الفصل الثامن عشر
بعض الأساطير المصرية
يقولون، لما مات خفرع ارتقى العرش بعده موكيرينوس بن خوفو، وكان هذا الملك يمتعض من
سلوك أبيه فأعاد فتح المعابد وسمح للشعب الذي وصل إلى أقصى درجات البؤس والفاقة بأن
يعود إلى أعماله ويستأنف تقديم الذبائح. أما إقامته العدل في القضاء فبذَّ فيه كل من
سبقوه من الملوك؛ لذلك يُثنِي عليه المصريون بأكثر مما يُثنُون على أي ملك آخر، مقررين
أنه لا يحكم بالعدل فحسب، بل وإذا تظلم أي فرد من الحكم في قضيتِه عوَّضه الملك من جيبه
الخاص. وهكذا يُرضِيه ولا يجعل أحدًا يتذمر من حكمه. وبينما كان موكيرينوس يُوطِّد
أركان العدل في مملكته بالطيبة والرحمة، نالت منه المصائب كل منال: فأولًا ماتت ابنته
التي كانت ذريته الوحيدة، وإذ حزن على موتها حزنًا بالغًا أراد أن يَدفِنها بطريقة فذة،
فأمر بِصُنع بقرة من الخشب، وبعد تفريغ جوفِها كساها كلها بالذهب، ثم وضع جثة ابنته في
ذلك القبر الطريف.
لم توضع تلك البقرة تحت أطباق الثرى، وإنما بقيت فوق سطح الأرض ليراها كل فرد في
جميع
العصور حتى عصري. كانت تحتل حجرة فاخرة الأثاث في القصر الملكي بمدينة سايس
Sois، وكانت تُحرَق أمامها كل يوم جميع أنواع
العطور، ويُضيء في حجرتها مصباح ليلًا ونهارًا. ووضعت في حجرة مجاورة عدة تماثيل، قرر
كهنة سايس أنها تمثل محظيات موكيرينوس. إنها حوالي عشرين تمثالًا ضخمًا من الخشب عارية
الأجسام، ولستُ أعرف على وجه التحديد الأشخاص الذين تُمَثلهم هذه التماثيل، وإنما أكرر
هنا ما أخبروني به.
هناك رواية أخرى عن هذه التماثيل الضخمة والبقرة الخشبية: «كان موكيرينوس متيمًا بحب
ابنته فاغتصبها بالقوة، فحزَّ هذا في نفس الفتاة فشنقت نفسها، فدفنها موكيرينوس في تلك
البقرة، ولما علمت أمها بجلية الأمر قطعت أيدي جميعِ خادماتِ مخدعِها؛ لأنهن انحزن إلى
جانب الملك وغدرن بالفتاة. ولهذا لم تكن لتماثيل أولئك الخادمات أيدٍ.» أما أنا شخصيًّا
فأعتقد أن كل هذه الروايات محض خرافات، ولا سيما ما قيل عن أيدي التماثيل، وكل ما أعتقد
بصحته هو أن التماثيل فقدت أيديها بمرور الزمن الطويل، وقعت تلك الأيدي من التماثيل،
ولا تزال حتى اليوم مُلقاةً تحت أقدامها.
أما البقرة فيحجب الجزء الأكبر من جسمها غطاء أحمر، ولا يظهر منها غير رأسها وعنقها،
وهما مكسوان بطبقة كثيفة من الذهب، وبين قرنيها صورة من الذهب أيضًا تمثل قرص الشمس.
وليس تمثال البقرة هذا واقفًا على قوائم، بل يمثلها راقدة وقد ثنت أرجلها تحت جسمها.
إنها في نفس حجم بقرة حقيقية ضخمة. وفي كل سنة تُنقَل هذه البقرة من موضعها وتُعرَّض
لضوء النهار، يحدث هذا في الموسم الذي يَلطم فيه المصريون أنفسهم تكريمًا لأحد آلهتهم،
الذي أكف عن ذكر اسمه فيما يختص بهذا الأمر.
