شجرة الدر
وفي سنة ١٩٥١، أصدر الأستاذ عزيز أباظة مسرحيته الشعرية الرابعة «شجرة الدر»، وأهداها إلى الشاعر أحمد شوقي، أو على الأصح إلى روحه قائلًا: «إلى شوقي الخالد، أُزجي أثرًا من هديه، ونفحة من وحيه، هديةَ تقديرٍ وإكبار ووفاء.» ومن الواضح أن الأستاذ عزيز أباظة كان يستطيع أن يكتب نفس الإهداء على مسرحياته السابقة، فكلها أثر من «هدي شوقي، ونفحة من وحيه».
والأستاذ عزيز أباظة من الواضح أنه يترسَّم خطى شوقي في إنتاج المسرحيات الشعرية، ويحاكيه في أغلب النواحي، فهو يكتب الشعر المسرحي بالأسلوب التقليدي الذي يحرص على الجزالة قبل كل شيء، بل ويبالغ في هذه الجزالة ليصل بها إلى ما سمَّيناه البذخ اللغوي الذي لا ضرورة له، والذي قلَّما يوافق فنًّا أدبيًّا يتجه إلى الجماهير، ويتطلب من السهولة واليسر ما يُمكِّن تلك الجماهير من سرعة الفهم والمتابعة. وإذا كان المؤلِّف قد أحسَّ بحاجة إلى كتابة الهوامش لتفسير بعض الألفاظ الغريبة حتى يُعين القارئ على سرعة الفهم، ومواصلة القراءة، ولا يضطره إلى قطع حبل القراءة للرجوع إلى المعاجم، فماذا تراه قد فعل ليُعين رواد المسرح المستمعين على تخطِّي مثل تلك العقبات؟
وعزيز أباظة قد التجأ إلى التاريخ في اختيار موضوعات لمسرحياته كما فعل شوقي تمامًا، وكما كان الكلاسيكيون الغربيون يفعلون من قبل. وإذا كان الكلاسيكيون الغربيون قد برروا عودتهم إلى أحداث التاريخ الواقعي أو الأسطوري بأن الطابع التاريخي يدني الأحداث، حتى الخارق منها، من التصديق والمعقولية ومشاكلة الواقع، وهي تلك المشاكلة التي يعتبرونها أساسًا عامًّا للأدب الكلاسيكي كله، وهو ذلك الأدب الذي ينفر من كل ما هو غير معقول وغير ممكن الحدوث في واقع الحياة؛ فإنني لا أظن أن شاعرينا قد التجآ إلى التاريخ لنفس السبب، ولا لأنه قد كان هناك تقليد عام يقضي بالعودة إلى الأدب القديم لاستيحائه ومحاكاته، على نحو ما كانت عليه الحالة عند الكلاسيكيين الغربيين الذين قامت نهضتهم الأدبية على العودة إلى التراث اليوناني الروماني، والعدول عن الاستمرار في مجاراة التيارات الأدبية الضعيفة، بل العقيمة التي كانت قد سادت في قرونهم الوسطى؛ وذلك لأن شاعرينا لم يكن لديهما في تراثنا العربي القديم شعر تمثيلي يعودون إليه، ليحاكوه أو يستلهموه على نحو ما كان لدينا من شعر غنائي، اتخذناه مصدرًا لتجديد ديباجة شعرنا الحديث في أول مراحل نهضتنا الأدبية المعاصرة.
وأكبر الظن أن شاعرينا قد عادا إلى التاريخ؛ لأن أحداثه تعفي الشاعر من ذلك المجهود الضخم الذي لا بد أن يبذله خياله في بناء هيكل لمسرحية يتخيلها، أو يجمع أجزاءها من حياتنا المعاصرة، وذلك بدليل ما نلاحظه عند الشاعرين من أن كلًّا منهما لم يحاول أن يكتب مسرحية عصرية، إلا بعد أن كتب عدة مسرحيات تاريخية، ظن أنه قد اكتسب بفضلها من الخبرة بهذا الفن الشاق والمِران عليه ما يُمكِّنه من أن يعتمد على نفسه، لا على التاريخ في بناء هيكل المسرحية، فكتب أحمد شوقي في أخريات حياته مسرحية «الست هدى»، وكتب الأستاذ عزيز أباظة أخيرًا مسرحيته الجديدة «أوراق الخريف».
