الفصل الثامن
لقاء مع أوتنابشتيم وأخبار الطوفان عودة جلجاميش بالنبتة
(يتقدم جلجاميش حذرًا من مرقد أوتنابشتيم الذي يتمدد على ظهره كجثة مريض مخدَّر، وهو عجوزٌ نحيل، ينبعث صوته كصفير الريح بين أعواد القصب.)
أوتنابشتيم
:
تريد الدوام والثبات؟ تعالَ يا ولدي. (مُناديًا
زوجته): تعالَي أنت أيضًا يا زوجتي، تعالَي لترَي القادم إلينا من
بحر الزوال والموت.
الزوجة
:
إلينا نحن؟ نحن الأسماك المُلقاة على رمل الأبدية؟
أوتنابشتيم
:
(لجلجاميش) جئت تبحث عندي عن الحياة؟
الزوجة
:
(بعد أن تنظر طويلًا إلى جلجاميش) يبحث عندك
أنت عن الحياة؟
أوتنابشتيم
:
انتظري يا زوجتي. تكلَّمْ يا جلجاميش.
جلجاميش
:
قلت لنفسي بعد أن أدرك أخي وصديقي حظ البشر: فلأذهب إلى جدي
أوتنابشتيم.
الزوجة
(مُقاطعة)
:
جدك أوتنابشتيم، انظر إليه يا ولدي.
أوتنابشتيم
(غاضبًا)
:
قلت انتظري يا امرأة. أكمِلْ يا جلجاميش.
جلجاميش
:
فلأذهب لأوتنابشتيم البعيد، الذي باركته الآلهة ووجد الحياة.
الزوجة
(بازدراء)
:
باركته الآلهة وباركتني معه! نعم. نعم.
أوتنابشتيم
(ينظر إليها شزرًا)
:
وآسفاه! حتى الأبدية لا تُسكت لسان امرأة ولا تُغلق فمها! ثم ماذا يا
جلجاميش؟
جلجاميش
:
وهكذا غادرت أوروك وطُفت البلاد. قطعت الطُّرق البعيدة، تسلَّقت الجبال
الوعرة. عبرت الأنهار والبحار. جُعت وطعمت زاد الألم. عطشت وشربت كئوس العذاب.
صوَّبت سهامي للوحش السادر في البرية وتغذَّيت بلحمه، وكسوت الجسد المُعتل
بجلده، حتى وصلت قدماي إلى حافَّة بحر الموت. هناك رأيت سيدوري. رقصتْ، غنَّت،
مدَّت يدها بالكأس.
الزوجة
(صائحة)
:
سيدوري ساقية الحانة؟ ما أسعدها بالخمرة وغناء الكأس!
أوتنابشتيم
:
(ينظر إليها في غضب) أكمِلْ يا
جلجاميش!
جلجاميش
:
لتهدم حانتها ولتنسكب الخمرة في جوف البحر! ولتهجم أرواح الموتى من أعمق
ظلمات الأرض فتلتهم اليابس والأخضر!
الزوجة
:
إلى هذا الحد تريد الخلود؟ ألم تجد الحياة لديها؟
جلجاميش
:
لم تكن هي الحياة التي أبحث عنها، لم تكن هي الحياة التي فُزت بها يا
أوتنابشتيم. أتوسَّل إليك؛ دُلَّني عليها! دُلَّني عليها!
أوتنابشتيم
:
أية حياة تقصد يا ولدي؟
جلجاميش
:
الحياة بلا موت، ولا ألم، ولا ظلام. الحياة …
الزوجة
(تُقاطعه)
:
مثل حياتي وحياتك يا زوجي الخالد؛ بلا موت ولا ألم ولا ظلام، بلا حياة ولا
فرح ولا نور.
جلجاميش
:
أريد الحياة التي لا تنتهي إلى التراب؛ التراب الذي أُهيلَ على أخي وصديقي
ولن ينهض منه أبدًا (يبكي).
الزوجة
:
تريدها لنفسك يا جلجاميش؟
جلجاميش
:
ولشعبي في أوروك، ولكل إنسان.
الزوجة
:
حقًّا! حقًّا! لشعبك في أوروك، ولكل إنسان.
أوتنابشتيم
:
يا ولدي كُفَّ عن الشكوى ودع السخط.
آه ما أقسى الموت!
قدَّره آلهة الكون على البشر،
ولن ينعم بخلود
إنسانٌ فانٍ قط.
جلجاميش
(لنفسه)
:
آه من هذا الملل القاتل!
