قصة رامبسينيتوس
يُقال إن الملك رامبسينيتوس كان واسع الثراء يملك كنوزًا عظيمة من الفضة، والحقيقة أن كميتها كانت بالغة لدرجة أنه لم يتفوق عليه أو يساويه أحد في ثرائه من جميع الملوك الذين خلفوه، ولكي يحرس أمواله جيدًا عزم على أن يبني حجرة واسعة من الصخر المنحوت بحيث يكون أحد جوانبها واجهة قصره. ولما كانت للبَنَّاء أطماع في تلك الكنوز صمَّم خطة وهو يقوم بالبناء، فوضع حجرًا في القاعة يَسهُل نزعه من مكانه بواسطة رجلين، أو حتى رجل واحد. وهكذا تم بناء الحجرة وأُودِعت فيها أموال الملك … مرت الأيام وتعاقبت الأعوام، ومَرِض البنَّاء، فلما أحس بقرب منيته نادى ولدَيه وأخبرهما بأمر الحجر السري في خزانة الملك، قائلًا لهما إنه إنما فعل هذا من أجلهما كي يستطيعا الحياة دائمًا في بذخ، وشرح لهما طريقة نزع الحجر مبينًا لهما جميع الأبعاد والمسافات. وأمرهما بكتمان السر؛ كي يُهيمِنَا على الخزانة الملكية طيلة حياتهما. فلما مات الأب، لم يتوانَ ابناه في البدء بالعمل، فذهبَا إلى القصر ليلًا، وعثرَا على الحجر في حائط البناء، فعالجاه حتى نزعاه بسهولة من الحائط، وبعدها سلبَا مبلغًا عظيمًا من الخزانة.
عندما ذهب الملك، بعد ذلك، إلى مخزن كنوزه دُهِش إذ رأى النقود هابطة في أحد الأوعية التي ملأها بالفضة. لم يستطع أن يتهم شخصًا بعينه؛ فقد كانت الأختام سليمة، وأقفال الحجرة موضوعة في مكانها لم تمتد إليها يدُ أحدٍ بالعبث. وكلما ذهب الملك إلى خزانته بعد ذلك وجد تكرار العبث بأمواله وسرقة كمية كبيرة من النقود في كل مرة. والحقيقة أن اللصَّين لم يكفَّا عن السرقة، بل كانا ينهبان الأموال باستمرار. وأخيرًا استقر رأي الملك على أن يَنصِب شركًا بقرب الأوعية المحفوظة فيها الأموال، فتمَّ هذا، وعندما ذهب اللصان إلى القاعة كعادتهما، ودخل أحدهما من الفتحة السرية اتجه نحو أحد الأوعية، فإذا به يجد نفسه فجأة قد وقع في الفخ، فأدرك أنه هالك لا محالة، وعندئذٍ نادى أخاه من فوره وأخبره بما حدث، وطلب منه أن يقطع رأسه بأسرع ما في مكنته، ويحمل الرأس معه؛ حتى إذا ما اكتُشِف جسمه لم تُعرف شخصيته وإلا هلك كلاهما. فعرف اللص الآخر حكمة هذه المشورة، فاضطر إلى تنفيذها، ثم وضع الحجر ثانية في مكانه، ورجع إلى بيته يحمل معه رأس أخيه.
ما إن لمع الفجر في أفق السماء حتى أسرع الملك إلى خزانته، فإذا به يدهش لوجود جسم في الشرك بغير رأس، بينما البناء سليم لم يُمَس، ولم يرَ أية فتحة لدخول اللص أو خروجه في أي موضع بالحجرة .. وقف الملك حائرًا مبهوتًا، وفي أثناء حيرته أمر بأن تُرفع جثة الرجل الميت وتعلق خارج سور القصر، وأقام عليها الحراس لمراقبتها وأمرهم بالقبض على كل مَن يبصرونه يبكي أو يولول قريبًا من مكان الجثة، وأن يُحضِروه إليه. فلما سمعت الأم بعرض جثة ابنها حزنت أبلغ الحزن، وحزَّ ذلك في قلبها، فتحدثت إلى ابنها الآخر وأمرته بأن يجد طريقةً ما لإحضار جثة ابنها، وهددته بأنه إذا لم يُحضِر لها جثة أخيه فإنها ستذهب بنفسها إلى الملك وتخبره بجلية الأمر.
