غروب الأندلس
على أنه إذا كان الأستاذ عزيز أباظة لم يتخذ من التاريخ في مسرحية شجرة الدر وسيلة لمعالجة حقيقة إنسانية عامة، أو مشكلة من مشاكل عصرنا، فإنه على العكس من ذلك قد اتخذ من مسرحية «غروب الأندلس» — التي نشرها ومثلتها الفرقة المصرية في سنة ١٩٥٢ — وسيلة لمعالجة مشكلة سياسية عامة تنطبق على حالة مصر قبل الثورة انطباقًا تامًّا؛ وهي مشكلة الفساد السياسي والأخلاقي الذي يثل العروش، وقد يطيح بالدول ذاتها. وقد استعار المؤلف نفسه من القرآن آية لخَّص بها هذه المشكلة، واختتم بها مسرحيته، وهي قوله تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا.
وفي إهداء خطِّي مصوَّر في الصحيفة الأولى من المسرحية، يقدم المؤلف مسرحيته «إلى الأمة المصرية الكريمة» قائلًا: «لقد كان من مواتاة القدر أن أفرغ من كتابتها — إلَّا قدرًا ضئيلًا منها — ولمَّا يتأذَّن الله لفجرك الجديد أن تشرق أضواؤه. ولا لبعثك المجيد أن تنهل آلاؤه. ولقد كان أغلب ظني أنها لن يُهيَّأ لها أن تنشر على الناس ممثلة أمامهم، أو متداولة بين أيديهم، ولكني قدَّرت وقدَّر الله، وكان أمر الله قدرًا مقدورًا. وفي هذه المسرحية، أيتها الأمة الناهضة، لمحاتٌ عن الدول كيف تتداعى أواسيها، وعن الشعوب كيف تتوارى في حنايا الأبد مجاليها. ولعل العظة والاعتبار ألصق بالمشاعر من العظة بالنصيحة، فإن شارفت هذه العظة منك سماوة تشوفت إليها، فهو إذن نشيدة طالما تعلَّق أملي بأهدابها، ورغيبة وقفت العمر أعالج العسير من أبوابها …»
وقد كتب الدكتور طه حسين لهذه المسرحية مقدمة، اعترف فيها أنه لا يَكلَف بالمسرحيات الشعرية التي كتبها في عصرنا الحاضر أحمد شوقي، ثم عزيز أباظة، قائلًا: «إني لست من الكلفين بالقصص التمثيلية التي تعرض على الناس شعرًا في هذه الأيام، وشعرًا عربيًّا بنوع خاص. وقد شبَّ التمثيل عن طوق الشعر، وتمرد على أوزانه وقوافيه، وآثر حرية النثر وطلاقته وإسماحه على قيود الشعر وتحرجه وصرامته منذ زمن غير قصير، وأصبحت القصص الشعرية في اللغات الأوروبية نادرة أشد الندرة لا يكاد الناس يقبلون عليها، إن وجدت، فإن فعلوا لم يتصل إقبالهم عليها إلى ريثما ينصرفون عنها إلى الحرية الحرة، والطلاقة الطلقة في هذا التمثيل المنثور، الذي لا يكلفهم إلا أيسر الجهد، وأقل العناء. وقد صحب التمثيل في أثناء طفولته وحين بلغ شبابه الشعر؛ لأنه لم يكن يستطيع أن يتخفف من الغناء؛ ولأن النثر لم يكن قد استكمل قوته بعدُ، فلما تخفف التمثيل من الغناء، ومرن النثر واستطاع أن يتصرَّف في جميع فنون القول، انصرف إليه أصحاب التمثيل، وتركوا الشعر لفنونه الخاصة. فإذا كانت آيات التمثيل في العصر القديم وفي أوائل العصر الحديث شعرًا كلها، فإن القرن التاسع عشر قد شهد مزاحمة النثر للشعر على التمثيل، حتى استأثر به، وكاد يصرف الشعر عنه صرفًا.»
