كيف ارتقى داريوس إلى العرش
في الشهر الثامن لحكم سميرديس اكتُشِفت شخصيته بهذه الطريقة: كان بفارس رجل يُدعَى أوتانيس بن فارناسبيس، لا يقل عن أي فارس آخر في الجاه أو في الثراء، وكان أوتانيس هذا أول من ساورته الشكوك في أن ذلك المجوسي هو سميرديس بن كوروس حقيقة، فأخذ يستقصي عن حقيقة نسبه، فرأى أن الملك لا يُغادر القلعة إطلاقًا، ولا يستدعي قط إلى حضرته أي أحد من نبلاء الفرس، فساقه هذا إلى الحدس بالحقيقة، وما إن بلغت شكوكه ذروتها حتى عمد إلى الطريقة الآتية. كان له ابنة تدعَى فايديما، كانت زوجةً لقمبيز، ثم تزوجها ذلك المجوسي مع زوجات قمبيز الأخريات. فبعث أوتانيس رسالة إلى ابنته هذه يطلب منها أن تخبره: «مَن يكون ذلك الذي تقاسمه الفراش؟ هل هو سميرديس بن كوروس، أو هو رجل آخر؟» فردت عليه فايديما بأنها لا تعرف؛ إذ لم يسبق أن رأت سميرديس بن كوروس، ولذلك لا يمكنها أن تحكم على شخصية الرجل الذي تقاسمه الفراش. فأرسل إليها أوتانيس مرة ثانية يقول: «إذا لم تكوني تعرفين سميرديس بن كوروس أنت نفسك، فاسألي الملكة أتوسا عمن يكون ذلك الرجل الذي تعيشان معه؛ فلا يمكن أن تجهل شقيقها»، فأجابت الابنة بقولها: «لا أستطيع الوصول إلى التحدث مع أتوسا، ولا مع أية امرأة أخرى ممن يعشن في القصر؛ فما إن استولى هذا الرجل على زمام الملك حتى فرَّق بين كل مِنَّا والأخرى، وخصص لكل واحدة حجرة منفصلة عن حجرة زميلتها.»
زاد هذا في وضوح الموقف أمام أوتانيس، ومع ذلك فقد بعث برسالة ثالثة إلى ابنته يقول فيها: «ابنتي، إنك من دم نبيل، ولن تُحجمي عن القيام بعمل خطر يأمرك والدك بأن تقومي به. إذا لم يكن هذا الرجل هو سميرديس بن كوروس، وأنه هو الرجل الذي أظنه اغتصب الملك، فلا يجب أن تَمُر جرأته في اتخاذك زوجة له والحكم على الفرس، دون أن يُعاقَب. وعلى هذا، افعلي ما آمرك به. عندما يقضي الليلة معك انتظري حتى تتأكدي من أنه قد استغرق في النوم، ثم تحسسي أذنيه، فإن كان له أذنان فاعلمي أنه سميرديس بن كوروس. وإن كان بغير أذنين فكوني على يقين من أنه سميرديس المجوسي»، فردت عليه فايديما تقول إنه لمن الخطر الجسيم إن كان بغير أذنين وقُبِض عليها وهي تبحث عنهما، إنها لتعلم علم اليقين أنه سوف يقتلها من أجل هذا ما في ذلك ريب، وبرغم هذا فستقوم بهذه المغامرة. وهكذا حصل أوتانيس على وعد من ابنته بأنها ستقوم بما طلبه منها. كان سميرديس المجوسي قد قُطِعت أذناه في عهد كوروس بن قمبيز؛ عقابًا له على جريمة دنيئة. وعلى ذلك اعتزمت فايديما ابنة أوتانيس القيام بما وعدت به والدها عندما جاء دورها لتبيت في فراش المجوسي (في فارس تنام زوجات الرجل معه كلٌّ حسب دورها). وبينما كانت بين أحضانه انتظرت حتى راح في نوم عميق وتحسست أذنيه، فإذا بها تجده بغير أذنين، وما إن بزغ الفجر حتى أرسلت كلمة بهذا إلى والدها.
