العباسة
وفي سنة ١٩٤٧ نشر الأستاذ عزيز أباظة مسرحية العباسة التي مثلتها أيضًا الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى بدار الأوبرا، وحضرها الملك فاروق، وأنعم بمناسبتها على المؤلف برتبة الباشوية. وقد كتب الدكتور محمد حسين هيكل مقدمة لها.
وقصة العباسة أخت هارون الرشيد من القصص الدرامية البارزة في تاريخ الإسلام؛ وذلك لأن المؤرخين العرب قد ربطوها ربطًا وثيقًا بالنكبة التي أنزلها هارون الرشيد بالبرامكة، وبخاصة بجعفر بن يحيى.
فكبار المؤرخين العرب يكادون يتفقون على أن الرشيد إنما بطش بالبرامكة عامة، وبجعفر خاصة؛ لأنه كان قد عقد لجعفر على أخته العباسة حتى يستطيع أن يجمع بينهما في مجلسه، ويستأنس برأيهما دون أن تكون هناك حرمة في نظر جعفر إلى العباسة، ولكنه اشترط على جعفر والعباسة ألا يخالط أحدهما الآخر، ولا تعدو علاقتهما حد النظر في مجلسه، ولكن جعفرًا خالط العباسة أثناء غياب هارون في الحج، وأعقب منها ولدًا، وعلم هارون بذلك ففتك بجعفر، وألقى بأبيه يحيى وأخيه الفضل في السجن، وصادر أموال البرامكة ونكَّل بهم تنكيلًا.
هذا هو الموقف الرومانسي شبه الأسطوري الذي كان من الممكن أن يستهوي الشاعر، وأن يحصر مسرحيته في حدوده، على نحو ما فعل أحمد شوقي من قبلُ في مسرحية قمبيز، عندما فضَّل على التاريخ الحقيقي العميق أسطورةً أو شبه أسطورة رواها المؤرخ اليوناني القديم هيرودوت، عندما زعم أن قمبيز؛ ملك الفرس، إنما غزا مصر لأنه طلب من ملكها أمازيس أن يزوجه ابنته، فغشَّه فرعون وبدلًا من أن يزوجه ابنته نفريت زوَّجه نيتيتاس ابنة فرعون السابق أبرياس، الذي كان أمازيس قد قتله واستولى على عرشه. وقد جعل أحمد شوقي من نيتيتاس فتاة وطنية فدائية تبرَّعت بنفسها فداء للوطن، وقبلت أن تُزَّف إلى قمبيز باسم ابنة فرعون، ولكن فانيس؛ القائد اليوناني المرتزق الذي ترك جيش مصر وانضم إلى جيش الفرس، لم يلبث أن أفشى السر، وكشف لقمبيز عن غش فرعون، فجرَّد قمبيز جيوشه وغزا مصر.
ولقد حدث بعد نشر شوقي لمسرحية قمبيز أن انبرى الأستاذ عباس محمود العقاد لنقد هذه المسرحية نقدًا عنيفًا، نشره في كتاب «قمبيز في الميزان». وقد بنى الأستاذ العقاد نقده على جهل شوقي بالتاريخ، وعدم حرصه على الإحاطة بحقائقه الكبرى، ونعى عليه أن بنى مسرحيته على أسطورة تزعم أن قمبيز إنما غزا مصر بسبب غش فرعون له في تزويجه بفتاة غير ابنته، وذلك بينما كان لغزو قمبيز مصر أسباب أخرى سياسية وحربية واقتصادية، تتصل اتصالًا وثيقًا بذلك الصراع العنيف الذي كان ناشبًا عندئذٍ بين الفرس واليونان، وحرص كل منهما على السيطرة على أكبر جزء من العالم، كما عاب على شوقي أنه قد أغفل تصوير الهزائم التي مُني بها قمبيز وجيشه في غرب الدلتا؛ مما أصاب أو ساهم في إصابة قمبيز بالجنون. وأخيرًا، عاب عليه أيضًا أنه لم يستخدم في مسرحيته أسماء خالدة عاشت في تلك الفترة، مثل المشرع اليوناني «صولون»، و«قارون»؛ ملك ليديا، الذي لا يزال يُضرب به المثل حتى اليوم بالثراء.