١ فيُقَال إن الفتاة طلبت من والدها في آخر لحظات حياتها أن يَسمَح لها بأن
ترى الشمس مرة في كل عام.
بعد موت هذه الابنة أصيب موكيرينوس بكارثة أخرى سأرويها هنا الآن: بَلَغَت هذا الملك
نبوءة من مدينة بوتو تقول: «لن تعيش على الأرض إلا ست سنوات فحسب، وستموت في السنة
السابعة.» فغضب موكيرينوس وبعث إلى الوحي برسالة مهينة يزجر فيها إلهه على عدم إنصافه،
فقال فيها: «على الرغم من أن أبي وعمي قد أغلقَا المعابد ولم يكترثَا للآلهة، وأهلكا
آلافًا من الشعب، فقد تمتَّعَا بحياة طويلة. أما أنا الرجل البار التَّقي فسأموت
سريعًا.» فرد عليه الوحي بقوله: «لهذا السبب ستنتهي حياتك بسرعة؛ لم تعمل ما كان يليق
بك أن تعمل. كان مُقدَّرًا لمصر أن تُعاني العذاب مائة وخمسين سنة. أدرَك الملكان
اللذان سبقاك على العرش هذا الأمر، أما أنت فلم تدركه.» وعندما تلقى موكيرينوس هذه
الرسالة أيقن أن مصيره قد تحدد، فأمر بإعداد المصابيح التي كان يُضِيئها في مساء كل
يوم؛ ليولم ويستمتع بالملذات ليلًا ونهارًا، يتنقل بين أراضي الريف والغابات، ويزور كل
مكان يسمع عن شهرته السياحية. كان كل قصده أن يُبَرهِن على كذب الوحي بأن يُحِيل الليل
إلى نهار، وبذا يعيش اثني عشر عامًا في فترة ست سنوات.
كذلك ترك موكيرينوس هرمًا في حجم هرم والده، ذا قاعدة مربعة يقل طولها عشرين قدمًا
عن
الثلاثمائة قدم. وقد بُنِي الهرم إلى نصف ارتفاعه من أحجار إثيوبيا. وينسبه بعض
الأغارقة إلى المومس رودوبيس، بَيْد أن هذا خطأ. يبدو لي أن أولئك الناس لم يعرفوا من
هي رودوبيس وإلا لما نسبوا إليها عملًا يتطلب نفقات باهظة. كانت رودوبيس تعيش في عصر
أماسيس وليس في عصر موكيرينوس، وعلى هذا تكون من عصر لاحق لعصر بناة الأهرام بسنوات
عدة. إنها تراقية المولد، كانت عبدة يملكها إيادمون بن هيفايستوبوليس السامي. وكان
إيسوب كاتب الأساطير الخرافية عبدًا زميلًا لها. وهناك عدة أدلة على أن إيسوب كان يملكه
إيادمون، فعندما أعلن أهل دلفي — طاعةً لأمر الوحي — أن يتقدم من له الحق في المطالبة
بالفدية عن مقتل إيسوب، تقدم إيادمون حفيد إيادمون الأول، وتسلم الفدية؛ إذن فلا بد أن
كان إيسوب عبدًا يملكه إيادمون الجد.
حضرت رودوبيس إلى مصر لتقوم بمهمتها تحت إمرة كسانثوس السامي، غير أنها نالت حريتها
نظير مبلغ ضخم من المال دفعه خاراكسوس الميتيليني بن سكاماندرونوموس وشقيق الشاعرة صافو.
٢ وبعد أن استعادت حريتها بهذه الطريقة بقيت في مصر. ولما كانت فائقة الجمال
جمعت ثروة طائلة بالنسبة لسيدة في حالتها، ومع ذلك، فلم تكن لتُمكنها من إقامة عمل ضخم
مثل ذلك الهرم. وكل من أراد أن يتحقق من هذا، فليذهب ويشاهد ١ / ١٠ ثروتها. عندئذٍ
يُدرِك أنه يجب على المرء ألا يتصور ثروتها بتلك الضخامة الغريبة. فلما كانت هذه السيدة
ترغب في أن تترك أثرًا يُخلِّد ذكراها في بلاد الإغريق، أصرت على أن تصنع شيئًا لا يوجد
مثله في أي معبد، وتقدمه إلى معبد دلفي. وعلى هذا أخذت عُشر ثروتها واشترت به كمية من
الأسياخ الحديدية كالسفافيد المستعملة في شواء الثيران كاملة، وقدمتها للوحي. ولا تزال
هذه الأسياخ هناك مكومة خلف المذبح الذي أقامه الخائيون
Chians قبالة المعبد. ويبدو أن ناوكراتيس هي
المدينة التي تكون بها أمثال هذه السيدة في غاية الفتنة والإغراء؛ فأولًا كانت بها
رودوبيس هذه التي تكلمنا عنها، وقد طبقت شهرتها جميع الآفاق، حتى ليجري ذِكر اسمها على
ألسنة جميع الأغارقة. ثم أرخيديكي الشهيرة في جميع أرجاء بلاد الإغريق، ولو أنهم لا
يتحدثون عنها كثيرًا مثل سابقتها. وبعد أن دفع خاراكسوس فدية رودوبيس عاد إلى ميتيليني.
وكثيرًا ما ألهبته صافو بشعرها. أظن أننا قلنا ما فيه الكفاية عن هذه الظاهرة.
قيل لي: إن الملك التالي لهذا العاهل كان كاهنًا من كهنة فولكان يُدعى سيثوس، فلما
تولى الحكم أهمل طبقة المحاربين المصريين، واحتقرهم كما لو كان في غنًى عن خدماتهم،
فنزع منهم الأراضي التي امتلكوها إبان حكم الملوك السابقين، وقدرها اثنا عشر فدانًا من
أجود الأرض لكل محارب. بعد ذلك عندما سار الملك ساناخاريب ملك العرب
٣ والآشوريين بجيشه الضخم إلى مصر رفض المحاربون جميعًا أن يَهُبوا لمساعدته،
فأحس ذلك الملك بخيبة الأمل، وإذ نجعه الحزن العميق انطلق إلى المعبد الداخلي، وأخذ
يَندُب أمام تمثال الرب تلك الكارثة التي حاقت به، وبينما هو يبكي غلبه النعاس فنام،
فرأى في حلم أن الرب أتى إليه ووقف إلى جانبه وأمره بأن يتخلى عن غضبه ويبتهج، وأن يذهب
بكل جرأة لملاقاة الجيش العربي الذي لن يُلحِق به أي أذًى؛ لأنه سيُرسِل هو بنفسه من
يجب أن يساعدوه. فما إن صحا سيثوس من نومه حتى تشجع بهذا الحلم، فجمع بعض المصريين
الراغبين في أن يتبعوه، ولم يكن بينهم أي محارب قط، بل كانوا جميعًا من التجار وأرباب
الحرف ورجال الأسواق. فسار بهؤلاء الجموع إلى بيلوسيوم المُشرِفة على مدخل مصر حيث أقام
معسكره. وبينما كان كل من المعسكرين أمام الآخر جاءت في بهيم الليل أسراب من فيران
الحقول وأخذت تقرض جميع جعبات الأعداء وأوتار قِسِيِّهم، كما أكلت السيور الجلدية التي
يتناول جنود العدو بها تروسهم. فلما أصبح الصباح ورأى الأعداء ما حل بهم أطلقوا العنان
لأقدامهم هاربين. وهكذا هُزِمت تلك الجموع الغفيرة لعدم وجود الأسلحة التي يدافعون بها
عن أنفسهم. وإلى هذا اليوم، يقوم أمام معبد فولكان تمثال للملك سيثوس، يُمسِك فأرًا في
يده
٤ وقد نُقِش على التمثال عبارة تقول: «انظر إليَّ وتعلم تبجيل
الآلهة.»
تناولت في الأبواب السابقة الكلام عن سلطة المصريين وعن كهنتهم، ويُقرِّر أولئك القوم
أن الفترة ما بين أول ملوكهم وهذا الملك الذي تَحدثتُ عنه أخيرًا، وهو كاهن فولكان،
تبلغ ثلاثمائة وواحدًا وأربعين جيلًا. ويقولون إن هذا العدد نفسه يُمَثِّل عدد كلٍّ من
ملوكهم وعظماء كهنتهم خلال هذه الحقبة الزمنية.
يُقال إن عصر أماسيس كان أزهر عصر رأته مصر.
٥ كان النهر يجري إلى الأراضي في حرية أكثر، وأثمرت الأرض محصولًا وفيرًا
انتفع به السكان أكثر مما سبق أن عُرِف قبل ذلك، وكان عدد المدن المأهولة بالسكان لا
يقل عن عشرين ألفًا، وكان الملك أماسيس هذا هو الذي وضع قانونًا يُحَتِّم على كل مصري
أن يَمثُل مرة في كل عام أمام حاكم منطقته،
٦ ويُقدِّم له تقريرًا عن وسائل معيشته، أما إذا لم يفعل هذا، أو لم يستطع
إثبات أنه يعيش من السُّبُل المشروعة حُكِم عليه بالإعدام (إنه أشبه بقانون من أين لك
هذا؟) وقد استعار صولون الأثيني هذا القانون من مصر وفرضه على مواطنيه الذين ظلوا
يعملون به منذ عهده. إنه، والحقُّ يُقَال، عادة رائعة.
عقد أماسيس معاهدة صداقة وتحالف مع الكورينيين صارت مصر بمُقتَضَاها صديقة وحليفة
للولاية الإغريقية كوريني. كما أنه تزوج امرأة من تلك الولاية، وكان قصده من هذا إما
أن
يكون ذلك الزواج عنوان الشعور بالصداقة، أو أن أماسيس كان يتوق إلى الزواج بسيدة
إغريقية. وعلى أية حال مهما كان قصده فمن المؤكد أنه تزوج بامرأة من كوريني تُدعى
لاديكي Ladice. وعندما حان موعد إتمام المعاهدة أُصيب
أماسيس بالضعف. وإذ أدهشه هذا — لأنه لم يتعود ذلك من قبل — قال لزوجته «أيتها المرأة،
لقد سحرتني حقًّا، فتأكدي إذن أنك ستموتين مِيتَةً أشد بؤسًا من مِيتَة أي امرأة قبلك.»
فاحتجت لاديكي وأصرت على براءتها مما نَسَبه إليها، بَيْد أن هذا لم يُجدِها نفعًا، فلم
تَلِن قناة أماسيس، وعندئذٍ نذرت لاديكي في نفسها إن عاد أماسيس إلى صوابه في خلال ذلك
اليوم (إذ لم يسمح لها بوقت أكثر من يوم)، أن تُقَدِّم تمثالًا لمعبد فينوس في كوريني.
وعند ذلك نالت بغيتها في الحال، فزال عن الملك ضعفه. ومنذ هذا الحدث أحبها أماسيس حبًّا
جمًّا، وأوفت لاديكي بنذرها. أما التمثال الذي أمرت بصنعه وإرساله إلى كوريني فلا
يَزَال هناك إلى عصري. وعندما غَزَا قمبيز مصر، لم يُصِب لاديكي أيُّ أذًى؛ إذ لما
عَلِم منها حقيقة جنسيتها بعثها إلى وطنها، ولم يَمسها بسوء.