بعد ذلك استدعى أوتانيس إليه اثنين من وجهاء الفرس هما: أسباثينيس، وجوبرياس، وهما رجلان يمكن الثقة بهما تمامًا في مثل هذا الموضوع، وأفضى إليهما بكل شيء، وكان هذان من ناحيتهما قد ساورتهما الشكوك من قبل في هذه المسألة، ولذلك عندما بسط أوتانيس قضيته وحججه إليهما، انضمَّا إلى رأيه في الحال، واتفقوا ثلاثتهم على أن يختار كل واحد منهم لنفسه رفيقًا فارسيًّا يثق به أعظم ثقة. فاختار أوتانيس أنتافيرنييس، واختار جوبرياس ميجابوزوس، أما أسباثينيس فاختار هودارنيس. فلما صار عددهم ستة تصادف أن وصل داريوس بن هوستاسبيس إلى سوسا قادمًا من فارس حيث كان والده حاكمها، وعند مجيئه رأى الستة أنه من الخير أن يُشرِكوه معهم في ذلك الأمر.
وإذ صار الرجال سبعة اجتمعوا معًا ليحلفوا اليمين ويتحدثوا معًا، ويبسطوا وجهات النظر، فلما جاء دور داريوس في الكلام ليُفضي إليهم بما يجول في خاطره قال: «كنت أظن أن لا أحد غيري يعرف أن سميرديس بن كوروس ليس على قيد الحياة الآن، وأن سميرديس المجوسي هو الذي يحكمنا، وعلى ذلك أسرعت بالمجيء إلى هنا؛ لتدبير مقتل ذلك المجوسي، ولكن بما أن الأمر — كما يبدو — معروفٌ لكم جميعًا وليس لي وحدي فمن رأيي أن نعمل في الحال دون أي تأخر؛ إذ التأخر يَضُرُّ بخطتنا.» فقال أوتانيس: «يا ابن هوستاسبيس، إنك ابن أب شجاع، ويليق بك أن تُبدِي أنك شجاع وجريء مثله، غير أنه يجب أن تلتزم جانب الحذر في هذا الأمر، لا يجب الإسراع، بل العمل بحزم، ينبغي أن نزيد عددنا قبل أن نضرب ضربتنا.» فأجاب داريوس: «ليس الأمر كما ترى؛ إذ يجب أن نعلم نحن الحاضرين هنا أننا إن أخذنا برأي أوتانيس فسنموت أشنع ميتة؛ إذ سوف يُفشي شخص ما خطتنا إلى المجوسي طمعًا في الحصول على مكافأة مالية. كان يجب أن نحتفظ بالمسألة فيما بيننا، ونقوم بالمغامرة وحدنا. ولكن بما أنك قررت أن تُشرِك معك آخرين، وتُطلِعهم على هذا السر كما أطلعتنا عليه، فإني أنصح بالقيام بالعمل اليوم، وإذا مر يوم واحد ولم تعملوا فتأكدوا من أنني لن أسمح لأحد بأن يشي بي لدى المجوسي، بل سأذهب إليه بنفسي وأتهمكم جميعًا علنًا.»
