الفصل التاسع
ضياع النبتة والعودة إلى أوروك
الراوية
:
فرح جلجاميش فرحة الطفل اليتيم بهدية جده الحكيم. لم يكد يسمع منه كلمة السر
حتى انتفضت شجرته الذابلة بالربيع القادم، واهتزَّ على فرعها طير الأمل الباسم،
وها هو يطير بهذا الأمل إلى أوروك. (صوت
جلجاميش): انظروا يا شيوخ أوروك وشبابها، لم يضِع العمر هباءً، لم
تكن الرحلة عبثًا. ها هي ذي بين يديكم، عُدت إليكم بالأبدية! ها هي ذي النبتة
يأكل منها الشيخ العاجز فتردُّ إليه شبابه، يذوقها الشاب اليافع فيسكن البطل
إهابه. إنه الأمل يا شعب أوروك. إنه الوعد يا مدينة الأسوار والأسواق
والأبراج.
انحدرت السفينة بجلجاميش وأورشنابي إلى مياه «الآبسو» العميقة، بعد عشرين
ساعة مضاعفة من السفر في بحر الموت لاحت السدود التي تفصل الماء العذب عن الماء
الملح، وتراءت القنوات التي تصل إلى الأعماق. أوقفا السفينة عند الحاجز، نزل
جلجاميش ففتح السد وحفر قناة. ربط قدمَيه بحجرين ثقيلين وغاص في
الماء.١ هنالك وجد النبتة العجيبة. مد ذراعه نحوها فخزَّ الشوك يده. صعد
إلى سطح الماء وسبقته يده القابضة على الإكسير المُعجز. هتف بأورشنابي والدم
ينزف من كفه: النبتة يا أورشنابي. أملي في الأبدية. أمل أوروك وحلم
الشعب.
مد أورشنابي ذراعه وساعَده على الصعود إلى السفينة. لم ينطق بكلمةٍ واحدة، لم
ينظر إلى اليد التي تقبض على النبتة، لم يهتم بالفرحة التي أضأت وجه البطل. فتح
جلجاميش فمه وقال:
جلجاميش
:
هل تعرف اسم هذه النبتة؟
أورشنابي
:
لا. لا أعرفه.
جلجاميش
:
اسمها الشيخ الهرم يرد إليه شبابه. انظر.
أورشنابي
:
لست في حاجة إليها.
جلجاميش
(ضاحكًا)
:
لا بد أنك شابٌّ برغم الثلج على رأسك.
أورشنابي
:
وشبابي أبدي في كل لحظة.
جلجاميش
(تزداد ضحكاته)
:
سمعت أنها تقضي على القلق،٢ حتى أمي الحكيمة لا تعرف هذا.
أورشنابي
:
وما دخل أمك في هذا؟
جلجاميش
:
لأنها تُناديني على الدوام بقولها يا ولدي القلق المُضطرب الحائر.
أورشنابي
:
أتظن أنها ستُناديك باسمٍ آخر؟
جلجاميش
:
بعد أن يزول القلق والاضطراب إلى الأبد وأحصل على الشباب والخلود؟
أورشنابي
:
تحصل على الشباب والخلود؟ أنت وحدك؟
جلجاميش
:
طبعًا لن أستأثر به. سيأكل منها الشيوخ والشباب. سأقدمها لهم قبل أن يذوقها
لساني ويلمسها فمي. ليتني أستطيع أن أفرِّقها على الأرض والنبات والطير
والحيوان! ليت كل شيء وكل مخلوق في أوروك يستردُّ الشباب الأبدي! ألا تُحس
الأمل الرائع يا أورشنابي؟! ألا تراه؟!
أورشنابي
:
لا. لا أحسه، ولا أراه.
جلجاميش
:
ما أغربك! ولا تشتاق لأن تأكل منها؟
أورشنابي
:
ما دُمت لا أحتاج إليها.