هل جئت لأسمع من جدي الكامل
حكمة رجل فاشل؟
أوتنابشتيم
(مُواصلًا)
:
تبغي للحي دوامًا؟
هل دام الحال لحي؟
هل نبني بيتًا للأبد،
ونختم عقدًا،
أو نُبرم عهدًا لا يُمحى؟
هل يقتسم الإخوة ميراثًا يبقى؟
أم يبقى الحقد بقلب الحاقد لا يفنى؟
أتدور الدورة حتمًا، ويفيض النهر
ولا يُخلف وعدًا؟
واليعسوب الأعمى
إن أبصر ضوء الشمس
ألا يلقى حتفه؟
أيُرفرف كيلولو أو كيرريبا١
في ظل ربيع لا يذبل يومًا؟
أم تنظر وجهَ الصبح الناصع
عيناه دومًا؟
منذ القِدم وليس هناك ثبات.
ليس هناك خلود.
منذ القدم وللأبد.
كم يُشبه وجه النائم وجه الميت في اللحد!
من سيُميز — إن وافى الأجل الفاجع —
بين السيد والعبد؟
منذ تشاور جمع الآلهة العظمى
قسَّمت «مامتوم»٢
سيدة القدر الكبرى
حظ الانسان.
ولكن لم تكشف أبدًا عن يومه؛
ولذلك غاب
وسوف يغيب دوامًا عن علمه.
جلجاميش
:
هل جئت لأسمع هذا منك؟ إنني أنظر الآن إليك فلا أراك تختلف عني؛ فأنت تُشبهني
كما يُشبه الوالد ولده، وقسمات وجهك مثل قسمات وجهي، تصوَّرتك بطلًا مُتهيئًا
للمعركة، وجئت إليك وقلبي مُصمم على الصراع معك، وها أنا أجدك راقدًا في هدوء
على ظهرك. قل لي: كيف دخلت مجمع الآلهة؟ كيف فُزت بالحياة الخالدة؟
أوتنابشتيم
:
سأكشف لك يا جلجاميش عن أمرٍ خفي، سأُطلعك على سر من أسرار الآلهة، لا شك أنك
تعرف مدينة شورباك٣ على شاطئ الفرات، كانت هذه المدينة قد ألمَّت بها الشيخوخة كما
شاخت الآلهة التي تعيش فيها. ولما فاحت رائحة الفساد بين أهلها وارتفع ضجيجهم
في أسماع الآلهة، صمَّموا على تسليط الطوفان عليها، واجتمعوا للتشاور فيما
بينهم: أبوهم «آنو» إله السماء العالية، «إنليل» البطل رب العواصف العاتية،
«ونينورتا» رب السدود والقنوات، و«آيا» رب الحكمة والمياه العذبة. واتفق الآلهة
على إفناء البشر، غير أن «آيا» الذي أقسم على الوفاء للبشرية حذَّرني في الحلم
وهمس لبيتي بما دار بينهم (يُقلد صوت آيا وهو يهمس
لكوخ القصب وجدرانه): يا كوخ القصب! أيها الجدار! أنصِت يا كوخ
القصب! وافهم يا جدار! يا رجل شورباك! يا ابن أوبار-توتو،٤ اهدم بيتك وابنِ سفينة، ازهد في الثروة وانجُ بنفسك، اهجر
ممتلكاتك، أنقِذ روحك! واحمل في فلكك بذرة كل حياة! اجعل عرضها مُساويًا
لطولها، وغطِّها بسقف يُشبه سقف الآبسو.٥ سمعت ما قاله آيا وفهمته، ثم قلت: سأفعل يا مولاي ما أمرتني به،
ولكن ماذا أقول للمدينة وشعبها وشيوخها؟ فتح آيا فمه وقال لعبده: قل لهم لقد
علمت أن إنليل غاضب عليَّ؛ ولهذا حرَّم عليَّ أن أعيش في مدينتكم، ولن يسمح لي
بأن أمشي على أرضه، سأهبط لهذا السبب إلى بحر المياه العذبة حيث أعيش مع ربي
وإلهي آيا، وسيُمطركم ربي خيرات وطيورًا وأسماكًا وفيرة، ويهبكم من الحصاد
ثروةً لا تنفد، ويرسل عليكم البقول في الصباح، ويُمطر عليكم القمح في المساء.
وما إن لاحت تباشير الفجر حتى تجمَّع الناس من حولي، بعضهم قدَّم الأضاحي من
الشياه المُنتقاة، والبعض الآخر أحضر معه أغنام البرية، والأطفال حملوا معهم
القار، والأقوياء من الرجال جلبوا معهم كل ما يلزم.