حاول الابن جهد طاقته أن يثني أمه عن عزمها ولكن دون جدوى، فما فتئت تُلاحِقه بطلبها حتى رضخ أخيرًا إلى رغبتها، ودبر الطريقة الآتية لسرقة الجثة: ملأ بعض القِرَب بالخمر، وحملها على ظهور الحمير، وساقها أمامه حتى بلغ مكان الجنود المُكلَّفين بحراسة الجثة. وبينما هو يتظاهر بأنه يجذب إليه قِربتين أو ثلاثًا حل رباط بعض القِرب، وتركها تتأرجح على جوانب الحمير، فأخذت الخمر تسيل من القِرب، وعندئذٍ شرع يَضرِب رأسه ويَصرُخ بأعلى صوته مدعيًا أنه لا يعرف بأي الحمير يبدأ. فلما أبصَر الحراس الخمر تنسكب على الأرض فرحوا وانتهزُوا الفرصة وأسرعوا جميعًا إلى الطريق ومع كل واحدٍ مِنهُم إناء أو نحوه ليجمع فيه شيئًا من الخمر وهي تسيل، فتظاهر السائق بالغضب وأخذ يكيلُ الشتائم للحراس الذين حاولوا تهدئته بجميع الطرق، حتى تظاهر أخيرًا بأنه قد لان واستعاد هدوءه، وساق الحمير بعيدًا عن الطريق، وأنشأ يرتب حمولتها. في تلك الأثناء بينما هو يَتَحدث إلى الحراس بدأ أحدهم يمزح معه حتى جعله يضحك، وعندئذٍ قَدَّم لهم قِربة من الخمر على سبيل الهدية، فاستقر عزمهم وقتذاك على أن يجلسوا ويحتسوا الخمر، ورجوا ذلك الحمار في أن يجلس ويشرب الخمر معهم، وأخيرًا رضي الرجل وبقي معهم، وبينما هم يحتسون الخمر توثقت عُرى الصداقة بينهم، فقدم لهم قِربة أخرى. وعلى ذلك أخذوا يعبون الخمر عبًّا حتى دارت رءوسهم وغَلَبهم النُّعاس، فناموا في مواضعهم، فانتظر اللص حتى جَنَّ الليل وأخذ جُثة أخيه، ثم رغب في أن يسخر منهم، فحلق النصف الأيمن من لحية كل حارس، وتركهم على تلك الحال، ووضع جُثة أخيه على الحمير، وانصرف عائدًا إلى أمه في بيته. وهكذا أنجز ما طلبته والدته.
لما بلغ مسامع الملك أن جثة اللص قد سُرِقَت استشاط غضبًا، واستبدَّ به الغيظ، وإذ أراد أن يَقبِض على الرجل الذي دبر تلك الخدعة مهما كلفه الأمر عمد إلى حيلة (كما قال الكهنة) لا أكاد أُصدِّقها. فيُقال إنه أرسل ابنته إلى مواخير الدعارة العامة، وأمرها بأن تسمح بالدخول لكل من يأتي إليها على شرط أن يخبرها بأعظم أعماله دهاءً، وأكثرها شرورًا طيلة حياته كلها، فإن أخبرها أحد بقصة اللص، وجب عليها أن تُمسِك به ولا تسمح له بالانصراف قط. ففعلت الابنة كما طلب منها أبوها، فعلِم اللص بالأمر، وعرف ما يرمي إليه الملك، وأراد أن يبزه في المكر والدهاء، ولذلك دبر الخطة الآتية: حصل على جثة رجل ميت حديثًا، وقطع إحدى ذراعيه من الكتف، وخبأها في طيات ملابسه، ثم ذهب إلى ابنة الملك، فسألته كما كانت تسأل كل فرد غيره، فأخبرها بأن أعظم أعماله شرورًا هو قطع رأس أخيه عندما وقع في الشرك الذي نصبه له الملك في خزانة أمواله، أما أعظمها دهاءً فهو أنه أسكر الحراس وسرق الجثة منهم، فما إن صرح بهذا حتى امتدت إليه يد الفتاة لتُمسِك به، بَيْد أن ذلك اللص انتهز فرصة الظلام وقدَّم لها يد الجثة، فظنتها يده فتشبثت بها، بينما هَرَب اللص من الباب.
عندما عَلِم الملك بالنجاح الجديد الذي أحرزه ذلك اللص دُهِش لدهاء وجرأة هذا الرجل، فبَعَث رسلًا إلى جميع مدن مملكته ليعلنوا العفو الشامل عن اللص، والوعد بمنحه مكافأة سخية إذا حضر من تلقاء نفسه، وأعلن عن شخصيته. فتمسك اللص بوعد الملك وذهب إليه في كل جرأة، فأُعجِب به رامبسينيتوس أيما إعجاب، ونظر إليه نظرته إلى أحكم شخصية في مملكته كلها، وزوَّجه ابنته قائلًا: «يتفوق المصريون على جميع العالم في حكمتهم، أما هذا الرجل فقد تفوق على سائر غيره من المصريين.»
هذه هي القصص التي يرويها المصريون لتكون تاريخًا لهم. أما من جهتي أنا شخصيًّا فأزمع أن أكتب بإخلاص في جميع مؤلفي تراث مختلف الأمم، ويُصِر المصريون على أن كيريس وباخوص موجودان في المملكة السُّفلى، كذلك كان المصريون أول مَن اعتقدوا بأن الروح خالدة، وعندما يموت جسد الإنسان تتقمص روحه صورة حيوان يُولد في نفس لحظة الموت، وبهذا تمر الروح من حيوان إلى آخر حتى تدور على جميع صور المخلوقات التي تسكن الأرض والماء والهواء، ثم تعود ثانية إلى هيكل بشري حيث تولد من جديد. وتستغرق فترة الهجرة والتنقل هذه (كما يقولون) مدة ثلاثة آلاف سنة. وهناك بعض الكُتَّاب الأغارقة بعضهم قُدامى وبعضهم محدثون اقتبسوا هذا المذهب من المصريين ونسبوه لأنفسهم، وبوسعي أن أذكر أسماءهم غير أنني أترفع عن هذا.