جلجاميش
:
ولا إلى الأمل في الشباب الأبدي؟
أورشنابي
:
هل آمل في شيءٍ أعيشه كل لحظة؟
جلجاميش
(ضاحكًا)
:
تعيشه كل لحظة يا أورشنابي؟! رغم طردك من الشاطئ والمرفأ؟ رغم نفيك من جزيرة
الحياة والخلود؟
أورشنابي
:
أو بسببها يا جلجاميش. هيَّا نُواصل طريقنا إلى أوروك.
جلجاميش
:
إذن فالأمل يُحركك إليها.
أورشنابي
:
وإلى وعدك لي. هل نسيت؟
جلجاميش
:
لم أنسَ شيئًا. البيت والزوجة والبستان في حدائق أوروك. هيَّا يا ملَّاح بحار
الموت الأبدي.
أورشنابي
:
لكن بسفينة الحياة الأبدية. هيَّا. هيَّا.
الراوية
:
مضت بهما السفينة ساعات وساعات؛ فبعد عشرين ساعة مضاعفة تناولا شيئًا من
الزاد، وبعد عشرين ساعة أخرى أسلما عيونهما للنوم بعد أن أضرَّ بهما لفح الشمس
والريح، ولمح جلجاميش اليابسة على البعد فوجَّها الدفة والمجاديف إلى الشاطئ،
ودقَّق جلجاميش النظر فرأى نبعًا يتدفق منه الماء. رسيا بالسفينة على البر
ونزلا منها. لمس جلجاميش الماء وذاقه، فإذا هو ماءٌ عذبٌ بارد. خلع ملابسه
ليغتسل ويُنعش جسده المُضنى، بينما أخذ أورشنابي يجوب الشاطئ المُقفِر بحثًا عن
شجرةٍ خضراء أو بشرٍ حي. كان جلجاميش قد ترك النبتة على الشاطئ مع ما ترك من
ثيابه، وشمَّت حيةٌ عبق الرائحة الزكية، فتسلَّلت من النبع الذي كانت تشرب منه
والتهمت النبتة. وقبل أن ترجع للنبع الذي فيه جلجاميش كانت قد غيَّرت جلدها
الذي انسلخ عنها بجلدٍ جديد. لمحها جلجاميش فجرى وراءها وهو يصرخ من هول
جريمتها الشنعاء. رجع إلى ثيابه فلم يعثر للنبتة على أثر. ارتفع صوته بالبكاء
وجرت الدموع على وجهه. هتف بأورشنابي الذي وقف على رأسه وعلى فمه ابتسامة لم
تُلاحظها عيون جلجاميش المُبتلَّة:
صوت جلجاميش
:
أورشنابي! يا أورشنابي!
ضاعت مني النبتة،
والتهمتها الحية.
يا أوتنابشتيم الخالد!
يا ساقية الحانة!
يا روح صديقي الطيب!
ضاعت منى النبتة،
والتهمتها الحية.
أورشنابي! يا أورشنابي!
لمن أضنيت يديَّا؟
لماذا نزف القلب دماه؟
آه! لم أجنِ لنفسي شيَّا.
ضاع الأبد على أوروك
وضاع عليَّا.
النبتة أكلتها الحية.
نفضت جلد الشيخوخة
ورمته إليَّا.
آه! ماذا بقي لديَّا؟
طار الأمل وتاه،
وهجر الحلم يديَّا.
أورشنابي! يا أورشنابي!
ماذا أفعل؟
ولمن أضنيت يديَّا،
ونزف القلب دماه؟
أتُراني رُحت وجئت،
شقيت تعبت؟
لكي ينتصر عليَّا؟
آه! ضاع العمر سدًى.
لم أكسب شيَّا
صوت أورشنابي
:
ليتنا لم نرسُ على الشاطئ!
صوت جلجاميش
:
بل ليتنا نترك السفينة عليه ونمشي على أقدامنا.