لما رأى أوتانيس أن داريوس متحمس إلى تلك الدرجة، قال: «ولكن بما أنك تجبرنا على العمل اليوم دون أن تمهلنا يومًا واحدًا فأخبرنا بربك كيف ندخل إلى القصر لنهجم عليه؟ إن الحراس كما تعلم في كل مكان — فإذا لم تكن قد رأيتهم بعينَي رأسك، فلا بد أنك سمعت عنهم — فكيف يتسنى لنا أن ندخل وسط أولئك الحراس؟» فأجاب داريوس: «يا أوتانيس، هناك أشياء كثيرة سهلة عند التنفيذ بينما يَصعُب شرحها بالألفاظ، كما أن هناك أشياء سهلة عند الكلام ولا يتم بخصوصها أي عمل نبيل بعد الكلام. أما عن أولئك الحراس فإنك تعلم أننا لن نجد صعوبة في المرور من بينهم، إن رُتبنا وحدها كفيلة بأن تجعلهم يسمحون لنا بالدخول، أما الخوف والتردد فيحثانهم على رفض طلبنا. وعلاوة على هذا فإن لي أقوى حجة في الدخول؛ إذ يمكنني أن أقول إنني رجعت الآن فقط من فارس ومعي رسالة من أبي يجب أن أُفضِي بها إلى الملك. يجب على المرء أن يكذب عندما تقتضي الضرورة هذا، فلا يقول الناس لأنهم يرون الكسب في خداع الآخرين، ويقولون الصدق لأنهم يأملون في الحصول على شيء من قولهم الصدق، كما أنهم يأملون في أن يصدقهم الناس بعد ذلك في أمور أكثر أهمية. وهكذا رغم تناقض سلوكهم فإن الغاية واحدة، فإذا لم تكن هناك مكاسب يسعى المرء وراءها فإن الصادقين يكذبون بقدر ما يكذب الكذابون، ويصدق الكذابون بقدر ما يصدق الصادقون؛ فالحارس الذي يسمح لنا بالدخول بسهولة سينال مكافأته يومًا ما، والويل لمن يقاومنا؛ إذ يجب أن نعتبره عدوًّا، فندخل أمامه بالقوة، ونتخذ طريقنا ونذهب مباشرة لتنفيذ عملنا.»
بعد أن انتهى داريوس من كلامه هذا، قام جوبرياس، وقال: «أصدقائي الأعزاء، متى تسنح لنا فرصة أنسب من هذه لاستعادة المملكة؟ وإذا لم نكن أقوياء بما فيه الكفاية، فلا أقل من أن نموت ونحن نحاول استعادتها. تصوروا أننا، نحن معشر الفرس، نخضع لحكم رجل ميدي مجوسي، وأي نوع من الرجال هو؟ إنه رجل قُطِعت أذناه! كان بعضكم حاضرًا وقمبيز راقد على فراش الموت، تذكروا اللعنات الكثيرة التي صبَّها على الفرس إن لم يقوموا بمجهود لاستعادة المملكة. والحقيقة أننا لم نهتم كثيرًا بما قاله؛ لأننا خلناه يتكلم بدافع العداوة لِيحثَّنا على الثورة ضد أخيه، والآن ها أنا ذا أُعطي صوتي للعمل بحسب نصيحة داريوس، هيا، سيروا كتلة واحدة إلى القصر، من القصر الذي نحن فيه الآن، ومن ثَم ننقض على ذلك المجوسي.» هكذا قال جوبرياس، فاستحسن الآخرون رأيه.
بينما كان هؤلاء السبعة يتشاورون معًا تصادف أن وقعت هذه الأحداث: كان المجوسيان يُفكران في خير ما يفعلانه، فاستقر رأيهما لعدة أسباب، على أن يُصادِقا بريكساسبيس. كانَا يعلمان كم أثاره قمبيز في قسوة، وقتل ابنه بسهم، كما كانَا يعلمان أنه هو الذي قتل سميرديس بن كوروس، وأنه الشخص الوحيد الذي يعلم سر مقتل ذلك الأمير. كذلك وجدَا أن جميع الفارسيين ينظرون إليه نظرة احترام وتوقير، ولذلك استدعياه إلى حضرتهما واتخذاه صديقًا لهما، وجعلاه يرتبط بوعد ويُقسِم بالأيمان المُغلظة ألا يفشي التدليس الذي قامَا به على الشعب الفارسي، وألا يكشفه لأحد قط، وتعهَّدَا هما أنفسهما بأن يعطياه في تلك الحال آلاف الهدايا من كل نوع وصنف، وعلى هذا وافق بريكساسبيس. فلما رأى المجوسيان أنهما أفلحا في إغرائه إلى هذه الدرجة، انتقلا إلى اقتراح آخر، وقالا إنهما سيجمعان الفرس عند سور القصر، وأن يصعد بريكساسبيس إلى أحد الأبراج ويخطب في الشعب من ذلك المكان، ويقول لهم إن الذي يحكمهم هو سميرديس بن كوروس ولا أحد سواه. أمراه بأن يفعل هذا لأن بريكساسبيس كان رجلًا عظيم الشأن بين مواطنيه، وكثيرًا ما أعلن على الملأ أن سميرديس بن كوروس لا يزال حيًّا، وأنكر أنه قتله.