جلجاميش
:
وخدعتهم يا جدي أوتنابشتيم؟! هل تعترف بخطئك في حق الناس؟
أوتنابشتيم
:
وأي خطيئة ارتكبتها يا ولدي لإنقاذ الحياة؟ في اليوم الخامس صمَّمت هيكل
السفينة، جعلت مساحة سطحها حقلًا واحدًا،٦ وارتفاع جدرانها مائة وعشرين ذراعًا. ثم أكملت شكلها الخارجي على
هذه الصورة؛ صنعت فيها ستة طوابق، وقسَّمتها إلى سبعة أدوار، والأرضيات إلى
تسعة، وثبَّتها من الوسط بمصدَّات المياه. زوَّدتها بالمجاديف وخزَّنت فيها
المؤن، وسكبت في الفرن ست وزنات من القار، وثلاث وزنات من الأسفلت. أحضر حمَلة
السلال وزنات من الزيت، استهلك الطحين واحدًا منها، وخزَّن ملَّاح السفينة
اثنتين. ذبحت للناس عجولًا، ورُحت أنحر الخِراف كل يوم، وسقيت الصُّناع العصير
ونبيذ السمسم والزيت والخمر،٧ فأقبلوا عليها كأنهم يشربون من نهرٍ جارٍ، ويحتفلون بعيد من أعياد
رأس السنة. واكتملت السفينة في اليوم السابع مع غروب الشمس،٨ فحمَّلتها بكل ما أملك من فضة وذهب ومن بذور كل كائن حي، ثم أدخلت
إليها كل أهلي وأقاربي، ووحوش البرية وحيوانها، وجميع أصحاب الحِرف والصنائع
جعلتهم يدخلون. كان شمش٩ قد حدَّد لي مهلةً معيَّنة، وقال لي: «سأرسل في الصباح بُقولًا،
وفي المساء مطرًا من القمح، عند ذلك ادخل السفينة وأغلِقْ بابك.» رُحت أقلب
بصري في الأفق وأراقب أحوال الطقس، وعندما حل الموعد الذي ضربه الإله ونصب
المساء خيمته، أرسل «حدد»١٠ رب العاصفة مطرًا مُخيفًا. نظرت إلى الأفق ففزعت، ودخلت السفينة
وأغلقت الباب، ثم أسلمت قياد الفلك بكل ما فيه من متاع لملَّاح الدفَّة
بوزر-أموري.١١ وما إن لاح أول ضوء حتى ارتفعت في السماء سحابةٌ كثيفة السواد
يركبها حدد ويرعد فيها ويبرق، يتقدمه رسولا العاصفة «شولات» و«خانيش» اللذان
انطلقا فوق التلال والجبال والسهول. اقتلع «أرجال» الدعائم١٢ وفتح نينورتا السدود، فسالت المياه من الخزانات. رفع الآنوناكي،
قضاة الجحيم السبعة، مشاعلهم عاليًا ليحرقوا الأرض بوهجها المُرعب، وغشَّى
السماء الضيق والحصر لما أحال «حدد» كل نور إلى ظلام، وتحطَّمت الأرض الشاسعة
كما تتحطم قِدر الفخار، هبَّت العاصفة الجنوبية يومًا بأكمله، وأخذت تتدافع
مُسرعة حتى أغرقت المياه الجبال، وداهم مدها البشر فأتى عليهم كالحرب المُهلكة.
لم يستطع أحدٌ أن يتعرف على أحد، ولم يعرف الأخ أخاه، ومن السماء لم يظهر أثر
لأبناء البشر، وذُعِر آلهة بابل من هذا الطوفان فلجئوا إلى سماء آنو، وأقعَوا
عند الجدران كالكلاب المُرتعدة، وصرخت عشتار سيدة الآلهة ذات الصوت العذب كما
تصرخ امرأة في المخاض:
عشتار
(أو صوتها)
:
ويلي! يا ويلاه! ليت هذا اليوم صار إلى الوحل والطين!١٣ كيف أمكنني أن أوصي بهذا الشر في مجمع الآلهة؟ كيف أمرت بتسليط
الحرب على البشر لتفتك بهم؟ ألست أنا التي أنجبت أحبابي من الناس؟ وهل أنجبتهم
لكي يملئوا البحر كصغار الأسماك؟
أوتنابشتيم
(مُواصلًا كلامه)
:
وبكى معها الآلهة الكبار.١٤ انكفئوا في مجلسهم وأخذوا ينوحون بشفاهٍ جافَّة. ستة أيام وست
ليالٍ والرياح تُواصل هبوبها، والطوفان والعاصفة الجنوبية يجتاحان الأرض، حتى
إذا جاء اليوم السابع خفَّت وطأة الحرب التي شنَّها الطوفان والعاصفة، بعد أن
أطاحت بما حولها كامرأة في المخاض. هدأ البحر وسكنت أمواجه، وخمدت العاصفة
وتراجع الطوفان. عندئذٍ فتحت الكوة فسقط الضوء على وجهي، وتطلَّعت أبحث عن
اليابسة فلم أجد غير السكون الشامل من حولي، والبشر جميعًا قد تحوَّلوا إلى
طين، والسطح المُنبسط أمامي مُستوٍ كأسطح البيوت. ركعت على قدمي وبكيت، جرت
الدموع على وجهي وبكيت. (يُحاول عبثًا أن يبكي، تقف
زوجته غاضبة وهي تصيح):
الزوجة
:
ابكِ يا أوتنابشتيم! حاوِلْ أن تبكي على نفسك وعليَّ!