الراوية
:
واستأنفا السير بعد أن جفَّف جلجاميش دموعه، لا ندرى ماذا جرى بينهما من
حديث، ولا ماذا فعلا قبل أن تلوح لأنظارهما أبراج أوروك العالية. ربما يكون
جلجاميش قد طوى حزنه في صدره، وأطرق برأسه طوال الطريق ولم يفتح فمه بكلمة،
وربما يكون أورشنابي قد سخر منه في نفسه وحوَّل وجهه عنه أثناء الرحلة لكيلا
يرى ابتسامته العذبة أو المرة، أو ذكَّره بوعوده التي بذلها له عن البيت
والزوجة والبستان الصغير في أحضان أوروك. لا ندري؛ لأن كاتب الملحمة لا يشرح
ولا يُحلل شيئًا، ولا يدخل في حنايا العقل والضمير.
فكل ما يقوله بعد هذه الفاجعة لا يتعدى سطورًا قليلة يضع فيها نهايةً سريعة
لملحمته، ومن هذه السطور نفهم أنهما قطعا في سيرهما عشرين ساعة مضاعفة تناولا
بعدها شيئًا من الزاد، وبعد عشرين ساعة أخرى أخذ التعب منهما فأخلدا للراحة عند
حلول المساء. ولا بد أن جلجاميش قد نسي جرحه عندما لاحت له أسوار أوروك
المَنيعة، وتذكَّر مجده السالف وعمله الخارق، فجرى نحوها فرحًا فرحة الطفل
العائد لأبوَيه وهو يهتف بهذه العبارات التي ختم بها الكاتب الملحمة كما بدأها
بها:
أورشنابي!
انظر يا أورشنابي الملَّاح.
اعلُ السور.
تمشَّ عليه.
تفحَّص صنعة آجره،
والْمِس قاعدته.
من أرسَوا أسسه؟
انظر للإفريز المُعجب،
يتوهَّج بنحاس
يسطح كالنجم الأشهب.
اعلُ السور.
تمشَّ عليه،
ومُدَّ الطرف إلى الأفق الأرحب.
هذا ثلثٌ يشغله بستان النخل،
وثلثٌ آخر للمرج وحوض النهر،
وثلث لأوروك الساحة والمسكن
والمعبد والملعب.
يا أورشنابي الملَّاح،
تفحَّص قاعدة السور.
تلمَّس واعجب.
الراوية
:
هذه هي النهاية التي وضعها كاتب الملحمة أو كُتابها المجهولون، وهي نهايةٌ
سعيدة تتفق مع البداية كما رأيتم من قبل، وتنطوي على الإشادة بالعمل والبناء
الحضاري، ولكننا يمكن أن نفترض نهايتين أخريين، كانت أولاهما مُفاجأةً قاسية
لجلجاميش.
(يندفع جلجاميش نحو السور ويغيب شبحه بين ظلاله الشاحبة التي
تُخيم على عمق المسرح في أقصى اليسار. يقف أورشنابي مُترددًا لحظات، ثم يتفحص
المكان مُستطلعًا السور والأبواب أو ما بقي منهما، وآثار الأبراج والمعابد والبيوت
التي تبدو من بعيد في سواد نسوة عجائز تكوَّمن في مأتمٍ كبير.)
الشيوخ
(وهم يشيرون إلى جلجاميش ويقولون في سخريةٍ مُرة)
:
آه! جلجاميش غاب وعاد.
لكن البطل العائد لم يعلم بعدُ
بأن السور تهدَّم،
والمعبد والبرج تحطَّم،
والمرج هشيم ورماد،
والساحة والملعب مأتم.
انقضَّت كيش وأور
على أوروك،
فغرقت في بحر الدم.
والمجد السالف
شبَّ حريق فيه
فلم يبقَ سوى الطلل الأبكم.
الراوية
:
غير صحيح. هذا شيء لم تذكره الملحمة ولم …
الشيوخ
(مُشيرين إليه أن يسكت)
:
انظر تجد البطل العائد،
كالبومة فوق الأطلال تحوم،
أذهله اليأس فصار
كحجرٍ أخرس أبكم.
