الفصل الخامس

لعنة عشتار على أوروك وقتل الثور

(في أوروك، جلجاميش يتمشَّى مزهوًّا أمام قصره، فتلمحه عشتار العظيمة من فوق مرتفع تجلس عليه.)

الراوية : اغتسل البطل من الوسخ العالق به، لمَّع أسلحته، أسدل جدائل شعره المسترسل على ظهره، نضَّى عنه ثيابه المُتسخة وارتدى ثيابًا نظيفة، وتلفَّع بمعطفه ولفَّ حزامه حول خصره، ولما وضع تاجه على رأسه، رفعت عشتار الملكية عينَيها إليه وتملَّت جماله قائلةً:
عشتار : جلجاميش! جلجاميش!
جلجاميش : من يُناديني؟ من يُنادي أسد أوروك؟
عشتار : تعالَ يا جلجاميش! تعالَ وكن عريسي! اهدِني ثمارك! أهدنيها يا جلجاميش! كن زوجي وأنا زوجك! سآمر لك بعربة من ذهب ولازورد، عجلاتها ذهبية وقرونها من ذهبٍ أبيض،١ تشدُّ عليها العواصف والبغال العظيمة. ادخل بيتنا الفوَّاح بشذى الأرز، يُقبِّل الكهنة المبجَّلون قدمَيك فوق العتبة، ويركع أمامك الملوك والأعيان والأمراء، ويُقدمون لك غلة الجبل والسهل. ستضع عنزاتك ثلاثة توائم، وستلد نِعاجك مثنى، ويلحق حمار أثقالك بالبغال. لن يُنافس حِصانَك المشدود إلى العربة حصان، ولن يكون لثورك تحت النير نظير.
الراوية : فتح جلجاميش فمه وقال لعشتار الملكية:
جلجاميش : وماذا أعطيك لو أخذتك؟٢ هل تحتاجين دهانًا لجسدك، أم تحتاجين ثيابًا؟ أتُرى ينقصك الخبز أم الطعام؟ بالطبع لديَّ طعامٌ يليق بالآلهة، وعندي من الشراب ما يليق بالملوك، لكن …
عشتار : لكن ماذا؟ ماذا بقي لديك؟
جلجاميش : لكن ما الداعي؟ إن مكانك في الشارع، يكفيك ثوبٌ ترتدينه، فيأخذك من يشتهيك.٣
عشتار : إلى هذا الحد تُهين عشتار؟ تكلَّمْ. ماذا عندك أيضًا؟
جلجاميش : مَوقد أنت، لا (يدفئ) الحديد٤ باب لا يحمي من نفس أو ريح، قصر٥ يسحق بطله، فيلٌ ينفض غطاءه، قار٦ يلوث حامله، قربة ماء تُبلل صاحبها، حجر جيري يُفجر السور الحجري، يشب يجذب٧ بلاد الأعداء، صندل٨ يُضايق لابسه.
عشتار : كل هذه الإهانات يا جلجاميش؟
جلجاميش : أي عشيق أخلصتِ له الحب؟ أي طائر من طيورك استطاع أن يُحلق في الهواء؟ أتُحبين أن أسمَّى أعز عُشاقك؟
عشتار (لنفسها) : إلهي وأبي آنو! من أدراه بهذا كله؟
جلجاميش (مندفعًا) : تموز، عشيق صِباك، قضيت عليه بالبكاء عامًا بعد عام.٩ أحببت طائر الشقراق الملوَّن ثم ضربته وكسرت جناحه، وها هو الآن يُنادي في الغابات: كابي! كابي! جناحي! جناحي! لما أحببت الأسد المكتمل القوة حفرت له من الحفر سبعًا وسبعًا. وعندما عشقت الحصان قدرت عليه السوط والمهماز، وحكمت عليه بأن يجري سبع ساعات مضاعفة، وأن يشرب من الماء العكر، وجعلت النواح من نصيب أمه سيليلى! أحببت راعي القطيع الذي ما انفكَّ يعدُّ لك الكعك على نار الفحم ويذبح لك جديًا كل يوم، لكنك ضربته ومسخته ذئبًا، وها هم صِبيته من الرعاة يُلاحقونه، وكلابه تعضُّ ساقَيه. وعشقت إيشولانو بستانيَّ نخل أبيك، الذي أراح يجلب لك السلال المملوءة بالبلح ويزين مائدتك كل يوم، رميته بلحظك وسعيت إليه قائلة: أي إيشولانو، دعنا نستمتع بفحولتك! مُدَّ يدك والمسْ جسدنا! لكن إيشولانو رد عليك بقوله: ماذا تريدين مني؟ ألم تخبز لي أمي؟ ألم آكل طعامي حتى آكل خبزي الآن ممزوجًا بالشتائم واللعنات، وأتغطَّى بالعشب الجاف لأتَّقي البرد؟ وعندما سمعت منه هذا القول ضربته وحوَّلته إلى مخلوقٍ تعس.١٠ لو أحببتني، ألن يكون حظي منك كحظ هؤلاء؟