أبدى بريكساسبيس استعداده لتنفيذ مشيئتهما فيما يختص بهذا الموضوع، وعلى ذلك جمع المجوسيان الشعب وجعلا بريكساسبيس يصعد إلى قمة البرج، وطلبَا منه أن يُلقِي خطابه، غير أن بريكساسبيس نسي كل ما أوصاه به المجوسيان، وبدأ خُطبته بأخايمينيس، وتسلل منه إلى أن بلغ حُكم كوروس، وعندما وصل بعد ذلك بالتالي إلى حُكم هذا الملك عدَّد جميع الخدمات التي قدمها للفرس، ومن ثَم أخذ يُقَرِّر الحقيقة التي أخفاها خوفًا على حياته؛ إذ كان في إذاعتها خطر أي خطر، بَيْد أن الضرورة اضطرته الآن إلى أن يفشي كل شيء، فأوضح كيف أجبره قمبيز على قتل سميرديس بن كوروس، وأن فارس يحكمها الآن رجلان مجوسيان. وأخيرًا طفق يصب اللعنات الجمة على الفرس إن لم يعملوا على استعادة مملكتهم والانتقام من المجوسيين. وبعد أن أفضى بكل هذا، ألقى بنفسه رأسًا من ذلك البرج إلى الهوة أسفله. وهكذا كانت نهاية بريكساسبيس الذي كان رجلًا ذائع الصيت بين الفرس طول حياته.
الآن وقد اعتزم الفارسيون السبعة مهاجمة المجوسيين دون إبطاء قدموا الصلاة أولًا للآلهة، ثم انطلقوا صوب القصر، ولم يكونوا يعلمون بعد بما فعله بريكساسبيس. وبينما هم في الطريق إلى القصر بلغتهم تلك الأنباء بعد أن قطعوا حوالي نصف المسافة إلى القصر. وعلى ذلك انتحوا جانبًا بعيدًا عن الطريق وتشاوروا فيما بينهم، فقال أوتانيس وحزبه إنه يجب عليهم أن يُرجئوا هذا الأمر الآن، وألا يقوموا بالهجوم والأحوال في مثل ذلك الغليان، وأما داريوس وأتباعه فكان رأيهم ضد أي تغيير في الخطة، ورغبوا في التوجه مباشرة، وعدم إضاعة أية لحظة. وبينما هم في مناقشات وتَشاحُن إذ رأوا فجأة زوجين من النسور تطاردهما سبعة أزواج من الصقور، فمزقت الصقور النسور بمخالِبها ومناقيرها، فلما أبصر السبعة هذا المنظر وافقوا بصوت واحد على رأي داريوس. وإذ شجعهم هذا الفأل، أسرعوا بالانطلاق إلى القصر.
قوبل هؤلاء الرجال عند الباب كما كان داريوس يتوقع؛ فقد سمح لهم الحراس الذين لم يشكوا في أن وجهاء الفرس قد جاءوا لارتكاب جريمة بالدخول دون أية صعوبة — يبدو أنهم كانوا في حراسة خاصة من الآلهة — ولم يتقدم حارس واحد حتى ليسألهم أي سؤال. فلما وصلوا إلى القاعة الرئيسية التقوا ببعض الخصيان الذين كانت مهمتهم حمل الرسائل من الملك وإليه، فأوقفوهم وسألوهم عما يُرِيدون، بينما هددوا حراس الأبواب في الوقت ذاته للسماح لهم بالدخول. حاول السبعة الاستمرار في طريقهم غير أن الخصيان منعوهم، فما كان من هؤلاء الرجال، وقد شجع كل منهم الآخر بالعبارات الحماسية إلا أن استلُّوا خناجرهم وطعنوا بها كل من حاول الوقوف في طريقهم، ثم اندفعوا إلى بيت الذكور.