ويلي من هذا الشبح الهائم
بين الأشباح يئنُّ
أنين الطفل الضائع،
يبحث عن أبوَيه
ولا يجد الحرف ولا الكلمة والاسم.
ويلي من هذا البطل العائد،
للوطن البائد،
لا يملك أن يفعل شيئًا،
لا يقدر حتى أن يندم.
انظر عمَّا يُفتش،
ماذا يبحث عنه؟
الراوية
:
عن حجرٍ سجَّل فيه بطولته،
أو لوحٍ …
الشيوخ
:
اللوح تفتَّت والنقش تهشَّم.
لم يبقَ من المجد الكاذب
حرفٌ يمكنه أن يتكلم.
الراوية
:
غير صحيح بالمرة؛ فالملحمة تقول …
الشيوخ
:
لتقُل ما شاءت،
أو ما شاء الكهنة والكُتاب.
انظر أنت إلى البطل العائد
يتردد حول الأبواب،
يدور يدور على الأعتاب،
وينظر للسور
ولكن السور خراب.
ها هو يبحث عن بلد
كانت تُدعى أوروك
وأوروك اليوم تراب.
انظر للبطل الكامل
والملك العادل.
الراوية
:
بل أتعاطف معه،
ولن أتركك تدينه.
ها هو يتقدم منا
والخطوات حزينة.
يبغي أن يتكلم
لكن الكلمات ضنينة.
جلجاميش
:
أورشنابي! يا أورشنابي!
الراوية
:
ها هو يهتف.
الشيوخ
:
من يسمعه في مقبرة
كانت بالأمس مدينة؟
جلجاميش
:
أين أنت يا أورشنابي؟
أورشنابي
:
أبحث مثلك يا جلجاميش.
جلجاميش
:
لا أحد. لا صوت ولا حركة. لا بشر ولا أهل. هل غِبت وتعبت لكي أجد العدم في
انتظاري؟
أورشنابي
:
وأنا؟ ماذا أقول أنا؟ لا زوجة ولا بيت. لا حياة ولا زمن. هل طُردت من جنة
الخلود المُمل إلى جنة الملل الخالد؟
جلجاميش
:
اسخر ما شئت يا أورشنابي. لا تقل شيئًا. الأفضل أن تُجيب عن سؤالي: ماذا
أفعل؟
أورشنابي
:
ما فعلته دائمًا، تجلس وتبكي.
جلجاميش
:
أجل يا أورشنابي. أبكي شعبًا لم أجده في استقبالي، أمًّا كنت أظنها في
انتظاري، شبابًا وشيوخًا كنت أريد أن يأكلوا من نبتة الخلود.
أورشنابي
:
وأكلها أسد التراب وجدَّد شبابه.
جلجاميش
:
آه يا أورشنابي! ضاعت النبتة! ضاع الخلود! ضاعت أوروك وضاع الحلم! لمن أتعبت
يدي؟
أورشنابي
:
لماذا نزف القلب دماه؟
ضاع العمر سدًى.
جلجاميش
:
لم أكسب شيَّا
ضاع الأمل وتاه. (يجلس ويبكي. أورشنابي ينظر إليه مُبتسمًا.)
الراوية
(يُقاطعهما)
:
لا، لم يضِع شيء، لا يمكن أن يضيع كل شيء.
الشيوخ
:
أوَما زِلت تُدافع عنه؟
الراوية
:
ولن أتركك تدينه.
الشيوخ
:
فلماذا جئت؟ لماذا جئنا من أعماق الماضي؟
دارت كل الأحداث أمامك
فكن الشاهد وكن القاضي.
الراوية
:
لم أشهد في الملحمة خراب السور،
ولم أقرأ عن هجمة كيش أو أور.
الشيوخ
:
نحن شهدنا المحنة.
كنا بعض ضحاياها.
لما احترقت أوروك
وغرقت في بحر دماها،
وتكدَّست الجثث على الطرقات
وكنا مِن قتلاها.
الراوية
:
لم أقرأ هذا في الملحمة.