(تتفجر عشتار غيظًا، ثم تضع يدها على فمها وتنصرف باكية.)

الراوية : لم تكَد عشتار تسمع هذا الكلام حتى صعدت غاضبة إلى السماء. مضت إلى أبيها آنو إله السماء وكبير مجمع الآلهة، وانهمرت دموعها أمامه وأمام أمها الآلهة آنتوم.١١
آنو : ابنتي عشتار؟ باكية وغاضبة كعهدي بك.
عشتار : لم أبكِ أبدًا يا أبي كما بكيت اليوم. لم يشتعل غضبي كما يشتعل الآن.
آنتوم : ماذا بك يا ابنتي؟ ابكي إن كان هذا يُريحك.
عشتار : لا يا أمي، لن يُريحني إلا الانتقام.
آنتوم : اهدئي يا ابنتي. تكلَّمي.
عشتار : لن يُهدئني الكلام ولا البكاء. لا بد من الثأر لكرامتي!
آنو : كرامتك؟ هل أسمع هذا من إلهة الحب والحرب؟
عشتار : أما الحب فبسببه أهانني، وأما الحرب فلم يبقَ سواها.
آنو : ومن هذا الذي جرؤ على إهانتك؟
عشتار : من غيره يا أبي؟ جلجاميش هو الذي أهانني، هو الذي رماني بشتائمه، هو الذي صبَّ عليَّ لعناته!
آنو (مُبتسمًا) : لا بد أنك أثَرت ملك أوروك! لذلك صبَّ عليك شتائمه ولعناته.
آنتوم : ولذلك تريدين الانتقام من رفضه لك.
عشتار : يرفضني أنا يا أمي! أنا ربَّة الخصب والحب!
آنتوم (في حنان) : وربَّة الحرب أيضًا يا حبيبتي. من ينسى هذا؟
آنو : أجل! والحرب! كم أخشى عليه منك يا عشتار!
عشتار : لتكن خشيتك على أوروك! على الأرض والبشر، والزرع والحقل والنخل، على …
آنتوم : اهدئي يا ابنتي!
آنو : ألم تبدئيه أنت؟ اعترفي يا عشتار!
عشتار : أعترف؟ نعم. نعم. لقد أحببته يا أبي. لم أقوَ على مقاومة جماله فعرضت عليه حبي.
آنو : وعرضت عليه مع الحب الحرب. أليس كذلك؟
عشتار : بل هو الذي راح يُعدد عُشاقي.
آنو : خوفًا من أن يصبح واحدًا منهم. عليك أن تعذريه يا ابنتي.
عشتار : أعذره؟ بل أنتقم منه يا أبي، أسحقه وأسحق شعبه. إليَّ يا أبي بالثور السماوي.
آنو : الثور السماوي؟ هل تدرين ماذا تطلبين؟
عشتار : أجل. وأعددت لكل شيء عدته.
آنو : وتنتظرين أن أسلمك مِقوده؟ هل قدَّرت نتائج فعلك؟ هل فكَّرت فيما يمكن أن يصنعه بالأرض والناس؟
عشتار : نعم يا أبي. فكَّرت وقدَّرت، ولن أبرح مكاني حتى تُسلمه لي.
آنو : أسلمه لك؟ هل تعِين ما تقولين؟
عشتار : إن لم تفعل يا أبي فسوف أحطِّم أبواب العالم السفلي، وأقوِّض أعمدته، وأترك بواباته مفتوحة على مصاريعها. سأجعل الموتى ينهضون ويلتهمون الأحياء،١٢ حتى يربو عدد الموتى على عدد الأحياء.