أوتنابشتيم
(صارخًا)
:
ومن أين لي بالدموع؟ هل نسيت أنني خالد؟ إنك أيضًا خالدةٌ مثلي؟
الزوجة
:
لم أنسَ أننا تحوَّلنا إلى طين.
أوتنابشتيم
:
لو حدث هذا لما عجزت عن إسكاتك منذ أن انحسر الطوفان. ذكِّرني يا
جلجاميش.
ماذا كنت أقول؟
ماذا كنت أقول؟
جلجاميش
(مُتفكرًا)
:
أجل. أجل. كنت تبكي على البشر الذين تحوَّلوا إلى طين.
أوتنابشتيم
:
وما زِلت أبكي يا ولدي، لكن بلا دموع. (مُواصلًا
حكاية الطوفان) مددت بصري إلى تُخوم البحر مُستطلعًا الشواطئ.
برزت جزيرة على بعد اثنتَي عشرة ذراعًا مضروبة في اثنتَي عشرة. واقتربت السفينة
من جبل نصير١٥ الذي أمسك بها فاستقرَّت عنده ولم تهتز. أمسك بها الجبل ومنعها من
الاهتزاز يومًا ويومًا ثانيًا، أمسك بها ومنعها من الاهتزاز يومًا ثالثًا
ورابعًا، أمسك بها ومنعها من الاهتزاز يومًا خامسًا وسادسًا. وعندما أقبل اليوم
السابع أتيت بحمامة وأطلقتها. طارت الحمامة بعيدًا ثم رجعت، لم ترَ عينها
مكانًا تستقر فيه فعادت أدراجها. أتيت بعصفور سنونو وأطلقته. طار السنونو
بعيدًا ثم رجع، لم ترَ عينه موضعًا يستقر فيه فعاد أدراجه. أتيت بغراب وأطلقته.
طار الغراب كذلك بعيدًا، ولما رأى الماء قد انحسر، أخذ يأكل ويحوم وينعب ثم لم
يرجع. تركت الجميع١٦ ينطلقون لجهات الريح الأربع وقدَّمت أضحية. أقمت وليمة قربان سكبت
فيها الخمر على قمة الجبل، ووضعت سبعة مراجل وسبعةً أخر، أفرغت في أوعيتها
أعواد القصب وخشب الأرز والآس. شمَّت آلهة بابل الرائحة الزكية، فتجمَّعت
حشودها كالذباب حول الضحية والمُضحين، ولما أن حضرت «عشتار» سيدة
الآلهة١٧ رفعت عقدها الكريم الذي صنعه لها «آنو» ليُدخل السرور على قلبها،
وصاحت قائلة (تظهر عشتار سيدة الآلهة على أحد مستويات
المسرح الأخرى ويُسلَّط الضوء عليها، ثم يتوالى ظهور «إنليل» رب العاصفة
الغضوب، و«آيا» رب الحكمة والمياه العميقة وصديق البشر، ونينورتا إله
السدود والقنوات، وأوتنابشتيم وزوجته):
عشتار
(ترفع العقد في يدها)
:
أيها الآلهة الحاضرون جميعًا، بحق هذا العقد الكريم، وبحق أبي آنو الذي أهداه
إليَّ، أبدًا لن أنسى هذه الأيام المُخيفة، كما لن أنسى اللازورد واللؤلؤ
الإلهي الذي يلتفُّ على جيدي، أبدًا لن أنساه أبدًا. فليأتِ الآلهة جميعًا إلى
هذه الوليمة، ولنبتهج بإنقاذ الحياة. أما إنليل فليس له أن يحضرها، ليس له أن
يذوق طعامها أو يشرب من خمرها. محالٌ أن نراه معنا بعد أن سلَّط الطوفان على
الأرض بغير تدبر، وحكم على أبنائي البشر بالموت والهلاك. ليس من حقه أن
يُشاركنا هذه الوليمة.