ومن البديهي أننا لا ننكر على الأديب حق العودة إلى التاريخ أو الأساطير لاختيار أحداث تقوم ببناء هيكل المسرحية؛ فالمبدأ في ذاته لا اعتراض عليه، ولكننا كنقاد من حقنا أن نتساءل عن كيفية استخدام الأديب لهذا الحق، وأن نناقشه في الأساس أو الهدف الذي قام عليه اختياره للموضوع التاريخي أو الأسطوري.
ونحن في مجال هذا البحث النقدي الهام لا بد لنا من إيضاح بعض المبادئ النقدية العامة البالغة الأهمية، وسوف يمكننا إيضاحها من النظر في مسرحية «شجرة الدر»، وتقييمها التقييم الموضوعي السليم.
وأول هذه المبادئ العامة هو: أن الأديب عندما يختار موضوعًا تاريخيًّا لا يجوز أن يقصد من ذلك إلى كتابة فصل في التاريخ، أو إلى محاولة بعث الماضي كما كان، وإن يكن هذا البعث هو أقصى ما يمكن أن تسمو إليه عبقرية المؤرخين، إذا جاء بعثًا شاملًا نابضًا للحياة في فترة من فترات التاريخ؛ فالتاريخ بطبيعته هو البحث عن الخاص وكشفه، وأما الأدب فهو البحث عن العام المشترك بين البشر، والذي يقوم كحقيقة إنسانية عامة يمكن أن توجد في كل عصر وكل بيئة، وإذا كان المؤرخ مطالبًا بأن يُصوِّر لنا من نيرون الروماني صورة خاصة بهذا الظالم الفظ، فإن الأديب مطالب بأن يصوِّر لنا من خلال حياة نيرون صورة عامة لكل ظالم فظ يمكن أن يوجد في أي عصر أو بيئة، إذا توفَّرت له الظروف التي تمكِّن من هذا الظلم.
وعلى أساس هذا الفارق الجوهري بين طبيعة التاريخ وطبيعة الأدب، يقرر النقاد مبدأ ثانيًا هو: أن الأديب لا يختار موضوعًا من التاريخ لذاته؛ بل لأنه يصلح لأن يتخذ وسيلة للكشف عن بعض الحقائق الإنسانية العامة، أو للتعبير عن بعض المشاكل التي تشغل العصر والبيئة اللتين يعيش فيهما الأديب، أو على الأقل تشغله هو شخصيًّا، وذلك باعتبار أن الأديب لا بد أن يكون أداة للتعبير عن عصره أو عن ذاته، ولا يمكن أن يصبح مجرد باحث عن الماضي القريب أو البعيد.
الموضوعات التاريخية إذن يجب أن تكون بين يدي الأديب وعاء يصب فيه بعض الحقائق الإنسانية العامة، أو بعض مشاكل عصره أو ذاته؛ أي أن تكون وسيلة للتعبير الشخصي النابع عن الأديب باعتباره إنسانًا في ذاته، أو فردًا في مجتمعه وبيئته، ومرآة لهما. ولعل في كل هذا ما يوضح تلك الكلمة المركزة التي قالها الروائي الفرنسي الكبير إسكندر دوماس الأب، عندما سئل عن هدفه من كتابة القصص التاريخية، وعن مدى تقيده بالوقائع التاريخية، فقال: «التاريخ! … من يعرفه؟ … إن هو إلا مسمار أشجب عليه لوحاتي.»
وتاريخ شجرة الدر التي كانت حلقة الاتصال بين حكم الأيوبيين وحكم المماليك البحرية في مصر قد استهوى الكُتَّاب منذ أوائل هذا القرن، فكتب عنه جرجي زيدان كتابًا في سلسلة رواياته التاريخية، ولم يقتصر حديثه في هذا الكتاب على شجرة الدر، بل امتدَّ حتى شمل انتقال الحكم من الأيوبيين إلى المماليك الذين كان قد اصطنعهم الملك الصالح نجم الدين الأيوبي، واستعان بهم في الوصول إلى عرش مصر. وتابع جرجي زيدان حكمهم حتى عصر الظاهر بيبرس، بما تخلل هذه الفترة من انتصارات رائعة على الصليبيين في المنصورة، وإجلائهم عن دمياط والسواحل المصرية، وإرغامهم على دفع فدية كبيرة عن لويس التاسع أو القديس لويس — ملك فرنسا — الذي كان قد أُخذ أسيرًا وسجن في منزل القاضي ابن لقمان بالمنصورة، ثم موقعة عين جالوت بفلسطين، التي هزم فيها المماليك المصريون المغولَ وملكَهم هولاكو؛ تلك الهزيمة الخالدة التي صدَّت المغول نهائيًّا عن مصر وبلاد الشرق العربي القريب منا.