آنو : اسمعي يا ابنتي. لو فعلت ما تطلبين مني لعمَّ الجفاف سبع سنين. هل جمعت من القمح ما يكفي الناس، وزرعت من العشب ما يكفي الماشية؟
آنتوم : أجيبي يا عشتار على أسئلة أبيك، فلن يُرضيني أو يُرضيه …
آنو (مُقاطعًا) : ولن يُرضيك أن تهلك الحياة على يد ربَّة الحب والخصب.
عشتار (في هدوء وتصميم) : أبي! أمي! لقد كدَّست القمح الذي يكفي الناس، وجمعت العشب الذي يكفي الماشية. ادَّخرت القمح للبشر، وزرعت العلف للماشية؛ لكي يشبعوا في السنوات السبع العجاف.
الراوية : تتبع هذا خمسة أو ستة أسطر مشوَّهة، يبدو منها ومما يليها أن «آنو» قد رضخ لإرادة ابنته وسلَّمها مِقود الثور السماوي. سحبته عشتار وهبطت به إلى الأرض، ساقته إلى حِمى أوروك.
أحد الشيوخ :
آه! كم تؤلمني تلك الذكرى!
هبط الثور إلى أوروك ومعه الذعر.
خار لأول مرة،
مائة رجل سقطوا،
مائتان، ثلاث.
خار لثاني مرة،
فتهاوى مائة،
مائتان، ثلاث.
وانقض على إنكيدو في ثالث مرة.
أوشك أن يدهمه،
أن يلطمه،
فتفاداه ابن البرية،
وثب عليه وأمسكه من قرنَيه.
أرغى الثور وأزبد.
قذف كمثل الشلَّال رغاءه.
قذف الروث بذيله.
إنكيدو صاح بجلجاميش:
كم يا صاحبي تباهَينا وتفاخرنا!
هيَّا الآن نوزِّع دورَينا.
أما أنا فسأمسك ذيله،
لن يفلت مني.
اطعن أنت بسيفك واغرس نصله
بين الرقبة والقرنين.
الراوية : شدَّد إنكيدو قبضته على ذيل الثور السماوي. أما جلجاميش فأصابه إصابة القوي الواثق مثل جزَّار خبير،١٣ فطعنه بسيفه بين العنق والقرنين. ولما قتلا ثور السماء انتزعا قلبه ووضعاه أمام شمش، ثم تراجعا وركعا في خشوع. وعندما نهضا من صلاتهما شعر إنكيدو بألمٍ حادٍّ في فخذَيه وجنبه. مدَّ يدَيه ليتحسَّس موضع الألم وكأنه يقتلع نصلًا غُرِس في لحمه، وتأمَّل يده فوجدها مبلَّلة بالدم. كتم الآهة حتى لا تخرج من شفتَيه، ومسح يده خفية في طرف ردائه. أما جلجاميش فانطلق يُنادي على أصحاب الحِرف وصُناع السلاح ليعرض عليهم قرنَي الثور السماوي. بينما تردَّد في الفضاء صوتٌ يلعن أوروك.

(سور أوروك. عشتار تعتلي السور أشبه بنمرةٍ مُتوحشة وهي تزعق وتصيح كسِربٍ من الطيور السوداء الجارحة. جثة الثور مُلقاة على أرض الساحة بعد أن فُصِل رأسه عن جسده.)

