بعض ملوك مصر
تكلمت عن مصر في الأبواب السابقة تبعًا لمشاهدتي، فذكرت ما رأيته بعينَي رأسي، والآراء التي كونتها بنفسي، ونتائج أبحاثي الشخصية. أما المعلومات الآتية فاستَقيتُها من المصريين أنفسهم. وبناءً عليه أذكرها هنا كما هي، وأضيف إليها بعض الملاحظات التي استرعت انتباهي.
قال لي الكهنة: إن أول ملوك مصر هو مينا، وأنه هو الذي أقام الجسر الذي يقي مدينة ممفيس خطر فيضان النيل؛ فقد كان النيل قبل عهده يفيض على طول سلسلة من التلال الرملية التي تَحُدُّ مصر من ناحية ليبيا. فصنع سدًّا وسط النيل عند المُنحنى الذي يكونه النهر جنوبي ممفيس بحوالي مائة فورلنج، وبذا جفف مجراه القديم، وفي نفس ذلك الوقت حفر له طريقًا جديدًا في منتصف المسافة بين صفي التلال.
بعد هذا، قرأ لي الكهنة من أوراق البردي أسماء ثلاثمائة وثلاثين ملكًا خلفوه على العرش، تبعًا لأقوال أولئك الكهنة. وفي هذه الأجيال العديدة تولى الحكم ثمانية عشر ملكًا إثيوبيًّا، وملكة وطنية واحدة. أما بقية الملوك فكانوا رجالًا ومصريين. وكانت تلك الملكة تحمل نفس اسم ملكة بابل، أي نيتوكريس، فيقولون إنها خلَفت أخاها الذي كان ملكًا على مصر وقتله رعاياه، ثم أقاموها على العرش مكانه. ولما كانت قد صممت في قرارة نفسها على أن تأخذ بثأر أخيها، وضعت خطة بدهاء فأبادت عددًا كبيرًا من المصريين. شيدت قاعة واسعة تحت الأرض وبحجة تدشينها أقامت وليمة عُظمى دعت إليها أولئك المصريين الذين كانت تعرف أنهم قاموا بالدور الرئيسي في مقتل أخيها، وبينما هم يولمون أطلقت عليهم ماء النهر فجأة بواسطة سد سري بالغ الحجم. هذا هو كل ما أخبرني به الكهنة عن تلك الملكة، باستثناء أنها عندما فعلت هذا ألقت بنفسها في حجرة مليئة برماد النار هربًا من الانتقام الذي تتعرض له.
أما الملوك الآخرون، فبحسب أقوال الكهنة، لم يكونوا من المشهورين أو الجديرين بالذكر.
اختفت أغلب الأعمدة التي أقامها سيزوستريس في البلاد التي غزاها. أما التي أقامها في سوريا فقد رأيتُها قائمةً في المنطقة المعروفة بفلسطين، وعليها النقوش التي ذكرتها وكذلك الشارة، واضحةً تمام الوضوح.
كذلك قسم سيزوستريس كما يُقرر الكهنة أرض مصر إلى قطع مربعة الشكل متساوية في المساحة، ووزعها على السكان، مانحًا كل فرد قطعة منها على أن يدفع له إيجارًا سنويًّا، وإذا محا النهر جزءًا من نصيب أي رجل ذهب إلى الملك وشكا إليه بما حدث، فيُرسِل الملك مندوبين ليقيسوا بالضبط مساحة الجزء الذي أزاله النهر، وبناءً على هذا التحديد يُخفَّض الإيجار، فلا يُطَالب ذلك الرجل إلا بإيجار قطعة الأرض الباقية له. وأظن أن تلك العملية هي التي أوجدت علم الهندسة لأول مرة في مصر، ثم انتقل منها إلى بلاد الإغريق. أما المزولة وتقسيم النهار إلى اثنَي عشر قسمًا فقد أخذهما الأغارقة عن أهل بابل.
لم يكن سيزوستريس ملك مصر فحسب، بل وملك إثيوبيا أيضًا. كان هو الملك المصري الوحيد الذي حكم ذلك القطر الأخير. ومن الآثار التي تركها تخليدًا لذكرى حُكمه تلك التماثيل القائمة أمام معبد فولكان؛ اثنان منها يُمَثِّلانه هو وزوجته، وارتفاع كل منهما ثلاثون ذراعًا. أما الأربعة الباقية فتمثل أبناءه وارتفاع كل منها عشرون ذراعًا. هذه هي التماثيل التي رفض كاهن فولكان بعد ذلك بسنوات عديدة أن يسمح لداريوس الفارسي بأن يقيم أمامها تمثالًا لنفسه؛ إذ كما قال ذلك الكاهن «لم يعمل داريوس أعمالًا كالتي عملها سيزوستريس المصري؛ لأن سيزوستريس أخضع جميع الشعوب التي أخضعها داريوس، وزاد عليها السكوثيين الذين أخفق داريوس في إخضاعهم. وعلى ذلك فليس من العدل أن يقيم لنفسه تمثالًا أمام تمثال ذلك الملك الذي لم يستطع داريوس أن يتفوق عليه في أعماله.» ويقولون إن داريوس عفا عنه من أجل ذلك الكلام.
«لقد انقضت مدة العقوبة ويجب أن يَسترد فرعون بصره بأن يغسل عينيه بالبول، ينبغي أن يبحث عن سيدة مُخلصة لزوجها، ولم تُفضِّل عليه قط أي رجل آخر.» وعلى ذلك بدأ الملك بتجربة بول زوجته، ولكنه لم يُفِد شيئًا، ظل أعمى كما كان من قبل، فكرر التجربة ببول سيدات أُخريات حتى نجح في النهاية واستعاد قوة إبصاره. وبعد هذا جَمَعَ كل النساء اللواتي استعمل بولهن ما عدا الأخيرة، وقادهن إلى المدينة التي تُسمَّى إيروثرابولوس (أي الأرض الحمراء)؛ حيث أحرقهن جميعًا مع المدينة نفسها. أما السيدة التي يدين لها بشفائه فتزوجها، وبعد تمام شفائه قدم الهدايا لجميع المعابد، ومن أهم هذه الهدايا مسلتان قدمهما لمعبد الشمس. إنهما من روائع الفن؛ إذ نُحِتت كلٌّ منهما من قطعة واحدة من الصخر عرضها ثماني أذرع وارتفاعها مائة ذراع.