ثم عاد الأستاذ محمد سعيد العريان إلى شجرة الدر أيضًا، فكتب عنها في سنة ١٩٤٧ كتابًا جديدًا قرَّرته وزارة المعارف للمطالعة الإضافية بالسنة الأولى الثانوية، فطبعته دار المعارف طبعة ثانية سنة ١٩٥٠.
وهذا الكتاب لا يغطي من أحداث التاريخ ما غطَّاه كتاب جرجي زيدان، إذ يقتصر على تاريخ شجرة الدر منذ دخلت قصر الأمير نجم الدين الأيوبي — حاكم حصن كيفا بأعالي الفرات — إلى أن أصبحت زوجة لهذا الأمير، ثم ملكة، بعد أن تمَّ لزوجها الأمير — بفضل دهائها وحكمتها — الاستيلاءُ على عرش مصر، والتخلُّص من أخيه العادل سيف الدين، الذي كان أبوهما الكامل محمد قد آثره بالملك دون أخيه الأكبر الأمير نجم الدين، ثم وفاة الملك الصالح وزواج شجرة الدر من المملوك أيبك، الذي أصبح يعرف باسم المعز عز الدين أيبك، والذي اشترك في الحكم مع شجرة الدر حتى حدَّثته نفسه بأن ينفرد بالملك دونها، وأن يعزز ملكه بالزواج من أميرتين من سلالة الأيوبيين، فتآمرت عليه شجرة الدر وأمرت غلمانها بأن يقتلوه بالقباقيب وهو في الحمام.
ومسرحية شجرة الدر للأستاذ عزيز أباظة مبنية على نفس الأحداث التي روَاها الأستاذ العريان في كتابه، بل إن الأستاذ عزيز أباظة نفسه ليخبرنا في أحد هوامش مسرحيته ص٢٣٢، أن الخوالج التي صاغها شعرًا على لسان شجرة الدر عندما ثارت في نفسها الغيرة والكبرياء، على أثر ما علمته من أن أيبك يدبِّر الزواج من الأميرتين الأيوبيتين، قد جاءت في كتاب العريان، وهي قولها:
وبالفعل نجد في صفحة ١٥٠ من كتاب الأستاذ العريان نفس التحليل لحالة شجرة الدر النفسية وسط تلك الأحداث؛ حيث نطالع قوله: «وكأنما خيَّل إليها غدها وقد خلَا المَلِكُ المعزُّ إلى بنت بدر الدين؛ صاحب الموصل، فطاب للملك المعز أن يستمع إلى حديثها في سخرية وشماتة، فتحدَّثت إليه بما تحدَّثت عن شجرة الدر في سخرية وشماتة كذلك … وكأنما أبصرت بنت المنصور؛ صاحب حماة، جالسة على عرش بني أيوب تجيل عينيها فيما حولها من أسباب الترف والنعمة، وهي تقول: الحمد لله الذي ردَّ عليَّ مُلك أجدادي وأهلي من بني أيوب، وأدال لنا من تلك الجارية!
فيُؤمِّن الملك المعز على قولها ويستطرد مجاملًا: وهل كانت شجرة الدر في بني أيوب إلا جارية؟! وامتد بها الوهم فكأنما أبصرت بنين وبنات من نسل المعز يمرحون في جنبات العرش ولا ولد لها، وكأنما جاهدت ما جاهدت طول حياتها لاستخلاص عرش بني أيوب لبنت بدر الدين، أو بنت صاحب حماة، وما تسلسل من بنيهما وبناتهما، وينتهي مجدها ليبدأ على أنقاضه مجد دولة بني أيبك الجاشنكير! وتخيَّلت نفسها في وحشة الليل قد أغلق من دونها الباب، ومضى أيبك يتنقل بين مقاصير نسائه يذوق من كل طعم ولا يشبع، وهي وحدها تتجرَّع غصص الآلام!»
