سقوط بابل
مَرَّ كوروس في طريقه إلى بابل بشواطئ نهر الجونديس، وهو نهر ينبع من الجبال الماتيينية، ويجري خلال مملكة الدردانيين، ثم يصُب في نهر دجلة، وبعد أن يأخذ دجلة الماء من الجونديس يجري مارًّا بمدينة أوبيس ويصب ماءه بعد ذلك في البحر الإيروثرياني (الخليج الفارسي). وعندما بلغ كوروس ذلك النهر الذي لا يُمكن اجتيازه إلا بالسفن جَفَل أحد الخيول البيضاء المقدسة المرافقة له في حملته، ونزل إلى الماء وحاول عبور النهر بنفسه. بَيْد أن التيار جرفه معه وأغرقه، فغاص إلى الأعماق، فغضب كوروس من وقاحة ذلك النهر، وهدد بكسر شوكته إلى أن يستطيع كل فرد حتى النساء أن يعبره في المستقبل بسهولة دون أن يُبلل ركبتيه. وبناءً عليه أرجأ هجومه على بابل مؤقتًا، وقسَّم جيشه إلى قسمين، ثم خطط بالحبال مواضع مائة وثمانين خندقًا على كل من جانبي نهر الجونديس، تتفرع منه إلى جميع الجهات، وأمر جيشه بحفر هذه الخنادق، على أن يعمل نصف الجيش على الضفة اليُمنى والنصف الآخر على الضفة اليُسرى. وهكذا نفَّذ وعيده بمساعدة ذلك العدد الهائل من الأيدي، غير أنه قضى في ذلك فصل الصيف كله.
بعد أن أخذ كوروس ثأره من نهر الجونديس بأن شتت ماءه في ثلاثمائة وستين قناة انتظر حتى أقبل الربيع التالي، ثم استأنف سيره إلى بابل، فأقام البابليون معسكرهم خارج أسوارهم وانتظروا قدومه، ونشبت بين الفريقين معركة على مسافة قصيرة من المدينة هُزِمَ فيها البابليون على يدي الملك الفارسي، وعلى ذلك انسحبوا إلى داخل أسوارهم حيث أقفلوا الأبواب، وحبسوا أنفسهم داخل المدينة مستهترين بالحصار؛ إذ كانوا قد خزنوا فيها كميات كبيرة من المئونة تكفيهم لعدة سنوات استعدادًا لذلك الهجوم المتوقع؛ إذ عندما رأوا أن كوروس يغزو أمة بعد أخرى صاروا على يقين من أنه لن يَكُفَّ عن التقدم، وسوف يأتي دورهم في النهاية.
هاك أهم الأدلة التي تُبين قوة البابليين وثراءهم: علاوة على الجزية المحددة التي يجبيها الفرس من الممالك التي فتحوها، فإنهم قسموها جميعًا إلى أقسام، وفرضوا عليها أن تُوَرِّد الطعام للملك العظيم ولجيشه في خلال فترات خاصة من السنة، كان على بابل أن تُقدِّم الطعام مدة أربعة أشهر من شهور السنة الاثني عشر، أما بقية مناطق آسيا فتُورِّده خلال الثمانية شهور الباقية، ومن هذا يبدو أن موارد آشور كانت تُقدر بثلث موارد آسيا كلها. كانت هذه أفضل حكومة فارسية من حيث وجهة نظر البابليين، فعندما استولى عليها تريتانتاخميس بن أرتابازوس كانت تدر عليه كل يوم إردبًّا من الفضة، وكان يملك لنفسه خاصة علاوة على خيول الحرب ثمانمائة حصان للنتاج وستة عشر ألفًا من الأفراس، بواقع عشرين فرسًا لكل حصان .. وفضلًا عن كل هذا كان يحتفظ بعدد كبير من كلاب الصيد الهندية لدرجة أنه أعفى أربع قرى كبيرة من أرض السهول، ومن جميع الالتزامات على شرط أن تكفل لها الطعام.