وبالرغم من أن نقد الأستاذ العقاد لمسرحية قمبيز باسم التاريخ لم يَخلُ من تعسُّف واضح؛ لأن المؤلف المسرحي ليس ملزمًا بأن يستقصي كافة وقائع التاريخ وحقائقه، بل له أن يختار منها ما يواتي هدفه الدرامي فحسب، إلا أنه يخيَّل إلينا أن الأستاذ عزيز أباظة — صديق العقاد — قد أمعن النظر في هذا النقد، وأخذ به عندما ألف مسرحية العباسة، فلم يقنع في تصوير مأساة البرامكة بقصة زواج جعفر من العباسة ومخالطتها، رغم حظر الرشيد لتلك المخالطة، بل درس الأسباب العميقة لتلك المأساة، وأثبت في آخر مسرحيته قائمة بالمراجع العربية والأجنبية التي تحدَّثت عن تلك المأساة. وهي تقرب من الثلاثين مرجعًا، ومن بينها طبعًا رواية العباسة، وهي إحدى قصص جرجي زيدان التاريخية المعروفة.
والذي لا شك فيه أن دراسة عزيز أباظة لمأساة البرامكة وأسبابها السياسية والنفسية البعيدة، كما يمكن استخلاصها من روايات المؤرخين والأدباء القدماء، قد أمدَّته بعناصر درامية غنية معقدة لم يستطع شوقي أن يُوفِّر مثلها لمسرحية قمبيز.
فمأساة البرامكة تمتد جذورها إلى الصراع العنيف الذي نشب حول الحكم منذ مقتل عثمان ثم علي، واغتصاب الأمويين للحكم، إلى أن استطاع العباسيون استرداده منهم بفضل مؤازرة الفرس، الذين كانوا يتشيَّعون لعلي، حتى إذا استتب المُلك للمنصور العباسي بادر إلى الغدر بأبي مسلم الخراساني؛ زعيم الفرس وقائدهم، حتى يأمن شرَّه وشرَّهم. وإذا بالبرامكة يجددون السيطرة على الخلافة، ويستندون على خراسان، حتى أصبح هارون الرشيد يحس أنه ليس له من الخلافة إلا اسمها، وأما حقيقتها فبين أيدي البرامكة، وبخاصة جعفر بن يحيى الذي استفحل سلطانه؛ بفضل ما أدَّى للخلافة والخليفة من خدمات جليلة، ثم بفضل كرم البرامكة عامة، وبراعتهم في التقرُّب من الرعية، وازدادت الأمور تعقيدًا عندما أخذ يتنازع على ولاية العهد أبناء الرشيد الأمين والمأمون، وأحدهما — وهو الأمين — ابنٌ لعربية هاشمية هي زبيدة بنت عم الرشيد الأثيرة إلى نفسه، والآخر — المأمون — ابنٌ لفارسية، ولكنه أرجح عقلًا، وأقوى شخصية، وأوسع دهاءً، والفرس يؤيدونه، والبرامكة — وبخاصة جعفر بن يحيى؛ وزير الرشيد — يناصرونه؛ مما أوغر صدر زبيدة وحاشية الخليفة من الهاشميين ضدَّ جعفر خاصة، والبرامكة عامة، ثم جاءت قصة جعفر والعباسة فكانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير.
والواقع أن روايات العرب القدماء تفيد أن زبيدة قد لعبت الدور الأساسي في مأساة البرامكة، وأنها هي التي حاكت خيوطها، وما زالت تستثير الرشيد ضدهم وتوغر من صدره؛ حتى استطاعت في النهاية أن تتغلب على تردده وضعفه؛ فالرشيد كان يحب البرامكة حبًّا أكيدًا، ويثق بهم، حتى لكان يسمي كبيرهم يحيى بن خالد «بأبي»، كما كان يسمي ابنه جعفرًا «بأخي». وقد نشأ بالفعل منذ طفولته مع جعفر وآخاه وأحبه، كما أنه كان يخشى الفرس وغيره من أتباع البرامكة ومناصريهم أكبر الخشية، ولولا دهاء زبيدة ومكرها وحزمها العنيد لما فتك الرشيد بالبرامكة، حتى لتوحي إلينا زبيدة التاريخية بشخصية ليدي ماكبث في مسرحية «ماكبث» الشهيرة لشكسبير.
