأنا بأن الطلاق قد تم، وإذا كان قد عاد بعد ذلك في الفصل الثالث لكي يشير إشارة خاطفة إلى تلك الأحداث، فإن هذه الإشارة لم تغنِ شيئًا عن القيمة الدرامية التي كان من الممكن أن تنبعث عن ذلك المشهد، وتُصوِّر مدى التمزق الداخلي الذي أصيب به قيس في موقفه الدقيق بين أبيه وزوجته.
وفي الفصل الثالث، يبدأ المؤلف بعرض مشهد غنائي ينشد فيه أحد الرعاة أغنية غرام، ويصاحبه راع آخر يعزف على الناي. ولعل المؤلف قد لجأ إلى هذا المشهد لما يعرفه — وكان يعرفه من قبله أحمد شوقي — من طربٍ من جمهورنا المصري بالغناء. وهذا أمر حق، ومن الممكن أن نجيزه بالرغم من أن فن المسرح الحواري قد انفصل في العالم كله عن فن المسرح الغنائي، الذي أصبحت له منذ عصر النهضة الأوروبية صوره الفنية الخاصة؛ كالأوبرا والأوبريت، ولكن لا أقلَّ من أن تأتي تلك الأغاني في موضعها، وأن يهيئ لها المؤلف الظروف والأحداث حتى تبدو كأنها نابعة عنها، مُعبِّرة عما ينبثق منها من مشاعر، وأما أن يبدأ الفصل مصادفة بهذه الأغنية وذلك العزف، فإن كل مصادفة لا يمكن أن تلتئم مع البناء المسرحي الذي يجب أن يقوم بعضه على بعض، في تسلسل محكم يسميه بعض النقاد «الجبر المسرحي»، بل إننا لنلاحظ أن شخصيات المسرحية أنفسهم قد أساءوا فهم هذه الأغنية، وفسَّروها على أنها تغنٍّ بجمال الغروب، رغم أنها تتحدث عن محبوبة. وينتقل بنا المؤلف من هذا المشهد الذي يبدو دخيلًا إلى مرحلة ثالثة من القصة، وهي مرحلة استرداد الحباب وقومه ابنتهم لبنى من ديار ليث بن بكر، وما جرى في هذه المرحلة من أحداث استقاها المؤلف من الروايات القديمة.
وفي الفصلين الرابع والخامس، تبدأ المسرحية في السير نحو الحل؛ ذلك الحل الغريب غير المعقول الذي أساء المؤلف اختياره من بين الروايات القديمة المتضاربة، فنحن نعلم من هذين الفصلين أن الخليفة معاوية قد أهدر دم قيس إذا هو عاد يحوم حول ديار لبنى، ثم نعلم أن يزيد بن معاوية قد استطاع أن يحمل أباه على إلغاء هذا الأمر بإهدار دم قيس، فتثور قبيلة بني كعب لكرامتها التي أهدرها الخليفة الأموي بإلغاء هذا الأمر، ونعلم ثالثًا أن مالكًا — أحد أبناء بني كعب — قد حاول أن يتزوج من لبنى، ولكنها اعتذرت عن الزواج منه، حتى إذا علمت عن زواج قيس بفتاة من فزارة ثارت وتزوجت هي الأخرى من رجل غريب عن قبيلتها هو «كثير بن الصلت»، ومنذ هذه اللحظة تتتابع المصادفات الغريبة المضحكة.
فقيس بن ذريح يلتقي بالمجنون «قيس بن الملوح» صاحب ليلى على نحو ما التقيا بمسرحية مجنون ليلى لشوقي، ويظل القيسان مصطحبين حتى تنتهي المسرحية خلال تلك الأحداث الخرافية النابية من شراء «كثير» لناقة من قيس، ودعوته لتقاضي ثمنها في داره، والتقاء قيس بلبنى، ثم تدخُّل ابن عتيق باسم الحسين أيضًا لدى كثير لكي يطلق لبنى ويستردها قيس، وسط تناقض عجيب من المشاعر التي نعلم منها أن كثيرًا يكرم لبنى، وأن لبنى لا تنقم عليه شيئًا، وترعى له الود والوفاء، ومع ذلك يقبل كثير أن يطلقها في سهولة مسرفة تُذكِّرنا بقبول ليلى الزواج من ورد الثقفي في مسرحية «مجنون ليلى» لشوقي، وغفلة المؤلف عن الصراع الدرامي الرائع الذي كان من الممكن أن يصوِّره شوقي في نفس ليلى، وعزيز أباظة في نفس كثير.
وعلى أية حال، فإن هذه الخاتمة تعتبر أسوأ خاتمة لتلك القصة الشعرية الجميلة؛ لأنها تقوم على المصادفات والاستحالات النفسية، فضلًا عن مجافاة الاحترام الواجب لشخصيات تاريخية لها جلالها؛ مثل عبد الله بن أبي عتيق حفيد أبي بكر الصديق، ثم الحسين بن علي سبط الرسول، اللذين لا يعقل أن يتدخلا للتفريق بين رجل وزوجته ليستردها زوجٌ سابق، بل إننا لم نحسَّ بأي تمهيد نفسي كان لمثل هذا الحل المضحك.