إنليل
(في غضب بعد أن سمعها وهو يتلفَّت حوله)
:
ما هذا الذي أسمعه من سيدة الآلهة؟ كيف نجت هذه السفينة بمن فيها من لعنتي؟
ألم يصدر حكمي على البشر جميعًا؟ ألم آمر بإهلاكهم عن آخرهم؟ كيف نجا هؤلاء من
عقابي؟
نينورتا
(مُتلطفًا)
:
رُوَيدك يا سيد العواصف والأرضين! أطلقت رياح الغضب على الأرض ومن فيها. دعها
الآن لتسكن فوق ذُرى جبل الحكمة.
إنليل
(غاضبًا)
:
ماذا تقصد بجبل الحكمة؟
نينورتا
(مُشيرًا إلى رب الحكمة آيا)
:
ها هو ذا قادم.
الجميع
:
آيا؟
أوتنابشتيم وزوجته
(هامسين)
:
صديق البشر.
نينورتا
:
من وهب التدبير مع الحكمة غيره؟ من يعرف سر الأشياء سواه؟
إنليل
:
ومن أفشى سر الآلهة سواه؟
آيا
:
يا أحكم الآلهة جميعًا، أنت يا أبي البطل إنليل!١٨ كيف تغلَّب غضبك على حكمتك فأرسلت هذا الطوفان؟
إنليل
:
وكيف تغلَّب عطفك على البشر على صون الأمانة وكتمان الأسرار؟
آيا
:
هل تسمع من لا ترقى حكمته إلى حكمتك؟
إنليل
:
وسيسمعك من لا يرقى دهاؤه إلى دهائك.
آيا
:
أعلم أنهم فسدوا عن آخرهم، أنهم استحقُّوا اللعنة
منك ومن كل الآلهة، لكن يا إنليل،
هل استحقوا الفناء مع كل الأحياء؟
من يرتكب الإثم فحمِّله جريرة إثمه.
من يخطئ دعه يُكفر عن خطئه.
لكن لا تشتدَّ عليه لئلا يهلك.
لا تقسُ عليه لكيلا يختنق ويفنى.
لو أرسلت إليهم أسدًا يأكل بعضًا منهم
بدلًا من هذا الطوفان،
ذئبًا ينتقم ويغدر،
جوعًا أو قحطًا أو طاعونًا،
بدلًا من هذا الطوفان؟!
إنليل
:
ماذا أرسلت عليهم أنت؟
آيا
:
أنزلت عليه الأحلام.
إنليل
:
الأحلام؟ ومن هو هذا الحالم العاصي؟ ما اسمه؟
آيا
:
ها هو يقف أمامك؛ أوتنابشتيم.
إنليل
:
أوتنابشتيم؟
آيا
:
دمه في رقبتك ولحمه.
إنليل
(يتقدم من أوتنابشتيم وزوجته)
:
أأنت العاصي؟
آيا
:
الذي أنقذ بذرة الحياة.
إنليل
(مُداعبًا)
:
كما أنقذ زوجته أيضًا. إليَّ يا أوتنابشتيم. تعالَ مع زوجتك.
الزوجة
:
مولاي!
إنليل
:
تعالا! اركعا أمام إلهكما الذي عصيتماه! ها هو ذا يضع يده على جبهتكما
ويُبارككما إلى الأبد.
الزوجة
:
إلى الأبد؟!
إنليل
:
كان أوتنابشتيم حتى الآن بشرًا فانيًا. منذ الآن سيصبح مثل الآلهة.
الزوجة
:
أنا أيضًا يا مولاي؟
إنليل
:
ستعيشان بعيدًا عن البشر.
الزوجة
:
آه!
إنليل
:
وحدكما في جزيرة الحياة.
الزوجة
:
وحدي مع أوتنابشتيم؟
إنليل
:
في جزيرة الخلود.
الزوجة
:
بعيدًا عن البشر؟
إنليل
:
وعن الأحياء جميعًا.
الزوجة
:
وتُسمي هذا خلودًا؟!
إنليل
:
وأُباركه إلى الأبد. هيَّا يا أوتنابشتيم الخالد. عيشا في جنة ديلمون، بعيدًا
عند فم الأنهار. لقد كتبت عليكما الخلود. كُونا خالدين!
أوتنابشتيم وزوجته
(وهما يركعان في خشوع)
:
آه! كتبت علينا الخلود. كتبت علينا الخلود.
أوتنابشتيم
:
وانهارت زوجتي فوقعت على وجهها مغشيًّا عليها، وانصرفت الآلهة واحدًا بعد
الآخر بعد أن أكلوا وشربوا وهم يُغنون:
كتبنا الخلود عليكم! كتبنا الخلود! ورُحت أنثر الماء على وجهها حتى أفاقت.
كتبنا الخلود عليكم! كتبنا الخلود! ورُحت أنثر الماء على وجهها حتى أفاقت.