هذا، ولقد حاول عزيز أباظة أن يستفيد ما استطاع من كل هذه الحقائق التاريخية في البناء الدرامي لمسرحية «العباسة»، ولكننا نخشى أن يكون قد بالغ في حشد الكثير من التفصيلات دون أن يستطيع تعميق الخطوط الدرامية، التي تصور الشخصيات الأساسية في مسرحيته، مثل هارون وزبيدة والعباسة، فنحن لا نلمح من خلال المسرحية ما أصاب شخصية هارون التاريخية من ضعف وتردد خلال مأساة البرامكة، كما لا نلمح المعالم النفسية للعباسة التي يصورها الرواة فتاة وسيدة رحبة الأفق، حصيفة الرأي، شجاعة في الحق، كما لا نلمح في النهاية ما عرفت به زبيدة من مكر ودهاء وخبث وعناد، بل وجبروت تكاد تُشبهُ معه ليدي ماكبث كما قلنا.
ومع ذلك، فإننا نحمد لعزيز أباظة أنه قد اقتصد في الأحداث الأساسية لتلك المأساة على نحوٍ يميز مسرحيته عن قصة جرجي زيدان.
فجرجي زيدان في قصته لم يقتصر على عرض فتْك الرشيد بجعفر، بل عرض أيضًا قتله لأخته العباسة، ثم قتله لولدين سمَّاهما الحسن والحسين، وزعم أن العباسة كانت قد أنجبتهما من جعفر خلال سبع سنوات، بل وزعم أنها كانت قد أنجبت طفلًا ثالثًا مات بعد سنتين من ميلاده، وبذلك جعل من قصته مجزرة دامية أقرب إلى الميلودراما منها إلى القصة، كما أننا لا ندري كيف يمكن أن يتفق مع المعقول أو مع الممكن إنجاب العباسة لثلاثة أولاد، وفي فترة سبع سنوات دون أن يعلم الرشيد عن كل ذلك شيئًا، مع ما نعلمه من أن الرشيد كان حريصًا دائمًا على أن يرى أخته وجعفرًا، وأن يستشيرهما في كافَّة أمور الملك وقضاياه.
وبالرغم من أن عزيز أباظة قد اقتصد في الأحداث الكبرى، وفي عناصر المأساة إذا قورنت مسرحيته بقصة جُرجي زيدان، إلا أنه قد استطاع — بفضل دراسته الجدية لتاريخ هذه المأساة — أن يوفي لمسرحيته من الأحداث والمواقف ما استطاع به أن يبني مسرحيته بناءً سليمًا متطورًا خيرًا بكثير من بنائه لمسرحيته الأولى «قيس ولبنى»، كما استطاع أن يكتب بفضل وفرة تلك الأحداث وتتابعها حوارًا دراميًّا؛ أي حركيًّا، يَفضُل بكثير من الناحية الفنية الحوار الغنائي الذي لاحظنا أنه يقوم أحيانًا على عدة قصائد غنائية متلاحقة في مسرحيته الأولى «قيس ولبنى»، وإن كنا لا نستطيع أن نزعم أن العباسة قد خلت خلوًّا تامًّا من النزعة الغنائية، التي تعوق أحيانًا الخط الدرامي للحوار، بل إننا لنعثر في أحد مشاهد الغرام بين جعفر والعباسة، في المشهد الرابع من الفصل الأول ص٦٤، على شطر بيت سبق أن أجراه الشاعر هو نفسه على لسان قيس في مسرحيته الأولى، وهو:
وهو في مسرحية قيس ولبنى كما سبق أن ذكرنا:
وليس هذا هو المشهد الغنائي الوحيد الخالي من الحركة الدرامية في المسرحية، بل له فيها أمثال أخرى، ولكننا نلاحظ — بوجه عام — أن المؤلف قد تقدَّم في هذه المسرحية من الناحية الدرامية تقدُّمًا واضحًا عنه في مسرحيته الأولى «قيس ولبنى».
وأما من ناحية الصياغة اللغوية، فإننا نلاحظ على العباسة نفس ما لاحظناه على قيس ولبنى، فالمؤلف يلجأ في «العباسة» أيضًا إلى التضمين في مواضع كثيرة، مثل تضمينه ص٣٦ لمقطوعة غنائية من شعر الحسين بن الضحاك، ومطلعها:
ومقطوعة أخرى للصمة بن طفيل بن عبد الله، من شعراء الدولة الأموية ص٣٧، ومطلعها:
ومقطوعة ثالثة ص٣٨ لعلية بنت المهدي، ومطلعها:
ورابعة من شعر أشجع السلمي ص٩٠، ومطلعها:
وخامسة ص١٢١ لمنصور النمري، ومطلعها:
وإن كنا نلاحظ أن هذه التضمينات منها ما هو مقطوعات غنائية يتغنى بها القيان، ومنها ما يعتبر شواهد تاريخية على ما كان قد وصل إليه جعفر بن يحيى البرمكي من سطوة وسلطان، وبذلك تدخل في صلب المسرحية وكأنها جزء من أحداثها وعواملها المحركة.