وتدخل المصادفات على هذا النحو المسرف في تطور المسرحية وتتابُع أحداثها، لم يكن من الممكن أن يسمح بتصوير الشخصيات تصويرًا حيًّا صادقًا؛ لأن تهشم الخطوط الدرامية نتيجة لتلك المصادفات خليق بأن يذهب بالأبعاد الحقيقية للشخصيات، كما أن المؤلف قد فاته أن يستغل في عدة مواضع ذلك الصراع النفسي الذي كان خليقًا بأن يكشف عن أعماق النفوس في الشخصيات الأساسية على الأقل، مثل شخصيات قيس ولبنى وكثير بن الصلت.
وأخيرًا تأتي مشكلة الأداء اللغوي، وهذه مشكلة لا أرى أنها تستحق من الناحية الفنية كل ما تثير من جدل، فالأداء وسيلة لا غاية، والذي يجب أن نتساءل عنه هو: إلى أي حد استطاع المؤلف أن يستخدم الوسيلة التي اختارها في أداء ما يريد أن يؤديه، سواء كانت تلك الوسيلة شعرًا أم نثرًا، وبلغة فصحى أم دارجة أم عامية؟ والواقعية لا تنبع من نوع الأداة المستخدمة، وإنما تنبع من صدق مطابقة ما يجري به الحوار لما يمكن أن يعتمل في نفوس شخصيات المسرحية من أفكار وأحاسيس في الظروف والأحداث التي يحيطهم بها المؤلف؛ أي إن الواقعية تنبع من لسان الحال لا من لسان المقال.
ولكن لمَّا كان كل مؤلف مسرحي يخاطب جمهورًا، فمن البديهي أن يخاطبه بلغة يفهمها ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، وأن يطوع تلك اللغة بحيث تؤدي كل ما يستطيع أن يتسقطه من لسان الحال في دقة ووضوح وتعبير مباشر، وإلا ظلت المعاني والأحاسيس مطمورة في نفوس شخصياته، أو عجزت عن أن تصل إلى نفوس سامعيه أو قارئيه.
وإذن فنحن لا نرى ضيرًا في أن يستخدم الأستاذ عزيز أباظة وأحمد شوقي أو غيرهما الشعر وسيلة للأداء، كما استخدمه من قبل عمالقة أحسنوا استخدامه على نحو رائع، منذ أسكيلوس اليوناني حتى شكسبير الإنجليزي أو راسين الفرنسي، ولكننا لا نرى داعيًا ولا مبررًا للمعاظلة، وتعمُّد الغوص وراء الألفاظ الحُوشية المهجورة؛ لمجرد التظاهر بالبذخ اللغوي على نحو ما يتظاهر بعض الأثرياء بالبذخ في ملبسهم، دون أن ينم هذا البذخ عن أناقة خاصة، أو ذوق متميز، أو رفاهية أكيدة.
وفي هذه المسرحية لاحظت مثلًا في عدة مواضع، أن المؤلف استخدم بعض ألفاظ مهجورة كان من السهل أن يستبدلها بألفاظ أخرى لا تقل عنها فصاحة، ولا تخل بالمعنى أو بالوزن مع امتيازها بالسهولة واليسر، مثل قوله مثلًا ص٧٢:
وقد فسَّر المؤلف لفظة «مصيرًا» في الهامش بقوله: أي محبوسًا من صار يصيره؛ أي حبسه، والصيرة — بكسر أوله — «حظيرة الغنم»، ولكن أنَّى لنظارة المسرح أن يقرءوا أو يسمعوا هذا الهامش؟ وهلَّا كان يغني المؤلف عن هذه اللفظة وعن هامشها لفظة «مسيرًا» بالسين دون الصاد؛ ليستقيم الفهم والمعنى والوزن والقافية في يسر وسهولة.
وقوله في ص١٣٨:
وقد فسر المؤلف في الهامش لفظة «متبولًا» بمجنون، وكان من الأيسر عليه أن لو وضع في بساطة لفظة «مجنونًا» بدلًا من «متبولًا».
وكذلك الأمر في قوله ص١٥٦:
وأوضح في الهامش أن لفظة «جارة» مستخدمة في البيت بمعنى زوجة، ولست أدري لماذا لم يضع لفظة «زوجة» ذاتها في صلب البيت ما دام الوزن يستقيم بها كما يستقيم المعنى.