في ذلك الوقت كان المجوسيان كلاهما في الداخل يتشاوران في موضوع بريكساسبيس، فلما سَمِعا الضجة مع الخصيان وصياحهم المرتفع أسرعا بالخروج هما أنفسهما لينظُرا ما الخطب، فلما أبصرا الخطر المُحدِق بهما جريَا إلى الأسلحة، فاستطاع أحدهما أن يصل إلى قوس، وأمسك الآخر برمح، وعندئذٍ بدأ القتال في الحال، فوجد الذي تسلح بالقوس أنها لا تُجدِي نفعًا؛ لأن العدو كان على مسافة قريبة جدًّا لا تسمح باستخدام القوس، أما المجوسي الآخر فقاتل برمحه قتالًا عنيفًا فجرح اثنين من السبعة. أصاب أباثينيس في ساقه، وأنتافيرنيس في عينه، بَيْد أن جرح أنتافيرنييس لم يكن قاتلًا ومع ذلك فقد كلَّفه فَقْد بصر تلك العين. فلما رأى المجوسي الآخر أن قوسه عديمة الجدوى جرى هاربًا إلى حجرة توصل إلى دار الذكور، وأراد أن يقفل الباب خلفه. غير أن اثنين من السبعة دخلا معه، وهما داريوس وجوبرياس، فأمسك هذا الأخير بالمجوسي وتصارع الاثنان على الأرض بينما وقف فوقهما داريوس حائرًا لا يدري ماذا يفعل؛ إذ كان الظلام حالكًا، فسأله جوبرياس: «فيم كسل يدك يا هذا؟!» قال: «أخشى إن طعنت أن أُصيبك بأذى.» فقال جوبرياس: «اضرب ولا تخشَ شيئًا حتى لو أصابت الضربة كلينا.» فهوى داريوس بخنجره، ولِحُسن الحظ قُتِل المجوسي.
وهكذا قُتِل المجوسيان. فقطع السبعة رأسيهما وتركوا جريحيهما في القصر؛ لأنهما عجزَا عن السير، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لكي يحرسا القلعة. وخرجوا من الأبواب يحملون الرأسين في أيديهم، وهم يصيحون مُحدِثين جلبةً وصخبًا، فصاحوا يخبرون الفرس باجتماعهم، وما أسفر عنه ذلك الاجتماع، وأبرزوا لهم رأسَي المجوسيَّين، وفي نفس الوقت أخذوا يقتلون كل مجوسي يقع في طريقهم. فلما علم الفرس بما فعله السبعة، وعرفوا خداع المجوسيين، وجدوا من الصواب أن يقتدوا بالمثل الذي قُدِّم لهم، فاستلوا خناجرهم وأعملوا التقتيل في المجوس أينما وجدوهم. هكذا كان هياجهم، ولو لم يُخيِّم الليل بظلامه على الكون لما بقي هناك مجوسي واحد على قيد الحياة. هذا ولا يزال الفرس جميعًا يحافظون على ذكرى هذا اليوم، ويحتفلون به أكثر من أي يوم آخر في السنة كلها. أصبحت هذه الذكرى عيدًا عظيمًا يُسمُّونه «عيد قتل المجوس»، ولا يجرؤ أي مجوسي على الخروج من بيته طيلة هذا العيد، بل يبقى بمنزله اليوم كله.
بعد مُضِيِّ خمسة أيام على هذا الحادث، وقد سكن الهياج، اجتمع المتآمرون معًا ليتشاوروا في مصير الأحوال إذ ذاك. فأُلقيت الخطب في ذلك الاجتماع. ولم يؤمن الأغارقة بصحة ما ورد في كثير من تلك الخطب، ولكنها برغم هذا قد أُلقيت. فأشار أوتانيس بإسناد إدارة الشئون العامة إلى الشعب بأجمعه، فقال: «أما عن نفسي، فيبدو لي أن من الصواب ألا نُسلِّم مقاليد حُكمِنَا إلى شخص واحد؛ فليس حكم الفرد صالحًا ولا سارًّا. إنكم لا تنسون إلى أي حد ذهب قمبيز في كبريائه وطغيانه، كما لا تنسون غطرسة هذين المجوسيَّين التي لمستموها أنتم بأنفسكم. أما حكم الكثرة فيمتاز أولًا بأجمل الأسماء وهو: «حكومة السلطات المتكافئة»، وفضلًا عن هذا فهو بعيد عن كل الحماقات التي يرتكبها الملك المطلق السلطة. وتُملأ كراسي الحكم في هذه الحكومة بالاقتراع. فالحاكم مسئول عما يفعله، والتنفيذ موكول إلى عامة الشعب. وعلى هذا أُعطي صوتي في جانب إلغاء الملكية ورفع الشعب إلى مناصب السلطة؛ لأن الشعب هو الكل في الكل.»
