داريوس
دخل هذان الرجلان على الملك بحالتهما تلك، وذكرَا له كيف حدث ذلك لهما، فاضطرب داريوس خشية أن يكون هذا قد حدث باتفاق الزملاء الستة، فأرسل في طلب كل واحد منهم على انفراد، وسألهم عما إذا كانوا قد وافقوا على سلوك أنتافيرنيس، فلما علم من إجاباتهم أنه لم يحدث قط أي اتفاق بينه وبينهم، قبض على أنتافيرنيس وأولاده وجميع أقربائه القريبين؛ إذ اشتبه في أن يكون هو وأصدقاؤه على وشك القيام بفتنة. فلما قبض عليهم جميعًا، وقُيِّدُوا بالسلاسل كعابثين بالأمن محكوم عليهم بالإعدام، ظلت زوجة أنتافيرنيس تذهب إلى باب القصر، وتقف هناك باستمرار، وتبكي مر البكاء. فلما أبصر داريوس أنها لا تكف عن البكاء أمام بابه، أخذته الشفقة عليها، فبعث إليها رسولًا يقول لها: «أيتها السيدة، إن الملك يمنحك هدية منه، حياة أحد أقاربك فاختاري من تريدينه من المقبوض عليهم.» ففكرت مليًّا قبل أن تُجِيب، ثم قالت: «إذا كان الملك يرغب في أن يهب لي حياة شخص واحد فقط فإني أختار أخي.» فلما بلغ الملك ردها، دُهِش وأرسل إليها ثانية يقول: «أيتها السيدة، إن الملك ليطلب منك أن تُخبريه لماذا تركت زوجك وأولادك وفضلت عليهم أخاك لتنقذيه من الموت؟ إنه ليس أقرب إليك من أولادك ولا أعز من زوجك.» فأجابت: «أيها الملك، إذا شاءت الآلهة حصلت على زوج آخر وعلى أولاد آخرين بعد موت هؤلاء، ولكن بما أن أبي وأمي ليسَا على قيد الحياة فمن المستحيل أن أحصل على أخ آخر. كانت هذه فكرتي عندما اخترت إنقاذ حياة أخي.» فبدا لداريوس أن هذه السيدة قد فكرت تفكيرًا حكيمًا، فمنحها علاوة على حياة أخيها، حياة ابنها الأكبر؛ إذ سُرَّ منها غاية السرور. ولكنه قتل جميع الباقين. وهكذا مات أحد السبعة بالطريقة التي ذكرناها، بعد الثورة بمدة وجيزة.
حدث ذات مرة، عندما قفز الملك داريوس من فوق ظهر جواده، أن الْتَوَت قدمه، فسبَّب له هذا الالتواء ألمًا بالغ القسوة؛ إذ خرجت عظمة المفصل من موضعها، وكان في بلاط الملك بعض من الأطباء المصريين الذين يعتبرهم داريوس أمهر أطباء العالم، وعلى هذا لجأ إلى مساعدتهم، بَيْد أنهم لَوُوا قدمه بطريقة فظيعة، واستخدموا معه منتهى العنف حتى زاد الألم قسوة، فظل الملك سبعة أيام وسبع ليالٍ لا يذوق للنوم طعمًا؛ إذ كان يعاني ألمًا مُبرحًا. وفي اليوم الثامن لبلواه كان أحد الفرس قد سمع قبل مبارحته سارديس عن مهارة الطبيب ديموكيديس الكروتوني، فأخبر داريوس بأمره، وعند ذلك طلب داريوس إحضاره إليه بغاية السرعة. فلما وجده من ذهبوا لإحضاره بين عبيد أورويتيس مُهمَلًا أحضروه إلى داريوس بحاله التي كان عليها، يرسف في الأغلال، ويرتدي أسمالًا بالية.
بعد أن عالج ديموكيديس داريوس في سوسا أقام هناك في بيت كبير، وكان يتناول طعامه يوميًّا على مائدة الملك، ولم يفتقر قط إلى شيء يشتهيه قلبه غير الحرية في أن يعود إلى وطنه، وقد تشفَّع لدى داريوس للأطباء المصريين الذي عالجوا الملك قبل مجيئه، فأبقى على حياتهم بعد أن كانوا على وشك الإعدام وخزًا بأسنة الحِراب؛ لأن طبيبًا إغريقيًّا تفوق عليهم. وبعد ذلك، تمكن من إنقاذ حياة عراف إيلياني كان مُهمَلًا إهمالًا ذريعًا بين العبيد بعد أن تنبَّأ بحظ بوليقراط. وبالاختصار بلغ ديموكيديس منزلة لدى داريوس لم يبلغها أي شخص سواه.
وزيادة على ما تقدم، فبعد وقت قصير حدث أن أُصيبت أتوسا ابنة كوروس التي تزوجت داريوس بدمل فوق ثديها، فأخذ الدمل يتسع ويكبر بعد أن انفجر. ولما كان الدمل في بدء ظهوره صغيرًا، أخفته أتوسا بدافع الحياء، ولم تُخبر به أحدًا، ولكنها لما رأت حاله قد ساءت، لم تجد بُدًّا من أن تُرسِل إلى ديموكيديس، فلما جاءها أطلعته على الخراج فقال لها إن بوسعِه أن يُعالِجها على شرط أن تَعِده أولًا بقَسَم بأن تمنحه كل ما يطلبه، وأكد لها أن طلبه لن يكون شيئًا تخجل لسماعه.