الأمطار بآشور قليلة لا تكاد تكفي لإنبات الحبوب، وبعد ذلك يتغذى النبات وتتكون السنابل بواسطة الري من النهر؛ لأن النهر لا يغمر الحقول بالماء من تلقاء نفسه كما يحدث في مصر، بل يُنثر الماء فوق المزروعات بالأيدي بواسطة الآلات، وتخترق الترع جميع أراضي بابلونيا كما هو الحال في مصر، وتخرج أكبر هذه الترع التي تتجه نحو «شمس الشتاء» والتي لا يُمكن عبورها إلا بالسفن من نهر الفرات وتصل إلى مجرى آخر يُعرف بدجلة، وهو النهر الذي كانت تقع عليه مدينة نينوى، ولا نعرف قَط أرضًا أكثر إنتاجًا للحبوب من بابلونيا. والحقيقة أنها لا تدَّعي لنفسها إنتاج التين أو الزيتون أو الكروم أو أية شجرة أخرى من تلك الأنواع، ولكن غلتها من الحبوب عظيمة بحيث تغل مائتي ضعف المحصول العادي، وعندما يكون المحصول في أوجِه تصل الغلة إلى ثلاثمائة ضعف. ويبلغ عندئذٍ عرض عود القمح أو الشعير أربع أصابع. أما الذرة العويجة والسمسم فلن أقول إلى أي ارتفاع تصل عيدانهما، ولو أنني أعلم ذلك حق العلم؛ إذ أعرف أنه من لم يزر تلك البلاد لا يُمكن أن يُصَدِّق ما كتبته عن غلة أراضي بابلونيا. ولا يستعمل البابليون زيتًا غير المُستخرج من بذور نبات السمسم. وينمو النخيل هناك بكثرة في طول البلاد وعرضها، وخصوصًا النوع المُثمِر، وتمدهم ثماره بالخبز والخمر والعسل، وتشبه زراعته أشجار التين من جميع الوجوه، ومن بينها: يربط الوطنيون ثمار النخيل الذكر — كما يُسميه الأغارقة — في جريد النخيل الذي يُثمر البلح؛ كي تدخل حبوب اللقاح إلى البلح فتعمل على نُضجه ومنع سقوطه، وتُشبه ذكور النخل أشجار التين البرية في أن حبوب اللقاح توجد عادة في ثمارها.
للبابليين عادات كثيرة، سأذكر واحدة أعتقد حسب تقديري الشخصي أنها أعظم عاداتهم حكمةً. تجتمع فتيات كل قرية اللواتي في سن الزواج معًا في مكان واحد مرة في كل عام، ويقف الرجال راغبو الزواج حولهن في دائرة، ثم يُنادي الدلَّال الفتيات واحدةً واحدة، ويعرضهن للبيع مبتدئًا بأجمل فتاة، وبعد أن تُباع بمبلغ غير قليل يَعرِض التي تليها في مرتبة الجمال، وهكذا تُباع جميعهن ليصرن زوجات لأولئك الرجال، فيدخل أكثر البابليين ثراء في مزاد للحصول على أجمل فتاة، في حين يحصل الأكثر تواضعًا ممن لا يهتمون بالجمال على الفتيات الأكثر خبرة بأعمال البيوت نظير بائنات، فمن عادتهم أن الدلَّال بعد أن يبيع جميع الفتيات الجميلات يُنادي على أكثرهن دمامَة، فتاة كسيحة — لو تصادف وجود واحدة — ويعرضها على بقية الرجال طالبًا منهم أن يتقدم من يرضى بها نظير الحصول على أقل بائنة زواج، فيأخذها مَن يَعرِض أقلَّ مبلغ يقنع به، وتُدفَع هذه البائنات من المبالغ التي جُمعت ثمنًا للفتيات الجميلات، وهكذا يكون ثمن الجميلة بائنة لفتاة دميمة. ولا يسمح لأي رجل بأن يختار زوج ابنته، كما لا يستطيع أي زوج أن يأخذ الفتاة التي اشتراها دون أن يدفع تأمينًا حقيقيًّا كي يتخذها زوجة له، فإذا لم يتفقَا ردَّ المبلغَ ثانية. ويحضر هذا المزاد كل راغبي الزواج، حتى من القرى البعيدة، ويزايدون في الحصول على زوجة لكل منهم. هذه خير عاداتهم، غير أنهم اتبعوا طريقة أخرى تختلف عن هذه لدرء العنف عن فتياتهم ومنع انفصالهن عنهم والاغتراب في بلاد بعيدة، الأمر الذي يجعل من بناتهم مومسات. ويتبع هذه الطريقة الآن فقراء عامة الشعب الذين يُعامِلُهم سادتهم منذ الغزو أسوأ معاملة بعد أن جلبوا الخراب على أُسَرِهم.
وهاك العادة التي تلي العادة السابقة في حكمتها. ليس لدى أولئك القوم أطباء، بَيْد أنه إذا مرض أحدهم أرقدوه في الساحة العامة، ويمر به الذاهب والغادي، فإذا تصادف أن أحدهم سبق أن مَرِض بمثل مرضه، أو كان يعرف شخصًا آخر أُصيب بمثل هذا المرض ذكر له الوصفة التي وجد فيها الشفاء في حالته هو نفسه، أو في الحالة التي يعرفها. ولا يجوز أن يمر شخص بالمريض ولا يسأله عما يشكو منه.
ومن عادة البابليين أن يدفنوا موتاهم في العسل، ويقيموا مأتمًا للبكاء كما يفعل المصريون.
وعندما يُضاجع البابلي زوجته يجلس أمام مدفأة يتصاعد منها دخان البخور، وتجلس زوجته قبالته، وعند الفجر يغتسلان؛ إذ لا يستطيعان أن يلمسَا أي إناء عام قبل الطهر، ولا يزال العرب أيضًا يزاولون هذه العادة.
يتبع البابليون عادة مرذولة ومُخجِلة للغاية، يجب على كل امرأة ولدت في تلك البلاد أن تذهب مرة واحدة في حياتها، فتجلس في معبد فينوس حيث يُضاجعها رجل غريب، وتذهب كثيرات من نساء الأثرياء — اللواتي يأنفن من الاختلاط بالأخريات — إلى المعبد في عربة مقفلة، يتبعها جمع كبير من الخدم، ثم تتخذ مكانها هناك، أما العدد الأكبر من النساء فيجلسن داخل سور المعبد ويضعن الأكاليل على رءوسهن. ويوجد هناك دائمًا جمع غفير من الناس، بعضهم قادم وبعضهم عائد. وتحدَّد الممرات في جميع الاتجاهات وسط النساء بالحبال، فيمر الأغراب بينهن ليختار كلٌّ منهم مَن تروقه، وما إن تأخذ المرأة مجلسها هناك لا تستطيع العودة إلى منزلها قبل أن يرمي أحد الأغراب عملة فضية في حجرها، ويأخذها معه وراء الأرض المقدسة، ويقول الرجل وهو يرمي قطعة النقود: «فلتُباركك الربة موليتا» (يُطلق البابليون اسم «موليتا» على فينوس). ويجوز أن تكون العملة الفضية من أية فئة، ولا يُمكن رفضها؛ لأن القانون يُحرم ذلك؛ إذ تصبح تلك العملة مقدَّسة وهكذا تذهب المرأة مع أول رجل يرمي القطعة الفضية في حجرها، وليس لها أن ترفض أي شخص، وبعد أن تذهب معه فتُرضي الربة تعود إلى منزلها، وبعد ذلك لا يُمكنها أن تفرط في عفافها نظير أية هدية مهما بلغت. وعادة ما تنتهي مهمة السيدات الجميلات الفارعات الطول بسرعة، ثم يرجعن إلى بيوتهن. أما الأخريات الدميمات الخِلقة فيطول بهن المُقام هناك قبل إنجاز تلك المهمة التي يتطلبها القانون. وقد انتظرت بعضهن ثلاث أو أربع سنوات في المعبد. وتوجد مثل هذه العادة أيضًا في جزيرة قبرص.