عشتار (وهي تصبُّ لعناتها من فوق السور) :
اللعنةَ يا أوروك!
اللعنةَ يا أوروك!
ملعونٌ من يشرب ماءك أو يأكل زادك،
من يقرب غرسك وحصادك،
من تلمس قدماه ترابك،
أو تذروا كفَّاه رمادك.
ملعون! ملعون! ملعون!
ملعون من ولد ويولد في أوروك،
من يدخلها أو يخرج منها،
من يحميها ويدافع عنها،
من يرفع حجرًا أو يُشعل نارًا في موقد،
من يعشق فيها امرأة،
أو يطرق بابًا،
أو يتبتل في معبد.
ملعون! ملعون! ملعون!
ملعونٌ من يطأ الأرض ومن يتمدد في ظلمات القبر،
من يسكن كوخ القصب ومن يتنعم في غرفات القصر.
ملعون! ملعون! ملعون!
ملعونٌ من قتل الثور!
ملعون من قتل الثور! (تبكي في حرقة وتردِّد بعض السطور السابقة.)
إنكيدو : ويلك يا عشتار، ما هذا الذي تفعلين؟
عشتار : ألعنك وألعن جلجاميش الذي أهانني وشهر بي وقتل الثور؟!

(ينتزع فخذ الثور السماوي ويقذفها في وجهها.)

إنكيدو : لو استطعت الإمساك بك، لنالك أنت أيضًا مثل ما ناله، ولربطت أحشاءه حول ذراعك.
الراوية : ازداد الألم على إنكيدو، صرخت عشتار.
عشتار : ويلك يا إنكيدو!
ويلك يا جلجاميش!
الراوية : أدركت اللعنة إنكيدو فانثنى على جرحه واستند على حجرٍ يتأوَّه. بينما أخذ جلجاميش يُقلب يدَيه وعينَيه في قرنَي الثور، ويتيه إعجابًا بهما أمام جموع الصناع والحدادين.
جلجاميش : انظروا يا صناع السلاح! تأمَّلوا يا أصحاب الحِرف! هل رأى أحد منكم مثل هذه القرون؟ هل شهدها يومًا على رأس ثور أرضي؟ هذا الحجم وهذا الوزن! إن وزن الواحد منهما ثلاثون رطلًا من اللازورد، وسُمْك قشرته عشر أقدام، وسعته ستة جورات من الزيت،١٤ سأقدِّمها هبةً لإلهي الحامي لوجال بندا. هيَّا أيها الصناع وأنتم أيها الخدم! تعالَوا واحملوها إلى قصري، قولوا لنسائي وعبيدي سيدنا يأمركم أن تُعلقوها في مخدعه. هيَّا! هيَّا! ما هذا؟ ما هذه الغربان الناعقة؟ أين إنكيدو؟ تعالَ يا صديقي. ماذا تفعل عندك؟ أف لهذه الأصوات المُزعجة. تعالَ! تعالَ!

(يتَّجه إلى إنكيدو، بينما يتردد بكاء عشتار مع حشد من البنات المنذورات وبغايا المعبد اللائي الْتَففن حولها ورُحْن يندبن الثور السماوي، وهن يطفن حوله ويرقصن رقصاتٍ حزينة، ويُرددن مع عشتار):

عشتار :
اندبْنَ يا بنات،
ثورًا من السماء،
أرسله آنو،
ليفتدي عشتار،
وينشر الدمار،
والموت والوباء.

•••

شواطئ الفرات،
تبكيك يا ثوري.
يا ويلتي قد مات،
ولم يمُت ثأري.
فليهدم السور،
وينطفئ النور،
وتُقفر الدور،
من بسمة الحب،
ونعمة الخصب.

•••

كانت له عيون،
كأنجم السماء.
كانت له قرون،
أبهى من الضياء.
انطفأت عيونه.
تحطَّمت قرونه.
وجسمه أشلاء.
رمته في العراء،
مدينةٌ ملعونة.

•••

يحكمها جبَّار،
لا يعرف الحبا.
شاء لها الدمار،
والعقم والجدبا.