الشيوخ
:
رجعت إلى الملحمة،
وهل نَسْج الشعراء مؤكد؟
ماذا تتوقع لقطيع
يتركه الراعي المسئول
ويُمعن في الغربة عنه ويبعد؟
يترك للوهم قياد العقل،
ويرجع صِفر اليد،
لا أمل لديه ولا وعد؟
الشعب تفرَّق، والبيت تشقَّق،
واللحم تمزَّق.
ضاع الحلم وضاع المجد.
الراوية
:
ولماذا اغترب البطل؟
الشيوخ
:
البطل أمامك فاسأله أنت.
اغترب ليهرب من قدر البشر
وقدر البشر هو الموت.
الراوية
:
بل ليكشف عن سر الحياة وسر الموت. ليضمن لكم الحياة ويحميكم من الموت.
الشيوخ
:
ليت البطل الحالم
فتَّش في قلب الشعب عن السر!
ليت البطل المغرور الظالم
لم يغتر!
الراوية
:
هل أصبح البحث عن سر الحياة ظلمًا؟ هل أصبح البحث عن سر الموت غرورًا؟
الشيوخ
:
موت الناس طوال الوقت؟
جثث القتلى في أوروك
– ليلة موكبه الظافر
لما أن صرع الثور —
وجثث الغرقى فوق مياه النهر؟
والموت الناطق في وجه الثكلى
والأرملة،
وموت يتيم عذَّبه الغدر،
وأضناه الدهر؟
هل طاف بعقل البطل الحالم
هذا الموت؟
قلنا يا جلجاميش
ليتك تنظر تحت القدمين
لتجد السر.
ليتك تبحث في قلب الشعب
عن السر.
ليتك لا تدع قطيعك
في فك الذئب أو النمر.
أغلق باب السمع عليه
وها هو يرجع كي يبكي العمر.
آه! لو أخذ بيد أوروك
وداوى الجرح
لقلَّم أظفار الموت.
لو بسط ظلال العدل على أوروك
لقلَّم أظفار الموت.
لو عرف بأن القهر
وأن الجوع وأن الذل هو الموت!
الراوية
:
تسرَّعت في الحكم عليه.
الشيوخ
:
أسرع مني كان خراب الدار
وكان الموت.
الراوية
:
لم تذكر الملحمة شيئًا مما قلت.
الشيوخ
:
هل شهد الشاعر ما شاهدت؟
هل قاسى الشاعر
ما قاساه الشعب الحائر
في أوروك وما قاسيت؟
الراوية
:
ليس لدينا دليل على ما تقول.
الشيوخ
:
هل يعني هذا تأجيل الحكم؟
الراوية
:
حتى ننظر في بقية القرائن والأدلة والشهود.
الشيوخ
:
ماذا تقصد بأدلتك؟
شهودك من هم؟
الراوية
:
هم العلماء والأدباء الذين يُقدمون التفسيرات المختلفة لنهاية جلجاميش بعد
عودته إلى أوروك. لا تنسَ أيضًا.
الشيوخ
:
ماذا أذكر أو ماذا أنسى؟
أهو الواقع ما نشهده
أم هو حلم؟
وسقوط المدن
وموت البشر
وطغيان الظلم،
ألا يكفي لصدور الحكم؟
الراوية
:
يكفي كي نتريَّث في الحكم.
يا جلجاميش قم (لا يتحرك).
أورشنابي
:
قم يا جلجاميش. ماذا تنتظر؟ (جلجاميش لا يتحرك.
يقترب منه) تعالَ نبحث عن حظنا في الصحراء، أو نتسول لقمتنا من
مدينةٍ أخرى.
(يمد يده ويلمس كتفه ويُحركه، يهبُّ جلجاميش واقفًا ويتخبط
حوله.)
جلجاميش
:
افتح الباب. قلت افتح الأبواب السبعة كلها.