هكذا كانت إحساسات أوتانيس، فقام بعده ميجابوزوس وخطب مُوصِيًا بإقامة الأوليجاركيه أو حكم الأقلية، فقال: «أشار أوتانيس في كل ما قاله بإلغاء الملكية، وإني لأوافقه في هذا تمام الموافقة، ولكني لا أرى بوصيته بأن نعهد بالحكم إلى الشعب خيرَ مشورة. فما من شيء يخلو من التفاهم ولا أحد أكثر شرورًا من السوقة غير الخاضعين لنظام أو قانون، ومن الحماقة غير المحتمَلة أن يسعى الناس إلى الهروب من شرور ملك طاغية، فيسلموا أنفسهم لشرور الطغامِ المطبوعين على الفظاظة وعدم الانقياد، فمهما فعل الطاغية فهو على الأقل عالِم بما يفعله. أما الرعاع فجهلة لا يعرفون شيئًا على الإطلاق؛ إذ أنى تكون هناك معرفة لدى العوام غير المتعلمين وعديمي الإحساس الطبيعي بما هو صواب ومناسب؟ سرعان ما نجدهم يندفعون للتدخل في شئون الدولة اندفاع مجرى الماء المفعم بماء الشتاء، وفي تلك الحال يُربِكون كل عمل. دعوا الديموقراطية تحكم أعداء فارس، أما نحن فلننتخب من بين مواطنينا عددًا من الأكفاء، ونضع الحكم في أيديهم، عندئذٍ نكون نحن أنفسنا بين الحكام، وتكون السلطة قد وُكِلَت إلى خير الرجال، والأصلح الأوفق، هو أن تسود أفضل المشورات حكومة الدولة.»
هذا هو ما نصح به ميجابوزوس. ثم قام بعده داريوس، فقال: «ها قد أجاد ميجابوزوس في كل ما قاله عن الديمقراطية على ما أظن. ولكنه لم يُحسِن الكلام عن حكم الأقلية، فلنأخذ الأنواع الثلاثة للحكومات، وهي: الديمقراطية، والأوليجاركيه أو حكم الأقلية، والملكية، ولنفرض أن كل حكومة منها في خير أنظمتها، عندئذٍ لا أرى إلا أن تتفوق الملكية على الحكومتين الأخريين. وأية حكومة أفضل من حكومة خير رجل في المملكة كلها، فنصائح هذا الرجل خَيِّرة مثله، ولذا فهو يحكم جموع الشعب بما يرضي نفوسهم، وفي نفس الوقت، تبقى خططه حيال الأشرار في طي الكتمان، أكثر مما يحدث في نوعَي الحكومة الآخرَين. ويحدث عكس هذا في حكومة الأقلية؛ حيث يتنافس الأشخاص في خدمة الصالح العام، فيؤدي هذا إلى خلق العداوات والأحقاد بين رجل وآخر، وإذ يريد كل منهما أن يكون القائد وأن ينفذ آراءه. ومن هنا تأتي المنازعات العنيفة التي تتطور إلى تشاحن سافِرٍ غالبًا ما ينتهي بسفك الدماء، ومن المؤكَّد أن تتحول الحكومة بعد ذلك إلى المَلكية. وعند ذاك تبرهن الملكية على أنها أفضل نظم الحكم. وكذلك الحال في الديمقراطية، فلا بد فيها من سوء الإدارة، بَيْد أن سوء الإدارة هذا، لا يسوق إلى العداوات، بل إلى الصداقات بين أطرافها، الذين يجب أن يرتبط بعضهم ببعض ارتباطًا وثيقًا لتنفيذ دناءاتهم، وهكذا تستمر الأحوال على ذلك المنوال حتى يظهر رجل صديق لعامة الشعب، ويضرب على أيدي المُفسِدين، وسرعان ما يُعجَب الجمهور بذلك الرجل ويُعيِّنه ملكًا. وهكذا الحال هنا أيضًا؛ إذ يتضح أن الملكية هي خير أنظمة الحكومات، وأخيرًا لكي نلخص الموضوع في كلمة، أسألكم: مِن أين نلنا الحرية التي نتمتع بها؟ هل منحتنا إياها الديمقراطية أو الأوليجاركيه أو الملكية؟ ولمَّا كان رجل واحد هو الذي أعاد إلينا حريتنا، فإن حُكمي إذن، هو أن نحافظ على حكم الفرد. وبصرف النظر عن هذا، يجب ألا نُغيِّر في قوانين آبائنا عندما نراها عادلة؛ إذ لا يصح أن نُحدِث فيها تغييرًا ما على الإطلاق.»
وهكذا كانت الآراء التي عُرِضت في ذلك الاجتماع. أما الأربعة الفارسيون الآخرون فأعطوا أصواتهم في صالح الرأي الأخير. فلما رأى أوتانيس الذي أراد أن يمنح مواطنيه حكومة ديمقراطية أن الأغلبية ضده، نهض ثانيةً وقال هكذا أمام المجتمعين: «إخواني المتآمرين! من الجلي أن الملك الذي سيُنتَخب، سيكون أحدنا، سواء اختِير بالاقتراع أو انتَخب عامةُ الشعب مِنَّا مَن يريدون أن يحكمهم، أو بأية طريقة أخرى، وبما أنني لا أعتزم أن أَحكم أو أُحكَم، فلن أرشح نفسي لهذا المنصب. سأنسحب على شرط واحد، وهو ألا يفرض أحدكم سلطانه عليَّ أو على أحد من ذريتي إلى الأبد.» فوافق الستة الآخرون على هذا الشرط، وانسحب أوتانيس، ولم يدخل في المسابقة. ولا تزال أسرة أوتانيس إلى اليوم، هي الأسرة الحرة الوحيدة في فارس التي لا يخضع أفرادها لحكم الملك إلا بحسب اختيارهم، ومع ذلك فمفروض عليهم أن يعملوا بقوانين البلاد شأنهم في ذلك شأن غيرهم من الفرس.
تشاوَر الستة معًا في أنسب طريقة لاختيار الملك، وفيما يختص بأوتانيس، فإذا نال أحد المملكة، أعطى أوتانيس ونسله من بعده في كل عام — كعلامة شرف خاصة — ثوبًا ميديًّا وغيره من الهدايا المعتبرة أفخم هدايا شرفية في فارس. قرروا منحه هذه الهدايا؛ لأنه أول من فكر في المؤامرة، وهو الذي جمع المتآمرين السبعة معًا. ولذلك مُنِحت هذه الامتيازات لأوتانيس بصفة خاصة. أما الامتيازات الآتية فهي عامة لجميعهم، وهي: يُمنَح كل فرد منهم حرية الدخول إلى القصر بغير إذن، إلا إذا كان الملك مع إحدى زوجاته، وألا يُسمَح للملك بالزواج من أية أسرة خلاف أسرات المتآمرين. أما تعيين الملك فيكون بهذه الطريقة: يركب المرشحون الستة جيادهم في صبيحة اليوم التالي، ويخرجون إلى ضواحي المدينة، والذي يَصهل جواده أولًا بعد أن تشرق الشمس، يُعيَّن ملكًا.