•••

سيزحف الجراد،
ويأكل الحصاد،
وينشر السواد،
أجنحة الحداد،
على رُبا النهر،
والكوخ والقصر.
والقحط والجفاف،
يُحاصر المدينة.
سنينها العجاف،
تشهدها اللعينة،
على مدى الدهر،
تصير كالقبر،
في الصمت والقهر.
جلجاميش (ضاحكًا وهو يُقبِل على صديقه) : أين أنت يا صديقي؟ لماذا لم أرَك مع أصحاب الحِرف وصناع السلاح؟ ليتك أبصرت الذهول في عيونهم! ليتك شاهدت الإعجاب بجلجاميش! ماذا بك؟ ولماذا تجلس وحدك على هذا الحجر؟ تسمع عشتار وعاهراتها؟ (يضحك) هل أوحشك نعيق البوم والغربان؟ تعالَ! تعالَ! ماذا أسمع؟ هل تتأوَّه معهن في يومٍ نحتفل فيه بالنصر؟ بعد قليل يطوف موكبنا بالشوارع والأسواق. تنطلق الحناجر بالهتاف والغناء. هيَّا نمضِ إلى شواطئ الفرات. هنالك نغتسل ونمسح عن أجسامنا تراب المعركة، وتغسل أذنيك كذلك من نواح عشتار والعاهرات! هيَّا هيَّا هيَّا!

(على شاطئ الفرات. البطلان يغسلان أيديهما من دماء الثور السماوي. إنكيدو يتحسس جرحه في صمت، بينما يتأمل جلجاميش صورته في الماء.)

جلجاميش (فيما يُشبه الغناء) :
هو الذي رأى.
هو الذي انتصر.
هو الذي مضى
يُواجه الخطر.
إنكيدو (يغسل يدَيه ويتأوَّه) : آه!
جلجاميش (مُواصلًا الغناء) :
البطل الوسيم،
والملك الحكيم.
راعي أوروك الملك الحق على العرش.
الثور الناطح والأسد الجامح كالوحش.
هيَّا يا صديقي! تأمَّل صورتك وغنِّ مِثلي! (لا يرد عليه إنكيدو).
أو ابكِ إذا شئت الثور المقتول ونُحْ مع عشتار.
إنكيدو، إنكيدو، هل تسمعني؟ (يُطلق حنجرته بالغناء).
ثلثاه إله والثلث الباقي بشري فانٍ.
نقش الآلهة على لوح القدر
الاسم الخالد،
حتى امتلأ فهاتوا اللوح الثاني.
جلجاميش المجيد،
يُسجل الأثر،
في اللوح والحجر.
هذا هو الخلود.
هذا هو الخلود.
هو الذي رأى.
هو الذي انتصر.
صوت (من بعيد كالهمس) :
هو الذي طغى.
هو الذي قهر،
الأرض والبشر،
والطير والشجر.
جلجاميش (صائحًا) :
أنا الذي طغى؟
أنا الذي قهر؟ (ثم مُحتجًّا)
الملك العادل!
الملك الكامل!
الصوت (يزداد وضوحًا) :
أنت الذي طغى.
أنت الذي قهر.
جبَّارٌ ظالم!
طاغيةٌ آثم!
جلجاميش : ما هذا؟ من أنت؟ اظهر أيها اللعين. أرِني وجهك حتى أحرقه غضبًا أو أفصله عن جسدك. هل سمعت يا إنكيدو؟ هل سمعت؟ لماذا لا ترد عليه؟
أين أنت يا إنكيدو؟