وهذا الرأي صحيح في جملته، ولكنه غير صحيح في الكثير من حيثياته، فإنه إذا كان الشعر التمثيلي قد صاحبه الغناء، بل والموسيقى أيضًا عنه أول ظهور هذا الفن الأدبي عند اليونان القدماء، فإن هذه الحقيقة التاريخية لا يجوز أن تعني ضرورة مصاحبة الغناء للشعر لتبرير استخدامه في مثل هذا الفن؛ وذلك بدليل أن الغناء والموسيقى قد انفصلا عن المسرح التمثيلي منذ أوائل عصر النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر الميلادي، عندما ظهر بمدينة فلورنسا بإيطاليا أولًا، ثم في المدن الإيطالية والفرنسية ثم الألمانية فن مسرحي خاص بالغناء والموسيقى، وهو فن الأوبرا والأوبريت. ومع ذلك ظلَّت المسرحيات التمثيلية تُكتب شعرًا في عصر من أزهى عصور هذا الفن؛ وهو العصر الكلاسيكي، الذي يكاد يغلب الشعر التمثيلي فيه على كافة أنواع الشعر الأخرى، وذلك دون أن ينتقص العدول عن الغناء من قيمة هذا الشعر التمثيلي؛ أي المسرحيات الشعرية التي لا تزال حية خالدة حتى اليوم، بل إنه ليمكن القول بأن الشعر كله قد نشأ أصلًا مصاحبًا للغناء والموسيقى، سواء منه الشعر الغنائي، أو الشعر الملحمي، أو الشعر التمثيلي، ولم يشذَّ عن ذلك الشعر العربي، بدليل ما هو ثابت في أكبر موسوعة للشعر العربي القديم، وهو كتاب «الأغاني» للأصفهاني؛ حيث نرى كل قصيدة تشفع بمقامها الموسيقي، ثم انفصل الشعر عن الموسيقى والغناء واستقل بذاته، دون أن يختفي أو يضعف تأثيره على النفوس.
والشعر — كما قلنا غير مرة — ليست موسيقاه ترفًا، ولا مجرد وسيلة للتطريب، بل هي أداة مرهفة للتعبير عن لطائف من المعنى أو الإحساس قد تعجز الألفاظ غير المنغومة عن التعبير عنها. وإذن فلا ضير من استخدام الشعر كوسيلة للتعبير في أي فن من فنون الأدب، ولكن على شرط أن يستطيع الشاعر تطويعه للفن الذي يستخدمه فيه، بحيث ينجح في التعبير به عما يريد في يسر ووضوح، وبخاصة في الفن المسرحي الذي يتجه إلى الجماهير، ويتطلب سهولة في اللغة المستعملة؛ حتى لا يصطدم السامع بلفظ غريب، أو تركيب معقد يعوِّق الفهم السريع، والمتابعة المتصلة، واستيعاب الهدف الذي يرمي إليه الشاعر.
وبالرغم من عدم كلف الدكتور طه حسين بالشعر التمثيلي المعاصر، فإننا نراه يعلن طربه بشعر الأستاذ عزيز أباظة في هذه المسرحية، ويصفه بأنه «شعر جزل رصين لم نعد نسمع مثله منذ وقت بعيد». بل ويرى المسرحية كلها قصيدة رائعة، دون أن يناقش ملاءمة شعر عزيز أباظة عامة، واللغة التي يستخدمها خاصة لهذا الفن الجماهيري، أو على الأقل المُعَد للاستماع السريع لا للقراءة المتئدة بين أيدي المعاجم اللغوية.
وأما عن أصول هذا الفن التي لا يمكن بدونها أن يحقق هدفًا، سواء كُتب نثرًا أم شعرًا، فقد تخلص الدكتور طه حسين من التعرُّض لها عند حديثه عن هذه المسرحية بلباقة، فقال: «وليس لي بالطبع أن أنقد القصة من هذه الناحية — يعني كما قال من قبل؛ ناحية أحداثها ومشاهدها التمثيلية — فقد لا يكون من حقي أن أدخل فيما لا أحسن من صناعة التمثيل.» وهذا عذرٌ فيه كثير من المغالطة؛ فالدكتور طه حسين قد لا يستطيع نقد التمثيل، ولكنه بلا ريب يستطيع نقد الأدب التمثيلي، وهو الذي استهل حياته الجامعية بتدريس الأدب التمثيلي عند اليونان، وتأليف كتاب قيم فيه. ومع ذلك، اكتفى الدكتور طه حسين في حديثه عن أحداث المسرحية ومشاهدها بالإشارة إلى شدة انطباقها على مصر المعاصرة في فترة ما قبل الثورة، فيقول عمن شاهدوها تمثَّل أنه «يقطع بأنهم تصوروا أشخاصًا مصريين، وألقوا عليهم أسماء مصرية، ولونوا الأحداث في ضمائرها بألوان يعرفونها حق المعرفة لكأنهم رأوها رأي العين». دون أن يفصح الأستاذ الكبير عما إذا كان يرى في هذا حسنة تعطي المسرحية قيمة أدبية وإنسانية متميزة، أم يرى فيه سيئة تشير إلى عدم استيعاب المؤلف لروح العصر التاريخي الذي استقى منه أحداث مسرحيته، وبخاصة وأن الدكتور طه حسين يشير إلى شيء من ذلك بطرف خفي حينما يقول عن المسرحية: «إنها تصور أحداثًا وقعت منذ قرون، وأخص ما يوصف به العصر الذي وقعت فيه: أن طبيعة القرون الوسطى كانت أشد استئثارًا به من طبيعة العصر الحديث الذي لم تكن شمسه قد أشرقت بعد.»