كان لداريوس سايس عبدٌ حادُّ الذكاء اسمه أيباريس. فبعد أن انفض الاجتماع أرسل داريوس في طلبه، وقال له: «اسمع يا أيباريس سيُنتَخب الملك بهذه الطريقة، سنركب جيادنا، ومَن مِنَّا يصهل جواده أولًا بعد أن تُشرِق الشمس، فهو الذي سيحظى بالمملكة. فإن كنت ماهرًا حقًّا فدبر حيلة يمكن أن تصير بها الجائزة من نصيبنا، وليس من نصيب الآخرين.» فأجاب أيباريس: «حقًّا، يا سيدي، إن كان على هذا يتوقف أن تكون ملكًا فليطمئن قلبك ولا تخَف شيئًا؛ أعرف تعويذة أكيدة المفعول ولا تُخفِق إطلاقًا.» فقال داريوس: «إن كنت حقًّا تعرف شيئًا من هذا القبيل فأسرع باستخدامه؛ لأن المسألة لا تتحمل التأخير فستكون التجربة غدًا.» فلما سمع أيباريس هذا فعل هكذا: عندما أقبل الليل أخذ إحدى الأفراس، وكانت أحب فرس إلى الجواد الذي سيركبه داريوس، فربطها في ضاحية المدينة ثم ساق جواد سيده إلى ذلك المكان. وأخذ يدور به حول الفرس عدة مرات، مقتربًا بالجواد من الفرس في كل مرة، حتى التقى الحصان بالفرس أخيرًا.
عندما أصبح الصباح تقابل الستة معًا حسب اتفاقهم على ظهور جيادهم، وركبوا إلى الضاحية: فلما اقتربوا من الموضع الذي رُبِطت فيه الفرس في الليلة السابقة، قفز جواد داريوس إلى الأمام وصهل. وفي نفس تلك اللحظة لمع البرق في السماء؛ إذ كانت السماء صافية الأديم، وتبعه قعقعة الرعد … يبدو أن السماء كانت تتآمر مع داريوس، وبهذا عينته ملكًا. عندئذٍ قفز النبلاء الخمسة من فوق ظهور جيادهم في وقت واحد، وانحنوا أمام داريوس، واعترفوا به ملكًا.
عقد داريوس بعد ذلك زيجات من أرقى الطبقات تبعًا لآراء الفرس، فتزوج باثنتين من بنات كوروس، أتوسا وأرتوستوني. وقد سبق لأتوسا أن تزوجت مرتين؛ إذ كانت في الأصل زوجة شقيقها قمبيز، ثم زوجة للمجوسي. أما أرتوستوني فكانت عذراء. كما تزوج بارموس ابنة سميرديس بن كوروس، وكذلك بابنة أوتانيس التي اكتشفت سر ذلك المجوسي. ولما توطَّد سلطان داريوس في جميع أرجاء المملكة، كان أول عمل قام به هو أن أقام تمثالًا من الحجر يُمثِّل رجلًا على ظهر جواد، نقشت تحته هذه العبارة: «داريوس بن هوستاسبيس، بمساعدة جواده (وبعد هذه، اسم الحصان) وسايسه الطيب أيباريس هو الذي مكنه من أن ينال مملكة الفرس.»
لما كان الهنود أكثر عددًا من أية أمة نعرفها، فقد كانوا يدفعون جزية تفوق ما كان يدفعه أي شعب آخر، وهي ثلاثمائة وستون تالنتًا من تبر الذهب.
ولو حُوِّلَت الأموال البابلونية إلى نفس هذه الموازين الأيوبية لبلغت تسعة آلاف وخمسمائة وأربعين من هذه التالنتات. ولو كان الذهب قدر الفضة ثلاث عشرة مرة، لبلغ وزن تراب الذهب أربعة آلاف وستمائة وثمانين تالنتًا. وبإضافة هذين المبلغَين إلى بعضهما يصير الدخل الذي يصل إلى داريوس سنة بعد أخرى أربعة عشر ألفًا وخمسمائة وستين تالنتًا من النقود الأيوبية، مع إهمال كسور التالنت.
هذا هو الدخل الذي كان داريوس يحصل عليه من آسيا وجزء صغير من ليبيا. ويحفظ الملك العظيم الجزية التي يحصل عليها بالطريقة الآتية: يصهر الذهب ثم يصبه وهو لا يزال سائلًا في قدور من الفخار، بعد ذلك ينزع القدور تاركًا الذهب كتلة صلبة على صورة سبيكة. وعندما يحتاج إلى نقود، يسك من السبائك التي لديه بحسب الحاجة.