وأما عما لاحظناه عند دراسة المسرحية الأولى لعزيز أباظة من ولوعه بالألفاظ الغريبة التي قد تستساغ في شعر القصائد، ولكنها لا يمكن أن تستساغ في حوار مسرحي يوجه إلى الجمهور، دون شرح أو تعليق، فإننا نلاحظ نفس الملاحظة على «العباسة»، بل لعل الشاعر قد ازداد فيها ولوعًا بالغريب عنه في المسرحية الأولى، مثل لفظة «القطر» في قوله ص٢٢:
وقد فسَّر «القطر» بأنه النحاس المُذاب من الغليان.
ولفظة «نضاخة» ص٣٥ في قوله:
وقد فسر «نضاخة» بنافورة، وما ضره لو وضع نافورة مكان نضاخة في البيت، وبها يسهل المعنى ويستقيم دون إخلال بالوزن، ولا حاجة إلى الهامش، ثم لفظة «أثداء الشجر» بمعنى ثماره في قوله ص٣٥:
ولفظة أثمار كانت أفضل من أثداء النابية المتكلفة في هذا الموضع.
ثم استعماله لفظة «بكة» بدلًا من مكة في غير موجب في قوله ص٣١: فإذا ببكَّة بعد طول تعطُّش — تروى وتسقى فبكة هنا حذلقة لا ضرورة لها.
ولفظة «القناعيا» بمعنى الأقوياء التي اضطرته إليها القافية ص٤٣ في قوله:
ولفظة «قاصل» بمعنى «قاطع» ص٤٤ في قوله:
مع أن فاصل كان يستقيم بها الوزن والقافية بدلًا من قاصل هذه.
وكل ذلك بينما نرى هذا الشاعر التقليدي المتزمت يستخدم أحيانًا بعض الألفاظ الرمزية الجديدة، التي يعيبها بشدة على جماعة أبوللو وأتباعها من المحدثين، مثل لفظة «عربدت» ص٦٧ في قوله:
ولكنه أيًّا ما يكون الأمر، فإننا نحس بوضوح أن المؤلف قد تقدم في هذه المسرحية تقدمًا واضحًا عنه في مسرحيته السابقة، من حيث الحركة الدرامية والبناء المسرحي، وإن كنا نلاحظ أنه لم يصل فيها بعدُ إلى ما كنا نبغي من تعميق الخطوط الدرامية التي تحدد أبعاد شخصياته، وتحسن تصويرها على ذلك النحو الفني العميق الذي نرجوه دائمًا عندما نقارن مسرحياتنا بالمسرحيات العالمية الخالدة. ومن المعلوم أن الغوص وراء حقائق النفوس البشرية وتصويرها تصويرًا يجلو غامضها، ويفضح أسرارها، هو الهدف الإنساني الباقي الذي يمكن أن نخلص به من مثل هذه المسرحيات، التي لا تُعتبر مسرحيات هادفة بالمعنى الحديث لهذه اللفظة.
وإذا كان للجمهور مأخذ أساسي على هذه المسرحية وأمثالها، فهو أن المؤلف لم يستطع أن يوجهه نحو العطف أو السخط على هذه الشخصية أو تلك في مسرحيته، ولا أن يشغله بقضية من القضايا أو مشكلة تعتبر محورًا لهذه المسرحية؛ ولذلك نخشى أن لا ينفعل بها الجمهور الذي لا يتبين من المسرحية من يستحق العطف ومن يستحق السخط. وليس هناك ما هو أبلغ من ذلك دليلًا على أن المؤلف لم ينجح في تصوير الشخصيات على النحو الذي يحدِّد أبعادها، وبذلك يستطيع الجمهور أن يتخذ منها موقفًا، إذا كان المؤلف لا يريد أن يتخذ هو نفسه أي موقف منها، وذلك مع أنه قد كان هناك مجال واسع لتصوير صراع عنيف بين طرفي المأساة الحقيقيين، وهما جعفر وزبيدة. وعلى ضوء هذا الصراع كان من الممكن أن تتضح صورة بقية الشخصيات وأبعادها، وبالتالي يتحدد موقفنا منها.
وكل ذلك مع العلم بأن اسم المسرحية ذاته يوحي بأن المؤلف قد قصد إلى كتابة مسرحية تقوم على تصوير الشخصيات، وخصوصًا شخصية العباسة.