الزوجة
:
لا تُصدقه يا جلجاميش.
أوتنابشتيم
:
ومنذ ذلك اليوم ونحن ننعم بالخلود.
الزوجة
:
نعم. نعم. ولا نُفيق من لعنته.
أوتنابشتيم
:
أرأيت يا جلجاميش؟ من يجمع آلهة بابل لتُنقذك من الطوفان؟ هل يُرضيك فناء
البشر لتحظى وحدك بحياة الأبدية؟
الزوجة
:
وهل عرفت الآن ما هو الخلود الذي تسعى إليه يا جلجاميش؟ هل وجدت
الحياة؟
جلجاميش
(مُتفكرًا لحظة، ثم مُخاطبًا نفسه)
:
أهذا هو
الخلود؟ أهذه هي الحياة؟ (ثم بصوتٍ مرتفع)
كيف أتحمَّل أبديةً بلا حياة؟
الزوجة
:
ما دُمت رفضت حياةً بلا أبدية؟
جلجاميش
:
أبدية بلا حياة، حياة بلا أبدية. ما هذا اللغز؟ إني لا أفهم شيئًا.
الزوجة
(مُقتربة منه، تهمس في أذنه)
:
ربما تفهم عندما ترجع إلى أوروك. ربما تجدهما معًا.
جلجاميش
:
أجدهما معًا؟
الزوجة
:
نعم. نعم. الحياة والأبدية عندما ترجع إلى أوروك.
جلجاميش
(يبتعد عنها في خوف)
:
عندما أرجع إلى أوروك؟
أوتنابشتيم
(في غضب، كأنما يُحاول أن يُبعدها عنه)
:
اسمع يا جلجاميش.
جلجاميش
:
نعم يا جدي، الخالد.
أوتنابشتيم
:
سمعتني وأنا أقول كم يُشبه وجه النائم وجه الميت.
الزوجة
:
وأنا وجدك لا ننام منذ الطوفان.
أوتنابشتيم
:
إننا نُقاوم النوم منذ أن باركتنا يد إنليل, هل يمكنك أن تُقاوم النوم
مثلنا.
جلجاميش
:
أُقاوم النوم؟ منذ أن خرجت من أوروك وعيناي لم تعرفا النوم العذب.
أوتنابشتيم
:
حاوِلْ أن تُقاومه ستة أيام وسبع ليالٍ. أتريد أن تُجرب الامتحان؟
جلجاميش
:
أجرِّب يا جدي (يتثاءب ويجلس على الأرض وسرعان ما
يغيب في النوم).
أوتنابشتيم
(لزوجته)
:
انظري إليه، إلى البطل الذي يريد الحياة الخالدة.
الزوجة
(لنفسها وهي تتأمل النائم في ولهٍ صامت)
:
ما أجمل وجهه!
أوتنابشتيم
(في سخرية)
:
وما أسرع ما لفَّه النوم كالضباب!
الزوجة
:
المسه يا رجل، حرِّكه ليصحو من نومه، ليرجع في سلام على الطريق الذي أتى منه،
ليخرج من الباب الذي دخل منه، ليعود إلى وطنه.
أوتنابشتيم
(لزوجته التي ما زالت مُستغرقة في تأمل وجه جلجاميش)
:
لا تأمني للبشر يا عزيزتي. البشر خادعون، وسوف يخدعك أنت أيضًا.
الزوجة
(بغير أن ترفع عينَيها عن وجه النائم)
:
ماذا تعني؟
أوتنابشتيم
:
هيَّا يا زوجتي الخالدة، اخبزي له أرغفة، ضعيها عند رأسه، وكل يوم ينامه ضعي
له علامة على الجدار. (تمضي الزوجة لخبز الأرغفة التي
طلبها زوجها. تشجب الإضاءة ونرى ظلها يرسم علامات على الجدار بعدد الأرغفة
التي خبزتها، والأيام التي نامها جلجاميش، وعندما ترسم الزوجة العلامة
السابعة على الجدار يمد أوتنابشتيم يده ويلمس جلجاميش الذي يفزع من
نومه.)
جلجاميش
:
من؟ ما هذا؟
أوتنابشتيم
:
استيقظْ أيها الخالد الذي قاوَم الموت!
جلجاميش
:
لم يكد النوم ينسكب عليَّ حتى لمستني وأفزعتني.
أوتنابشتيم
:
انهض يا جلجاميش. انهض لتعُدَّ الأرغفة التي خبزتها لك زوجتي. إن عدد
العلامات التي رسمتها على الحائط يُخبرك بعدد الأيام التي نِمتها.