ولكننا على أية حال لا نحسُّ بأن كتابي زيدان والعريان يعتبران قصتين بالمعنى الأدبي المفهوم للقصة، فهما لا يزالان فصولًا من التاريخ؛ لأنهما لا يتمخضان عن حقائق إنسانية عامة، أو يعالجان مشاكل إنسانية، نفسية كانت أم سياسية باقية، وكذلك الأمر في مسرحية الأستاذ عزيز أباظة، فهي الأخرى لا تعدو كتابة فصل من التاريخ شعرًا، بل لعل هذا الفصل الشعري أن يكون أقل وضوحًا وتعريفًا بالوقائع والشخصيات من الفصول النثرية المذكورة.
ولا أدل على بُعْد مسرحية شجرة الدر عن طبيعة التأليف المسرحي من أن نراها تبدأ بما يسميه المؤلف «مقدمة»، يجري الحوار فيها داخل حصن «كيفا»؛ حيث كان الأمير نجم الدين لا يزال حاكمًا. وكل ما نعلمه من هذه المقدمة خاصًّا بالأحداث اللاحقة في المسرحية هو: أن الأمير جاءه نبأ من مصر يخبره بأن أباه قد ولَّى أخاه الأصغر سيف الدين وليًّا لعهده، ثم نشهد بعد ذلك حوارًا طويلًا نرى فيه عرَّافًا ضريرًا يتنبَّأ لعدد من مماليك الأمير بأنهم سيجلسون على العرش، وهؤلاء المماليك هم: أيبك، وبيبرس، وقلاوون، وكذلك شجرة الدر، ثم تجري بعد ذلك أحداث المسرحية كلها في القاهرة والمنصورة، بعد مضي سبعة عشر عامًا على ما جرى في المقدمة، وذلك أن المؤلف نفسه ينبئنا بأن أحداث المقدمة قد جرت في حصن كيفا سنة ١٢٤٠م، بينما يجري باقي الرواية في القاهرة والمنصورة سنة ١٢٥٧م.
ومن الواضح أن هذا البناء يعتبر أبعد ما يكون عن البناء الدرامي، الذي يقوم أصلًا على نقل قطاع محدود من الحياة زمانًا ومكانًا إلى المسرح. وإذا كانت هذه القاعدة لم تحترم بدقة إلا في المسرح الكلاسيكي، فإننا لا نظن أن المسرح الرومانسي المتمرد أو غيره من المسارح في مذاهب الأدب المختلفة قد لجأ إلى مثل ما لجأ إليه الأستاذ عزيز أباظة، من قطع جريان الأحداث لمدة سبعة عشر عامًا، وانتقالها في غير تدرُّج منطقي واضح وضرورة داخلية هذا الانتقال المكاني الشاسع، دون ربط للمكانين بالأحداث في المسرحية، وإيضاح لكيفية وضرورة هذا الانتقال، وإنما توحي هذه المقدمة بمجرد رغبة عند المؤلف في أن يحدثنا عن بعض وقائع التاريخ السابقة لهيكل المسرحية، على نحو ما فعل الأستاذ سعيد العريان، عندما كتب على أثر تقرير وزارة التربية كتابه للمطالعة الإضافية في المدارس «تمهيدًا» في الطبعة الثانية، أوضح فيه مراحل تاريخ مصر العربية حتى عصر شجرة الدر وأحداثه الخطيرة. وإن كنا نلاحظ أن تمهيد العريان قد كان أكثر نفعًا للتلاميذ من مقدمة الأستاذ عزيز أباظة لقرَّاء مسرحيته أو مُشاهِديها، بل إننا لنزعم أنه كان من الخير له ولنا أن يحذفها، وأن يجد وسيلة لإدخال ما هو ضروري ممَّا ورد فيها في تضاعيف فصول المسرحية ذاتها.
ومسرحية شجرة الدر تتضمن بعد ذلك من التفصيلات، ومن الشخصيات العديدة ما يصيبها بالتعقيد في غير مبرر يخدم تصوير شخصيات حية ذات قيمة باقية، أو الكشف عن حقائق نفسية أو إنسانية ذات غناء، حتى لكأنها لوحة تاريخية رصعت من فسيفساء لا حدَّ لتعدد ألوانها تعددًا تضطرب معه الرؤية، كما تحتاج إلى كل تلك الهوامش التاريخية التي لم ير المؤلف بدًّا من تدوينها؛ ليستقيم الفهم، وتسهل المتابعة.