أورشنابي
:
أبواب؟ ألا ترى الخراب حولك؟
جلجاميش
:
افتح أبواب العالم السفلي. ألا تعرف جلجاميش؟
الملك الذي رأى كل شيء وعرف كل شيء؟
أورشنابي
(ضاحكًا يضرب كفًّا بكف)
:
ومع ذلك لا يراني ولا يعرفني!
جلجاميش
:
قلت افتح الأبواب لجلجاميش! أريد أن أبحث عن طبلتي وعصاي، لقد سقطا في عالمكم
ونزل صديقي لإحضارهما ولم يرجع. أين طبلتي وعصاي؟ أين تاجي وصولجاني؟
أجِبْني يا إنكيدو! كلِّمني يا صديقي وأخي!
أورشنابي
:
أنا الذي أكلِّمك يا جلجاميش. ماذا تريد؟
جلجاميش
:
أريد أن أسألك عن قانون الأرض التي تعيش فيها.
أورشنابي
:
لا أستطيع يا صديقي. لو أخبرتك لجلست على الأرض وبكيت، لقد قطعت الطريق الذي
لا عودة منه، وأنت الآن في البيت الذي حُرِم سكانه من النور. غذاؤهم من التراب،
وطعامهم من الطين، يجلسون في الظلام، يلبسون الريش ولهم أجنحة كالطيور.
جلجاميش
:
لقد قرَّر الآلهة قدري، وقدري أن أكون نورًا في ظلام هذا العالم. لم يترك أحد
من البشر وراء أثرًا يدل عليه كما تركت، لم يفعل أحد من الأبطال والحكماء ما
فعلت.
أورشنابي
:
ولكن أحدًا لا يعرفك هنا.
جلجاميش
:
كيف لا يعرفونني؟ أهناك من لا يعرف جلجاميش؟!
أورشنابي
:
لا يعرفك أحد ولا ينتظرك أحد، لا في العالم السفلي ولا في أوروك. ارجع يا
جلجاميش قبل أن تُصيبك لعنة نرجال وزوجته المُخيفة أريشكيجال. ارجع فعالمك
ظلام.
جلجاميش
:
أنا نور العالم. قلت هذا قدري الذي قسمته لي الآلهة.
أورشنابي
:
وقدري أن أوقظك من النوم. استيقظ يا جلجاميش! افتح عينَيك على الظلام الذي
قدَّرته الآلهة عليَّ وعليك! استيقظ! استيقظ!
جلجاميش
(وقد رجع إلى نفسه وأخذ يتلفَّت حوله)
:
هل يمكن ألا يعرفني أحد؟
أورشنابي
:
ولا ينتظرنا أحد.
جلجاميش
:
كل هذا الظلام؟ كل هذا الخراب؟
أورشنابي
:
نعم. نعم. كل هذا الظلام. كل هذ الخراب. أليس الأفضل أن تذهب؟
جلجاميش
:
تذهب؟ إلى أين؟
أورشنابي
:
حقًّا. حقًّا. إلى أين؟
الراوية
:
أتريد أن تذهب يا أورشنابي؟
أورشنابي
:
أنت أيضًا تسأل؟
الراوية
:
وإلى أين؟ لسفينتك على شاطئ بحر الموت؟
أورشنابي
:
أو للحانة، أو أي مكان حر؟
أجد حياتي فيه
وأشرب أشرب
حتى يُسكرني السكر.
الراوية
:
لن تنصرف. ستبدأ.
أورشنابي
:
بعد نهايتنا في أوروك؟
الراوية
:
قلت ستبدأ، ومن الصفر.
جلجاميش
:
نبدأ ومن الصفر؟
الراوية
:
فهنالك فرضٌ آخر، يضع لملحمتك خاتمةً أخرى، إما أن تتطهر أو تسقط في الدرك
الأسفل من عالمك السفلي ولا تظهر.
أورشنابي
:
بل نبدأ نبدأ.
هيا يا جلجاميش، ومن الصفر.
(يأخذ بيد جلجاميش الذي يتبعه كالطفل. يتهيَّآن لإعادة المشهد
وللعودة إلى أوروك من جديد.)