وكل ذلك فضلًا عن أشباه الجمل المتضمنة مجازات يستخدمها المؤلف أحيانًا للتعبير عن أبسط المعاني التي يمكن أن يعبر عنها النثر في أقصر الجمل، مثل قوله ص٧٧:
فكل هذا البيت لا يعبر إلا عن معنى بالغ البساطة هو: قد كنت يا بني على خطوة من الموت وأنت مريض، وبدلًا من هذا التعبير السريع المباشر راح المؤلف يتحدث عن «برزخ الأخرى» والتواء ليس لهما أي مبرر غير ضرورة حشو البيت، وهو حشو لا يقتصر — لسوء الحظ — على بعض الأبيات، بل يمتد إلى مشاهد بأكملها يمكن أن تُحذف من المسرحية دون أن تنتقص شيئًا، مثل: المشهد الأخير من الفصل الأول، كما أوضحنا من قبل، والمشاهد الأول والثاني والثالث من الفصل الخامس.
وهكذا نخلص من دراسة هذه المسرحية إلى أن المؤلف قد كتبها وهو لا يزال متأثرًا بكارثة فقد زوجة الأولى، وما قال فيها من شعر، كما أنه قد سار فيها على المنهج الذي اختطَّه من قبلُ أحمدُ شوقي في مسرحياته التاريخية والأسطورية، ووقع لسوء الحظ في نفس الأخطاء من ناحية الفن الدرامي، كما تميز بالطاقة الشعرية التي تميز بها شوقي على اختلاف تلك الطاقة.
والذي لا شك فيه أن طاقة عزيز أباظة الشعرية قد وجدت في قصة قيس ولبنى الحافز الذي استمده من تجربته الخاصة، فنبغت تلك الطاقة في عدد من المواقف التي نحس فيها أن الشاعر يتحدث عن نفسه، وعن زوجته التي فقدها، وفكرة الزواج من غيرها، وحبه لتلك الزوجة الفقيدة. وما أقوى الشبه بين طلاق بائن وموت ينتزع الزوجة الحبيبة! وقد سبق أن أوضحنا كيف أن عزيز أباظة استطاع أن يأخذ إحدى قصائد ديوانه في رثاء زوجته؛ ليجريها على لسان قيس ولبنى. وأكبر الظن أنه قد خلع الكثير من خواطره الخاصة على قيس في مواضع أخرى. وهذه حالة شعرية لعلها لم تتوفر لشوقي عندما عرض في بعض مسرحياته لمواقف مشابهة؛ ومن هنا تهزنا حرارة العاطفة وصدقها في عدد من مقطوعات «قيس ولبنى» الغنائية، التي قد تلوح أحيانًا بعيدة عن طبيعة الحوار الدرامي، أو غارقة في بذخ لغوي عسير، ولكنها مع ذلك تشجينا بعاطفيتها الحارة الصادقة، مثل قوله في مطلع المشهد الأول من المنظر الأول في الفصل الخامس على لسان قيس ص١٢٩:
فهذه قصيدة غنائية أكثر منها جزءًا من حوار، وقيس يلقيها وهو واقف وحده على المسرح دون أن ندري إلى من يُوجِّه الحديث، وهل هو يلقي منولوجًا داخليًّا يفصح فيه عن مكنون نفسه، أم أنه يلقي خطبة على الجمهور، فتركيب القصيدة وما تتضمنه من خواطر لا ينم عن النجوى، كما أنها تتضمن في نهايتها أخبارًا تنبئ بالحل الذي ستصير إليه عقدة المسرحية، وهو فصم زواج قيس من الفزارية، وزواج لبنى من كثير بن الصلت. وهذا مثل تطبيقي يؤيد حكمنا على هذه المسرحية من حيث إنها لا تصدر عن فهم واضح محدد للفن الدرامي، وإن نبضت بعض مقطوعاتها الغنائية بالعاطفة الحارة الصادقة، وبخاصة في المواقف التي تتصل بتجربة الشاعر الشخصية.
وأما من ناحية التعبير عن تلك العاطفة الحارة الصادقة، واختيار وسائل ذلك التعبير، فيخيل إلينا أن التكلف والجهد الذي يأخذ به الشاعر نفسه في صياغة شعره، وتصيد معانيه، قد ابتعد به أحيانًا عن تلك البساطة الساحرة القريبة المنال قربًا يعمق من إحساسنا بصدقها، على نحو ما كان يفعل النوابغ من شعراء العرب القدماء، بل وعلى نحو ما كان يفعل بطل هذه المسرحية نفسه قيس بن ذريح. ونضرب مثلًا تطبيقيًّا لهذه الملاحظة الهامة بقول الأستاذ عزيز أباظة في المقطوعة السابقة:
فنحن لا نرى وجهًا للمقابلة بين أول الليل وآخره هنا، ولا نتبين في سهولة كيف يهدأ وقْد الهوى في أول الليل ويحتدم في آخره، وذلك بينما نهتز ونتأثر ونحس في سهولة ويسر بصدق عاطفة قيس بن ذريح، وتلقائية تعبيره، وسهولة مأخذه، عندما نراه لا يقابل بين أول الليل وآخره كما فعل عزيز أباظة، بل يقابل بين الليل والنهار عندما قال في أبياته الرائعة، التي سبق أن لاحظنا تضمين الشاعر عزيز أباظة لها في مسرحيته هذه؛ وهي قوله: