مصر
كان المصريون قبل حكم ملكهم بساميتيخوس يعتبرون أنفسهم أعرق البشر جميعًا. ومنذ أن قام بساميتيخوس بمحاولة عملية لمعرفة أقدم الأجناس حقًّا، عرف المصريون أنهم رغم تفوقهم على جميع الأمم ليسوا أقدمهم، بل الفروجيون أقدم منهم؛ فعندما رأى — هذا الملك — استحالة البَتِّ في من يكون أعرق الأمم .. من سؤال الأقوام، فكَّر في طريقة لذلك: أخذ طفلين من الطبقات العادية وعهد بتربيتهما إلى أحد الرعاة التابعين له، وأمره بأن يحملهما إلى مراعيه، مشددًا عليه ألا يسمح لأي فرد بأن ينطق أمامهما بأية كلمة، بل يَضعهمَا في كوخٍ منعزل، وأن يَضَع في مسكنهما عنزة من وقتٍ إلى آخر، ويُراعي أنهما يَحصُلان على كفايتهما من اللبن، كما يُراعِي القيام بكل ما يلزمهما. كان غرضه من ذلك أن يعرف، بعد أن ينتهي عهد تمتمة الطفلين، أية كلمة سينطقان بها بوضوح. فحدث، كما كان يتوقع … أطاع الراعي أوامره لمدة سنتين، وبعد انقضاء هذه المدة، بينما كان يفتح باب حجرتهما ذات يوم ويدخل؛ إذ جرى إليه الطفلان باسطين أذرعهما وقالا بوضوح .. بيكوس .. ولمَّا حدث هذا لأول مرة لم يهتم به الراعي، ولكنه لما وجدهما يُكرِّرَان تلك الكلمة كلما ذهب إليهما للقيام بما يلزمهما أخبر سيده بها، فأمره الملك بإحضارهما إليه، فسمع بساميتيخوس الكلمة بنفسه، وعندئذٍ راح يستعلم عن أي الأمم يستعمل كلمة «بيكوس» فعلم أنها كلمة فروجية بمعنى «خبز»، وعلى ذلك اعترف المصريون بأن الفروجيين أقدم منهم.
أما من ناحية الأمور البشرية، فإن ما اتفق عليه الجميع هو: كان المصريون — كما يقولون — أول من اكتشف السنة الشمسية وقسموها إلى اثني عشر قسمًا، وقد حصلوا على هذه المعرفة بواسطة النجوم.
عندما يفيض النيل لا يُغرِق الدلتا فحسب، بل وجميع الأراضي الواقعة على كلٍّ من جانبَيه، وكان الناس يعتقدون أن فرعيه تابعان لليبيا ولبلاد العرب، وكان يُغرق الأراضي على جانبيه إلى مسافة مسيرة يومين من شاطئيه. وفي بعض الأماكن .. إلى مسافة أكثر من هذه، في حين أنه لا يفيض على أماكن أخرى.
أما الرأي الثاني فأقل من هذا — علميًّا — وأكثر غرابة؛ إذ يعزو سبب الفيضان إلى أن النيل يسير على طريقة غريبة؛ إذ يَنبُع من المحيط، وأن المحيط يجري حول الكرة الأرضية كلها.
وأما التفسير الثالث الذي هو أكثر تصديقًا من التفسيرين السابقين فأبعدهما جميعًا عن الحقيقة؛ إذ لا أساس له، وهو نظريًّا أكثر منه واقعيًّا. يعزو فيضان النيل إلى ذوبان الثلوج، ولما كان النيل ينبع من ليبيا، ويمر خلال إثيوبيا، ثم إلى مصر فكيف يمكن أن يُقال إنه يتكون من الثلوج الذائبة وهو يجري من أكثر المناطق حرارة في العالم إلى مناطق أبرد منها؟! هناك كثير من البراهين تُقنع أي فرد قادر على التفكير بأن هذا لا يمكن أن يكون سبب الفيضان، فأول برهان وأقوى البراهين جميعًا يأتي من الرياح التي تهب ساخنة من تلك المناطق، وثانيهما: أنه لا يُعرف قَط تكوُّن الأمطار والصقيع في هذه الجهات، فعندما ينزل الثلج لا بد من سقوط الأمطار في خلال خمسة أيام. وعلى هذا لو كانت هناك ثلوج في تلك النواحي لوَجَب أن تنزل فيها الأمطار أيضًا. وثالثها: من المؤكد أن أهالي هذه المناطق ذوو بشرة سوداء بسبب الحرارة، وأن السماء تظل هناك زرقاء، كما يظل طائر الخطاف هناك طول العام، وأن الكراكي عندما تهاجر هربًا من زمهرير شتاء سكوثيا، تذهب إلى هذه المناطق لتقضي فيها فصل البرودة. فإن حدث في المناطق التي يَنبُع منها النيل أو التي يمر خلالها أن سقط الثلج، فمن المستحيل أن تحدث أية حالات من هذه.
أما الكاتب الذي عزا الفيضان إلى المحيط فإنه يعيش في ظلامٍ يستحيل معه البرهنة على خطئه بالجدل، وأما أنا شخصيًّا فلا أعرف نهرًا باسم المحيط، وأظن أن هومير أو أحد الشعراء السابقين له قد ابتكر هذا الاسم وذكره في أشعاره.
ربما حُقَّ للمرء بعد تعداد النظريات التي وضعت عن هذا الموضوع الغامض أن يقترح تعليلًا من استنتاجه، وعلى هذا سأبدأ في شرح ما أعتقد أنه السبب في فيضان النيل صيفًا؛ فخلال الشتاء تدفع الرياحُ الشمسَ عن مسارها المعتاد وتنتقل إلى الأجزاء العليا من ليبيا، هذا هو السر كله في عبارة موجزة؛ لأن المناطق التي يقترب منها إله الشمس أكثر من غيرها، ويمر فوقها مباشرة هي أقلُّ المناطق ماءً، وتنكمش فيها مجاري المياه التي تُغذِّي الأنهار أكثر من انكماشها في المناطق الأخرى.
لكي نشرح هذا الرأي بالتفصيل نقول: عندما تمر الشمس فوق الأجزاء العليا من ليبيا تؤثر فيها بالطريقة الآتية: لما كانت السماء صافية دائمًا في تلك البلاد، والجو حارًّا بسبب انعدام الرياح الباردة، فعندما تمر الشمس فوقها تؤثر فيها بنفس تأثيرها على الأماكن التي تمر عليها صيفًا عندما يكون مسارها في وسط السماء؛ أي إنها تجذب المياه، وبعد أن تجذب المياه تقذفها في المناطق العالية؛ حيث تحملها الرياح وتبعثرها وتحولها إلى بخار. ومن هذا يحدث أنه من الطبيعي جدًّا أن تكون الرياح التي تهب من هذه الأمكنة، وهي الرياح الجنوبية، والجنوبية الغربية؛ تكون محمَّلة بالأمطار أكثر من غيرها. ومن رأيي الشخصي أن الشمس لا تتخلص من جميع المياه التي تجذبها من النيل عامًا بعد عام، بل تحتفظ لديها بجزء منها، وعندما يبدأ الشتاء يخف، تعود الشمس ثانية إلى مكانها الأول في وسط السماء، وتشرع في جذب الماء بقوة متساوية في جميع المناطق. ومن رأيي أن النيل عندما يخترق أرض ليبيا كلها يتساوى في طوله مع الإيستر، وبهذا أنتهي من هذا الموضوع.