والمسرحية — كما هو واضح من عنوانها — تصوِّر الأحداث والأشخاص عند أفول نجم العرب من مسلمي الأندلس واسترداد الإفرنج لها، وهو موضوع أفاضت في ذكره كتب الأدب والتاريخ القديمة، كما كتب عنه الأستاذ محمد عبد الله عنان كتابين؛ هما: «نهاية الأندلس» و«تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين»، كما كتب الأمير شكيب أرسلان «الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية». وقد أثبت المؤلف هذه المراجع الثلاثة بين ما أثبت من مراجع عربية وإفرانجية بعد خاتمة مسرحية.
وإذا كانت مسرحية «غروب الأندلس» قد فاقت زميلتها السابقة «شجرة الدر» في أن لها هدفًا إنسانيًّا وسياسيًّا عامًّا، ولم تقتصر كما اقتصرت مسرحية «شجرة الدر» على أن تكون فصلًا في التاريخ كتبه المؤلف شعرًا، وفي صورة حوارية؛ إذا كانت تمتاز عن سابقتها من هذه الناحية، فإنها من جهة أخرى قد وقعت في نفس الأخطاء الفنية التي وقعت فيها سابقتها، من حيث إنها لا تعرض قطاعًا محددًا متماسكًا من الحياة، بل تمتد على فترة مترامية في الزمان والمكان؛ مما يفقدها التركيز وقوة التأثير والعمق في تحليل النفوس، ورسم الشخصيات، والكشف عن الخفايا.
فالمسرحية تتكون من خمسة فصول، يعرض المؤلف في الفصل الأول منها الخلافات المريرة العمياء التي كانت تقوم بين أفراد البيت المالك في غرناطة في عصر السلطان علي أبو الحسن، والصراع على ولاية العهد بين ابنيه محمد أبي عبد الله؛ ابن زوجته العربية الحرة والوطنية المخلصة عائشة، وابنه الآخر يحيى؛ ابن زوجته ثريا الرومية الإفرنجية الأصل، والمدخولة القصد، بل ومنافسة أخيه محمد بن سعد «الزغل» لهذين الابنين على ولاية العهد. وفي هذا الفصل تصوير للفساد والانحلال يكاد ينطبق بأكمله على الفساد الذي استحكم في آخر عهد فاروق، مثل قوله على لسان عائشة:
كما يتضمن عددًا من الحقائق الواقعية العامة، مثل قوله على لسان البطل الوطني موسى بن أبي الغسان عن علاقة الملوك بأتباعهم:
ومن الممكن أن نكمل هذه الصورة الأخلاقية المحزنة للقصر ومَن يلوذ به من ساسة وأقطاب بقول عائشة — في الفصل الأخير — مُوجِّهة الخطاب في ازدراء لقادة الأندلس المنحلين:
وفي الفصل الثاني، نرى الشعب يثور لأن السلطان يريد أن يولي ابنه يحيى بن الرومية العهد، بينما الشعب يرفضه ويطالب بمحمد أبي عبد الله ابن عائشة.
في تلك الأثناء تكون عائشة ومن حولها من وطنيين مخلصين في سبيل التآمر في قصر الوالي حامد بن سراج بوادي آش من أعمال غرناطة، وبينما هم يتآمرون إذا بالأمير علي العطار؛ قائد جيش غرناطة، يفد إليهم لينبئهم بخبر تمرد الشعب وثورته.
وفي الفصل الثالث، ينتقل بنا المؤلف إلى ديار الإفرنج في قصر فرديناند وزوجته الداهية إيزابيلا بمقاطعة قشتالة؛ حيث نعلم أن الإفرنج قد أسروا أبي عبد الله دون أن نتبين في المسرحية كيف تم هذا الأسر، وكيف تطورت الأمور على هذا النحو، وإن كنا نستطيع عن طريق التخمين أن نظن أن الإفرنج قد أغاروا على غرناطة؛ لمؤازرة السلطان في تولية ابنه يحيى بن ثريا الرومية. وإلى هذا القصر يأتي وفد من العرب ليعرض على أمير الإفرنج ما يريد من فدية لأبي عبد الله، ولكن هذا الأخير يرفض أن يفتدَى وأن يعود معهم؛ وذلك لأن الإفرنج قد خدعوه واشتروه مقابل وعد كاذب بتولِّيه العرش ونُصرته، لا ضد أخيه يحيى فحسب، بل وأيضًا ضد عمه الزَّغل المنافس على العرش أيضًا.