جلجاميش
(وهو يمسح وجهه)
:
الأيام التي نِمتها؟ يا لهذا الحلم العجيب!
أوتنابشتيم
:
وقد صحوت الآن منه.
جلجاميش
:
لم يستغرق لحظةً واحدة.
أوتنابشتيم
:
الأرغفة تقول شيئًا آخر.
جلجاميش
:
الأرغفة؟ (يتطلع في وجه الزوجة التي تنظر إليه في
حنان وهي تهزُّ رأسها مُوافقة.)
جلجاميش
:
وماذا تقول الأرغفة؟
أوتنابشتيم
(شامتًا)
:
تقول إنك نِمت ستة أيام وسبع ليالٍ.
الزوجة
(في حزن)
:
ولم تستطع أن تُقاوم النوم.
أوتنابشتيم
:
فكيف إذن تُقاوم الموت؟ انظر إليها بنفسك. الرغيف الأول قد تيبَّس، والثاني
تغضَّن، والثالث لم يزل رطبًا، والرابع أبيض، والخامس حال لونه، والسادس قد
خُبز لتوِّه، أما السابع … (يضحك ويُواصل ضحكه طوال
الحوار الدائر بين زوجته وجلجاميش.)
الزوجة
:
فقد صحوت من نومك وهو على الجمر!
جلجاميش
:
ما أشقاني! ما أتعس حظي! كم كان الحلم جميلًا!
الزوجة
:
والحلم تبدَّد يا جلجاميش.
جلجاميش
:
آه! داهمني اللص كما داهم إنكيدو الطيب.
الزوجة
:
استيقظْ يا جلجاميش.
جلجاميش
:
من نومي أم من موتي؟
آه! سأصير ترابًا مثله.
سأصير ترابًا، طينًا من طين الأرض.
(يبكي ثم يُجفف دموعه ويُحدق في وجه أوتنابشتيم ويقول):
ماذا أفعل يا أوتنابشتيم؟
إلى أين أوجِّه وجهي؟
اللص تسلَّل في الليل، تمكَّن مني.
طوَّق جنبيَّ وأعضائي.
في مرقدي ينام الموت.
وأنَّى رحت وأنَّى جئت
وجدت الموت إزائي.
الزوجة
(وهي تنحني عليه وتأخذ بيده)
:
انهض يا جلجاميش.
جلجاميش
(يائسًا)
:
تبدَّد الحلم. استيقظ من النوم. أليس هذا ما تريدين قوله؟
الزوجة
(وهي تضغط على يده في حنان)
:
لم يعُد لديَّ شيء أقوله.
جلجاميش
:
لا شيء أبدًا؟
الزوجة
:
عندما ترجع إلى أوروك، تذكَّر ما قلته لك.
أوتنابشتيم
(صائحًا)
:
إلى أوروك، إلى أوروك يا أورشنابي! يا أورشنابي!
جلجاميش
(لنفسه)
:
أنت كذلك يا جدي الخالد، يا جدي النائي.
أنت كذلك ترفض أن تؤويني.
آه! ماذا أفعل؟
وإلى أين أوجِّه وجهي؟
من سيردُّ إليَّ يقيني؟
هل هذا هو آخر سعيي
ونهاية شوقي وحنيني؟
ألتمس حياة وخلودًا
والموت أمامي وورائي؟
أوتنابشتيم
(صائحًا)
:
أورشنابي. يا أورشنابي.
أورشنابي
(يظهر مُترددًا)
:
سيدي.
أوتنابشتيم
:
طلبت منك أن تنتظر تعليماتي وأوامري.
أورشنابي
:
وطردتني من خدمتك قائلًا: فليبرأ منك شاطئ البحر الذي مشيت عليه، ولينبذك
المعبر والمرفأ.
أوتنابشتيم
:
وليكن آخر عمل تقوم به.
أورشنابي
:
أن أعود بآخر إنسان فانٍ تطأ قدماه أرض الخلود إلى وطنه. فهمت
يا سيدي.
أوتنابشتيم
:
لم تفهم كل شيء. عليك أولًا أن تُنظف جسده من الأوساخ التي تُغطيه، وتُلقي
بجلود الحيوان التي شوَّهت جمال أعضائه في البحر. خذه إلى مكان الغسل وطهِّره
ليصبح كالثلج. استبدل بعصابة رأسه أخرى جديدة. ضع عليه ثوبًا يستر عُرْيه.
وليبقَ الثوب جديدًا حتى يصل إلى مدينته، حتى يجد طريقه.
أورشنابي
(لجلجاميش الذي يقف مذهولًا في مكانه)
:
هيَّا يا جلجاميش.
جلجاميش
:
ماذا تريد؟
أورشنابي
:
هيَّا إلى الماء.