انتظر أيها الشبح الخائف! بعد قليل ترد عليك أوروك وشعب أوروك! (يبحث عن إنكيدو حتى يجده مُنكفئًا على وجهه.)
جلجاميش : ما هذا؟ ماذا أرى؟ هل نِمت يا صديقي؟ يا رفيق الأخطار والأسفار، هل غلبك النوم فلم تغتسل من غبار المعركة؟
إنكيدو (يتأوه) : آه!
جلجاميش : هل تذكر ليلة نِمت فأيقظتني؟ رأيت أحلامًا وفسَّرتها لك. جاء دوري الآن. هيَّا ارْوِ الحلم أفسِّره لك! (يُساعده على الجلوس.)
إنكيدو : تقول رأيت حلمًا؟
جلجاميش : نعم. نعم. والأحلام سعيدة.
إنكيدو : لا يا جلجاميش! لا!
جلجاميش : إذن فقد سمعت صوتًا؟
إنكيدو : سمعت صوتًا؟ أجل. أجل. ورأيت كذلك …
جلجاميش : ماذا سمعت؟ ماذا رأيت؟
إنكيدو (وهو يُغالب ألمه) : سمعتها تُخاطبني، كأن صوتها قمرٌ شاحب يُطل من بين الأغصان المُلتفة في الغابة: حاذِرْ يا إنكيدو! حاذِرْ قرن الثور!
جلجاميش (ضاحكًا) : والثور انتصرنا عليه. أليست أشلاؤه في الساحة؟ ماذا قالت أيضًا؟
إنكيدو : لا تنسَ أوروك! لا تنسَ الشعب البائس في أوروك!
جلجاميش : الشعب البائس ينتظرك بالفرح والغناء. بعد قليل سيمرُّ الموكب في الأسواق والشوارع. انهض يا صاحبي على قدمَيك، هل تنتصر على الثور وينتصر عليك النوم؟
إنكيدو : ورأيتها تنظر إليَّ والدموع في عينَيها.
جلجاميش : من؟ عشتار الملعونة؟
إنكيدو : لا. لا. الغزالة!
جلجاميش (ضاحكًا) : الغزالة؟ هل رجعت أيضًا إلى البرية؟ ما أعجبه من حلم!
إنكيدو : اقتربت منها ففرَّت هاربة، ثم التفتت برأسها من بعيد وهي تبكي: لمَ دنَّست يدَيك؟ لمَ دنَّست يدَيك؟ (تتساقط دمعة على يد جلجاميش.)
جلجاميش : وتبكي أيضًا؟ إنها الأحلام يا إنكيدو، الأحلام.
إنكيدو : لا يا جلجاميش! الألم فظيع! الألم فظيع!
جلجاميش : قلت لك أحلام! أحلام! الواقع سيُكذبها بعد قليل!

(إنكيدو يتنهد ويُمسك خاصرته وجنبه. يسيران مُتشابكي الأيدي بينما يرفع جلجاميش عقيرته بالغناء.)

جلجاميش (يختلط صوته بأصوات تتردد من بعيد) :
هو الذي رأى.
هو الذي انتصر.
أصوات :
أسد أوروك الجبار.
البطل العائد للدار.
الملك العادل،
والراعي الكامل.
حبيبنا الوسيم.
أميرنا الحكيم.
صوت (هامس من بعيد) :
هو الذي طغى.
هو الذي قهر.
جبَّارٌ ظالم.
طاغيةٌ آثم.
صوتٌ آخر (يعلو عليه) :
البطل العظيم،
والملك الحكيم.
الأسد الجبَّار،
عاد إلى الديار.
والمجد والفخار،
للشعب والمدينة.
الصوت الهامس (من بعيد) :
العار والشَّنار،
والذل والدمار،
لأمِّنا الحزينة،
لأمِّنا الحزينة.

(يخرجان مُتشابكي الأيدي. إظلام.)