بهذه الشروط أخذ ديموكيديس يعالج أتوسا، وسرعان ما شُفِيَ الخراج. ولما أصغت إلى طلبه تحدثت ذات ليلة إلى داريوس بالحديث التالي:
«يبدو لي غريبًا يا مولاي مع كل بأسك وسلطانك أنك تقضي الوقت بغير عمل، ولا تقوم بأية غزوات، ولا توسع سلطان الفرس. وأعتقد أن رجلًا صغير السن مثلك، واسع الثراء يجب أن يقوم بعمل نبيل ليبرهن للفرس على أن من يحكمهم رجل. كما أن هناك سببًا آخر يدعوك إلى القيام بعمل ما، ليس فقط لأنه مما يليق بك أن تُثبِت للفرس أنَّ مَن يحكمهم رجل، بل وكذلك من أسباب سلامتك أن تُنهِك قواهم في الحروب؛ لئلا تدفع البطالة الجنود إلى التآمر ضد سلطانك. والآن وأنت لا تزال في شرخ الشباب، تستطيع القيام ببعض الفتوحات، فبينما تنمو قوة الجسم ينضج العقل أيضًا، وعندما يَشِيخ الجسم تأخذ القوى العقلية في الذبول حتى تهبط تمامًا.»
هكذا تكلمت أتوسا تبعًا لما لقنها إياه ديموكيديس، فرد عليها داريوس بقوله: «أيتها السيدة العزيزة، لقد تكلمتِ بنفس ما كان يجول بخلدي. إنني أزمع إقامة جسر يصل بين القارتين، وبذا أقوم بمحاربة سكوثيا. ولم تمضِ إلا فترة قصيرة حتى يتم كل شيء كما ترغبين.» غير أن أتوسا استطردت تقول: «اعلم يا سيدي أنه من الخير إرجاء الحرب مع سكوثيا بعض الوقت؛ لأنه من الممكن هزيمة السكوثيين في أي وقت. أرجو يا سيدي أن تقود جيوشك أولًا إلى بلاد الإغريق؛ فإني أتوق إلى أن تخدمني بعض الفتيات اللاكيدايمونيات اللائي سمعتُ عنهن الشيء الكثير. كما أنني أرغب في نساء أرجوسيات وأثينيات وكورنثيات. يوجد في بلاطك الآن رجل بوسعه أن يخبرك وهو خبير من أي فرد آخر في العالم كله بجميع ما تريد معرفته عن بلاد الإغريق، كما أن بوسعه أن يكون مرشدًا، وإني لأقصد ذلك الرجل الذي عالج قدمك.»
فأجاب داريوس بقوله: «زوجتي العزيزة .. بما أن رغبتكِ هي أن نجرب أولًا قوة الأغارقة، أرى من الأوفق قبل المسير إليهم أن نرسل أولًا بعض الفرس للتجسس ومعرفة أحوال تلك البلاد، ومن الممكن أن يذهبوا إلى هناك بصحبة ذلك الرجل الذي تذكرينه. وبعد أن يروا ويعرفوا كل شيء، يمكنهم العودة إلينا وتقديم تقرير شامل عن كل ما هنالك، وبعد أن أُلمَّ بجميع أحوال الأغارقة، أبدأ بمحاربتهم.»
بعد ذلك حاصر الملك داريوس ساموس واستولى عليها. فكانت أول مدينة غزاها، من جميع المدن الإغريقية والبابلية. والسبب الذي جعله يغزو ساموس هو أنه عندما سار قمبيز بن كوروس لغزو مصر اجتمعت هناك أعداد غفيرة من الأغارقة، بعضهم لترويج تجارته، وبعض آخر ليخدم في الجيش، وآخرون لمجرد مشاهدة تلك البلاد. وكان من بين هؤلاء الأخيرَين سولوسون بن أياكيس وشقيق بوليقراط. وكان في ذلك الوقت منفيًّا من ساموس. وحدث أن التقى سولوسون هذا إبان إقامته في مصر بضربة سعيدة واحدة من ضربات حسن الحظ. تصادف أن كان يرتدي في أحد الأيام عباءة حمراء وهو ذاهب إلى ميدان السوق بمدينة ممفيس، فرآه داريوس الذي كان وقتذاك أحد رجال حرس قمبيز، ولم يكن ذا شأن يُذكر، فتاقت نفس داريوس واجتاحته رغبة ملحة في الحصول على هذه العباءة، فذهب إلى سولوسون وعرض عليه أن يشتريها منه، فأدرك هذا الأخير لهفة داريوس إلى العباءة، وأوحى إليه حظه الحسن أن يرد عليه بقوله: «لا يوجد شيء في هذا العالم كله يُمكِن أن أبيع عباءتي من أجله، ولكني سأمنحك إياها بغير مقابل طالما أنك راغب فيها إلى هذه الدرجة.» فشكره داريوس وقبل العباءة منه.
فلما سمع داريوس كلامه هذا، أرسل جيشًا بقيادة أوتانيس، أحد السبعة، وأمره بأن يُحَقِّق جميع رغبات سولوسون.