جلجاميش
:
لنعبر بحر الموت من جديد.
أورشنابي
:
بجسدٍ جديد وثوبٍ جديد! سأُزيل عنه الأوساخ وأنفض عنه جلد الحيوان، سأطهِّره
حتى يصبح كالثلج.
جلجاميش
:
أهذا ما يريده جدي الخالد؟ أهذا هو نصيبي من الخلود؟
أورشنابي
:
ولمَ لا؟ أن يتطهر الجسد فيصبح كالشج، أن يظهر في جماله الإلهي ويرفل في ثوبٍ
رائع.
جلجاميش
(وهو يمضي معه)
:
ما الفائدة يا أورشنابي؟ إذا كان الدود سيسقط من أنفه، إذا كان الثوب سيبلى.
آه يا إنكيدو! أنت أيضًا كان لك جسدٌ إلهي.
أورشنابي
:
ما لنا الآن ولإنكيدو؟ قلت هيَّا إلى الماء.
(يخرجان. ينحسر عنهما الضوء ويُسلَّط على الزوجة التي كانت تُراقبهما حتى صعدا إلى السفينة وبدءا يستعدان للإبحار.)
الزوجة
:
أوتنابشتيم! يا أوتنابشتيم الخالد!
(أوتنابشتيم صامت يتطلع إلى البحر.)
الزوجة
:
لقد دفعا السفينة فوق الأمواج. ها هما يصعدان إليها، جلجاميش يُمسك مِجدافًا
ويُحركه في الماء. ألا تريد أن تقول له شيئًا؟
(أوتنابشتيم يُواصل صمته.)
الزوجة
:
لقد أتعب جلجاميش نفسه حتى وصل إلينا. هل ستتركه يرجع صِفر اليدين؟
ألا تُعطيه شيئًا يعود به إلى بلده وشعبه؟
ألا تُعطيه شيئًا يعود به إلى بلده وشعبه؟
أوتنابشتيم
:
وماذا عندي أعطيه؟
الزوجة
:
أعطه أملًا، وعدًا.
أوتنابشتيم
:
أمل؟ وعد؟ ماذا تقصدين؟
الزوجة
:
أقصد ما يدور في بالك.
أوتنابشتيم
:
أتريدين أن أُفشي السر؟
الزوجة
:
ما المانع إن كان سر الأمل الذي لا يتحقق، سر الوعد الذي لا يتم؟
أوتنابشتيم
:
النبتة! تريدين أن أبوح بسر النبتة؟
الزوجة
:
ولن أطلب شيئًا بعدها.
أوتنابشتيم
:
حتى لو ضاعت منه؟
الزوجة
:
يكفي أن يؤلمه شوكها. أرجوك يا أوتنابشتيم (تنظر
إليه طويلًا).
أوتنابشتيم
(يُنادي بصوتٍ عالٍ)
:
جلجاميش! يا جلجاميش!
(يدفع جلجاميش السفينة إلى الشاطئ. يُخاطبه أوتنابشتيم بحيث نسمع صوته ولا نراه.) سأكشف لك عن أمرٍ خبيء. سأطلعك على سرٍّ خفي.
(يدفع جلجاميش السفينة إلى الشاطئ. يُخاطبه أوتنابشتيم بحيث نسمع صوته ولا نراه.) سأكشف لك عن أمرٍ خبيء. سأطلعك على سرٍّ خفي.
صوت جلجاميش
:
سرٌّ آخر من أسرار الآلهة؟
أوتنابشتيم
:
نعم يا جلجاميش. هنالك نبتةٌ تُشبه الشوك. هي كالوردة يخزُّ شوكها يدك، فإذا
وصلت إليها يداك وجدت الحياة.
جلجاميش
:
الحياة الخالدة يا جدي؟
أوتنابشتيم
:
فتِّش عنها في أعماق مياه البحر العذبة. احملها معك إلى أوروك.
جلجاميش
:
هل أغرسها في أرض بلادي؟
أوتنابشتيم
:
أطعِمْ منها الشيخ فيرتدَّ إليه شبابه.
جلجاميش
:
الشباب الأبدي يا جدي؟
أوتنابشتيم
:
اذهب يا جلجاميش.
جلجاميش
:
أهذا هو الخلود يا أوتنابشتيم؟
(أوتنابشتيم لا يرد.)
جلجاميش
:
أهذا هو الخلود؟
أورشنابي
:
هيَّا يا جلجاميش.
جلجاميش
(فرحًا)
:
هيَّا نغُص في الماء، في عمق الوجود،
بحثًا عن النبتة؛ نبتة الخلود.
فإنه الخلود! وإنه الخلود!
(يخفت صوته بالتدريج. إظلام.)