وإلى هذا الحد كانت المسرحية مستقيمة بوجه عام في تسلسل أحداثها، ولكنها لا تلبث بعد ذلك أن تَغمُض وتضطرب ويدخلها حشْوٌ كثير.
فأبو عبد الله قد رفض أن يفتدى وأن يعود إلى غرناطة، ومع ذلك يأتي الفصل الرابع فيصور لنا أمه عائشة وكأنها لم تعلم بما حدث في الفصل السابق، فأخذت تجوب الآفاق بحثًا عن عون تستطيع به تخليص ابنها من الأسر. ونحن نعلم من هذا الفصل أن العرب في جميع البقاع متنافرون متشاحنون على الحكم والمغانم، بحيث لا يُنتظر منهم عون لإخوانهم المسلمين في الأندلس. ولو أن عائشة قصدت إلى المغرب أو إلى المشرق لوجدت نفس التخاذل والضعف الذي وجدته في مصر؛ حيث اختار المؤلف لسبب غير حتمي أن تجري فيها أحداث هذا الفصل الرابع، حيث نرى عائشة تستصرخ مماليك مصر، فيشير أزبك؛ قائد الجند، والغوري؛ وزير السلطان قايتباي، على سلطانهم بأن لا يجازف بتسيير جيشه وأسطوله إلى الأندلس بينما يتربص الأتراك بمصر. ومع ذلك، يستجيب قايتباي لعائشة، ويعتزم تسيير جيش لنصرتها، لولا حدوث انقلاب مسرحي في هذه اللحظة؛ حيث نرى محمد بن سراج — أحد أبطال الأندلس — يصل إلى مصر ليعلن أن الإفرنج قد أطلقوا سراح أبي عبد الله وأعادوه إلى عرش غرناطة، الذي كان قد خلَا بِهَرَبِ أبيه السلطان علي أبو الحسن أثناء ثورة الشعب عليه. وفي مقابل ذلك، قبِلَ أبو عبد الله أن يعقد مع فرديناند تحالفًا ينطوي على تبعية ذليلة.
وفي الفصل الخامس، نفاجأ بمحمد بن سراج وعائشة في غرناطة دون أن نعلم كيف ومتى عادا إليها، كما نعلم بتسليم «أبو عبد الله» ووزيره «أبو القاسم» للإفرنج بكل ما يريدون، كما نعلم أيضًا أن الإفرنج قد غزوا «ملقا»، واستولوا عليها وطردوا منها «الزغل»، الذي كان قد نصب نفسه حاكمًا عليها، ثم يأتي الحبر «كارلو» سفيرًا من لدى فرديناند؛ لينذر أبي عبد الله بالتسليم والتنازل عن العرش لفرديناند قبل غروب الشمس، وإلَّا هاجمه الفرنج، وعندئذٍ يدور حوار حي مثير بين دعاة الذل والتسليم، وعلى رأسهم أبو عبد الله ووزيره، وبين دعاة المقاومة والجهاد، وعلى رأسهم عائشة وموسى وابن سراج والأمير العطار؛ قائد الجند، ولكن الملك يصر على الاستخذاء، ويأمر بإنزال العلم العربي عن القصر إيذانًا بالتسليم. وتسدل الستار بعد أن يستخلص المؤلف من أحداث مسرحيته العِبرة التي ركَّزها في قوله تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً … إلخ.
وفي رأينا أن هذه المسرحية كان من الممكن أن يستقيم بناؤها الفني، وأن تخلص إلى هدفها الإنساني القيم الدائم الحياة، لو أن المؤلف أسقط منها الفصل الرابع الذي يجري في مصر؛ فهو حشو يمكن بتره من المسرحية دون أن يضطرب سياقها، بل لعله يستقيم ويتركز ويخلو من ذلك التفكك الذي ينقلنا من غرناطة إلى القاهرة في غير ضرورة ولا فائدة، وخصوصًا وأن هذا الفصل لا ينبئنا بجديد عما أراد المؤلف أن يصوره من ضعف العرب في كل مكان، وتخاذلهم وانشقاقهم وتكالبهم على المغانم الرخيصة، بالرغم من تربص الأعداء الخارجيين بهم، سواء أكانوا الإفرنج في الغرب — أي في الأندلس — أو الأتراك في الشرق؛ حيث لم يلبث العدُوَّانِ أن وصلا إلى هدفهما، فطرد الإفرنج العرب من الأندلس، واستولى الأتراك على الشرق العربي ومصر، نتيجةً لما آل إليه العرب — أي حكامهم — من فساد وانحلال.