الشيوخ :
هدرت أمواج الشعب على الطرقات،
وفي الأسواق وفي الساحات.
وازدانت كل العربات الذهبية
بالأزهار وبالرايات.
وارتفعت دقات الطبل. هتاف الشعب.
فلم نعرف — نحن شيوخ أوروك وعجائزها —
هل كانت أصوات الحب،
تُرفرف من أعشاش القلب؟
أم كانت أصوات الرعب،
تدوم كجناحَي خفاش أعمى من أعماق الجب؟
راح البطل الظافر يهتف بعذارى المعبد،
بنساء القصر:
من بطل الأبطال؟
من أشجع الرجال؟
فيردُّ الشعب عليه :
جلجاميش.
جلجاميش.
يا بطل الأبطال!
يا أشجع الرجال!
راحت شمخات تجري خلف الموكب،
وتُحاول أن تصل لعربة إنكيدو السائرة مع الركب:
اسمعني يا إنكيدو! لمَ لا تتكلم؟
آه! أشعر أنك تتألم.
اترك جرحك يفتح شفتَيه ويصرخ بلسان الدم.
كذبٌ ما تفعل يا إنكيدو
ما يفعله جلجاميش،
ما تشهده أوروك.
كذب، بهتان، ظلم!
النصر على خمبابا،
وصراعكما مع هذا الثور،
كذبٌ لم نحصد منه سوى المحنة والعقم،
والقحط العاصف في أوروك كرياح السم.
آه! لا تنسَ أوروك!
ولا تنسَ الشعب البائس في أوروك.
أنسيت وعودك عند النبع،
وغضبك في كوخ رعاة الجبل
وتحت عيون الأنجم؟
إن كنت نسيت وعودك
فاترك جرحك يا إنكيدو يتكلم.
دعه يصرخ من هذا الظلم ويتَّهم المُجرم.
لكن الصوت يغيب ويفتر.
تدهمه دقات الطبل،
تُدوي كالرعد وتزأر.
تُسرع عربات الموكب،
يحدوه هتاف الهاتف،
وغناء العازف،
ودوي الطبل الأجوف.
وعلى البعد تُجرجر عرباتٌ أخرى
جثث المقتولين،
المائة المائتين الألف.
تدفعها الأم الثكلى،
والشيخ العاجز،
والطفل الراجف من نذر الخوف.
وتحوم في الآفق الذاهل
أجنحة الطير الأسود،
تُطلقه عذارى المعبد.
ويغيب الركب ويبتعد الموكب،
وتظل مناحة عشتار
تصبُّ اللعنات على رأس الشعب.
والربَّة تصرخ من فوق السور،
وتقف هناك كتمثالٍ مُتعَب،
أهمله البشر،
تخلَّت عنه الآلهة،
فلا أحد يُعِين،
ولا شيء يُواسي القلب.
حطَّ رجال البطل الظافر،
مع صاحبه عند القصر.
قبَّلت العتبة قدميه،
وباركه الكهنة والأمراء.
نثر الناس عليه الملح،
وباقات الزهر.
وأقيمت مأدبة النصر.
أريقت أنهار الخمر.
أضيئت كل الأنوار.
ورقص البطل مع الأبطال،
وغنَّوا حتى الفجر.
حتى أمر النوم،
فصدع الملك الظافر للأمر.
سكت الناي مع القيثار،
وأغفت عين الفرح
الساطع كالبدر.
شيَّعه الخدم لمخدعه.
رفعوا أيديهم،
ودعوا أن تُسدل أستارَ النوم عليه
آلهةُ الليل «وآيا» سيدة الفجر.
وقف أمام قرون الثور.
سبَّح بالحمد لشمش،
وتمتم بصلاة الشكر.
امتدَّت يده تبحث عن يد إنكيدو،
واشتبكت كف مع كف،
وتوهَّج جمر في طيات الصدر.
ألقى الملك الجسد الهائل فوق الفرش.
تثاءب، أرخى ملك النوم
عليه الستر.
أما إنكيدو فقد أرَّقه الجرح.
وحين طواه النوم وداعب عينَيه الحلم،
أفاق وفي عينَيه الذعر.
وصحا إنكيدو.
صاح وولول:
يا جلجاميش! يا جلجاميش!
لمَ يتشاور جمع الآلهة؟
لماذا يغضب إنليل عليَّ؟
وماذا كتب القدر ودبَّر؟
زُلزل جلجاميش.
لدغته الأفعى.
قال لصاحبه:
اهدأ يا إنكيدو.
اروِ الحلم.
تعالَ نُفكر.
آه مما دبَّر إنليل وقدَّر!
ها هي كف الخطر تدقُّ الباب،
وفي الأفق تغيم السحب،
ويرمقنا كوكبٌ نحس مُنذِر.
(يسكت الشيوخ. إظلام.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